-اسم العمل: أوجه السرد،دراسات في القصة القصيرة والرواية – اسم المؤلف: داود سلمان الشويلي – نوع العمل: دراسات

لتحميل الكتاب يمكنكم الضغط على الرابط التالي :

https://www.4shared.com/web/preview/pdf/H25EUMjTba?

  • اسم العمل: أوجه السرد،دراسات في القصة القصيرة والرواية
  • اسم المؤلف: داود سلمان الشويلي
  • نوع العمل: دراسات
  • الطبعة: الطبعة الالكترونية الأولى-23-شباط-2017م
  • الناشر: تجمع المعرفيين الأحرار
  • رقم التسلسل : 8
  • حقوق نشر الكتاب محفوظة للمؤلف والنسخة الالكترونية ملك لتجمع المعرفيين الأحرار

https://reberhebun.wordpress.com/

لنشر أعمالكم يرجى الاتصال ب

reber.hebun@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

اوجه السرد

دراسات في القصة القصيرة والرواية

دراسات عام 2016

 

المجتويات

—————–:

القصة القصيرة

———————-:

– في القصّة العراقية القصيرة …”رمزية التكرلي و تجريبية الربيعي و واقعية محمد خضير السحرية ”

– نشر على موقعي : تناص الاجناس الادبية – قراءة تناصية في قصتين قصيرتين (*)

– المجموعة القصصية (إشارات لزمن ضائع) والعودة الى قصة المتعة والفكرة .

– محسن الخفاجي ومصادر قصصه… مجموعة ” حمامة القنصل ” انموذجا.

– المجتمع العراقي بين الفكر الغيبي والطموح الغائب … الخطاب القصصي في بعض  نصوص ” بيت اللعنة ” انموذجا.

– الانسنة و المفارقة و الاتساع الدلالي في قصص ” ظلال الهمس ” لشريف عابدين.

– الشمس تشرق مرتين – خواطر.

– جنس المحارم في القصة … علاقة الابن بأمه انموذجا؟.

***

الرواية

———–:

–  السعادة في الرواية العراقية … وقتية وقصيرة .

– بنية الرواية واشكالها المتعددة .

– روايات قراتها فاثرت في ذائقتي الادبية .

– الادوات التعبيرية و الفكرية في رواية ” ليل علي بابا الحزين “… والكتابة تحت تأثير الفكر الجمعي العراقي .

– رواية “مثلث الموت” لعلي لفته سعيد..المغامرة التي أدت الى الموت المجاني .

– قضية الجنس عند عبد الرحمن مجيد الربيعي .

– مورفولوجيا الزمن في رواية ( حين تكونين مع الغيوم ) للروائي زيدان حمود .

– ” تراجيدية مدينة ” بين التاريخ والرواية  .

***

دراسات الاخرى

—————————:

– النص والنقد … الروائي واالقاص محسن الخفاجي انموذجا .

– اصدقاء : د. ضياء خضير ” ثنائيات مقارنة ” وسنوات الغربة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في القصّة القصيرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في القصّة العراقية القصيرة …

“رمزية التكرلي و تجريبية الربيعي  و واقعية محمد خضير السحرية “

 

اذا كان التجديد في الرواية العراقية قد بدأ بـرواية “الوشم ” لعبد الرحمن مجيد الربيعي،و كانت الرواية الفنية الناضجة التي استلهمت التاريخ ولم تكن تاريخا محضا قد قامت على القلم الابداعي للروائي عبد الخالق الركابي ، فان في مسيرة القصة القصيرة في العراق برزت الى الساحة السردية مجاميع قصصية جمعت فيها نماذج لنصوص قصصية ، كانت فاتحة لتجديد هذا الفن فاحدثت عند ذاك نقلة نوعية في هذا الفن السردي ، من مثل المجموعة القصصية ” الوجه الاخر”  للقاص والروائي فؤاد التكرلي التي صدرت عام 1960 ، وهي حتما قد كتبت قبل هذا العام ، أي انها كتبت ونشرت منفردة في خمسينات القرن الماضي في الصحف والمجلات الادبية .

وكذلك المجموعة القصصية ” السيف والسفينة ” للقاص والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي التي صدرت عام 1966 ، حيث ان القصص التي تضمها هذه المجموعة قد كتبت ونشرت قبل هذا التاريخ على الصفحات الادبية للصحف والمجلات ، أي في فترة اوائل الستينات ، وهذا يعني انها تمثل القصة في النصف الاول من الستينات.

وايضا المجموعة القصصية ” المملكة السوداء ” لمحمد خضير التي صدرت عام 1972 ، أي انها تمثل القصة في فترة النصف الثاني من الستينات كذلك .

هذه المجاميع القصصية احدثت نقلة نوعية في كتابة النص القصصي في الفترة التي كتبت فيها ، ونزعت عن نفسها ثوب التقليد للنماذج القصصية التي سبقت هذه الفترة .

ومن الواضح ان بين طبع مجموعة واخرى ست سنوات تقريبا ، وتأسيسا على هذا ، نفترض ان القصص التي تضمها هذه المجاميع قد كتبت ونشرت خلال الست سنوات تلك ، اي ان كتابها ظهروا على الساحة الادبية الواحد بعد الاخر.

***

 

 

 

 

رمزية التكرلي

———————-:

فؤاد التكرلي (1927م – 2008م)، روائي وقاص عراقي ، نشر أولى نصوصه القصصيه القصيرة عام 1951م في مجلة الأديب اللبنانية، إذ في خمسينيات القرن الماضي وجد التكرلي نفسه في جو مسموم بهواء فاسد في ظل الاستعمار وما تبعه من حكومات ملكية فاسدة ، فحاول التمرد على هذا الواقع الفاسد من خلال كتابته للقصة ، فكتب نصوصا متطورة عما وجده في ساحة هذا الفن ،فجاءت قصصه  لتعطى للقيمة الاجتماعية الدور الكبير والمهم في هذا الفن السردي .

ان مجموعته (الوجه الآخر) التي ضمت نصوصه القصصية اتسمت بموقف فكري ناضج ،وتعبيري كذلك ، إذ ان تصوير القاص لشخوصه الذين اختارهم من هامش المجتمع العراقي ، ومواقفهم التي قدمها ، قد جسدها خير تجسيد في نصوصه القصصية تلك التي نشرها منفردة او ضمتها تلك المجموعة .

في كتابة القصة القصيرة في العراق قبل فؤاد التكرلي، استخدم بعض القصاصين العراقيين الرمز في نصوصهم القصصية الا انه كان رمزا ساذجا ،  بسيطا ، بدائيا ، اما التكرلي فقد جاء رمزه مليء بالايحاء ، و نابض بالحياة ، انه مثل جملة المشبه والمشبه به ، حيث تذكر جملة المشبه به ، فيما تبقى جملة المشبه مستترة .

اشتغل التكرلي على موضوعة الجنس الشاذ بين بعض افراد المجتمع ، ليرمز الى الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة ، فكان جريئا في طرحه لموضوعاته ، مثل قصة ( الطريق إلى المدينة) على سبيل المثال.

ورمزيته هذه التي نقل موضوعها الرئيس من المجتمع  ( وقد استهلها من المحاكم ) الى عالم السياسة والسياسيين ، جاءت لا لتصرح ،وانما لتوحي عن الفساد الذي ينخر الحكومات المتتالية التي جاءت ، و كذلك الاستعمار الانكليزي شبه المباشر الذي يجثم على صدر العراقيين .

ان فؤاد التكرلي قد كتب نصوص قصصية بعيدا عما كان سائدا في كتابة القصة القصيرة ، وبهذا فقد عد مجددا في هذا الفن ، وصاحب تجربة قصصية ناضجة في ذلك الزمن الذي ظهرت فيه.

***

 

 

 

 

تجريبية الربيعي

———————-:

ولد الروائي والقاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مدينة الناصرية عام 1939م ، درس في معهد الفنون الجميلة وكلية الفنون الجميلة فن الرسم، وقد اثر ذلك في تجربته القصصية التي سنتحدث عنها ،  و بدأ النشر في الصحف العراقية والعربية .

أصدر أول مجموعة له (السيف والسفينة) عام 1966 ، حيث تؤرّخُ هذه المجموعة لقضية التجريب في القصّة العراقية و العربية ، ونزع ثوب التقليد – بوعي او دون  وعي – لنماذج قصصية سابقة له.

يقول الربيعي عن الاختلاف الذي قدمته نصوصه القصصية: ( الاختلاف ليس مسألة هينة، ويحتاج إلى وعي متقدم بالفن القصصي كما هو موجود، وبالتالي لما يجب أن يكون عليه، هو أمر متحرك وغير مستقر، فالوصول إلى محطة ما لا يعني البقاء فيها، وإِنَّما التهيؤ إلى مغادرتها، وهكذا) .( – الربيعي – من النافذة إلى الأفق – مؤسسة سعيدان تونس – 1995 – ص 4 3 ).

و يقول في المقدمة التي كتبها لمجموعة ” السيف والسيفنة ” : ( وأن من يريد أن يكون له صوته المتميز والمؤثر عليه بحق أن يبحث عن هويته الخاصة، ويبتعد كلياﹰ عن التقليد) . (السيف والسفينة – مطبعة الجاحظ –  ص 43)

اذن كتب الربيعي قصص المجموعة هذه في ظل ذائقة تبحث عن صوته المتميز ، والمختلف عن الاخرين ، من خلال التجريب الذي دعاه الى ذلك.

فقد كتب الربيعي نصوصه بعيدا عن التقاليد السائدة في السرد القصصي الذي يكتب ضمنه كتاب القصة القصيرة  وقتذاك ، اذ لم تعد التقنيات التقليدية للقصة قادرة على  استيعاب العلاقات الجديدة التي تنشأ في هذا الفن السردي الجديد ، أي انه اختلف في كتاباته القصصية عن الاخرين الذين جايلوه ، او سبقوه ، فقد كسر المباديء الاساسية الثلاثة للقصة التقليدية ، البداية ، الوسط ، النهاية ، وكتب قصصه بعيدا عن هذه المباديء ، وهذا اول عمل قام به في الكتابة المختلفة التي تجعل من صوته متميزا عن الاخرين ، أي في تجريب القصة .

و تحت تأثير الفن التشكيلي وتقنياته ، ذلك الفن الذي درسه اكاديميا وفك كل اسراره ورموزه ، كتب اغلب نصوصه ، كما قال في احدى مقابلاته ، راجع نص ” موت الجفاف ” التي اتبع فيه اسلوب الكولاج ، إذ يقول الربيعي في مقدمته للمجموعة : ((أنّه إذا اعتبرنا القصة كلها مثل مساحة اللوحة فإن الجمل الاعتراضية المحصورة بين أقواس تمثل القطع الملصقة عليها، التي تملأ المساحة وتخلق فيها الموازنة والتناسق، ولا تجعل عيني مشاهدها تقعان في مطب فراغ ما)). ( ص 51 ) ، و كذلك كتب نصوصا يمكن ان نعدها بانها قصص صبت في اسلوب سريالي ، مثل نص «حفرة حيث لا أقمار» و نص ” العين ” .

ان الذي دفعه الى اتخاذ هذه الاساليب في فن القصة بعد ان شاعت في الفن التشكيلي هو انعكاسا لما كان يراه من فساد السياسة و السياسيين في الحكم .

وهذا امر ثان بدا على تجريبيته في النص القصصي الذي ظهرت فيه نصوص ( السيف والسفينة ).

و المجموعة هذه ( السيف والسفينة ) تضم احدى عشرة قصة وكلها خارجة عن مألوف كتابة النصوص القصصية التقليدية ،  المجايلة ، او التي سبقتها .

***

واقعية محمد خضير السحرية

———————————:

محمد خضير قاصّ وروائي ولد في البصرة عام 1942 ، ظهرت أولى قصصه في مجلة (الاديب العراقي) عام 1962.

نشر مجموعته القصصية الاولى (المملكة السوداء ) الصادرة عام 1972 عن وزارة الاعلام العراقية ، أي بعد ان نشر اغلب قصصها منفردة قبل هذا التاريخ ، حيث احدثت نصوص هذه المجموعة نقلة نوعية وكبيرة في القصة القصيرة العراقية ، فوضع القصة القصيرة في مفترق طرق ، فاحتفت به اقلام النقاد والدراسين ، فكتبوا عن تجربته القصصية الكثير.

تعتمد نصوص هذه المجموعة على ما يمكن تسميته في الكتابة السردية بـ ” الواقعية السحرية ” .

ان مصطلح الواقعية السحرية ، رغم عدم تبلوره في ذلك الوقت ، الذي يجمع بين ما في الواقع المادي من مظاهر وعلاقات ، والقاص ذكي في رسم اماكن قصته التي يرسمها حيث انها اماكن منعزلة ، وبين الرؤى السحرية وما يرافقها  من امور  ميتافيزيقيه للاشياء ، والمظاهر والعلاقات ، هذه الواقعية السحرية  يمكن تحسسها في الكثير من النصوص التي ضمتها المجموعة مثل نص ” المئذنة ” و ” الشفيع ” و ” الاسماك ” وغير ذلك من النصوص ، حيث تبقى مخيلة المتلقي شغالة في تصور ما سكت عنه النص .

تعتمد قصص هذه المجموعة والقصص الاخرى في مجاميعه التالية على الشخوص ، إذ ان اغلب شخوص ” المملكة السوداء”  من النساء المنسحقات التي يمكن ان نقول عنهن انهن من قاع المدينة .

وقد اهتم القاص بالمكان كثيرا ، المكان الواقعي المصور ليبدو مكانا يرى في اللاواقع ، وفي الاحلام ، المكان هذا اثر في وعي وتفكير القاص فاعطى لقصصه ، فضلا عن شخوصه ، اضافة نوعية جديدة ، فجاء بحلة جديدة هي حلة الواقعية السحرية.

لقد حفلت مجموعة ( المملكة السوداء ) بقصص اثارت اهتمام النقاد والدارسين ، فكانت اضافة نوعية وكبيرة لفن القص في العراق والوطن العربي .

***

لقد كان للقصاصين الثلاثة السبق في تقديم قصة قصيرة ناضجة نوعيا في الوقت الذي كتبت فيه ونشرت ايضا ، فكان الرمز في القصة هو ما اتسمت به تجربة القاص فؤاد التكرلي في مجموعته ( الوجه الاخر ) ، هذا الرمز الذي اختلف عن الرمز الذي استخدمه القصاصين العراقيين الذين جايلوه اوسبقوه ، حيث كان استخدام ساذج وبسيط له .

والتجريبية التي كتب فيها القاص عبد الرحمن الربيعي قد فتحت الباب على مصراعيه امام بعض القصاصين ، فراحوا يكتبون قصصا تحت ذائقة تجريبية  .

وعندما كتب القاص محمد خضير قصصه الاولى ونشرها في الصحف والمجلات كان هناك اسلوبا جديدا قد بشر به القاص – دون ان يعلم بذلك –  ليكون هو الاسلوب الطاغي في جل قصص مجموعته القصصية ” المملكة السوداء “.

لقد سبق الكتاب الثلاثة زملاءهم في ما انتجوه من اسلوب في كتابة النص القصصي ، فشرعوا بذلك الابواب امام زملاءهم كتاب القصة ، فكانت القصة القصيرة العراقية الجديدة بكل شيء.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تناص الاجناس الادبية

 قراءة تناصية في قصتين قصيرتين (*)

(1)

تنهض القصة في العراق – في الآونة الاخيرة – اعتماداً على بعض الاجناس الادبية الاخرى ، كالرواية ، والمسرحية ، والحكاية الشعبية ، والاسطورة …الخ ، لتنسج لها كياناً خاصاً بها ، يأخذ من تلك الاجناس بعض عناصره ، كالشخوص ، او الاحداث ، او الثيمة الرئيسية …الخ .

ان اعتماد القاص – اثناء كتابته الابداعية ، بصورة واعية او غير واعية – على بعض عناصر الاعمال الابداعية لاجناس ادبية اخرى ، لم يعد سُبة يعاب عليها القاص ، كما كان يحدث ذلك قبل سنوات ، حيث كانت تهمة السرقة ، او التأثر والاجترار ، تلاحق مثل ذلك المبدع ، لان المناهج النقدية الحديثة ، قد جعلت من ( الكتابة ) – بكل انواعها – عبارة عن ( نصوص ) والغت في الوقت نفسه قضية نقاء دم الاجناس الادبية المختلفة ، محيلة كل ذلك الى مسألة مهمة جداً ، كانت غائبة او مغيبة عن بال المبدع والنقاد على السواء ، وهي مسألة التداخل او عدم التداخل بين هذه الاجناس ، او بين نص وآخر ، حتى بات النص ، عبارة عن ( وفرة من نصوص مغايرة ، يتمثلها ويحولها بقدر ما يتحول ويتحدد بها على مستويات عدة ) (1) .

وهذا يعني مقدرة ( النص ) الواحد على التداخل مع نصوص اخرى ، او ان يجد نفسه فيها بقدر ما تجد النصوص الاخرى نفسها فيه ، فأصبح ( النص ) عند ذاك ( غير مكتف بنفسه ) بل هو ( الجانب المستعرض من الكتابة التي لا تنغلق على نفسها ، بل تنفتح على غيرها في تفاعلات نصية دائمة )(2) .

وعندما سحبت المناهج النقدية الحديثة البساط من تحت اقدام استقلالية الاجناس الادبية ، وكذلك استقلالية النصوص الابداعية ، وفتحت ابوابها فاسحة المجال للتداخل المشترك والمتبادل بينها ، اقترنت هذه العملية بظهور مصطلح ( التناص ) الذي الغى كل ادعاءات الاتهام بالسرقة والتأثير والتأثر …الخ.

لا نريد هنا ان نعيد ماقلناه في دراستنا السابقة عن ( التناص ) : الاسس ، والمقومات ، والعمل .. وانما نريد ان نؤكد ان قراءتنا هذه لنصين قصصيين جاءت اعتماداً على ما قلناه سابقاً ، وكذلك ، فأن هذين النصين قد نهضا اساساً على جنسين ادبيين مختلفين ، هما المسرحية والرواية ، وقد اتخذت الدراسة هذه مبدأ انفتاح الاجناس الادبية بعضها على بعض اساساً دون السقوط في هوة ( التأثر الادبي المحض ) وبوعي او بدونه ، من قبل المبدع ذاته في محاولة منه لبناء كيان خاص لـ ( نصه ) الابداعي .

العمل الاول الذي نحاول قراءته وتفحصه في هذه الدراسة ، هو قصة ( قناع بورشيا ) للقاص محسن الخفاجي (3) ، اعتماداً على مرجعية نصية في الابداع المسرحي ، هي مسرحية ( تاجر البندقية ) لشكسبير . (4)

فيما تكون قراءتنا الثانية منصبة على قصة ( جروشنكا ) (5) للقاص جليل القيسي ، اعتماداً على مرجعية من الابداع الروائي المتمثل في رواية ( الاخوة كرامازوف ) لدستويفسكي . (6)

ان قراءتنا هذه ، تهدف الى اجلاء مستويات التناص بين النص القصصي ، والنص المتناص معه ( الرواية او المسرحية) كخطوة اولى ، للوصول الى الدلالات الجديدة التي تظهرها هذه القراءة من خلال ( التناص ) كآلية نقدية ( معملية)، وكل ذلك يضعنا على طريق تميز النص الابداعي الجديد ، وهو (القصة القصيرة ) التي كتبها مبدعونا اخيرا .

*** ***

(2)

يعتمد كل نص ، على مجموعة من العناصر المكونة للحمته ، كالشخصية والحدث والبيئة والفكرة او الثيمة الرئيسة والمكان …الخ .

ولما كان النص – أي نص – منفتحاً على الخارج ، فأن الضرورة تحتم عليه ان يتداخل مع نصوص اخرى.

وفي نصنا الاول ( قناع بورشيا ) ترينا الترسيمات الاتية مستويات التناص التي تظهر عملية تكونه الذاتي ، أي عملية ( التناص ) على مستوى الانتاج .

 

 

 

 

تقربنا الترسيمات السابقة الى فهم عملية التناص بين القصة والمسرحية اثناء الانتاج ، اذ يحكي بطل ( القناع ) ، مدرس اللغة الانكليزية ، المتزوج ، قصته مع تلميذته التي يقدم لها دروساً خصوصية باللغة الانكليزية ( في مادة مسرحية تاجر البندقية ) في بيتها ( قصرها ) ، ويروي لنا الاحداث من الدرس الاول ، حتى وفاتها.

ان الراوي ، يعلمنا ان تلميذته تلك قد اسكنها والدها قصراً كبيراً مع خادمة ، ليبعدها عن المؤثرات الخارجية (7) ولم يسمح لها بالخروج من القصر . وكان الراوي / البطل يعطيها الدروس ، وهما وحيدان ، فتنسج تلك الوحدة قصة حب غير معلنة من الطرفين .

يأخذ التناص – هنا – مستويات اربعة ، هي :

آ – المستوى الاول :

اعتماداً على تشابه الشخصيات ( الشكل الاول ) حيث تتماهى بطلة ( القناع ) غير المسماة ، ببطلة شكسبير ( بورشيا ) وهذا التماهي يتخذ له مسارين ، احدهما تماه ذاتي تقوم به البطلة – نفسها – وهي تترسم خطى ( او تمنياتها في ان تكون : ) ( بورشيا ) اثناء قراءتها للمسرحية امام مدرسها ومعه.

والمسار الثاني هو التماهي بين الشخصيتين من خلال هواجس البطل / الراوي الذي برغم انكاره مع نفسه في ان يكون ( بسانيو) لكنه لا ينكر على تلميذته ان تكون هي ( بورشيا ) او كقناع لها في اقل تقدير … وهكذا تتحول بطلة شكسبير من مسرحيته الى قصة الخفاجي .

ب – المستوى الثاني :

( الشكل الثاني ) . وهو مستوى التماهي في الصفات الرئيسية التي تميز كلا الفتاتين .

فـ ( بورشيا ) شكسبير ، وكذلك قناعها عند الخفاجي ، تتماهيان في الصفات الاتية:

اولاً: كل واحدة منهما ، ثرية وجميلة .

ثانياً : كل واحدة منهما ، بحاجة الى العلم ، فتلميذة ( القناع ) تحتاج الى دروس خصوصية لتعلم اللغة الاصيلة لقرينتها ، وتقول ( بورشيا ) شكسبير : ( فما انا في جملتي الا فتاة ناقصة في العلم والخبرة ) ( المسرحية – ص83 ) .

ثالثاً : ان مأساة (بورشيا ) هي في عدم احقيتها في اختيار شريك حياتها ، لان وصية والدها تمنعها عن ذلك .. أي انها تبحث عن الحب / الزواج ، ولكن بشروط كقرينتها تلميذة الخفاجي ، حيث انها لا تستطيع البوح بحبها لمدرسها لاسباب ، كونها مريضة ، وكذلك لان من تحب متزوج من اخرى.

رابعاً : تعاستهما المشتركة برغم فخامة القصر والثراء الباذخ.

جـ – المستوى الثالث : ( الشكل الرابع )

حيث يأخذ التناص مساراً جديداً ، فيصبح عبارة عن تضمين عبارات من ( تاجر البندقية ) في ( قناع بورشيا ) اذ ينقل الخفاجي بعض المقاطع من المسرحية الى قصته ، ومنها المقطع الذي يردده امام تلميذته والذي تطلب منه كتابته على ورقة لتقوم هي بتلاوته امامه .. حيث تعلن بصورة غير مباشرة حبها لمدرسها .

د- المستوى الرابع : ( الشكل الثالث )

يتجسد ( التناص ) في هذا المستوى بين المسرحية والقصة ، في ( المكان ) وقد اتخذ نص ( القناع ) من صالة استقبال القصر مكاناً للحدث ، كما ان (بورشيا ) شكسبير قد ظهرت مع حبيبها في اكثر من مرة في صالة القصر ايضاً.

*** ***

(3)

ظهرت رواية ( الاخوة كرامازوف ) لديستويفسكي عام 1880 م ، واكتسبت اهميتها ، كونها جاءت خلاصة لفكر الكاتب الاجتماعي والاخلاقي والفلسفي والديني .

وترتكز احداثها الرئيسية حول جريمة قتل الاقطاعي العجوز (كارامازوف) يضلل الكاتب قارئه ، وكذلك شخوص روايته عن الوصول الى القاتل الحقيقي من خلال وضع القرائن والادلة لاتهام الابن الاكبر للضحية ، أي ( ديمتري ) بسبب تنازع هذا الاخير مع والده بخصوص ميراث امه ، وكذلك تنافسه معه على حب ( جروشنكا).

وفي نهاية الرواية ، يتعرف القارئ – وكذلك شخوص الرواية . على القاتل الحقيقي وهو ( سمردياكوف ) بالرغم من اتهام اخيه ( ايفان ) بأنه هو القاتل الحقيقي برغم ان ( سمردياكوف) قد نفذ الجريمة ، والسبب كما يقول لاخيه ، انه نفذ تلك الجريمة تحت تاثير افكار ( ايفان ) التي تؤكد ان : ( كل شيء مباح ، فما دام الاله الذي لانهاية له غير موجود فالفضيلة اذن لاجدوى منها ولاداعي لها ) .

وتاتي اهمية هذه الرواية من كونها جاءت كاتهام للواقع الذي افرز ظاهرة ( كارامازوف ) وكذلك الى ما عكسه الكاتب من افكار كانت سائدة – وقتذاك – بين الشباب ، وهي مجموعة الافكار الفوضوية والشريرة التي تاسست على مقولة ( كل شيء مباح ) .

وتاتي اهميتها كذلك من خلال تلك النقاشات الفلسفية لبعض القضايا الدينية والاخلاقية … الخ . وان الذي ينتهي من قراءة معمقة لها يصل الى نتيجة مفادها : فشل لافكار ( ايفان ) واصالة وبقاء لافكار الراهب ( زوسيما ) .

هذا هو مجمل ما تحمله من حدث رئيس وافكار صاغها الكاتب بنظرة فلسفية جدلية عميقة .

ومن مجموعة الشخوص الحيويين فيها ، نجد الابناء الثلاثة ( ديمتري وايفان واليوشا ) والابن غير الشرعي ( سمردياكوف ) وكذلك الخادم وكاترينا ايفانوفا – خطيبة ديمتري – وجروشنكا .

في قصة جليل القيسي ( جروشنكا ) حدث بسيط ، هو زيادة بطل القصة / الراوي ، بيت ( جروشنكا ) ، ومحاوراتها ( اليوشا ) معاً ، حول شخوص الرواية ومصائرها .

ان اختيار القيسي لـ ( جروشنكا ) دون غيرها من شخصيات الرواية جاء ليؤكد دلالات ، منها :-

أ . ان ( جروشنكا ) هي خارج نطاق اللعبة التي يلعبها الابناء.

ب. انها ترتبط بعلاقة مع اثنين من شخوص الرواية برباط غير مقدس ، اذ انها ترتبط بعلاقة مشبوهة مع الاب (الضحية) وفي الوقت نفسه مع الابن ( ديمتري ) حيث يكون التنافس بينهما على حبها .

ج. انها امراة لعوب ، لافرق عندها في ان تحب الاب (العجوز) او ابنه ( الشاب ) طالما ان الاثنين يدفعان لها .

من هذه الدلالات الثلاث يمكن الوصول الى الاستنتاج الاتي :- ان ( جروشنكا ) هي المرشحة الى ان تكون الشخصية الحيادية والتي يمكنها ان تصف لزائرها ( البطل / الراوي ) بحيادية تامة الشخصيات الاخرى .

يعتمد نص القيسي على قراءة معمقة للرواية ، حيث ياتي نصه عبارة عن قراءة ثالثة للرواية ( الزائر / البطل / الراوي / القيسي ) يقول لـ ( جروشنكا ) : ( صحيح .. لانني في زيارتي الاخيرتين اكتفيت بمراقبتكم فقط .. كنت عديم التجربة ، والخبرة والثقافة .. صدقيني ياجروشنكا كثيرون سوف يزورونكم .. ان مدينتكم هذه سيتردد عليها عشرات الاف الزوار للتعرف عليكم .. وفي كل الاعوام ..) .

ياخذ ( التناص ) بين نص القيسي ورواية ديستوفيسكي مستويات عدة اهمها :-

أ. المستوى الاول :-

اعتمادا على الشخصية (الشكل الخامس) حيث ترد في نص القيسي ( فضلا عن جروشنكا واليوشا ) اسماء شخصيات الرواية المهمه ، مثل الاب ، ديمتري ، ايفان ، الخادمة ، سمر دياكوف ، سوزيما .

 

 

 

 

المستوى الثاني :-

يعيدنا القيسي في نصه الى الجو الذي تحدث فيه الرواية ، خاصة في بيت ( جروشنكا ) . انه جو بارد صقيعي . وعندما يدخل الى البيت تاخذه الخادمة الى غرفة الجلوس ( غرفة جيدة التدفئة ، سرعان ما شعرت بحرارة لذيذة تدب في جسدي المقرور والى وجهي المخدر ) كما يقول الراوي / الزائر.

ج. المستوى الثالث :-

يتناص ( نص ) القيسي مع نص ديستوفسكي من خلال ( تضمين ) نص القيسي لبعض المقاطع من نص ديستوفيسكي . فهو مثلاً ينقل قول ( جروشنكا ) : ( اسجنوني معه لانني التي اوردته موارد الهلاك ، لانني انا المذنبة ) وكذلك وصف كاثرين لديمتري بانه : (مخلوق اشوه) ووصف ديمتري لسمردياكوف : ( دجاجة مصابة بداء الصرع ) ( الشكل السادس ) .

ومن الجدير بالذكر ، ان نقول ، ان الدراسات النقدية عن الرواية ، قد اكدت ان المؤلف جعل من شخوصه حمالين لمجموعة من الرموز ، حيث نجد ( الروح ) و( العواطف ) في ( ديمتري ) و ( العقل ) في ( ايفان ) ووراء هؤلاء يقف ( سمر دياكوف ) ليمثل جوانب النفس البشرية المنحرفة .

ومن خلال هذه القراءة ، نجد القيسي ، وهو يحاور ( اليوشا ) و (جروشنكا ) يؤكد حبه لـ ( اليوشا / الروح / الملاك ) و ( ايفان / العقل / الفكر ) .

ان القيسي في نصه هذا يؤكد ثنائية ( الروح والعقل ) في النفس البشرية ، فيما يكره ( ديمتري / العواطف ) .

*** ****

(5)

بين قناع بورشيا وجروشنكا

بين هذين النصين يقوم (تناص) على شكل مغاير لما رأيناه في السطور السابقة ، علماً ان تاريخ نشر هاتين القصتين- وربما كتابتيهما – متباعدان ، ويأخذ (التناص) بينهما مستويات عدة ، اهمها :

أ. يعتمد كل نص على جنس ادبي مغاير له كمرجع نصي .

ب . كل نص منهما ، يعتمد على شخصية مسحوبة من مرجعيتها ، فالقيسي يسحب من الرواية ( اليوشا وجروشنكا ) ويحاورهما ، حيث يقف منهما موقف البعيد والقريب ، البعيد كونه لا يرتبط بهما برابطة سوى انه جاء ليؤكد حضورهما بعد تلك السنين الطوال .

اما الخفاجي ، فأنه يحضرهم ليقنع من خلالهم بطلته اثناء تدريسها ، وكذلك يربط بينه وبين تلميذته من خلالهم .

ان الشخصية المسحوبة من المرجع ، هي شخصية انثوية في كلا النصين ، فضلاً عن وجود الخادمة .

ج . كلا النصين ، تدور احداثه في صالة القصر .

د . يبدأ النصان من الواقع ، دخول الراوي / الزائر الى القصر ، وعبر مسار دائري ينتهيان بالواقع ، أي الخروج من صالة القصر .. وتصبح صالة القصر هي المكان الذي تسحب اليه شخصيات او احداث النصوص المرجعية .

هـ . يتذكر ابطال الخفاجي شخصية ( بورشيا ) على شكل متخيل ، فيما يتخيل ابطال القيسي شخصيات الرواية / المرجع.

و . في كلا النصين ، تقع محاورة بين شخصياتها عن ( النص / المرجع ) . ففي نص الخفاجي يكون الحديث عن مسرحية ( تاجر البندقية ) ، اما في نص القيسي ، فيقع الحديث عن رواية ( الاخوة كارامازوف ) .

ز . ان بطلي النصين ، يقفان خارج حدود النص المرجعي . انهما شخصيتان تدخلان المكان ( والاحداث ) من خارج النص ، الاول كمدرس والثاني كزائر .

*** ***

(6)

الاستنتاجات :

بعد هذه القراءة التناصية ، بين نصوص من اجناس مختلفة على مستوى المحتوى كما في الفقرات ( 2،3،4) وعلى مستوى الشكل كما في الفقرة (5) ، يمكن استنتاج ما يلي :

أ . ان النص المرجعي ( الرواية او المسرحية ) ليس بالنص المهيمن كلياً، وهذا ما يؤكده انتزاع النص الجديد ( القصة القصيرة ) من هيمنة النص المرجعي ، والخروج من اطاره والعودة مرة اخرى الى الواقع الآني ، كما انطلق منه في البداية.

ب . عدم تماهي الشخصية القصصية بالشخصية المرجعية كلياً ، فـ ( جروشنكا ) في القصة تختلف عنها في الرواية ، وكذلك بالنسبة لـ ( بورشيا ) عند الخفاجي ، اذ انها لم تكن كما هي عند شكسبير .

ج . ان حدوث ( التناص ) اعتماداً على ثنائية القصة / المسرحية ، والقصة / الرواية ، جاء لأغناء التجربة القصصية لدى القاصين ، وكذلك تكثيفاً للرؤية عندهما ، تحقيقاً لذائقة جديدة في ابداع ( النص ) القصصي.

الهوامش :

(*) نشرت هذه الدراسة في مجلة الاقلام – ع /5-6 /1993 .

(1) عصر البنيوية – اديث كيرزويل – ت. جابر عصفور – سلسلة آفاق عربية – 1985-ص277 .

(2) المصدر السابق – ص 205 .

(3) الاقلام -ع 11-12/ السنة23 -ص127 .

(4) تاجر البندقية – وليم شكسبير – ت . غازي جمال – منشورات مكتبة النهضة .

(5) الاقلام – ع / 1-2 / السنة 27 – ص 78 .

(6) كتب الكاتب التركي ( نديم غورسيل ) قصة قصيرة بعنوان ( غرفة راسكولينكوف ) نشرترجمة لها حكيم ميلود في مجلة ( نزوى) ، استوحى الكاتب احداثها من رواية دوستويفسكي ( الجريمة والعقاب ) ، اذ يزور القاص / البطل متحف دوستويفسكي ،لتبدأ محاورة النص داخل النص القصصي ، ولعدم معرفة تاريخ كتابة النص ، لا يمكن الحكم على تجربتي القيسي والخفاجي من الناحية الطوبولوجية وهذا النص .

(7) هناك تناص بين هذين النصين والكثير من القصص الشعبي وحكايات ا الف ليلة وليلة حول عزل الابنة في قصر بعيداً عن الناس لأسباب كثيرة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المجموعة القصصية (إشارات لزمن ضائع)

والعودة الى قصة المتعة والفكرة

 

المجموعته القصصية للقاص كامل التميمي ، التي تحمل عنوان (إشارات لزمن ضائع) ، و تضم ثمانية عشر قصة قصيرة ، غير مؤرخة لكي نعرف مراحل تطور اليات كتابة القصة عنده ، اذ ان هذه المجموعة هي الاولى له ، و تحمل اغلب قصصها هواجس وافكارا فنطازية ، او يمكن ان نقول عنها انها مرتحلة من الاساطير و الحكايات الشعبية الى عالم القصة القصيرة ، اقرأعلى سبيل المثال قصة ( بيت الالهة ) ، وقصة ( خرافة الطيور )،  تطرح مجموعة من الاسئلة الشكلية .

اول هذه الاسئلة الشكلية عن جنس النصوص ، إذ بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا اختلاف كبير ، اختلاف في البناء والشكل ، والهدف والآليات ، واللغة ، وغيرها من اشتراطات كل فن من هذه الفنون السردية التي تحدث عنها القاص التميمي في المقدمة ، عندما قال : ((حاولت في هذه المجموعة أن أحقق تساوقا وانسجاما بين عناصر القصة وأصل إلى الهدف المرجو من الكتابة السردية في المتعة والفائدة وإنْ كنت منحازا للفكرة قليلاً…)).

القصة عند التميمي تقف على اضلاع مثلث متساوي الاضلاع ، على الضلع الاول وضع المتعة ، وعلى الضلع الثاني وضع الفائدة ، وعلى الضلع الثالث وضع الفكرة .

يعود  بنا القاص التميمي التاريخ الاولي لكتابة لالقصة القصيرة في العراق والعالم ،  الى حيث هدف القصة وهو ” المتعة ” و ” الفائدة ” وهو برأي هدف ” ارستقراطي” إذ كانت القصة وقتذاك تلعب مثل هذا الدور عند القاريء  ، عندما يستلقي احدنا ويقرأ قصة للمتعة ، والفائدة التي تجلبها تلك المتعة ، اما الان فإن دور القصة القصيرة هو احداث صدمة قوية لوعي وذاكرة وفكر المتلقي، بحيث تبدل اسم القائم بالقراءة من قاري سلبي الى متلقي مشارك ، متفاعل ، قادر على استيعاب شدة الصدمة ورد الفعل لها .

ويعود كذلك القاص التميمي بنا الى عالم بعض قصاصي البدايات في العراق واعتمادهم على ” الفكرة ” والفكرة فقط ونسيان اشتراطات القصة القصيرة الاخرى.

اما الفكرة وكما يقول الجاحظ ”المعاني مطروحة في الطّريق, يعرفها العجميّ والقرويّ والبدويّ, وانّما الشّأن في اقامة الوزن وتحبير اللّفظ وسهولة المخرج, وفي صحّة الطّبع وجودة السّبك“، فقد كانت ماثلة للعيان في اي عمل ابداعي ، وحتى القصة الشيئية هناك فكرة ما تنتضمها .

والجاحظ بقوله ذاك قد اعطى لاشتراطات كل فن دور كبير في اخراج هذه المعاني ، اي الافكار ، للوجود بابداع متمكن.

غلاف المجموعة يحمل عبارة تؤكد تصنيف ما تضمه مجموعة القاص كامل التميمي المعنونة (إشارات لزمن ضائع) هو “قصص قصيرة جدا ” ، فيما لو قرأنا متن المجموعة ، فإننا نجد ان ما تضمه هي : قصص قصيرة فحسب ” ، وهذا خطأ في التصنيف .

ويجيبك القاص التميمي عن ذلك في رسالة خاصة لي ، فيقول : (لم اجنس  النصوص  انا بالقصيرة  جدا ، المطبعة  بدون علمي واستنادا  لآراء  واردة جنست) ، مع العلم لا توجد قصة قصيرة جدا في المجموعة ، وانا لا ارى اية اراء واردة فيها.

هنا نسأل المطبعة ،والمطبعة لا تسأل، الا انا نسأل القائمين على  طبع المجموعة القصصية في المطبعة ، كيف سوغت لهم انفسهم ان يجنسون المادة التي داخل المجموعة بقصص قصيرة جدا ، فيما هي قصص قصيرة فقط؟ اليس هناك فرقا بين المصطلحين ؟

هذه الملاحظة التي اوردتها واكدت عليها تاتي من باب القراءة السيموطيقية ،اذ انها تهدف الى قراءة الانساق والادلة والرموز المثبتة على الغلاف الخارجي ، على عتبة الكتاب كمدخل لو درست ما تحمله هذه المجموعة دراسة سيموطيقية.

ان استنطاق ما في الغلاف من رموز ودلالات وانساق هي اول مراحل الولوج لاي كتابة نريد ان نقرأ ما في متنها من امور كثيرة .

فقراءة متن المجموعة القصصية يخبرنا انها قصص قصيرة ، فيما الغلاف يقول خلاف ذلك ، اذ يطلق عليها اسم قصص قصيرة جدا ، الا ان الكاتب اجاب بجواب رفع عن المجموعة سوء الفهم عند المتلقي.

اتساءل كيف يتمكن الكاتب ان يرفع سوء فهم القراء والمتلقين الاخرين الذين يقرأون هذه المجموعة ، ايتصل بهم واحدا واحدا ليزيل سوء الفهم هذا ام ان ذلك يبقى وحصافة المتلقي و القاريء؟

اترك الاجابة عن هذا السؤال الى ذائقة القاريء والمتلقي الحصيف ، وحسن نيته في عمليتي القراءة والتلقي .

ان تجنيس النصوص السردية لا يعتمد الطول فحسب ( 30 صفحة او اقل ) بل هناك لكل جنس اشتراطان معينة ، خاصة التي لها علاقة بالحدث ، والوصف ، والحوار ، هذه الاقانيم الثلاثة تختلف في حالة كون النص هو قصة قصيرة ، او قصيرة جدا.

” القصة القصيرة ” تعتمد على حدث معين يقع تقديمه على اشخاص قليلين قد يكون البطل لوحده ، او مع شخوص قليلون ، ويمكن ان تشير اشارة عابرة لاوصافهم الخارجية ، واشكالهم الجسمانية ، وليس لها علاقة بالحالة النفسية ، لان ذلك يعود الى عالم الرواية ، او ان القصة القصيرة معنية بتقديم حالة البطل النفسية ، اي تدرس حالته النفسية.

القصة القصيرة مكثفة ومركزة على حدث واحد لتعبر عن رؤية الكاتب.

ومن خصائصها بصورة عامة هي الوحدة ، فتكون واحدية الحدث ، وواحدية البطل ، وواحدية الهدف والقصد.

اما ” القصة القصيرة جدا ” فتعتمد اختيار اللغة الموحية التي تثير التأويلات لتعطي معاني كثيرة الى المتلقين ، فيستقبلوها حسب كل متلقي وتأويله له ، دون فرض مسار واحد في التأويل.

وان يكون طولها عدة اسطر ، اذ لا تستغرق كثيرا في الوصف ، ولا الحوار ، ولا تتحمل اكثر من فكرة يكون تقديمها سهل ، فيما هي ربما صعبة ، وكذلك قلة في الشخوص ، كأن يكون واحدا غير البطل .

تشترك القصة القصيرة مع القصيرة جدا في وجود بطل وحدث ونهاية ، ويختلفان في كون القصة القصيرة جدا مكثفة جدا ، ونهايتها تكون غير متوقعة .

نصل الى بديهية تؤكد ان القصة القصيرة تختلف عنها القصة القصيرة جدا ، وهذا ليس اكتشاف بقدر ما هو واقع يقف امام الاعين ويشير باصابع مختلفة للاثنين معا.

اتمنى للقاص اوقات مثمرة بالابداع .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محسن الخفاجي ومصادر قصصه…

مجموعة ” حمامة القنصل ” انموذجا

 

هل للاديب مصادر ينهل منها ما يكتب من نصوص ادبية ، شعر او قصة ، او رواية … الخ ؟ وهل يمكن الوصول لها ومعرفتها ؟

تساؤل اراه قد جاء في وقته ونحن ندرس تجربة القاص والروائي المرحوم محسن الخفاجي القصصية.

ان كاتب القصة ، كأي كاتب فن كتابي اخر ، يعتمد مصادر مختلفة كي يكتب ما يريد ، وهذه المصادر تتنوع وتتعدد ، الا ان المصدر الرئيس فيها هو الواقع الذي مهما نضب فانه يبقى يزود اي كاتب بما يريد .

ويبقى الواقع هو المانح الرئيس لكل المصادر الاخرى ، اذ تبقى تلك المصادر ثانوية نسبة له ، ومنها الماضي ( السحيق والقريب ) كزمن ، والماضي كمخزون في الذاكرة ، في طليعة المصادر الثانوية .

اما المستقبل فهو ايصا يعد مصدرا ثانويا ، الا انه يعتمد الحاضر والماضي في تكوين صورته ، اي انه يبنى ما يريد ان يبنيه بادخال الحاضر والماضي في معمل المخيال ليخرج ما يمكن ان نسميه حوادث مستقبلية ، كأن تكون قصة او رواية من الخيال العلمي مثلا .

ومن الماضي يمكن استلهام ما فيه من اشخاص وحوادث وامور اخرى ، اي جعل الماضي في  استلهامه مصدرا للرواية او القصة.

والمصدر الرئيس الثاني هو النتاج الذي سبق هذه القصة او الرواية ، او رافقها ، و  بكل تجلياته الادبية وغير الادبية ، وهو واقع ايضا ، الا انه واقع لبس ثوبا اخر ، فكان المدون في الكتب من خلال التناص معه.

اذن امامنا مصدرين رئيسيين احدهما الواقع بكل تجلياته ، ويتفرع منه المستقبل، والحاضر ، والماضي ،  والاخر وهو المدون في الكتب وهو ايضا واقع دخل في مخيال اخر وخرج بصورته التي تناص معها نص الكاتب.

محسن الخفاجي قاص و روائي ستيني كبير ، وقد نشر له : سماء مفتوحة الى الابد ( مجموعة قصصية مشتركة – 1974 ) ، ثياب حداد بلون الورد ( قصص – 1979 ) ، طائر في دخان ( قصص – 1996 ) ،ايماءات ضائعة ( قصص – 2001 ) ، وشم الدم على حجارة الجبل ( رواية – 1983 ) ، العودة الى شجرة الحناء ( رواية –  1987) ، يوم حرق العنقاء ( رواية – 2001 )، وكان في كل ما كتب ونشر من قصص وروايات ينهل مواضيعها ، او افكار تلك المواضيع ، من المصدر الرئيس الاول وهو الواقع ، والمصدر الثاني وهو المدون الذي يتناص معه في الكتب بكل تجلياتها الادبية وغير الادبية .

تأتي قصة ( شارع الزواج في لكش ) مثالا لاستلهام القاص للتراث ، اي من الواقع الماضي السحيق ، إذ انه قدم في هذا النص قصة عن الحاضر بثياب الماضي ، انه تناص تخيلي مع الاثار.

اما نص قصة ” قناع بورشيا ” فانها جاءت ممثله لتناص القصة القصيرة مع عمل ادبي من جنس اخر هو مسرحية ” تاجرالبندقية ” ، اذ تناص معها ، وقدم القاص الخفاجي واحدة من القصص الفنية الناضجة . ( راجع دراستنا عنها في مجلة الاقلام “تناص الاجناس الادبية – قراءة تناصية في قصتين قصيرتين” ، في العدد المزدوج /5-6 – عام 1993 .) .

اما التي استلهمت من الواقع الحاضر فكانت نصوص مجموعته القصصية ( حمامة القنصل ) ، وهو عنوان احدى قصص المجموعة ، والتي استلهمت من الماضي القريب للشخصية ، اي ان القاص قد استمد موضوعاته من حقائق حياته الشخصية، من تجاربه و تجارب الاخرين ، وكذلك حصل هذا في الكثير من النصوص السابقة لها التي ضمتها المجاميع القصصية  الاخرى.

” حمامة القنصل ” الصادرة عن ” دارمقهى للنشر والتوزيع – 2015 ” ، تضم نصوصا قصصية تعالج فترة زمنية محددة هي فترة سجن القاص في معتقل ” بوكا ” الامريكي في العراق ، لاسباب عير معنيين بذكرها في هذه السطور .

ان النصوص التي ضمتها هذه المجموعة هي شهادة مغموسة بالالم والحزن الذي خلفه الاحتلال الامريكي للعراق ، إذ انها تحكي لنا عن عالم اخر لم يألفه الخفاجي في حياته من قبل ، وهو الانسان المسالم ، عالم السجن ، السجن بيد الامريكان بين مجموعة من السجناء الذين لا يعرفهم ولا يعرف اسباب سجنهم ، الا انه وجد نفسه بينهم فخرج من هذه التجربة الاليمة منكسر النفس وهو يردد مع المتنبي قوله :

رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتّى… فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ

فصرْتُ إذا أصابتني سِهامٌ …تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ

البيتان اللذان صدّر بهما مجموعته القصصية هذه ، وكأنه يقدم نصوصه لنا لنعرف مدى الالم الذي ذاقه في ذلك السجن التي تنضح نصوصه منه في تلك الفترة .

في هذه المجموعة نجد القاص قدم نصوصه باسلوب (ضمير المتكلم) ، وهو يقول عن استخدامه لهذا الاسلوب في مقابلة له : (( الكتابة بأسلوب ضمير المتكلم خدعة يعتمدها الكاتب لإيهام القارئ بقربه من لب الموضوع وبوضعه في موضع البطل السارد العليم. كان مورافيا يفضله على أي أسلوب آخر وانه يلائم منجزات العصر وربما يساعد هذا الأسلوب على توظيف التجارب الشخصية للكاتب ولصقها بتجارب بطله. لو أن مورافيا أراد أن يكتب سيرة ذاتية فإنه سيكتب مثلما يكتب قصصه ورواياته ولن تجد خلافا بين هذا وذاك.

الكتاب الماهرون هم الذين يتركون مسافة محددة بين تجاربهم الشخصية وتجارب أبطالهم على الورق. ومهما يكن فإن الحياة ليست هي المنارات الخيالية على الورق. )).( من حوار اجراه عباس منعثر معه وقد نشر على صفحة القاص في حينها ).

يصف  سجن ( بوكا ) والذي يسميه الوادي المقدس ، بمقطع مكثف ، فيقول : ( اذا وصلت الى بوكا ، فتذكر انك في الوادي المقدس . هنا تعذبت ارواح ، وتوقفت اعمار طوقها الغزاة بسيل رصاص متواصل واعد الجنود رؤوسهم بأعواد الكافيين .

هنا امتلات اجواف السجناء بالكولسترول ، وقتل كثيرون برشقات رصاص غادر . عاشوا مع الذباب والفئران والعقارب والافاعي من كل صنف … الخ ) ( ص 15 ).

والوادي المقدس هو الوادي الذي تقف فيه حافي القدمين ، لا تتكلم فيه ببنت شفة ، تسمع فقط وتنفذ ما تؤمر به .

هكذا قضى القاص فترة سجنه ، في هذه الاجواء المملة و القاتلة ، مع الذباب والفئران والعقارب والافاعي .

تنبأ القاص بموته في نص ( عمي فرناندو ) ، إذ جاء على لسان الطبيب الفاحص للسجناء في السجن الى البطل ، وهو القاص نفسه ، قوله: (( اسمع سأحدثك بصراحة متناهية ، انت غير مصاب بالسكري ، ولكن ضغطك مرتفع ، عليك ان تراجع طبيبا حين تغادر المكان ، والا فستموت بالجلطة … )).

كانت هذه الاشارة هي واحدة من تنبؤات القاص بما ستؤول اليه حياته ، فقد اصابته الجلطة التي ادت بعد سنوات قليلة الى موته .

كان الشيء الوحيد في ممارسة حريته في السجن هو عند النوم ، اي ان يحلم ، الا انها حرية مقيدة ، لان الحلم الذي يترآى له هو الحلم الذي يرى فيه نفسه وهو في اجواء استثنائية و غير صحية ، يقول في نصه القصصي ” قطرات من ماء السراب ” : ( حلمت انني اركض في صحراء كلها رمال تطير كدوامات في الهواء الخانق ، وتحرق العيون ، ولا اصل الى مكان . الذئاب تلاحقني حتى في النوم . تنطفئ الاحلام وتموت ، م ن دون امل بالعثور على حل ، لا خلاص . الحلم يتحول الى كابوس ). ( ص18 ) .

وكانت الحرب بالنسبة الى القاص محسن الخفاجي هي الحرب كما قال احد شخوص قصته ” الخائن والجنرال وحبات السكر ” من المجموعة ذاتها ، كانت هاجسه الاساس في كل ما كتب ، خاصة روايته ” يوم حرق العنقاء” التي كانت من خسارات بطلها انه قد خسر حبيبته  ، فضلا عن الخسائر الاخرى .

ان موضوعة الحرب التي اخذت بلب القاص منذ نصوص المجموعة القصصية المشتركة حتى اخر ما كتب من نصوص قصصية او روائية ، كانت الهاجس الاول له .

ففي مجموعة ( حمامة القنصل ) ، نجد ذلك ، لان النصوص التي ضمتها المجموعة تنضح بما الت اليه الحرب ، لنستمع الى قول احد شخوص نصه القصصي ” الخائن والجنرال وحبات السكر ” : ( – الحرب هي الحرب ، سرقات في العلن ، اكاذيب وتضليل وخسائر فادحة ) ( ص12 ) .

ومن تلك الاكاذيب ما رواه القاص في قصة ” المحكمة المفترضة للمتهم البريء” اذ يكيلوا التهم لبطل القصة كذبا ، وهو السارد – القاص نفسه.

يقول فيها : (المحققون رموا عليّ تهما عديدة بلا أدلة ولا شهود ولا يمكن الفكاك منها) . ( ص49 )

في هذه المجموعة ينقل لنا القاص بعض من هموم السجناء ، وايضا السجانين ، يقول عن احد السجناء:

( لم ار سجينا مثل احمد.

إدعى الجنون ، ليهرب من التحقيقات ) ( ص20 ).

وقال عن الضابطة الامريكية الشقراء السجانة : ( – سأسافر الى ولاية الينوي ، لاحضر زواج امي من عشيقها .

– وابوك ؟ ما موقفه ؟

– انفصلا منذ عامين . لم يعد اي منهما يهتم لمصير الاخر .

– اذا كان عمرك الان 38 عاما فكم يكون عمر امك ؟ هل هي ملائمة لكي تكون عروسا في سنها ؟

قالت بهدوء :

– الحب لا يعرف القوانين . ) . ( ص21 ).

وفي نص ” حمامة القنصل ” الذي يحمل مفارقة كبيرة ، فبعد ان امسك احد السجناء بحمامة ونتف ريشها علم من ورقة مربوطة بالحمامة انها حمامة القنصل الانكليزي في جدة ، فينتظر السجناء نمو ريشها الذي نتفوه ليطلقونها ، الا ان الامريكان يخشون ان يرسل هؤلاء السجناء رسالة الى ذلك القنصل يشرحوا فيه معاناتهم في السجن ، الا ان الاوامر تأتي بنقل هؤلاء السجناء الى سجن اخر ، وهنا المفارقة ، إذ عندما يمرون وهم راكبون بالشاحنة يرون مجموعة من الجنود الامريكان وهم يطلقون النار على الحمامة ،يقول النص : (في طريقنا مررنا بحلقة من الجنود الأميركيين يطوقون الحمامة ، ويطلقون النار عليها ، من كل صوب ، وهم يتسلون ضاحكين).( ص30 )

انه فعل انساني يقابله فعل غير انساني .

وهكذا كانت نصوص الخفاجي القصصية شهادة مكتوبة على جرائم الاحتلال الامريكي بما نضحت به من الواقع المعاش لسجناء ابرياء لا ذنب لهم سوى انهم عراقيون يحيون بلدهم العراق .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المجتمع العراقي بين الفكر الغيبي والطموح الغائب …

الخطاب القصصي في بعض  نصوص ” بيت اللعنة ” انموذجا

 

” لا تقسروا اولادكم على اخلاقكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم “

                                                                  علي بن ابي طالب

هذه العبارة تحمل مفهوما خاصا لما نريد ان نربي عليه ابناءنا ، وفي الوقت نفسه هي تحمل مفهوما عاما لما نريد ان نخاطب به انفسنا وابناء مجتمعنا لنتجاوز الواقع الذي نعيشه الى واقع متقدم اكثر امانا واكثر سعادة.

ولما كانت منظومات فكر مجتمعاتنا العربية الاسلامية المعرفية و التي ساهمت في تشكيل البنى الفكرية والمعرفية العقلية والذهنية له بكل ابعاده الدينية والفلسفية والايديولوجية والعقائدية تنحو نحو التواكل والخنوع لما هو غيبي ، فكان لزاما علينا ان نبحث عن اجواء ومناخات ينمو فيها هذا الفكر ويتقدم الى افاق واسعة وكبيرة بحيث يتطور الى فكر يتجاوز هذا التواكل والخنوع للغيبي ، ويرتاد افاقا ذات رؤية عقلانية غير خاضعة للموروث الغيبي والخرافي والاسطوري ، إذ كانت عقلية مجتمعاتنا لا عقلانية متخلفة و سابقة زمنيا ، وقد تمثلت في الموروث القديم الذي كان سائدا فيه من الخرافات و الرؤى السحرية و واقع متصف في معظمه باللامعقول قد ورثناه ابتداء من السومريين حتى الان الذي نملأ فيه ” تراكتور ” عاطل بمجموعة من ” العلوك = قطع قماش خضراء ” لنعيد ما كان العرب قد وضعوه قبل اكثر من 1400.سنة في شجرة ” ذات انواط ” التي طالب المسلمون النبي ان تكون لهم شجرة مثلها ، الا انه نهاهم عن ذلك كما تذكر المصادر.

و النظر في الخطاب القصصي – او اي خطاب ادبي او غير ادبي – بعيدا عن القيمة الجمالية ( البلاغية ) الادبية له ، هو فحص لعمل نسقية هذا الخطاب للوصول الى ما بعده، اي الى ما وراء الادبية التي يضمها هذا المنجز الخطابي ، ومن ثم مسك المضمر الايديولوجي ( بلا حمولات سياسية ) المهيمن فيه ، لمعرفة الدال الذي يتحرك فيه ، وهذا الفحص يعطينا الحرية في معرفة اوجه تمثلات الانساق التي تؤثر في هذا الخطاب .

ان الوقوف على تمثلات انساق المنجز هذا يوصلنا الى معرفة الانساق الثقافية التي راح يعمل عليها والمأخوذة من الواقع، فاما ان يعيد تشكلها و توزيعها من جديد ، ليعيد استهلاكها مجددا ، او يأتي بجديدها المرتحل من الاخر ، او الهجين المركب من الاخر ومنها ، اي من الذاكرة ، فيدخل المخيال النشط في هذه العملية.

من الانساق التي قدمها الخطاب القصصي هي الانساق الثقافية المعاد تشكلها واستهلاكها ، ومن هذه الانساق ، الانساق الدينية التي يعج فيها الكثير من موروثنا الشعبي ، فأخذ صاحب الخطاب ( القاص ) دور الواعظ الديني ، واصبح خطابه خطابا دينيا بإمتياز ، مما يجعل خطابه اخلاقيا اكثر منه ادبيا.

من الامور المعروفة في مجتمعاتنا ذات الايمان الروحي بما يحمله دين ما ، ان الطابع الديني – اي دين – لهذا المجتمع هو انعكاس لما يؤمن به ذاك المجتمع من امور روحية وغيبية ، اي ما ينعكس في تصرفات وسلوك اعضائه مرده الى ما يؤمن به من تلك امور.

ولما كان المجتمع العراقي منذ السومرين التي وصلتنا اخبارهم الى يومنا هذا ، مرورا بكل الحضارات التي مرت عليه ، قد اعتقد وآمن بقوة عظمى تسّير الكون وما فيه من حيوات وجمادات ، ، فآمن بوجودها المتعالي ، وعبدها ، وقبل بها وبما جاء عنها ومنها ، فراح يبحث عن رمز لهذه القوة ، فكان كما قال غوته في ان الرمزية ”  تحول الظاهرة الى فكرة والتي تتحول بدورها الى صورة ، بشكل تبقى معه الفكرة ناشطة دائما داخل الصورة ومنيعة وحية الى ما لا نهاية ، وحتى اذا ما فسرت الفكرة في كل اللغات ، فهي في ذلك تبقى متعذرة البيان ” .( علم الاديان – مساهمة في التأسيس – ميشيل مسلان – تر : عز الدين عناية – ص 248 )فوجده بـ (الله) التسمية العربية لتلك القوة ، فكان هو القوة المسيّرة لهذا الكون وما فيه .

والمجتمع العراقي حاله حال المجتمعات الاخرى التي تؤمن بوجود هذه القوة العظمى ، فآمنت بالخلاص الروحي من خلال ذكر اسمها ” الله ” ، الرمز ، لانه اعتقد ان ذلك يعطي الراحة والسكينة للروح البشرية ، وتعدت ذلك الى جميع الحيوات الاخرى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ).(  الاسراء :44 ) . وكذلك راحت تؤمن بالصبر الذي يرتكن الى امور غير محسوسة مما يجعله سلبيا في التأثير ، اي غيب العقل فتغلب الوجدان في فكر هذا المجتمع  .

وقد تأثر الابداع القصصي بهذه الامور ، فباتت القصص تقدم لنا هذه الافكار وكأنها حالة صحية لا يأتيها الباطل من كل الجهات ، وهذا ما نجده في بعض قصص القاص والروائي علي لفته سعيد خاصة في بعض نماذج نصوصه القصصية المعنونة ” بيت اللعنة ” .

اعرف جيداً ، وانا على بينة من امري ، انني في هذه القراءة سأبتعد كثيرا عن قراءة و فحص النصوص من خلال المناهج الادبية الفاحصة ، البلاغية والجمالية ، لانني سأناقش بعض اسس ومرجعيات الفكر الذ تقدمه بعيدا عن الادب ، أي أناقش ما تحمله من افكار ورؤى وتصورات لا علاقة لقوانين تشكل ادبية النص.

منذ الوهلة الاولى ، تستفزك قصص القاص علي لفته سعيد بفكرتها وموضوعها الذي تقدمه ، إذ ان الفكرة التي يطرحها في هذه النصوص هي الفكرة التي تعيش في لا وعي المجتمع حتى باتت من المسلمات العقلية والروحية للقسم الاكبر من هذا المجتمع ، وهي فكرة الخلاص الروحي والنفسي ، وفكرة الصبر ، إذ يضع هذه الافكار في قالب محسوس ومجسد ، قالب سردي في داخله شخوص يجسدون تلك الافكار .

اول نص قصصي في المجموعة ( في المزاد العلني ) هو من هذا النوع ،حيث يطرح فكرته في ان الخلاص يأتي من الدين المؤسس في المجتمع،اي الفكر الديني ،  او من مظهر من مظاهره العديدة ، وهذه الفكرة متأصلة في كل دين منذ تأسيس الاديان الى يومنا هذا ، الا انه خلاص اللحظة وليس خلاصا نهائيا ، حيث يكون الصبر هو دواء المكلوم ، وغذاء الفقير ، وماسح هموم المهموم ، وهذا الصبر يأتي من طرق واساليب دينية شتى ومنها سماع الاذان الذي يكون صوته ( والعرب ظاهرة صوتية ) مهدئا ( مخدرا) للنفس والروح ( لكن صوت المؤذن اخترق سمعها بصوته الصافي ، اخرجها من اجوف الذهول الذابل واعادها الى توازنها ).ص22 ، ص34 ، ص44 ،هكذا يقول الخطاب الموجه لنا نحن المتلقين .

يتحدث النص عن سوق يتم فيه تبادل الهموم الشخصية ، هو سوق ” مزاد الهموم ” ، فيأخذ الزوج زوجته اليه ، تفاجأ الزوجة ببساطة همومها امام ما يعرضه الناس من همومهم ، فتعود خائبة هي وهمومها .

تطرح هذه القصة فكرتين شعبيتين هما الفكرة المتأصلة في التفكير الشعبي الجمعي والتي مفادها ( من رآى مشاكل الناس هانت عليه مشكلته ) ، والفكرة الثانية هي اللجوء الى الدين ( اي دين) لانه البلسم الشافي – كما ترى – لكل المشاكل حسب اعتقاد شخوص القصة ، وهذا معناه الاتكال وعدم السعي للخلاص من المشاكل والهموم التي تصيب الانسان ، من خلال الركون الى الصبر ، والصبر على المكروه في المفهوم العام هو: احتماله دون جزع .

والفكرتان لا تناقشان الواقع ، لا فيما هو موجود ، ولا في النص ، و لا يمكن بحث اصل المشكلة المولدة للهموم ، اذ ان الاولى هي السكوت على تلك المشاكل والقبول بها طالما هي اهون من مشاكل الاخرين ، وهذا يستدعي السكوت عنها والقبول بها تحت نظرية ” القبول بالواقع “، و ” اقل الضرين ” ، و تطبيقا للمثل الشعبي ( منهوب النص ما منهوب).

والفكرة الثانية هي فكرة الاتكال على الغيب، والغيب غير معلوم ولا محسوس، وقد نوقشت هذه الفكرة قديما وحديثا خاصة في علم الكلام الاسلامي ، لان الاتكال معناه القبول بما جرى وحدث ، والسكوت عنه ، وتفويض امره الى قوة عظمى تحت شعار (حسبنا الله ونعم الوكيل). و الاتكال على الغيب معناه فتح المجال للشعوذة وسماع الخرافات والاساطير والركون اليها دون الوصول  لحل المشاكل والهموم .

***

في قصة ( الغرفة العلوية ) يتعالى صوت الاذان مما يسكت الاصوات في راس بطل القصة الصائم ( وارتفعت اصواتنا مع صوت المؤذن وهو يعلن آذان المغرب).  ص34 ، حيث يهدأ الجوع والجزع منه ، وكذلك اسكات الكوابيس المصاحبه دون ان يحرك الشخص ساكنا لازالة ذلك الجوع ، واسكات الكوابيس المرافقة له ، بالاكل.

ان سماع الاذان معناه انتهاء فترة الصيام ، فترة الجوع والنوم ورؤية الكوابيس دون ان يفعل شيئا سوى الاكل.

انه الارتكان للكسل والخمول ورؤية الكوابيس وانتظار الآتي.

***

في قصة ( خيوط ) تعود النغمة نفسها ، الصبر (ص44) ، ذكر ” الله اكبر ”  ، والتوبة (ص 44) وكذلك صوت المؤذن (ص44)، وكل هذه الاصوات يسمعها بطل القصة المحاصر في زمن الحصار ، فعليه التوبة ، وعليه الصبر ، وعليه ان يستمع للاذان لتهدأ الروح وتستكين في هذا الحصار ، وعليه ان يتكل على الغيب الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، اما التحرك لازالة ذلك الحصار فهو ممنوع عليه.

انه الارتكان للكسل والخمول ورؤية الكوابيس والقبول بالامر الواقع.

***

في قصة ( مدينة النار ) يدور الحديث بين شخصيتين عن تاريخ المدينة ،إذ يسأل بطل القصة الجد قائلا :

قلت للجد: لماذا كتبت علينا الحرب ؟

قال : ماذا تعبد؟

قلت : الله .

قال : عليك ان تؤمن بحكمته . ص68

اذن عليه ان يؤمن بحكمة ” الله ” في فرض الحرب ، ولا يسأل عن اسباب قيامها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) . ( المائدة : 101) ، لقد حرم السؤال وقضي الامر .

لقد اسكت الدين اي سؤال ، فكان الارتكان للكسل والخمول ورؤية الكوابيس ، وعدم المعرفة.

وعندما اتت عبارة ( هذا لا يكفي ، النار تأكل كل شيء ) بعد ذلك فانها تدعو الى انتفاء الحاجة لان نؤمن بحكمة الله ، فقد جاءت بعد قول الجد مباشرة ، ومعنى ذلك بداية للسؤال ولكنها ظلت مبتورة.

***

ان الصبر والاتكال هما مفهومان اسيء استخدامهما في مجتمعاتنا الاسلامية خاصة ، لانهما ردا الى قوة عظمى (الله) وللاذان ، واستكانا لهما ، ولم يكن هناك فعل ما من قبل الشخص الذي عمل بهما تجاه المشكلة التي اعترضت حياته فصبر واتكل ، وكما قال المثل الشعبي ( اصبر والصبر مأمون تالية) و (اصبر تظفر ) و (والصبر مفتاح الفرج ) و ( الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح ) فكل هذه الامثال تدعو الى الارتكان الى الكسل والخمول والتواكل والقبول بالامر الواقع دون العمل.

اما الامثال التي تدعو الى التوكل فهي كثيرة في مجتمعاتنا المسلمة ، منها عشرات الايات التي وردت في القرآن والتي يمكن سماعها من افواه العامة في المجتمع مبتورة وهو يدعو الى التوكل دون العمل ، وكذلك المثل الشعبي الذي يؤكد على الهروب من المشكله ( ذبها براس عالم واطلع منها سالم ).

ان الفكر الواقعي المتداول بين الناس لا يقدم لنا حلولا جذرية وصحيحة ، لانه يستجيب للعرف والتقاليد والعادلات التي عشعشت في عقول الناس من قبل ان توجد الاديان المسمات بالسماوية او الوضعية الى يومنا هذا.

ان الديانات بأنواعها ، وضعية او سماوية كما سميت ، قد جاءت لهداية البشر ، وحثهم على العمل والمثابرة ، والبحث عن الحلول المناسبة وليس لتخديرهم بما لم يرد في توراة او انجيل او قرآن .

لم تطلب منهم ترك العمل ، والمثابرة ، واتباع الكلام والقول التخديري الذي يترك الانسان جسد بلا روح ، وروح دون جسد ، بل بالعمل تعيش الشعوب التي هي جماع الانسان العامل ، الكادح ، المثابر وفي هذا يستوي المؤمن بدين او غير المؤمن .

ان بعض قصص ” بيت اللعنة ” التي قدمت لنا شخوصها وهم يلتحفون بالصبر، وما قيل عنه ، ويتكلون على الغيب غير المحسوس وما روي عنه ، ينهلون من نبع المجتمع الذي انحدروا منه فلا يخرجون منه ، هذا المجتمع الذي حمل كل ما هو ضد طبيعة الانسان وخاطبه بما فيه من موروث اتكالي ،من اعراف وتقاليد وعادات .

قصص ( بيت اللعنة) تقدم نصوصا فيها ، اضافة لما هو ابداعي وجمالي ، فكرا يمكن ان يطرح مجموعة من الاسئلة الانية مما يجعل المتلقي يعيش حالة تمتع من خلال النص اضافة للمتعة البلاغية و الجمالية .

اضافة لذلك فانها تقدم شخوصا لا تبتعد عن الواقع الذي افرزها او تحركت فيه ، انها بنت الواقع بكل ايجابياته وسلبياته .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الانسنة و المفارقة و الاتساع الدلالي

في قصص ” ظلال الهمس ” لشريف عابدين

 

” لا وجود للحقائق ” نيتشه

اذا كانت هذه المقولة صحيحة ، وهي صحيحة حقا ، حيث ان الحقائق لا توجد الا في الرياضيات (1+ 1 =2) وعلوم الفيزياء (الضغط : مقدار القوة الموجهة على وحدة المساحة.) والكيمياء (الماء = ذرتين هايدروجين مع ذرة اوكسجين)، اي في العلوم الصرفة ، فان للمخيال دور كبير في كتابة قصص مجموعة ” ظلال الهمس ” للقاص شريف عابدين ، إذ لعب هذا المخيال الكثير في كتابة كل نص قصصي وراح يوسمه بميسمه الخاص ، لان الواقع المحض لا ينتج قصة وانما ينتج تقريرا صحفيا جافاً.

القاص شريف عابدين هو واحد من كتاب القصة القصيرة جداً في مصر ، له ” تلك الاشياء” و ” احمر شفاه ” و ” جذور العشق ” وغير ذلك من مجاميع القصة القصيرة جدا، و مجموعته الأخيرة ( ظلال الهمس) تضم قصصا طويلة نسبياً تمتاز بثراء شخوصها ، وأحداثها، وكذلك بدلالاتها ورموزها وأبعادها النفسية التي تقدمها.

مجموعته ” ظلال الهمس ” تضم بين دفتي غلافها (12) قصة قصيرة ، تأخذ من الواقع موضوعاتها وتدخله في معمل مخيالها القصصي لتخرجه نصا قصصيا له ميزات القصة القصيرة واسلوبها ، ولغتها التي تجنح الى ان تكون لغة مغايرة للقاموس اللغوي الذي اعتدنا عليه ، حيث تأخذ من اللغة العلمية الحديثة الكثير من مفرداتها وتصبه في قالب القاموس اللغوي العربي المعتاد .

اول ما يواجهنا من عمل المخيال هو المزج بين (ظلال) كمفردة بصرية ، و (همس) كمفردة صوتية ، هاتان المفردات مأخوذة من الواقع اليومي وادخلها المخيال في الياته فخرجت بهذا الترابط .

و قصة ” ريتا ” تذكرنا بحكايات كتاب ” كليلة ودمنة ” التي تدور بين عالم الحيوانات ، اذ يقوم القاص بانسنة شخوصه ، وكذلك تذكرنا بأفلام الكارتون ، إذ يتخذ الفأر والفأرة ابطالا لقصته تلك ، ومن خلال العلاقة التي تحدث بينهما يرسم صورة كاريكيتيرية لما في الواقع الافتراضي الذي يشكله المخيال من احداث تدور بين شخصين من بيئتين مختلفتين ، إذ نجد الفأر قد اختاره القاص من فئران الجبال ، والفأرة من فئران المنازل ، فيتبع الفأر الفأرة في كل مكان تذهب له ليبث له شوقه وهيامه وحبه .

في هذه القصة يلعب القاص على اللغة من خلال بطله الفأر فيقول ((تندب: يا جملي. يهمس: (جبلي) ريتا .. جبلي. تصرخ: يا راتي.. يتململ في رقدته: غريبة.. هي لا تعرف سوى بعض التأوهات على الطريقة الفرنسية.. نعم. أتذكر حين داعبتها راتي.. تغنجت متسائلة: هل تقصد مراتي؟ وارتسمت على شفتيها بسمة رائعة.. ذكرتني بغنج تلك الفاتنة.. في رحلة البر.. كانت تدعى ريتا.

يغمغم: من يومها أطلقت عليك اسمها.. ريتا.)) . ص 6

المفارقة هنا تنبع من هذا الحوار الذي يديره القاص على لسان الفأرين ، فتتأكد قدرة القاص على المسك بأدواته القصصية ، فتتولد عنده المفارقة التي تمنح القصة طاقة جمالية وبلاغية كبيرة توصلها للمتلقي .

ويستخدم القاص الاسلوب نفسه في قصة (صرخة انثى) اي اسلوب انسنة الحيوانات ، إذ في هذا القصة يضيع امام المتلقي الحد الفاصل بين عالم الانسان وعالم الحيوان فيشتركان سوية في عالم واحد ، وهذا من عمل المخيال ، إذ تجد بطلة القصة “مي” قد ضاعت بين اشكالها ، البشري والحيواني :

((الحيوانات يرونها قردة مسحورة،والناس يرونها لبؤة مهجورة! صارت لا تفهم ما يدور حولها من تصرفات غريبة تتسم بالاستهزاء في أفضل الحالات. هامت على وجهها بين طرقات المدينة تنزع عنها ثيابها وتهذي صارخة:

– لست لبؤة.. لست قردة.. أنا امرأة! )) . ص89

ربما وجد ان وحدة الوجود ستعينه في كتابة قصة مكتنزة بالمعاني والدلالات لهذا اتبع هذا الاسلوب كما في هذه القصة .

وكذلك نجد هذه الانسنة في قصة (لو أن زهرة ذات خريف)التي تنهل من عالم الحيوان موضوعا قصصيا لها .

ويالمقابل من هذا نجد القاص في نص قصص اخر يستخدم تقنية الانسنة مرة اخرى ، فيقوم بأنسنة النباتات ، كما في قصة (شيتوفيليا ) ص29 .

فالزهرة ” شيتوفيليا ” تجد نفسها وقد احاطتها الرمال والاشواك وتعجز عن الحصول على الماء ، فتدخل في حوار مع نفسها عن حالها الذي وصلت اليه .

ان قصة (شيتوفيليا ) قد جاءت لترمز الى حياة البشر ، انها اسقاط من عالم النبات الى عالم البشر الذي يقف ساكنا بلا حراك لتغيير مصيره ، وقد كان المخيال نشيطا في كتابة هذه القصة والقصص الاخرى في المجموعة .

وكذلك نجد ذلك في قصة (مذاق شهي للصبار) التي يتداخل فيها البشر والنبات :

((أنا زهرة صبار.. لا تثمر.. أقبع الآن وحيدة.. في أحد الأركان.. أنا الليلة باردة للغاية، ولشفتيّ ملمس الشتاء.. شاحبة أشعر بالفزع، وأحدق في المجهول.. أرقد ساكنة.. أتنفس بوهن أشعر بحزن عميق، لكن قلبي ساكن تمامًا.. أنتظر أن يوقظني غدا؛ لأملأ عالمه لأكون دومًا معه.. وردته التي لن تموت أبدًا.)). ص53

و تتناص قصة (309 – خسته خانه) مع ظلال القصة القرآنية ” اصحاب الكهف ” من خلال غيبة بطلها عن الوعي لفترة ساعة او اكثر :

((نهض الرفاق لأداء الصلاة ثم عادوا مبتهجين بنجاتي. حين أفقت تماما هتفت:

– يا لها من رحلة عبر الزمن!

قال رفيقي:

– لبثت حوالي الساعة في حالة فقد الوعي..

قلت:

– حسبتها أنت ساعة وعشتها أنا خمس ساعات! فقد عشت أحداثنا كل على حدة.. أتذكرها جميعا!

فانتابهم التعجب.)).ص 13

( فالبطل ) لا يعرف كم من الوقت قد غاب عن الوعي ، هل هو ساعة او بعض ساعة ، او 300 عام ؟

القصة تنتقل بالزمان من الحاصر الى الماضي ، والى المستقبل ،انها لعبة الوعي المشوش الغائب عن نفسه ، حقيقة او مجازا ، بين الوقت القصير الذي استغرقه غائبا للوعي ، وبين 300 سنة مرت عليه ، وخلال فترة غياب الوعي يشعر البطل بتحولاته العديدة .

في هذه القصة تتفكك العلاقات بين الازمنه فلا يكون زمنا مرتبا ” كرنولوجي ” يخضع لمنطق التسلسل والتتابع المنطقي ، وانما يخضع لمنطق الا نظام ، أو المنطق التاريخي ، أي منطق الزمان التقليدي نفسه .

انها رحلة نفسية لبطل القصة يديرها القاص من خلال وعي تام بما يفعل .

ان تداخل الواقع بالخيال تفرضه حالة الوحدة والعيش مع حيوانات اليفة في ليل ممطر ، وهذا ما تعكسه قصة (زخات مطر) حيث تعيش بطلتها في وحدة تامة تنتظر الذي يأتي ولا يأتي ، الرجل ، حتى تستسلم للنوم كأي امرأة تعيش لوحدها .

القصة هذه تعكس لنا معاناة امرأة تعيش الوحدة بعد هجر زوجها لها .

في رواية (السراب) لنجيب محفوظ نلتقي بكامل رؤبة لاظ وهو يعاني من برود جنسي امام زوجته التي تشبه امه الجميلة ، ولا تنفك عقدته الجنسية الا مع مومس قبيحة .

هذه الفكرة بنى عليها القاص قصة قصيرة (أضواء خافتة ) ارادها ان تقدم معالجة نفسية لحالة مراهق جنسية ، اي يجرب هذا المراهق قدرته الجنسية في بيت دعارة فلا يفلح ، الا انه يفلح مع مومس فاضلة كما يسميها (هل هو الدواء أيتها المومس الفاضلة!.) ، انها مفارقة بلاغية ابداعية.

المومس الفاضله هذه تقدم معالجة نفسية لهذا المراهق الذي كان يفشل كثيرا في التعبير عن قدرته الجنسية ، القصة تقدم صورة ايروتيكية لعلاقة بشرية بين رجل وانثى . ( راجع دراستنا: جنس المحارم في القصة – علاقة الابن بأمه انموذجا ).

استخدام التقنية الحديثة في القص مسألة ليست عابرة في الواقع وفي الادب ، لان استخدام الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي في الواقع افرزت قضايا كثيرة وجاء الادب (القصة والرواية خاصة) لينقلها ويؤصلها لنا . ( راجع روايتنا ” الحب في زمن النت ” ) .

في قصة ( متلازمة اليوم الثاني) ابطالها رجل وامرأة يتعارفان في شبكة التواصل الاجتماعي ، علاقة التعارف هذه تحمل مفارقة ، فبينما يحلم الرجل بإقامة علاقة جنسية مع المرأة ، نجد المرأة تحلم بحصولها على المال منه لعلاج ابنتها ، ليكتشف الرجل في النهاية انه وقع ضحية لقرصنة المرأة .

((استطردت: لن أتمكن من تبرئتك.. لقد تمت قرصنة الحساب.)) . ص 43

***

بعد هذه الرحلة القصيرة في بعض قصص مجموعة (ظلال الهمس) وجدنا ان القصة عند شريف عابدين لها مميزات خاصة ، منها:

– انسة الحيوانات (قصة : ريتا ، وقصة :صرخة انثى) ، وانسنة النباتات ( قصة :شيتوفيليا ، وقصة : مذاق شهي للصبار) ، و انسنة الجماد (قصة دموع الأسفلت) ، فبينما كان القاص في الكثير من النصوص القصصية اكثر قربا عند تناوله اي موضوع من الحاضر بكل اصعدته اللغوية والبنائية والصورية والجمالية ، فأنه في قصص اخرى ينهل من الكتابات القديمه اسلوبا له في تناول مواضيعه ، كما كان قريبا من قصص ” كليلة ودمنه” و ” الف ليلة وليلة ” وحكايات الجدات.

– ثنائية الشخوص ، اي ان شخوصها تتكون من امرأة ورجل ، سوى قصص (ريتا – لو أن زهرة ذات خريف ) من عالم الحيوان والتي هي ذكر وانثى ، وقصص (شيتوفيليا – مذاق شهي للصبار) التي هي من عالم النبات .

ان اختيار هذا الثنائي جاء ليعطي حرية كاملة للقاص ليقول ما يريد دون تشتيت النص بين شخصيات كثيرة لا داعي لها ، انه التمركز حول هاتين الشخصيتين التابضتين بالحياة .:

– يعتمد في نصوصه القصصية على المنولوج والديالوج ، وكذلك الحوار المباشر ، حيث في اغلب نصوصه القصصية يترك شخوصه تحاور نفسها لتبين المدى الذي تعيشه تلك الشخوص في فردية انعزالية قاتلة تدفعها الى البحث عن علاقة ما مع اخر من جنسها ، او ان تجد نفسها محاطة بأعداء اخرين ، مثل قصة (شيتوفيليا) ، وقصة (مذاق شهي للصبار) على سبيل المثال .

– تتداخل في قصصة الحقيقة بالخيال ، او كما قال نيتشه ” لا وجود للحقائق ” ، اي ان الحقيقة يتلبسها رداء الخيال ، لهذا نجد ان قصصه تحمل في طياتها مفارقة ينتج جرائها الادهاش المؤدي الى تفاعل وعي المتلقي مع وعي النص القصصي ، فيكون عند ذلك الفهم المبصر لما يقرأه ذلك المتلقي ، كما في قصة (ريتا ) ، و قصة ( متلازمة اليوم الثاني).

– اغلب قصص مجموعة (ظلال الهمس) يعتمد الصورة السردية المجازية التي تدفع المتلقي الى اعمال مخياله لكي تتجمع اثاثها امام ناظريه فتمنح النص جمالية بصرية متخيلة ، وقد ساعده في ذلك لغته المجازية ، حيث يستخدم مفردات جديدة آتية من الاختراعات التكنلوجية الحديثة بصورة تشي باستعمال مزدوج لها.

– في قصص ” ظلال الهمس ” نجد البيئة التي يعيش فيها شخوص القصص ذات تأثير كبير على الشخصية ، إذ لا تستطيع الفكاك من هيمنتها الكلية عليها ، حتى انها تؤثر في لغة الشخصية ، فكثيرا من مفردات لغتها من تلك البيئة كما في القصص التي تتعامل مع التقنية الحديثة “الحاسوب ” ، اوالفاظ علم النفس ، او الطب ، او بيئة الصحراء او المدينة .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشمس تشرق مرتين

( خواطر)

 

الخاطرة كما تعرف هي نثر أدبي صيغت فيه الكلمات ببلاغة – كما تعرفها ويكيبيديا – ويمتاز بكثرة المحسنات البديعية من صور واستعارات وتشبيه.

انها تعبير عن مكنونات النفس البشرية وما يدور فيها من حب أو حزن أو ألم أو فرح. اي انها كلام القلب الذي يطفو على اللّسان.

و تتميز بأنها تخلو من التفصيلات لانها تعبير عما يجول بخاطر الكاتب أي تعبر عن حالة شعورية في قالب أدبي بليغ ويكثر فيها استخدام المحسنات البديعية والتصوير والكلمات القوية أي أنها انفعال وجداني وتدفق عاطفي ، وهي لا تلتزم بطول معين .

ومن صفاتها انها :

1- أنها ذهنية عارضة تحتاج إلى ذكاء ويقظة .

2- يغلب عليها الجانب الوجداني على الجانب الفكري بالإحساس الصادق والعواطف الجياشة .

3- ليس لها مجال أو موضوع محدد .

4- لا تحتاج إلى أدلة وبراهين عقلية أو نقلية .

5- أنها تلائم العصر الذي نعيش فيه .

6- سهولة التوجيه والفهم إلى مختلف النزعات والميول و الثقافات .

7- لاتلتزم الخاطرة بأسلوب معين : فقد يكون الكاتب جاداً وموضوعـيا ً , وقد يكون ساخراً متهكـماً . وكثير من الناس يعتقد أن الخاطرة وثيقة تحمل بين طياتها الحزن والكآبة والألم وهذا غير صحيح , بل هي مساحة واسعة للخاطر والمشاعر الصادقة من فرح و حزن و حـب وشوق و فخر و عزة …الخ.( ويكيبيديا )

والخاطرة بشكل عام هي وجهة نظر شخصية ولا نقول انها فلسفية بهذا العنوان الدقيق والكبير ، وجهة نظر نحو الكون والانسان ، تنطلق من الشعور وتعود اليه ، حيث يجد الكاتب حريته فيها.

وقد وصلني من الصديق كرار حيدر كتابه ( الشمس تشرق مرتين – خواطر ) والذي يضم مجموعة من الخواطر التي كتبها تحت ذائقة انسانية ،او وجودية ، او رومانسية ، او وجدانية ، او اجتماعية.

الخواطر جاءت على شكل رؤوس اقلام قصيرة ،او طويلة الا انها عميقة الرؤية ، سهلة التصور ، تنبع من مخيال غير جامح ، الا انه يتحرك بعقلانية واعية .

تبدأ مجموعة ( الشمس تشرق مرتين) بخاطرة عاطفية تحت عنوان ” فيروز ” يقول فيها : ( وصفت كل الصباحات / ولم تعرف وجه حبيبتي ).

وتنتهي المجموعة بخاطرة وجودية – انسانية معنونة ” قدر ” يقول فيها : ( شكرا لانني كما تمنيت ).

وبين الرومانسية والوجودية تقف اكثر من ثمانين خاطرة كلها تصب في مجرى الحياة الواسعة لكرار حيدر.

وقد انتبه الصديق كرار الى تجنيس ما يكتبه ، إذ انه لم يصنف ما كتبه على انه شعر نثري ، قصائد نثر ، او هايكو كما يحلو للبعض ان يفعل ذلك دون مسوغ ، او رادع تجنيسي يردعه في عملية التجنيس ، وكأن الادب بصورة عامة تائه ،ولا تضبطه قوانين وشروطات ، اواليات يتبعها .

ومن خواطر الكتاب :

(( خمس رسائل الى إمرأة مجنونة

(1)

من السهل ان تكوني سطراً عابراً في كتابٍ نسائي وضيع او ربما كلمة يعتريها القبح في دكاكين انصاف الرجال

انهم يسترقون ضحكاتكِ بكلامهم المعسول بالدم

كاذب ؟ ليتني كنت فعلاً كذلك .. ايتها المجنونة الحسناء كلهم لعنوا السطر .. احرقوا الكلمة ..

اما أنا فاشتريت حبر عيناكِ هذا لادون تلك الرسائل المجنونة

وجدته مجاناً هناك!

(2)

اعرف جيداً كيف ارسم واحلم وافهم واتكلم

اعرف ايضاً انكِ تنتظرين الحصان الابيض وانا لست الفارس الابيض

حتى انني لا املك ثمن الحصان ولا ثمن القصر الابيض

إذاً لماذا تنحتين وجهكِ في عيني كل صباح ومن دون حتى تحية الصباحْ

لماذا تشيدين قبري في معارضِ الخيول ومن دون حتى دعوة الحضورْ

انا اعلن موتي فهيا اعلني حبكِ لرجل بلا حصانْ!

(3)

لم اسافر يوماً الى المريخ لاتناول كلمات الحب

لم اعرف مجالسة القمر ساعات لاتناول كلمات الحب

ولا حتى الشمس!

انا على الارض ايتها المجنونة .. لذا لا اجيد الكذب مثلهم

لا اجالس الشياطين مثلهم

لا أَكُل النار مثلهم

(4)

الغبي الذي بداخلي يعزف لحن الموت ويدعي انكِ صاحبة الاوتار

فهلا اخذتي اوتاركِ العتيقة بعيداً عني .. فلتعزفون كل الالحان بعيداً عني

ذلك الغبي يهوى الغرق .. في لون الكحل .. في عطر المنديل ..

فهل الكحل والمنديل لكِ .. هل هذا الغبي لكِ

كل ما اعرفه انني لا اعرفه

انا ليس هو!

(5)

ها انتِ اليوم اهم مجنونة تتجمع من اجلها طوابير الشوارب

فلتكتبي فخراً ان الجنون سر الحياة فكل مقاعد المسرح لكِ

كل المسارح فرغت من العاقلات

فرغت من الجميلات

فرغت من الصادقات )).

الكتاب من منشورات مؤسسة ثائر العاصامي – ط1 – 2016

شكرا للصديق كرار حيدر على مجموعة الخواطر هذه ، و التي استمتعت بقراءتها ، اتمنى له اوقاتا مثمرة بالعطاء .

 

 

 

 

 

 

 

جنس المحارم في القصة …

علاقة الابن بأمه انموذجا

 

يربط علم النفس الفرويدي خاصة ، بين الابداع – أي كان نوعه – والكبت ، وقد درست حالة الابداع دراسة نفسية ، و توصلت الى ان 😦 “الشحنة الانفعالية” “للهو” أو “الأنا” أو “الأنا الأعلى” التي تولد القلق، وقد تمنع من الانطلاق إلى سطح الشعور، أو قد تتصدى لها شحنات انفعالية مضادة، أو القضاء على شحنة انفعالية أو وقفها بواسطة شحنة انفعالية مضادة يسمى كبتا” فالتركيب المعقد للنفس في انفعالاتها وشحناتها العاطفية خاصة في تدخل “الهو” تمثل الجانب الغرائزي المادي الذي يحاول دفع السلوك اللاّشعوري للانطلاق إلى سطح الشعور، حتى تتحقق على أرض الواقع، ولكن “الأنا الأعلى” الذي يمثل مجموعة القيم الروحية والاجتماعية والأخلاقية تحاول أن تقف في وجه “الهو” حتى لا يطفو على السطح، ويتجسد في سلوك الإنسان هذا الصراع بين “الهو” و”الأنا الأعلى” ينتج عنه كبت لكثير من السلوك والذي يكون مصدراً لكثير من النصوص الإبداعية   ). (1)

إن نظرة “فرويد” إلى المبدعات الفنية الكبرى لا تخرج عن كونها تؤكد الاصل الكبتي للإبداع، إذ إنّ المبدعات الفنية عنده ليست إلاّ تعبيراً عن مكونات الطفولة، ودوافعها الملحة. (2)

وقد ناقش الجاحظ – ككاتب عربي اسلامي قديم – في اغلب كتبه قضية الجنس ، وتوصل الى ان : الجنس امر مشاع بين االمخلوقات، الا ان الشرع قد قنن هذه العلاقة . اذن ،  فالتحريم جاء من الشرع وليس من طبيعة  الاشياء.(3 )

***

وقد اخترت نموذج الدراسة هذا:(علاقة الابن بامه) ،لا لانه نموذج من العلاقات الجنسية الوحيد في الادب والواقع على السواء ، فهناك نماذج من العلاقات الاخرى التي قدمها الادب – والادب المكشوف خاصة- وكذلك ما يزخر به الواقع الحياتي من صور له، ومنه نموذج العلاقة بين البنت وابيها(4) او الاخت باخيها.

ونحن اذ نتناول هذا النموذج وننوه عن النماذج الاخرى، لا ننطلق من موقع رجل الدين وقضيته الاساس في الحلال والحرام ، او من موقع عالم الاجتماع او عالم النفس او عالم الاخلاق،وانما ننطلق من دراسة النموذج من الوجهة الادبية المقارنة حسب.

امامنا ثلاثة اعمال ادبية تتحدث عن علاقة الام بابنها او علاقة الابن بامه ، وعمل رابع اسطوري مستل من قصص الف ليلة وليلة، وهو عمل ادبي عربي بحت، وهذه العلاقة قد افضت الى:

1- جنس المحارم حسب المفهوم الشرعي الديني ، والعلاقات غير المشروعة عرفا . (قصة حبيبي لؤي وقصة ماما مارلين مونرو).(5)

2- فشل الابن ليلة زواجه من القيام بواجباته الزوجية ،وانكفائه على نفسه. (رواية السراب).

3 – قتل الام (شبحها العاري). (اسطورة جودر).

***

سبق ان قدمت دراسة مقارنة  بين اسطورة جودر – الالف ليلية – واسطورة اورست (الاغريقية) ورواية السراب في كتابي (الف ليلة وليلة وسحر السردية العربية)(6) ، وتوصلت الدراسة الى نتيجة مفادها ان تراثنا العربي لا يخلو من الكثير من الاساطير التي يمكن من خلالها دراسة اعمالنا الادبية دون الاتكاء على ما في اساطير اليونان والاغريق التي حاول كتاب المسرح وكذلك علماء الاساطير وعلماء النفس الغربيين ، ومن ثم العرب، من توسيع رقعة نشرها والافادة منها ، في دراسة بعض الاعمال الادبية.

***

في الليالي، تروي شهرزاد اسطورتها الى زوجها الملك شهريار ، ومن خلال هذا الحكي ينتقل الضمير بين ان يكون ضمير المتكلم على لسانها مرة، وبين ان يكون على لسان  ابطالها مرة اخرى، او ان يكون بضمير الغائب.

فيما رواية السراب يقدمها بطلها كامل رؤبه لاظ على لسانه ، فيقول 😦 “إني أعجب لما يدعوني للقلم، فالكتابة فن لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة.. الخ” نفهم من هذه البداية، أن بطل السراب هو الذي يتحدث إلينا من خلال تسجيله لما مر من حياته، بضمير المتكلم، حيث يعود بنا إلى الوراء، إلى أيام الطفولة، أيام كان يعيش في بيت جده مع والدته).(7)

اما قصة (حبيبي لؤي) فقد قدمت احد اثهاعلى لسان الام (بضمير المتكلم).

و قصة (ماما مارلين مونرو) قدمت الاحداث فيهاعلى لسان راو كامل العلم.

***

تبدأ احداث اسطورة جودر من لحظة سفر جودر مع التاجر المغربي(اذا تجاوزنا الاحداث الممهدة لها)، والدخول الى بناية لها سبعة ابواب تحت ماء النهر ، وخلف الباب السابع يرى (شبح)امه التي يطلب منها ان تخلع ثيابها ، فيقوم بقتلها حسب تعليمات التاجر المغربي لينتهي مفعول الرصد السحري للكنز.

فيما تبدأ رواية السراب من موت الام ، ويبدأ بطلها بتذكر مراحل حياته بالتفصيل.

اما قصة (حبيبي فؤاد) فتبدأ احداثها عندما تتذكر الام حياتها مع زوجها المتوفي ، وكيف انها سمحت لولدها ان يمارس الجنس معها، بعد ان كان فعل الصبي – ابنها- في البداية فعلا لا اراديا.

وفي قصة (ماما مارلين مونرو) يروي الراوي الكلي العلم احداث القصة ، بدء من حلم الابن الذي بدأت به القصة ، حتى الممارسة الجنسية ، وكنت اتمنى ان يكون الراوي للاحداث هو الابن لا الراوي المراقب للاحداث.

***

اسطورة جودر:

يقول التاجر المغربي لـ ((جودر)):

((اعلم أنني متى عزمت ألقيت البخور نشف الماء من النهر وبان لك باب من الذهب قدر باب المدينة بحلقتين من المعدن فانزل إلى الباب واطرقه فإنك تسمع قائلاً يقول: من يطرق باب الكنوز وهو لم يعرف أن يحل الرموز؟ فقل أنا جودر الصياد ابن عمر فيفتح لك الباب ويخرج لك شخص بيده سيف ويقول لك: إن كنت ذلك الرجل فمد عنقك حتى ارمي رأسك، فمد له عنقك ولا تخف فإنه متى رفع يده بالسيف وضربك وقع بين يديك وبعد مدة تراه شخصاً من غير روح وأنت لا تتألم من الضربة ولا يجري عليك شيء. وأما إذا خالفته فإنه يقتلك. ثم إنك إذا أبطلت رصده بالامتثال. فادخل حتى ترى باباً آخر فاطرقه يخرج لك فارس راكب فرس وعلى كتفه رمح فيقول: أي شيء أوصلك إلى هذا المكان الذي لا يدخله أحد من الأنس ولا من الجان؟ ويهز عليك الرمح، فافتح له صدرك فيضربك ويقع في الحال فتراه جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك، ثم ادخل الباب الثالث يخرج لك آدمي وفي يده قوس ونشاب ويرميك بالقوس فافتح له صدرك ليضربك ويقع قدامك جسماً من غير روح وإن خالفت قتلك ثم ادخل الباب الرابع واطرقه يفتح لك، ويخرج لك سبع عظيم الخلقة ويهجم عليك ويفتح فمه ويريك أنه يقصد أكلك فلا تخف ولا تهرب منه، فإن وصل إليك فأعطه يدك فمتى عض يدك فإنه يقع في الحال ولا يصيبك شيء ثم اطرق الباب الخامس يخرج لك عبد أسود ويقول لك من أنت قل له أنا جودر فيقول لك إن كنت ذلك الرجل فافتح الباب السادس، فتقدم إلى الباب وقل له: يا عيسى قل لموسى يفتح الباب، فادخل تجد ثعبانين أحدهما على الشمال والآخر على اليمين، وكل واحد يفتح فاه ويهجمان عليك في الحال، فمد إليهما يديك فيعض كل واحد منهما في يد وإن خالفت قتلاك ثم ادخل الباب السابع واطرقه تخرج لك أمك وتقول لك مرحباً يا ابني أقدم حتى أسلم عليك فقل لها خليك بعيدة، اخلعي ثيابك. فتقول يا ابني أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية، كيف تعريني؟ فقل لها إن لم تخلعي ثيابك قتلتك. وانظر جهة يمينك تجد سيفاً معلقاً، فخذه واسحبه عليها وقل لها اخلعي فتصير تخادعك وتتواضع إليك فلا تشفق عليها حتى تخلع لك ما عليها وتسقط، وحينئذ تكون قد حللت الرمز وأبطلت الأرصاد، وقد أمنت على نفسك، فأدخل تجد الذهب…)).(8)

***

رواية السراب:

تبدأ رواية السراب. بالسطور التالية: (“إني أعجب لما يدعوني للقلم، فالكتابة فن لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة.. الخ” نفهم من هذه البداية، أن بطل السراب هو الذي يتحدث إلينا من خلال تسجيله لما مر من حياته، بضمير المتكلم، حيث يعود بنا إلى الوراء، إلى أيام الطفولة، أيام كان يعيش في بيت جده مع والدته.. وكانت أمه قد تزوجت من أبيه الرجل الذي كان يعيش “عالة” على والده الثري، وما ورثه من إرث عن عمه.. وقد أنجبت منه ولداً وبنت.. وكان الأب ذاك سكيراً شريراً مما نتج عن سلوكه هذا الكثير من المشاكل بينه وبين أم كامل، فكانت أمه بين الحين والآخر، تترك بيت زوجها لتعود إلى بيت والدها.. وفي مرة أعادها والدها إلى بيت زوجها وطفليها، فكان أن حملت به، وولدته.. لكن المشاكل عادت مرة أخرى، فتم الانفصال النهائي بين الزوجين، فعاش “كامل” مع أمه في بيت جده مدللاً، وقد زاد اهتمام أمه به للتعويض عن الزوج والأطفال.. حيث نشأ نشأة غير صحيحة، إذ كان ينام مع أمه في سرير واحد حتى سن متأخرة، وكان يدخل الحمام معها.. فنشأ خجولاً، خائفاً، غير قادر على عمل شيء بنفسه.. وكان لسلوك أمه هذا، وتربيتها السيئة الأثر الكبير في زرع الخوف والعجز داخل نفسه، كما فشل في حياته الزوجية. عندما كان طالباً في الثانوي أحب -من طرف واحد- فتاة كان قد رآها وهي ذاهبة إلى المدرسة. بعد أن توظف أخبر أمه عن عزمه في الزواج فانتبهت الأم لما حصل له من تغير وخوفاً منها من انفصاله عنها بالزواج راحت تذكره بزواجها الفاشل (ص112) وما آل إليه من وضع سيئ يعيشانه سوية. لكن رياح الابن تجري بما لا تشتهي سفن الأم إذ يخطب بنفسه الفتاة التي يحبها- رباب- من أبيها ويتزوج منها والأم كارهة لذلك. وفي ليلة العرس الأولى لم يستطع كاملمن عمل شيء مع زوجته وتمضي الأيام بهما دونما تقدم. وبمشورة من أم رباب يوافق كامل على قيام صباح الخادمة بفض بكارة رباب عندها يقول في نفسه: “ولست أخفي أني شعرت بارتياح إلى اقتراح الأم. (9)فهو يزيل عقبة من سبيلي ويخليني من بعض المسؤولية ويعفيني من مراقبة الأم”. (ص234) ‏ ).(10)

***

القصتان القصيرتان:

اما في القصتين القصيرتين (حبيبي لؤي  ، ماما مارلين مونرو) فاننا لا نجد حادثة القتل ، بل حادثة ممارسة جنس المحارم، اذ ان الابن والام على السواء يرغب احدهما في الاخر جنسيا .

وربما يتساءل البعض : ما الرابط بين الحادثتين ، القتل وجنس المحارم؟

انه سؤال مشروع لمن يريد ان يفهم النصوص فهما ظاهريا ، اما من يريد التعمق في ذلك، فالدراسة ترى ان كل احداث النصوص المدروسة قد بني على العلاقة غير السوية بين الام وابنها ،والتي ادت الى قتل الام المعنوي ، ان كان ذلك من خلال قتل الشبح (اسطورة جودر) او من خلال ممارسة الجنس الدال على الوصول الى مرحلة الرجولة ، والذي يدل او يرمز الى قتل الام المعنوي ، الرامز الى الخروج من هيمنتها وسيطرتها ، أي الاستقلالية.

ان التماهي الذي تنشئه –  لا اراديا في غالب الاحيان – الام بين زوجها وبين ابنها – مع فارق العمر – هو الاساس  الذي تنبني عليه العلاقة الجنسية بينهما ، خاصة عندما يكون الزوج غائبا ، لسبب ما .

***

ان دراسات علم النفس الفرويدية ، خاصة ، تؤكد على وجود علاقة لا شعورية بين الابن والام ، كما بين البنت وابيها ، وهذه العلاقة التي تنمو في اللاشعور – في العقل الباطني – تطفوا – بعض الاحيان- على سطح  هذا العقل ، فتاخذ لها صورا عدة ، ومن هذه الصور ،الممارسات الجنسية التي اصبحت واحدة مما دعي بجنس المحارم، ابتداء من الممارسة في الحلم وانتهاء بالممارسة الحقيقية، مرورا بالتخيلات والتصورات عند بعض الشباب الذين يمارسون العادة السرية، و الشباب الذين يمارسون الجنس اللا مشروع (11) (مع الصديقة او المومس)، كما حدث لكامل رؤبة لاظ مع عنايات، اذ لم) تكن عنايات سوى الصورة الثانية للخادمة الدميمة، والصورة المعكوسة للأم.. على الرغم من أنها مطابقة لها من ناحية السن إلى حد ما، حيث كانت تداعبه قائلة: -“يا كتكوتي” ص312 كما تداعب الأم طفلها).(12)

واذا كان الكاتب نجيب محفوظ قد ابعد بطله من الممارسة الحقيقية مع الام،مع العلم ان الاجواء العامة كانت مهيئة لذلك ، وكذلك من ان يصرح بالتصورات والتخيلات المخبوءة في لا شعور كامل عن الممارسة الحقيقية تلك عند ممارسة الجنس مع عنايات، فانه – الكاتب – كان امينا للرقابة المجتمعية في عدم طرح مثل تلك الموضوعات ، الا انه قد المح الى ذلك من خلال ما كانت تمثله عنايات من صورة التطابق للأم في السن خاصة ، وكذلك فشل الممارسة الجنسية مع الزوجة لما كانت تمثله له من تطابق في الجمال الظاهري لجمال الام ،فقد جاء اختياره لرباب لتكون زوجة له  بدافع لا شعوري ، كونها تشبه أمه مع بعض الاختلافات الطفيفة.‏ (فوالدته كما بدت له، في الصورة القديمة “بقامة طويلة وجسم نحيل ووجه مستطيل وعينين واسعتين خضراوين وأنف دقيق مستقيم” ص8 فيما كانت رباب تتصف بـ “قامة طويلة وقد نحيف رشيق وبشرة قمحية(……) ووجها مستديراً (……) وأنفاً صغيراً دقيقاً” ص85 أي إن رباب هي الصورة المطابقة لأمه من ناحية الجمال الجسدي بالنسبة له، مع فارق قليل سنتعرف عليه في وجه “عنايات”. فالقامة طويلة، والجسد”القد” نحيل “نحيف”، والأنف دقيق مستقيم “صغير دقيق”.. أي أن كاملا قد اتجه ” لا شعورياً” إلى هذه الفتاة عند محاولته التحرر من سيطرة الأم، فعاد إليها مرة أخرى.‏( .(13)

اذن، نحن ليس امام تجربتين في الممارسة الجنسية ، بل امام تجربة واحدة ذات وجهين ، احدهما فاشل ، والاخر ناجح .

نجحت تجربة ممارسة الجنس مع عنايات بسبب قبح ودمامة عنايات ، وهذا القبح يقف بالضد من جمال الام ، اذن فهو قد مارس الجنس مع الصورة القبيحة للام ، لما تشكله هذه الممارسة (جنس المحارم) من علاقة لا مشروعة ، وفشلت في الان نفسه تجربة ممارسة الجنس مع الزوجة ، أي فشلت مع الصورة الجميلة للام ، أي فشل العلاقات المشروعة.

واذا كان نجيب محفوظ قد وقع تحت سلطة الرقيب الجمعي الاجتماعي– على اقل تقدير – الذاتي والموضوعي ، في  ان يلمح ولا يصرح ، فان الف ليلة وليلة ، وما تمثله من ادب مكشوف – عند البعض –  الى حد ما ، قد صرحت بالفعل المتماهي مع فعل الجنس مع الام ، وهو فعل قتل شبح الام العاري ، دون ان ننسى ان ذلك قد حدث بفعل سحر التاجر المغربي ، أي كان ايهاما ليبعد عنه تهمة الزنا بالمحارم.(14).

فيما كان النصان القصصيان قد كتبا تحت الحاح ذائقة جنسية مكشوفة ، لهذا جاءتا مصرحة لا ملمحة لفعل الجنس .

***

ان القتل الذي حدث للام من قبل ابنها – قتل شبحها العاري في الليالي ، وقتلها بصورة غير مباشرة في السراب – كان صورة اخرى لممارسة جنس المحارم  ، فعندما تمارس الجنس مع الام تحولها من ام الى زوجة ، أي تلغي عنها صفة ودور الام لتبقى الزوجة ، أي تقتل الام.

وكذلك في النصين القصصيين ، فقد تحولت الام الى زوجة ، ان كان ذلك تلميحا او تصريحا .

فاذا كانت الام في قصة (لؤي حبيبي) قد احست بانتصاب العضو الذكري(15) لابنها الصبي، وهو يتحرك قرب عجيزتها اثناء نومه ، فان الام في (ماما مارلين مونرو) قد طلبت هي بنفسها ان يمارس معها ابنها الجنس على الرغم من ان السبب كان مقبولا عندها الى حد ما في انها تريد منه ان يحافظ على سائله المنوي ، فضلا عن انها لا تريده ان يمارس الجنس مع أي فتاة اخرى سواها خوفا عليه من الحسد،و (وما يحاولوش يؤذوك بالسحر والحاجات الوحشة) ،  وهذا يذكرنا برواية السراب وخوف الام على ابنها من الزواج،الا ان القصة المحت الى ان الام كانت متلهفة لتلك العلاقة عندما سألت ابنها عن حلمه : ( فسألت الأم الصبى بصراحتها التى عودته عليها ، هل كنت تحلم بمارلين مونرو؟ أم كنت بتحلم بى أنا ؟؟)، ثم من خلال تبادل القبل المثيرة جنسيا .

اما قصة (لؤي حبيبي) فكان الاثنان – الام وابنها – ينامان في سرير واحد ، ويستحمان في حمام واحد في الوقت نفسه ، والام تخاف عليه لانها فقدت الزوج ، -وكل هذا يذكرنا برواية السراب والقصة الثانية واسطورة جودر الى حد ما- .

وفي ليلة ما ، تشعر الام بالعضو الذكري لابنها ينتصب محتكا بعجيزتها وهو يغط في نوم عميق ،فتعلل ذلك  بسبب حرارة الغطاء:( قلت ربما هي حرارة اللحاف قد جعلته ينتصب)،الا انها تندهش لحجمه غير العادي بالنسبة لعمره ، وهذا بداية التفكير به بجدية ، ثم انها تتركه في مكانه لانها كما تقول: ( لا لاحساسي بنشوة ما ولكن ليبقى دافئا.)، او قولها عندما وجدت عضوه في ليلة اخرى بين فخذيها فتفكر بعزل فراشة الا انها ترفض الفكرة: (اذ لا استطيع ان افكر للحظة واحدة ان ابني سيبتعد عني ، فابعدت الفكرة على تفكيري) وهي اعذار غير مقبولة اجتماعيا على اقل تقدير ، وفي ذلك – كما ترى الدراسة – سبب اخر للتفكير به، أي لقبول الممارسة الجنسية معه ،خاصة بعد ان وجدت عضوه يذكرها بعضو زوجها من حيث الحجم والطول.

اذن ، كانت الام في النصوص المدروسة مهيأة لممارسة الجنس(16) مع ابنها للاسباب الاتية:

1- فقدان الزوج، وما يشكله الابن من ضمانة اكيدة في حمايتها من مصاعب ومتاعب الحياة كبديل عنه ، أي ياخذ دور الاب في الحياة.

2- التماهي بين الزوج –الاب وبين الابن في نظر الام.

3- العيش في مكان واحد معا لمفردهما.

4- الحب الزائد والمفرط للابن.

5- احتياجها للجنس، وخوفها من اقامة العلاقات خارج بيتها.

***

ومن المفيد ان نذكر ، ان الصبيين في القصتين ، كانا اكثر حياء من امهما ، اذ عندما بستيقظ لؤي من منامه ويرى عضوه بين فخذي امه، يصرخ خائفا باكيا: ( امي والله لم اكن اشعر بشيء … كنت نائما … لا اعرف ماذا حدث؟)،لهذا تقول له : ( ليس لك ذنب في ذلك … انه النضوج يا ابني … لقد نضجت واصبحت رجل كامل الرجولة وعليك ان تفرح).

اما في قصة ماما مارلين، فقد: (نظر الصبى لأمه يتوسل الى قلبها الحنون ألا تغضب ، وهمس ، راح أقول لك بس ماتزعليش وأنا راح أغسل كل حاجة…الخ). فترد عليه باسمة 😦  وضمت صغيرها العارى المبلول فى جسدها بقوة ، وهمست له همسة العاشقة ، مااتخافشى من ده خالص ياحبيب قلب أمك ، ده اسمه اللبن ، أو السائل المنوى اللى بيبقى مليان الحيوانات المنوية ، علامة على أنك كبرت ومابقيتش عيل خلاص ـ انت كدهه بقيت راجل خلاص).

اما في الاسطورة ، فيفشل جودر اول مرة في قتل الام العارية ، الا انه ينجح في المرة الثانية .( وعندما تتوسل إليه في أن يتركها بعد أن لم يبق على جسدها سوى ما يستر عورتها أمامه، يذعن لتوسلاتها ناسياً نصيحة المغربي، عندها تصيح قائلة: (قد غلط) وتطلب من الآخرين ضربه وطرده خارج الأبواب(…) ومن ثم إعادة المحاولة مرة ثانية في العام القادم(…) إن وصول (جودر) إلى الكنز ومن ثم إخراجه لـه دلالاته النفسية// الاجتماعية. لما فيه من دلالة رامزة إلى الرجولة) (17).

وبعد ان يقتلها ويخرج الكنز وياخذ حصته منه ،يتزوج ، وهذا معناه الاستقلال عن الام ، أي الوصول الى مرحلة الرجولة.

وفي رواية السراب ، نرى الام قد تنبهت بعد 25 عاما من عمر ابنها الى انه قد اصبح رجلا ،فتتوجس خيفة من ذلك : (بعد أن توظف أخبر أمه عن عزمه في الزواج فانتبهت الأم لما حصل له من تغير وخوفاً منها من انفصاله عنها بالزواج راحت تذكره بزواجها الفاشل). (ص 112- الرواية) هذا هو سبب الخوف الذي انتاب الام ، وهو الخوف نفسه الذي شعرت به امهات الاخرين في النصوص المدروسة .

ان ما تريد ان تصل اليه هذه الدراسة هو : ان النصوص الابداعية الجديدة – مع اختلاف الدرجة والنوع –  والتي كتبت تحت ما يسمى بالادب المكشوف قد ازيل عنها حاجر الرقيب في تفكير الانسان فسمى الاشياء باسمائها دون التلميح عنها ، وهذا ما اعادنا – كعرب في بيئة مسلمة – الى ما تناوله وناقشه اجدادنا من موضوعات شبيهة قبل مئات السنين، وكانوا اكثر جرأة منا في الطرح نحن ابناء القرن الواحد والعشرين .

فلو عدنا الى المكتبة العربية – والاسلامية خاصة– وما فيها من كتب – نثرية او شعرية – كتبت قبل مئات السنين، لوجدنا الكثير الذي ناقش بصراحة وجدية هذا الموضوع الذي اصبح اليوم ضمن التابوات الكثيرة للمجتمع تحت لافتات شتى .

ان كتب مثل : (عودة الشيخ الى صباه) و (نواضر الايك في معرفة النيك ) ، وبعض كتب الجاحظ والانطاكي والتنوخي وابن الجوزي وابن حزم  وابن داود والسراج وابن قيم الجوزية ، وتطول القائمة ، فضلا عما وصلنا من حكايات تسمى بحكايات العامة الا انها كانت منتشرة حتى في مجالس الخاصة واهمها كتاب (الف ليلة وليلة) ، وكذلك ما ذكرته اغلب قصائد فحول الشعراء خير مثال على ذلك.

ان ما ينشر هذا اليوم على مواقع النت من ادب مكشوف يهتم اساسا بأليات العملية الجنسية – وعلى الرغم من اننا لا يمكن ان نسمي اغلبه ادبا بالمعنى الفني – يؤشر الى جملة امور:

– ان الرقابة – الرسمية وغير الرسمية – قد تهاوت امام اصرار الشباب عن التعبير عن مشاعرهم واحاسيسهم .

– ان الكبت الذي (18) كان يكبل الشباب والشيوخ الذين كانوا شبابا قد رفع القيد عنه.

– العودة الى تسمية الاشياء باسمائها دون الخشية مما يسمى بقيم العيب المتعارف عليها بدون وجه حق .

– ان طرح موضوعة (جنس المحارم) (19) من خلال تلك النماذج القصصية يؤشر الى امر هام وخطير في ان واحد، هو ان من راح يكتب مثل هذه النصوص قد بدأ بالتحرر من  الكبت الجنسي عنده من خلال الكتابة، لما فيها من حرية تمنحها للخيال الخصب عندهم .

***

الهوامش:

(1) انظر الشـــعر العــــذري – فــي ضــــوء النقـــد العربي الحـــديث (دراســـة فـي نقـــد النقــــــد)- محمد بلوحي – منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 2000.

(2) المصدر السابق.

(3) انظر :الحيوان 3 ص167.

يقول كاتب معاصر عن عصرنا وربما قوله ينطبق على العصور التي خلت منذ خلق ادم : (في سن الشباب في عصرٍ ليس من السهل الصمود فيه امام تحريك الاحاسيس وحاجة الانسان لاشباع هذه الغريزة ) – انظر مقدمة صفاء الدين الصافي لكتاب (المتعة) لمؤلفة الدكتور السيد علاء الدين المنشورعلى النت.

(4) اقرا على سبيل المثال القصص القصيرة للقاص العراقي فؤاد التكرلي التي طرح فيها موضوعة جنس المحارم ، وقد استقى الكاتب اغلب هذه الموضوعات من قضايا المحاكم التي كان يشغل فيها حاكما.

(5)نشرت دون عنوان ،وسأطلق عليها عنوان:ماما مارلين مونرو.

(6) الف ليلة وليلة وسحر السردية العربية– داود سلمان الشويلي – اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 2000.

(7) المصدر السابق.

(8) المصدر السابق.

(9) في موضوعة فض غشاء البكارة ،ومن خلال قراءة معمقة للرواية نفهم ان  هذا الموضوع يشكل قضية كبيرة في الثقافة العربية لانه الفيصل لمقياس الشرف والعفة عند الفتاة ، اذ جعله الكاتب اكبر مانع امام كامل – وامام بعض الرجال في الواقع – في ممارسة الحياة الزوجية السوية ، وكأن الكاتب يقول: لولا هذا الغشاء لعاش كامل حياة زوجية سوية .

(10)المصدر السابق.

(11) لا اقول الشرعية لاني لا اتحدث هنا عما هو شرعي او غير شرعي ، اذ يرى الكاتب ان هناك فرقا كبيرا بين المصطلحين ، فاذا كان احدهما ينطلق من حاضنة دينية فالثاني ينطلق من حاضنة اجتماعية عرفية ، وايضا فالكاتب يعي جيدا ان الاعراف والقيم في المجتمع العربي المسلم ليست كلها تنطلق من الحاضنة الاسلامية.

(12) الف ليلة وليلة وسحر السردية العربية – مصدر سابق .

(13) المصدر السابق.

(14) اعتمادا على الفهم الاسلامي للزنا ، فان النظر بالعين يعد زنا ايضا ، ولما كان جودر راى امه عاريا فهذا يعتبر زنا عين بالمصطلح الشرعي.

(15) تعددت الاسماء التي يطلقها العرب على الاعضاء التناسلية للذكر او الانثى ، ان كان ذلك اعتمادا على العمر، او اعتمادا على اللهجات المحلية للاقطار العربية ،او استخداما للفظ الفصيح ، وكان احد اسباب تعدد الاسماء هو الحياء الديني او الاجتماعي او اختلاف اللهجة المحكية ، وفي القصتين لم يلتفت كاتبيهما لمسألة الحياء العرفي او ارجتماعي او الاخلاقي وحتى الديني ،فاسموا العضو الذكري بـ ( العير ) والعضو الانثوي بـ (الكس ) ،وهي اسماء مشهورة لهما في المنطقة العربية لكنهما غير مستخدمان في اللغة او الكلام.

– وعن هذا الموضوع فقد تحدث ابن قتيبة في مقدمة كتابه “عيون الأخبار”:

(وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تُصعّر خدك وتعرض بوجهك فإن أسماء الأعضاء لا تُؤْثِم، وإنما المأثم في شتم الأعراض، وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب). (“عيون الأخبار” لابن قتيبة. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر. القاهرة  1963) .

(16) لا ننسى ان اسطورة جودر لا تقدم ممارسة جنسية بين الام وابنها ، وانما الاحداث تدل دلالة كافية على ذلك ،ويمكن ان نستنتج منها ان قتل الام العارية هو ممارسة جنسية بمعنى اخركما المحنا الى ذلك في متن الدراسة ، وكذلك ، فأن موت الام في السراب كان رد فعل لزواج الابن وما يشكله هذا الزواج من ابتعاده عنها ، فضلا عن حدوث الممارسة الجنسية الناجحة للبديل القبيح للام وفشلها مع البديل المطابق لجمال الام. كما ان ممارسة الجنس بينهما في القصتين هو قتل للام عند حدوث الممارسة.

(17) الف ليلة وليلة وسحر السردية العربية – مصدر سابق.

(18) يعرف الكبت :بـانه ( “الشحنة الانفعالية” “للهو” أو “الأنا” أو “الأنا الأعلى” التي تولد القلق، وقد تمنع من الانطلاق إلى سطح الشعور، أو قد تتصدى لها شحنات انفعالية مضادة، أو القضاء على شحنة انفعالية أو وقفها بواسطة شحنة انفعالية مضادة يسمى كبتا”(انظر : الشـــعر العــــذري – مصدر سابق).

(19) الكاتب هنا لا يتفق مع ما طرح من قصص – مهما كانت فنيتها- في هذا الجانب، وانما هو يدق ناقوس الخطر قرب اذان المختصين – علماء اجتماع وعلماء نفس ورجال دين متفتحين وعلماء تربية– لدراسة هذه الظاهرة علميا ووضع الحلول لها ، وكذلك الظواهر الاخرى ، مثلي العلاقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرواية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السعادة في الرواية العراقية …

وقتية وقصيرة

 

(لولا التفكه لكانت رواياتي لاتطاق) – خوليو كوتاسار –

قدمت وناقشت الرواية العراقية منذ التأسيس ، حالها حال الرواية العالمية والعربية ، موضوعات عديدة ومختلفة ، وكان من اهم هذه الموضوعات هي السعادة التي تشعر بها أي شخصية من شخصيات الرواية ، وقد ناقشتها بانتباه منها ، او عدم انتباه ، الرواية العراقية ، هذه السعادة التي تأتي من حصول الفرح ، اوالسرور ، اوالابتهاج الا انها ظلت سعادة وقتية ، قصيرة ،  غير دائمة ، وفي كثير من الاحيان تأتي مغطاة بأغطية مختلفة عما تقدمه هذه الموضوعة.

والنجاح في أي شيء يجلب السعادة في الحياة ، لانه يجلب السرور الى النفس ، ان كانت هذه النفس فردية او جماعية ،ومن مفهوم السرور ، والفرح ، والابتهاج ، يمكن ان نوجه اهتمامنا بالسعادة التي تدرس ضمن مفهوم القيم النبيلة التي تصل حد المثالية ، وبالمقابل ان عدم السعادة معناه عدم الرضى ، وعدم الرضى يأتي بفقدان السرور ، والفرح ، والابتهاج .

ان مفهوم السعادة التي يجلبها السرور ، والفرح ، والابتهاج ، تتأثر بما يطرح من موضوعات ، ان كان هذا الطرح مشافهة او مكتوبا ، والمكتوب يصنف تحت لافتات كثيرة منها لافتة الرواية.

ومعنى السعادة لغويا :

سعِدَ يَسعَد ، سَعادةً ، فهو سَعيدٌ والجمع : سُعَدَاءُ ، سَعِدَ الوَلَدُ : سَعَدَ ، فَرِحَ ، و سَعَادَة : فرَحٍ ، ابْتِهَاجٍ ، أيْ كُلُّ مَا يُدْخِلُ البَهْجَةَ وَالفَرَحَ عَلَى النَّفْسِ ، وهي حال تنشأ عن إشباع الرغبات الإنسانيّة كمًّا وكيفًا .

ان اطمئنان القلب ، وانشراح الصّدر ، وراحة البال ، هذه الاقانيم الثلاثة – اذا صحت التسمية – تدفع بالنفس الانسانية الى ان تكون سعيدة .

فالسعادة التي نبحث عنها تكون اما سعادة دائمية ، او سعادة قصيرة و وقتية ، ولما كانت السعادة الدائمية هي ضرب من المستحيل ، ان كان ذلك في الحياة او في الادب ،و الرواية خاصة ، فان السعادة الوقتية هي السعادة التي نبحث عنها في دراستنا هذه داخل الرواية ، والرواية العراقية خاصة .

***

اذا تجاوزنا ” مقامات ابي الثناء الالوسي ” و ” الرواية الايقاظية ” لسليمان فيضي ، وبدأنا من محمود احمد السيد و رواياته التي تمتلك بعض اشتراطات الفن الروائي الناضج خاصة في رواية ” جلال خالد ” كرواية مؤسسة للرواية العراقية الناضجة التي تمتلك بعض اشتراطات فن الرواية ، فاننا نلتقي بموضوعة السعادة ، والسعادة الوقتية التي لا تدوم طويلا بسبب المنغصات التي يفرزها الواقع كما قدمته الرواية العراقية .

ولكي نكون قريبين من موضوعنا سنقدم صور للسعادة التي نبحث اوجهها في بعض الاعمال الروائية العراقية كمثال على ما نتحدث عنه .

في رواية “النخلة والجيران” لـلروائي العراقي “غائب طعمة فرمان” التي تحدثت عن آثار الحرب العالمية الثانية في المجتمع العراقي وخاصة الطبقات المنسحقة منه ، ظهرت شخوصها منزوعة الإرادة، وغير فاعلة ايجابيا ، فاكتنفها الياس والاحباط ، فكان ان قدم الكاتب صورا لهذا الياس ، وذاك الاحباك ، من خلال صورة النخلة الوحيدة في الدار التي ذوت ويبست ، وكذلك تهدم الاسطبل ، وبيع الدار ، و في هذا الجو نجد ان هناك بعض الاشخاص الذين يبحثون عن سعادة تنسيهم الهموم التي يرزحون تحتها في ممارسات حياتية متنوعة ، او فعل يجلب لهم السعادة ، فتجدها نساء الرواية اللاتي يعشن في قاع  المجتمع ، في اقامة حفلة بائسة لهن بمناسبة الزواج الثاني لـ ” سليمة الخبازة ”  من مصطفى ( ص 146 ) ، فتسقيهن شربت ” شربت انكليز = الويسكي ” الذي خبأه مصطفى  الدلال في بيتها ، فيمر بنساء الرواية وقت يشعرن بالسعادة لبعض الوقت ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء ،حيث يدور بين الجالسات حوار جميل عن شربت الانكليز هذا (ص147 وما بعدها) ، ثم يعدن الى مأساتهن اليومية والدائمة .

وكذلك ما يجده ” حسين ” و “تماضر ” من سعادة بالالتقاء وممارسة الجنس في بيت الخالة  ” نشمية ” ، او الفرحة التي ملأت روحه وروح “تماضر” عندما اخبرها بما سيرثه (ص144) ، وغير ذلك من السعادات القصيرة والوقتية التي تنتاب بعض شخوص الرواية ، فتجعلهم فرحين مسرورين لوقت قصير .

هذه السعادات تمر عليهم مرور الكرام كما يقال ، انها قصيرة ، وقتية ، حيث يأتي بعدها الهم والنكد ، وتخلف الحزن .

***

يضع الروائي فؤاد التكرلي في نهاية روايته “المسرات والأوجاع” مجموعة من الاقوال والاشعار سنأخذ واحدا منها لمعرفة الفكرة التي يريد ان يوصلها الروائي لنا للروائي.

يذكر قول ” فيل ” وهو : ( من الظروري القول بان هدف الاخلاق هو السعادة ولكنها السعادة التي تقدمها الاخلاق ، أي سعادة العقل في كائن فان . لذا لم تكن السعادة اشباعا للرغبات ،  فالسعادة الفلسفية الحقة ليست هي اشباع حاجات حيوانية فينا ، بل هي العيش وفقا للعقل ) . (ص 465)

وبطل الرواية ” توفيق لام ” يبحث عن السعادة من خلال الجنس ، ولعب القمار ، والاغتصاب ،وخيانة الاصدقاء ، لاشباع رغباته الحسية، لذا نجد سعادته تلك لم تدم طويلا .

يقول بطل الرواية ” توفيق لام ”  في نهاية الرواية : (وجدت مسطبة تشرف على النهر فجلست عليها . أنستني حركة الأضواء المتصاعدة من الشرق تعبي . كانت الألوان تتغير بسرعة وتتألق وتندمج فيما بينها فينبعث منها مزيج براق مختلف ، يمسح برقة قطيفة السماء الناعمة ويسحب ذراع الصباح إليه . كنت مذهولاً ، مغتبطاً . نسيت تقلبات نفسي وأفكاري واستسلمن لهذا الجمال الذي تصنعه لي الطبيعة مجاناً . كأني بهذه اللوحة الفجرية ، دعوة رائعة للتمتع ببهجة الحياة.

بهجة الحياة .. مباهج الحياة ! يا للكلمات الموحية بالسعادة !). (  المسرات والأوجاع / ص 461 )

من هذا الوصف نعرف مدى السعادة التي يعيشها ” توفيق لام ” وهو ينظر الى هذا المنظر المتجسد امامه ، الا انها سعادة لم تدم طويلا .(ص 462 ) .

وعلى الرغم من ان بطل الرواية ” توفيق لام ” كان مقامرا ، ويخون احد اصدقائه مع زوجته ، وكذلك كثرة الممارسات الجنسية التي يقوم بها ،وإغتصابه  لـ ” فتحية ” ، حيث ان كل هذه الممارسات تمنح الشخص القائم بها مسرات وسعادة ، الا انها تبقى مسارات قصيرة ، وسعادة وقتية ، إذ فقدها نهائيا .

***

من اول سطر في رواية ” الوشم ” تطالعنا السعادة الوقتية التي تمتليء بها روح بطلها كريم الناصري كالشحنة ، تأتي وتذهب دون ان تبقي خلفها شيئا .

الحرية في هذه الرواية هي مصدر للسعادة ، وذلك لان بطلها الناصرية خرج من السجن من اول سطر في الرواية : ( تنفس كريم الناصري هواء الشارع بعد اختناق عريض ، سبعة شهور جائرة طوقته بدقائقها و وعيها ، وهرست منه الدم والعظم والاعصاب .

خرج كريم الناصري سالما ، طويلا ومبتسما ، يتفقد الاصدقاء ويرد التحية على الاخرين ويستقبل تهنئتهم بمناسبة اطلاق السراح . ولكن في داخله كان هناك شيء قد نسف .) . ( الوشم / ص 31 )

لم تدم طويلا سعادة الناصري بإسترداد حريته بعد ان كان في السجن ، حيث اخذته الحياة بدروبها وطرقها المتقاطعة والمتعددة .

افاق على حقيقة كبيرة ، إذ انه قد شعر ان في داخله قد نسف شيئا ما ، لا يعرف ما هو ، الا انه متيقن انه قد نسف .

والسعادة التي وافته عند خروجه من السجن ، واسترداد حريته ، قد تعددت وتنوعت الا انها لم تدم طويلا ، فها هو يقول ( ولكن الفرج جاءني متباطئا كمواكب الملائكة فقد عينت في قسم الاعلام باحدى الشركات الاهلية ) . (ص32 ) لانه تعرف على ” مريم عبد الله ” المرأة المتزوجة من رجل يكبرها بالسن من خلال صفقة تجارية عقدها والدها مع الرجل .

و تقول ” مريم ” : ( وجدت سعادتي مع وصال وهند ) . ( ص 34 ) ، وهذه السعادة التي تشعر بها هي سعادة وقتية اذ انها تنتهي عند خروجها من بيتها والابتعاد من ابنتيها ، حيث تجد نفسها في احضان رجل اخر ” قحطان ” فاصبحت ” قحبة ” كما قال لها ” قحطان” .

وكذلك فانها تجد لذة في اذلال الرجال انتقاما من مأساتها ، وهذه اللذة التي تأتي من الالم ( الاذلال ) هي لذة ( سعادة ) وقتية وقصيرة ، إذ تعود الى حياتها اليومية مع زوج اكبر منها بالسجن.

في الرواية سعادات قصيرة ووقتية ، مثل :

– يشعر كريم الناصري بالامان عندما يكون مع مجيد عمران .

نتساءل وماذا تشعرعندما لا يكون معه مجيد عمران ؟ ان السعادة التي يشعر بها بسبب الامان هي سعادة وقتية 😦 لعل في وجود مجيد عمران بجانبي بعض الامان لي ).( ص 34 ).

و تبقى لفظة ( بعض ) مرفوعة عاليا كاللافتة كي نفهم الامان / السعادة الوقتية التي يعيشها الناصري .

تزداد سعادات الناصري في الرواية كثيرا الا انها سعادات محكوم عليها بالاجهاض السريع ، لانها اتت في الزمن الذي شعر فيه ان شيئا ما قد نسف.

***

يقول عبد الخالق الركابي في مدخل روايته ” سفر السرمدية ” : ( اعلينا ان نتألم اكثر لكي نحب الحياة اكثر؟ ) .

اذن ، الالم مولد للذة في هذه الرواية ، واللذة هي مولدة للسعادة ، اذن السعادة تأتي من الالم، وهذا ما تريد ان تصل اليه رواية ” سفر السرمدية “.

ومن عبارة ” شيللي” التي افتتح بها الركابي روايته ( ان الفن ، بالنسبة الى الفنان ، ضرب من اللعب ، ولكنه لعب اليم ) ، نفهم ان الفن هو ضرب من اللعب، واللعب هذا يؤدي الى الالم ، اذأً ، واحد من طرق الحصول على السعادة هو الفن الذي هو ضرب من الالم ، حيث من الالم تتولد اللذة.

ولكن اللعب هذا غير معروف المصدر ، هل ان مصدره القدر ، ام الصدفة ؟

يقول الركابي مخاطبا احدى الشخوص ( وحيد ) : ( انها للعبة ” قدرية ” قد تتخذ لنفسها مسارا معينا بفعل مصادفة عمياء لم تخطر على البال ، فلولا اهمالي تلك الليلة اليلاء والامتناع عن التدخل في الوقت المناسب لوضع حد لعبث ثابت ضاري ، الم يكن من المحتمل ان تأخذ اللعبة مسارا اخر؟ ) . (ص10)

وهو لا يعرف ان كان اللعب هذا هو قدر منزل عليه يجب وقوعه ، ام انه صدفة عمياء جائت لتكسر جريان ذلك القدر الاعمى ؟.

وفرق كبير بين ان يكون قدرا لا محيص عنه ، وبين ان يكون مصادفة تحدث من بين الاف وملايين المرات.

وقد امتلات الرواية بسعادات اخرى يجدها شخوص الرواية ، منها :

– ( كنت الجأ احيانا الى خداع نفسي ، فاستقل حافلة لا علم لي بوجهتها ، داسا انفي على امتداد الطريق ، بين دفتي كتاب ، تاركا الحافلة تدور بي وقتا طويلا على هواها قبل ان اغادرها في وضع ما على امل ان افاجأ بجديد ) . ( ص18)

– ( من المؤكد ان حصولي على تلك الشهادة العلمية المرموقة سيشبع لدي ذلك النزوع الابدي في اضفاء شيء من الوجاهة على نفسي في مجتمع يؤخذ عادة بمثل هذه الامور ). (ص16)

– ( اما ثابت ضاري فقد كان على النقيض منه ، لذته الوحيدة تتلخص بالالتفاف على تلك المواثيق وخيانتنا ، لا لشيء سوى اثبات انه كان ” اشطر ” منا نحن الاثنين).

– فيما يرى ثابت بعض السعادة في ( الجنس ) : ( بعينين واسعتين شديدتي السواد ، وفم مكتنز ، وكان هذا الجانب الحسي ( الجنسي ) هو اكثر ما اثار ثابت ، ” ترفع وجهها بغتة رامقة بنظرة سريعة ثابت الذي كان يترصدها بعينين متعطشتين ، متصيدا لمحات من صدرها حين تمعن في الانحناء  على منضدة العمل ، من دون ان يفوت تملّي عجيزتها وهي مدبرة  – تلك العجيزة التي كان يقول عنها متحسرا انها لضخامتها لا يكاد الحجر يسعها – ). (ص118)

وغير ذلك من المسرات الصغيرة التي تؤدي الى السعادة القصيرة و الوقتية في هذه الرواية .

***

فيما كان بطل رواية سنان انطون ( وحدها شجرة الرمان ) منشغلا بلذائذ الحياة ( لم اكن اصلي او اصوم ، بل كنت اشرب وكنت منشغلا بلذائذ الحياة الدنيا ) ص163 وينتهي كل هذا بسبب الحرب الايرانية العراقية ، والعدوان الامريكي ، وهذه اللذائد تجلب السعادة ، الا انها سعادة وقتية ولم تكن دائمية ، فالحرب هي بالضد من السعادة.

وقد كان متفائلا بالعلمانية ، والتفاؤل صورة من صور السعادة الا انها سعادة وقتية ( وبمرور الزمن تخلف الحزب الشيوعي وصار حضوره ضئيلا وبائسا في الانتخابات لان علمانيته كانت تعني ان حصانه سيكون دائما الاخير في سباق الخيول الطائفي ). ص133

ويقول بطل الرواية 😦 كنت اشعر بالفخر والاعجاب حين اجد ان بعض زملائي من الذين هاجروا منذ سنين قد نجحوا وصار لديهم مواقع خاصة يعرضون فيها اعمالهم الفنية . لكنني لا انكر انني كنت اشعر بالغبن والمرارة والغيرة حين ارى ان البعض ممن لا يمتلكون ربع موهبتي قد نجحوا ايضا ) . ص 139

وهكذا يكون الفخر والاعجاب جالبا للسعادة ، الا انها سعادة قصيرة و وقتية ، ذلك لان الفخر والاعجاب بنجاح الاخرين ، والشعور بالغبن والاحباط والياس من عدم النجاح ، كل ذلك يدعو الى ان تكون السعادة وقتية وقصيرة بنجاح الاخرين وفشلك انت .

***

من خلال قراءتنا لهذه النصوص الروائية منذ نشأت الرواية العراقية الى الان ، كأمثلة لما تحدثنا عنه ، وجدنا السعادة التي تضفيها بعض الممارسات والسلوكيات من مسرات وافراح قصيرة ووقتية ، ولا تدوم طويلا ، وذلك لاسباب منها :

* ان كتاب الرواية العراقيون لم يكن همهم كتابة رواية  مطلوب منها ان تجلب السعادة لشخوصها ، او للمتلقي غير السعادة التي يشعر بها من خلال متعة القراءة.

* ان الرواية العراقية هي وليدة الواقع المرير للمجتمع العراقي منذ التأسيس الى اخر رواية عراقية كتبت ونشرت ، هذا الواقع الذي يمتليء بكل ما فيه من مرارة والم  وخيبة ويأس وحزن ، بعيدا عن ان يكون الادب بصورة عامة انعكاسا للواقع او غير ذلك .

* ان الموضوعات التي ناقشتها الرواية لم تكن مواضيع غايتها سعادة شخوصها ، وانما كان هدفها المخفي وغايتها النهائية هو طرح الايديولوجي منذ رواية ” الرواية الايقاضية ” الى اخر رواية عراقية منشورة في زمننا الحالي .

* تقدم النصوص الروائية سعادة شخوصها التي تنضح افراحا ومسرات ابتداء من الحصول على الحرية الى الخلوة التي يسرقها الحبيبين  من الزمن ومن الناس في جو غير صحي وغير مهيأ لبقاء هذه السعادة طويلا .

***

اخيرا نتساءل : هل علينا مطالبة الروائي ان يكتب رواية تتميز بالسعادة لشخوصها ، وتنضح افراحا ومسرات ، فيما الواقع يفرز علينا كل ما هو مؤلم ومحزن جراء الخيبات ، واليأس ، والمواقف غير السعيدة؟

بالتأكيد لا يمكن ذلك ، لان حرية الكاتب فيما يكتب هي المقدس الذي يجب ان نحافظ عليه ، علينا ان نتركه يقول ما يشاء ، ويقدم لنا رواية تنسجم مع اشتراطات الرواية الفنية الناضجة في أي موضوع يختاره هو طالما الواقع يقدم له مثل هذه المواضيع ويعالجها بطريقته الخاصة من خلال أي مدرسة سردية .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بنية الرواية واشكالها المتعددة

 

في مقدمة دراستي (الاشتغال الفضائي في المجموعة الشعرية  ” خطأ في راسي ” للشاعر زين العزيز – المنشورة في جريدة الحقيقة يوم 11 / 5) قلت ( حطمت قصيدة النثر ، كما حطمت قصيدة التفعيلة ، بنية البيت الشعري في القصيدة العمودية ، ويأتي هذا التحطيم في ان قصيدة النثر ترفض اي نظام هندسي ينتظمها ، ودائما هي تهرع نحو الحرية ، وهذا هو عالمها الذي تعيش فيه ، والا فهي تموت كما ماتت العشرات من قصائد النثر، ان كان ذلك اثناء كتابتها ، او كان ذلك اثناء طباعتها في وسائل الاعلام الورقية ، او الافتراضية ، اذ ان نزعتها المتجهة نحو الحرية تتطلب مثل هذا الاشتغال الفضائي الواسع والمنفلت من كل تحديد يحد بحريتها ، على الرغم من محاولات بعض الدارسين ، خاصة عند بحثهم لها لنيل شهادة الماجستير او الدكتوراه ،  لتحديدها بإشتراطات  واليات عديدة .

ان مثل هذه الحرية التي تتبعها قصيدة النثر في بناء شكلها خاصة ، اي في اشتغالها الفضائي المنفلت عن اي تحديد، سيؤثر حتما في توليد الدلالات ، والمعاني ، اي انها توظف جيدا اشتغالها الفضائي واستثماره في توليد ما ينضح منها من دلالات ومعاني ، وهذا ينتج عند القراءة الذكية لها على المنابر ، او عند مطالعتها من قبل قاريء فطن على الورق الحقيقي او الافتراضي ، اذ يعرف الاول محطات قراءة النص ،او التوقف عن القراءة لاسباب لا مجال لذكرها ، من خلال اثراء النص من قاريء متمكن ، ويعرف الثاني قراءة البياض والسواد ، او هندسة الحروف والكلمات والجمل ، او ترقيم المقاطع ، وما شاكل كل هذا ، في النص المكتوب على الورقة .)

وتاسيسا على هذا الفهم الخاص لشكل قصيدة النثر ، وهي جنس ادبي معروف ، نتساءل عن شكل جنس ادبي اخر ، اسبق منه ، وهو الرواية ، فهل كان شكل الرواية الفنية الناضجة يمتثل لاشتراطات معينة تحدده ضمن حدود لا يمكنه تجاوزها ، مع العلم ان الســـرد في روايـــات مابعـــد الحداثـــة قد تميـــز بمميزات منها كســــر التماســــك الحاصل بين الاحــــداث و تشــــتيتها وتفكيــــكها ، مثلا .

صحيح ان الرواية هي كلام واشكال تضم هذا الكلام ، الا انها  لا قواعد لها ، ولا اشتراطات تحكمها عند الكتابة ، انها لا شكل معين لها ، وان ما يحكمها هو ما ستهتدي اليه عند الكتابة ، أي ان الرواية هي التي تضع قواعد واشتراطات بنيتها ( كذلك جميع مواصفات عناصرها الاخرى )عند الكتابة ، حيث لكل رواية بنية خاصة ،وياتي التشابه بين بنى واشكال بعض الروايات من باب التناص العام ، مثل ما نجده في الروايات التي كتبت على غرار الف ليلة وليلة ، وبعض السير الشعبية ، مثلا .

فلو ان الذين نظروا لبنية الرواية من المنظرين والدارسين الاجانب ( باختين ، تودوروف ، ياكوبسن ، وبارت ،وغيرهم ) قد اكتووا بنار كتابتها ، مثلما اكتوى كاتب الرواية ، لمزقوا كل ما كتبوا من تنظيراتهم ، ذلك لان الرواية عصية على القواعد ، إذ انها حالة هلامية تتشكل لحظة كتابتها، وانجازها، وهي بالتالي التي تضع قواعدها واشتراطاتها .

وبناء الرواية منذ التأسيس قد اعتوره تغير وتبدل ، إذ تغير الشكل التقليدي لبنية الرواية الى شكل ما بعد الحداثة ، فقد تركت الرواية – مثلا – الاعتماد على قول السارد ( المؤلف ، او الراوي ) ،او قول مصطلح السرد في الليالي ( بلغني ) ، او في المقامة ( حدثني ) ، او في  السيرة الشعبية ( قال الراوي ) ، او ( زعموا ) ، او ( كان يا ما كان ) كما في اغب الحكايات القديمة ، وسواليف الجدات.

من اشكال البنى المستخدمة التي نصادفها في الرواية ( الناضجة) بعد الانجاز، هي:

* رواية يعتمد بناء شكلها على استمرارية الزمن – الرواية التقليدية:

يعتمد بناء الرواية هذه على بنية زمنية مستمرة ، انطلاقا من نقطة زمنية محددة  ومنها تنطلق الى المستقبل دون تعرجات زمنية ، او توقفات للاحالة الى الماضي ،اي ذات زمن مستمر ، كرونولوجي ، حيث يسير الزمن على خط مستقيم ، مثل رواية : ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين ، قصر الشوق ، السكرية ) ،و ” الايام ” لطه حسين ،  و روايات “عودة الروح “، و “يوميات نائب في الأرياف ” لتوفيق الحكيم ، وروايات جرجي زيدان التاريخية ، و رواية  ” الدكتور ابراهيم ” لذنون ايوب ، او في رواية ” صعود النسغ ” لهشام توفيق الركابي  مثلا،  واغلب الروايات العربية والعراقية .

* رواية تبنى على تذبذب الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل :

رواية ” كتاب التجليات ” لجمال الغيطاني مثالا على استخدام شكل البنية التي تعتمد على تذبذب الزمن بين الحاضر والماضي والمستقبل ، مع تغير في الاسبقية ، ورواية عبد الرحمن مجيد الربيعي ” خطوط الطول … خطوط العرض ” ، وبعض الروايات العراقية والعربية .

* الرواية المبنية على غرار حكايات الف ليلة وليلة :

ان استلهام التراث الحكائي العربي كان هاجس الكثير من كتاب الرواية ، ابتداءا من المويلحي ، وانتهاءا باخر روائي له منجز روائي منشور ، مرورا باسماء روائية قديرة .

فهناك روايات استلهمت الف ليلة وليلة و تشكلت من مجموعة من الحكايات المتداخلة ، حكاية وسط حكاية تضمها حكاية جامعة تسمى حكاية الاطار ، مثل رواية الف ليلة وليلة ، التي يعدها البعض من الدارسين رواية ، فيما لا يعدها البعض مثل هذا.

لقد كتب على غرار الف ليلة وليلة ، روايات كثيرة ، كرواية ” ثرثرة فوق النيل” و رواية ” ليالي ألف ليلة ” لنجيب محفوظ ، وكذلك رواية ” الزيني بركات” لجمال الغيطاني”، و رواية ” موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، و رواية “الأنهار” لعبد الرحمن مجيد الربيعي، و رواية ” عالم بلا خرائط” لجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، و ورواية ” سابع ايام الخلق ” لعبد الخالق الركابي ، و رواية ” تيمور الحزين ” و رواية ” الحلم العظيم ” لاحمد خلف ، ورواية ” ليس ثمة امل لجلجامش ” لخضير عبد الامير ، وغيرها من الروايات ، حيث بنيت على شكل حكايات الف ليلة وليلة ، او قريبا منها ، يضاف لها البعض من الروايات العراقية والعربية.

تنطلق رواية ” الانهار ” للربيعي ، كمثال على ذلك ،  من حكاية اطارية هي حكاية / اسطورة ” جلجامش ” ، و يضم كل فصل من فصول الرواية قسم منها، كما نرى ذلك في الف ليلة وليلة حيث تتولد من الرواية الاطارية ” الحكاية الاطارية ” روايات / حكايات  اخرى .

* الرواية المبنية على غرار  السيرة الشعبية :

تقاربت بعض الروايات العربية مع الشكل الفني العام للسيرة الشعبية العربية ، مثل رواية “ملحمة الحرافيش” لنجيب محفوظ ، و رواية مجيد طوبيا “تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب” ، حيث بنيت على تقنية تشبه الى حد ما السيرة الشعبية التي كتبت عبر تاريخنا الادبي العربي ، مثل ” سيرة ذات الهمة “.

وكما في سيرة ” ذات الهمة ” مثلا ، نجد ان “ملحمة الحرافيش” تحكي الصراع الأزليّ بين الخير والشر،في عشر حكايات لأجيال عائلة بالتعاقب ، سكنت حارة غير محددة الزمان ولا المكان بدقة، حيث تمثل صراع الأجيال البشرية فى كل زمان ومكان .

تمتاز السيرة الشعبية بضخامة متنها الحكائي ، حيث ينقسم إلى أجزاء معنونة تتحدث عن مرحلة من مراحل حياة البطل ، وتحوي موتيفة الرحيل عن المكان والذهاب إلى مكان اخر، والدخول مع الاعداء في صراع، ليعود في النهاية ظافراً إلى مكانه.

وتتميز السيرة كذلك بتعدد الشخوص، واتساع الزمان و المكان فيها، حيث يقتضي انتقال البطل من مكان إلى آخر، سعياً وراء إنجاز المهمة المكلف بها، اتساع رقعة الأحداث ، كما ان السيرة تقدم حياة البطل من الولادة إلى الوفاة.‏

ونجد ذلك في رواية نجيب محفوظ “ملحمة الحرافيش” ، حيث تتشابه والشكل العام للسيرة، من حيث ضخامة متنها، وتعدد وتنوع أمكنتها، وامتداد زمانها، وكثرة شخوصها،  وتقسيمها إلى عدد من اقسام معنونة، وكذلك في رواية مجيد طوبيا ” تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب” ، ولا تخلوا مثل هذه الروايات كما السير الشعبية العربية من الاشعار كذلك.

* الرواية المبنية على غرار  المقامة:

المقامة فن حكائي عربي قديم ، ومن أوضح الامثلة للتأثر بفن المقامة هو  ( رواية ) «حديث عيسي بن هشام» للمويلحي  ، وكذلك ” مجمع البحرين ” لناصيف اليازجي، ورواية «علم الدين» لعلي مبارك،إذ يتصل بطلها بشخصيات متعددة،وقد كتبت هذه الروايات متأثرة بالروايات الاجنبية  من حيث تنوع مناظرها، و تسلسل الحكاية فيها، و بعض ملامح التحليل النفسي للشخصية.

* الرواية المبنية على غرار الرحلة ( رحلة ابن بطوطه مثلا ):

فقد استلهم الروائي العربي الحديث هذه البنية ، من كتاب ” رحلة ابن بطوطة ” وكتب الى حد ما على منوالها رواية فنية ناضجة، كالروائي نجيب محفوظ في روايته ” رحلة ابن فطوطة ” مثلا.

تعتمد رواية محفوظ على الرحلة ،ويستلهم شكل كتاب ابن بطوطة الذي كتبه عن رحلته ، مبتعدة عن ان تكون رواية رحلة فقط ( اخبار عن تفاصيل رحلة)، اذ جعلها محفوظ رحلة غير تقليدية ، وقد اهتم بالحوار الذي ينشأ مع الحضارات التي يدخل في كنفها البطل ، وليس نقل ما يشاهده من امور غريبة ومدهشة ، انه مهتم بنقد الواقع الذي يعيشه .

* الرواية التي تبنى على نوع موسيقي:

تبنى بعض الروايات على قالب موسيقي معروف مثل قالب السيمفونية ، او على قالب الكونشرتو ، كرواية ” المصائر ” للروائي الفلسطيني ربعي المدهون التي فازت بالبوكر لعام 2016 ، التي بنيت على قالب الكونشرتو ، حيث تتكون من اربع حركات ، كل حركة تمثل حكاية تتضمن بطلين ، ثم يتحولان في الحركة الثانية الى شخصيتين ثانويتين ليدخلا بطلين رئيسين جديدين وهكذا .

و راجع كذلك كتاب “أسعد محمد علي” (بين الأدب والموسيقى – دار افاق عربية- للصحافة والنشر، بغداد، ١٩٨٥ ).

* الرواية المبنية اعتمادا على تعدد الاصوات :

هناك روايات تبنى على حكاية واحدة يحكيها عدة اشخاص كل من وجهة نظره ، تسمى رواية بوليفونية ، تتعدد فيها الاصوات ، وهذا يعطي المجال لاكثر من كاتب ضمني لرواية حدث ما ، ومثال على ذلك رواية ” خمسة اصوات ” لغائب طعمة فرمان ، و رواية ” ميرامار ” لنجيب محفوظ ، ورواية ” متاهةُ أخيرهم ” لمحمد الاحمد ، حيث المؤلفين عديدين يقومون بتأليف الرواية ذاتها ، إذ كل شخص يروي الحادثة من منظوره هو ، و وجهة نظره ،وكل مؤلف من هؤلاء يمكننا ان نجد فكره واعتقادة مجسدا فيما يؤلف ويكتب ، اي ايدولوجيته ماثلة وراء ما يقول ويصوغ من افكار .

ان ايديولوجية الكاتب الاصلي لهذه الرواية اوتلك تنمحي كليا عن الواجهة ، إذ هي تتوزع بين اصوات وافعال وممارسات مؤلفي الرواية ، اي شخوصها ، او اصواتهم ، وهذا الامر تشترك فيه روايات ذات صوت واحد ، الا انها تختلف من حيث انها تمتلك صوتا واحدا ، اي انها ذات ايديولوجيا واحدة ، افكارا وعقيدة ،انها افكار وعقائد المؤلف الاصلي ذاته ، على الرغم من ابتعاده عن الشخصية هذه او تلك.

ان خاصية ان تكتب الرواية من عدة شخوص ، اصوات شخوصها المتعددين ، تجعل الكاتب الاصلي ، مؤلف الرواية وكاتبها على الورق ، حذرا جدا كي لا يقع في المحذور الذي هو الاسفاف في اعتماده على صوت واحد يصبح هو الطاغي على اصوات الرواية من الاول الى الاخير ، انه الوعي التام بما يفعل الكاتب ، ووعي الشخوص بما تقدم ، اي يكون وعيا مغايرا لوعي الكاتب ، وبهذا تمحى من الذاكرة الصورة التقليدية للبطل في الرواية كما عهدناه في الرواية التقليدية ، اي الرواية غير البوليفونية ، ذات الشخصية المحورية الواحدة ، او الصوت الواحد ، مثل البطل في رواية ” اللص والكلاب ” لنجيب محفوظ ، او في رواية عبد الرحمن مجيد الربيعي  ” الوشم ” او في رواية ” صعود النسغ ” لهشام توفيق الركابي  .

في مثل هذه الروايات يستقل الصوت ، المؤلف الاخر للرواية ، من كل شيء خارج ارادته بكل ابعادها ، الفكرية ، او الاخلاقية ، او الوجودية ، او اي شيء ، من ارادة الكاتب الاصلي ، فيصبح عند ذاك ارادتين ، صوتين ، مؤلفين ، اضافة للمؤلفين الاخرين ، اي الاصوات الاخرى .

اننا نبحث عن المؤلف الاصلي في مثل هذه الروايات ونسأل انفسنا اين الكاتب ، او صوته ، او تأثيره حتى ، الا اننا لا نجده في الرواية وشخوصها الا بما له علاقة بما يجمع  تلك الاصوات فيما بينها ، وهذا غير مرئي ، وغير معروف .

* الرواية المبنية اعتمادا على الرسائل :

مثل رواية “الرسائل المنسية ” لذنون أيوب التي بنى قصة حب في الرواية على الرسائل الى حد ما .

إذ بعد ان هجر ” عارف ” اهله وبلده الى جهة مجهولة وترك لصديقه الراوي ظرفا يحوي على مجموعة من الرسائل معنون باسمه ، يقول الراوي : (هاك كل ما ترك واحمد الله على أنه لم ينجب أطفالاً، ولعلك تجد في هذه الرسائل ما يفسر سلوكه الغامض، ولست ألح في تقصي أخباره فغيابه خير من وجوده ولا أظنك تخالفني).

و كما فعل في روايته الاخرى ” الدكتور ابراهيم ” في انه بناها على مجموعة رسائل الدكتور.

* الرواية المبنية اعتمادا على البنية البوليسية :

تعتمد بنية الرواية البوليسية على المطاردة ، و التوتر ، وتقطيع الحدث الى اجزاء ، وتطويره باطراد ، و السرد المتسارع خاصة الذي ينضح منه توترا و تشويقا.

وقد بنيت الكثير من الروايات العراقية والعربية اعتمادا على هذه البنية ، او قريبا منها ، كرواية ” اللص والكلاب ” لنجيب محفوظ .

***

ان اغلب كتاب الرواية يكتبون نصوصهم دون ان يحددوا شكل البنية قبل البدء في الكتابة  ، انما هي تتحدد اثناء الكتابة ، ولا سيطرة للروائي على ذلك ، لذا نجد ان اغلب النصوص الروائية هي تجميع لاكثر من شكل للبنية ، مثلما يجمع الذئب ( او الاسد )  من هضم لحوم خراف عديدة ، كما يقول بول فاليري ، وهذه ميزة تحسب للروائي لا عليه ، اذ انه لا يتدخل فيما يطرحه النص من افكار واقوال واحداث وفي اي قالب ما تصب.( راجع كتابنا الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص الابداعي – دار الشؤون الثقافية العامة – 2001 )

وفي ختام هذه السطور علينا التأكيد على مسألة مهمة هي انه لا يمكن استعراض جميع اشكال البنى الروائية لكثرة الروايات المنشورة ، من البنية التقليدية حتى رواية ما بعد الحداثة واستعمالها لبنى متنوعة وعديدة ، الا اننا ذكرنا اهم ما استخدم من بنى الروايات التي اطلعت عليها منذ قراءتي للرواية.

و ايضا التأكيد على انه لا توجد بنية واحدة و صافية لشكل واحد للرواية.

 

 

 

 

 

روايات قراتها فاثرت في ذائقتي الادبية

 

للرواية – وخاصة المحبوكة جيدا – عالم خاص ينتقل القاريء له عند اول مقطع يقرأه منها ، فتاخذه الى عوالم لم يعهدها سابقا ، ان كانت هذه العوالم واقعية بحت ، او انها من صنع الخيال ، وفي الاثنين يكون فعل المخيال ، والمخيال المبدع ، كبيرا جدا .

قرأت الرواية منذ ان كنت في الصف الرابع الابتدائي ، و اول ما قرات رواية ” حقل البرسيم ” وهي معدة للاطفال ، وكانت كبيرة نسبيا ، وهكذا بدأت اقرأ الرواية ، وقد كانت حصيلة ما قرأت مئات الروايات العراقية ، والعربية ، والاجنبية ، حتى وصل الحال بي ان اشتري روايات دوستوفسكي مطبوعة ومجلدة بغلاف خاص وموضوعة داخل كارتون يحمل عنوان ” دوستوفسكي ” بمبلغ – كما اتذكر – اكثر او اقل من مئة دينار من مكتبة التحرير ، وقد احترقت داخل برميل النفايات مع كتب اخرى وبعض اكسسوارات الزينة في بيتي الذي يقع ضمن بيوت ضباط قاعدة علي الجوية ، مع العلم عندي نسخ من طبعات عديدة من هذه الروايات ، من ضمنها بترجمة سامي الدروبي .

– قرأت رواية ” حقل البرسيم ” ، وهي رواية للاطفال كبيرة الحجم نسبيا ، استعرتها  من مكتبة المدرسة الشرقية الابتدائية النموذجية للبنين ، وكنت في الصف الرابع الابتدائي ، وقد لخصتها وقدمت ملخصها لمعلم القراءة حسب طلبه في درس الانشاء ، وكنت الطالب  الوحيد في الصف الذي قام بذلك ، حيث بعدها سلمني الاستاذ امانة مكتبة المدرسة.

تتحدث الرواية عن مجموعة من الحيوانات التي تساعد بعضها وتزرع حقلا بالبرسيم.

– قرأت رواية ” البؤساء ” لفكتور هيغو ، الرواية الاولى التي اقتنيتها بسعر ( 600 ) فلسا في الستينيات ، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت ، الا اني جمعته من مصروفي اليومي ، وشكلت نواة لمكتبتي الشخصية التي وصل عدد الكتب التي تضمها الى اكثر من 3000 كتاب ، و كنت وقتها طالبا في مرحلة الدراسية المتوسطة ، قرأتها لاكثر من مرة ، وما زال بطلها ” جان فالجان ” عالقا بذاكرتي ، حيث يمثل الانسان الذي حرم من الكثير من السعادات ، ولكنه كالشمعة التي تضئ لتعطي النور للآخرين ، وهي المادة الوحيدة التي قرأتها لهيغو .

– قرأت روايات غائب طعمة فرمان ، كرواية ” المخاض “، ورواية ” القربان “، ورواية “ظلال على النافذة “، وكانت رواية ” النخلة والجيران ” هي فاتحة لقراءة هذا الروائي العراقي، ثم قرأت رواية ” خمسة اصوات ” ، وبعدها توالت قراءتي له.

رواية ” النخلة والجيران ” التي قرأتها اكثر من مرة ، نزلت الى قاع المجتمع العراقي ، وقاع المجتمع البغدادي خاصة، واستلت منه حيوات ما كانت تولد الا في زمن أحداث هذه الرواية على خلفية آثار الحرب العالمية الثانية في العراق، وقدمت شخوصا يفتقدون للامل في التغيير المنشود، شخوصا مهمشة تتصارع فيما بينها ، كانت الرواية عميقة في معناها التي ستمنحه للمتلقي،  زاخرة باحداثها وشخوصها.

تتحدث شخصيات الرواية بلسان عامي ، وهذا ما شدني للرواية اذ ان لغة ( لهجة ) الاشخاص تناسقت ولغة كتابة الرواية ، فجاء الكل متضامنا ليقدم رواية عراقية بمواصفات عالمية ، انه نثر قاع المدينة ، مدينة بغداد التي كانت وقتها العراق كله.

في روايته الثانية “خمسة أصوات” التي قرأتها اكثر من مرة ، أبتعد فرمان عن عامية قاع المدينة ، الا انه لم يغادر هذا القاع في الوقت نفسه، لأن شخوصها كانت من المثقفين الذين يعيشون في بحر قاع المدينة ،وكان بناؤها بناء بولوفونيا ، حيث تعددت الاصوات فيها ، فكان لكل شخصية صوت مستقل عن الاخر ،حتى في لغته وفي تفكيره ، وقد تضافرت فيما بينها لتقدم للمتلقي رواية تتسم بسمات الرواية الفنية.

تمتاز رواية” خمسة اصوات “،من الناحية البنائية ، الشكلية ،بتحررها من كل ما يمت لتقنيات وبنى السرد الكلاسيكي، واعتمادها على وجهة نظر الشخصية للاحداث التي جرت، وهذا يذكرنا برواية نجيب محفوظ ” ميريمار ” التي نشرها عام 1967 ، والتي تزامنت مع صدور رواية ” خمسة اصوات – 1967 ” لفرمان .

– قرأت روايات الكاتب العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي ( الوشم ) ورواية ( الانهار) ورواية  ( القمر والاسوار) ورواية ( الوكر ) ، و روايته ( خطوط الطول 000 خطوط العرض ) ، وكتبت عن رواية ” الوشم ” حين صدورها في جريدة المجتمع ، وكتبت عنها وعن روايات ” الانهار ” و ” والقمر والاسوار ” كتابات عديدة ، خاصة قضية الجنس فيها ، نشرت في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية .

– قرأت روايات الكاتب العراقي عبد الخالق الركابي ، وهي : رواية ” نافذة بسعة الحلم” و رواية ” الراووق ” و رواية ” أطراس الكلام ” و رواية ”  سابع أيام الخلق ” و رواية ” قبل أن يحلق الباشق” و رواية ” مكابدات عبد الله العاشق” و رواية ” من يفتح باب الطلسم ”  ورواية ” مقامات اسماعيل الذبيح” و رواية ” ليل علي بابا الحزين ”  .

كتبت عن رواية ” ليل علي بابا الحزين ”  ونشر ما كتبته في شهر نيسان عام 2016 في جريدة الحقيقة، حيث بدأتها بالاتي : ((للتاريخ رجاله و مصادره ، وللرواية ( الفعل المسرود ) كذلك ، ولا يخلط المهتم بالتاريخ ومصادره برجل الرواية ومصادرها ، على الرغم من انهما يشتركان في العالم الذي تنهل منه مصادرهما ،  وهو الواقع ( النص الغائب / الحاضر ) الذي ينهلان منه مادتهم الاساسية ، فيدون المؤرخ ما يراه او يسمع به من وقائع واحداث وحوادث ، فيما يكتب الروائي روايته ( النص الحاضر ) متخذا مما رآه او سمع به مرتكزا لمخيلته ” الابداعية ” لتنتج عوالم الرواية الفنية الناضجة التي تمتثل لاشتراطات الجنس الادبي هذا ))، وكانت روايات الركابي تجمع بين التاريخ والمخيال الابداعي ، او ما يسمى بـ  ” التخيل التاريخي “.

– قرأت كل روايات نجيب محفوظ سوى بعض الروايات التي لم توزع وتباع في مكتباتنا ، وقد اثرت في ذائقتي الادبية روايات ، منها : الثلاثية ، و رواية “ميرامار ” ، و رواية ” السراب ” ، و رواية ” زقاق المدق ” ، و رواية ” الشحاذ ” ، و رواية  “القاهرة 30 ” ، ورواية ” اولاد حارتنا ” لها خصوصية عندي وذلك انه  زارني شخص صديق صديقي في بيتي في التسعينيات ، وهو من بغداد ، وطلب مني استعارة هذه الرواية على ان يردها لي بعد اسبوعين بيد صديقنا المشترك ، فأعرته اياها ، والى الان لم تعد لي الرواية ، ولا اعرف اين يسكن في بغداد.

قرات الثلاثة ”  بين القصرين ” ، ”  قصر الشوق ” ، ” السكرية ”  ، هذه الرواية الواقعية التي يجيد الكاتب الكتابة فيها ، كما الاساليب ومدارس الرواية الاخرى ، حيث ما زال بطلها ” سي السيد ” عالقا في ذاكرتي ، إذ مثلت شخصية رب الاسرة العربي ، الشرقي ، من حيث انه يعيش عالمين في ان واحد ، احدهما داخل البيت حيث الصرامة مع الزوجة والابناء ، و الاخر هو الذي يعيشه خارج البيت ،  خاصة في الليل ،اللهو والفرح والمسرات ، فهو رجل شرقي ، عربي ، اسلامي من حيث صرامة ارائه ، وافكاره حول كل شيء .

اما رواية ” ميرامار ” فقد اعجبتني قدرة الكاتب على ادارة شخصيات الرواية .

اتسمت هذه الرواية بتعدد المنظورات ، ووجهات نظرها ، وتعدد اصواتها ،رواية بوليفونية ، ابتداء من شخصية عامر وجدي ، و انتهاء بـ ” ميريانا ” ، مرورا بـحسني علام ، ومنصور باهي ، وسرحان البحيري ، والشخصية النسائية ” زهرة ” ، ، وكل واحد من هذه الشخصيات يبحث عن شيء شخصي افتقده بعد قيام الثورة.

– قرأت للاختين برونتي ، رواية ” مرتفعات ويذرنيغ ” لاميلي برونتي ، ورواية ” جين اير ” لشارلوت برونتي ، بعد ان ابتعتهم من عربة بيع الكتب في شارع الخيام في اول زيارة لي الى بغداد لاستخراج شهادة الجنسية عام 1967.

انهما من قصص الحب المدمر لنفسه كما فهمتهما في فترة المراهقة الجميلة التي كنت اعيشها في تلك الفترة .

– قرأت اغلب روايات غابرييل غارثيا ماركيز، التي يصنفها النقاد من المدرسة الواقعية السحرية التي انجبت عندنا قاص مثابر هو محمد خضير خاصة في قصص ” المملكة السوداء”.

اول ما قرات له هي رواية ( ساعة نحس ) ، ثم توالت قراءاتي لابداع هذا الكاتب ، فقرأت رواية ” الحب في زمن الكوليرا ” ، ورواية ” مائة عام من العزلة  “، ورواية ( خريف البطريرك )،ورواية ( وقائع موت معلن )، ورواية ( ليس للكولونيل من يكاتبه)، ورواية ( جنازة الام الكبيرة )، ورواية ( الجنرال في متاهة ).

( كانت تنشر الغسيل على حبل فهبت عاصفة فطارت الصبية ، ارتفعت نحو السماء ، وذهبت الى المجهول.).

عند هذه الواقعة توقفت كثيرا ، هل عاد بنا هذا الكاتب الى حكايات الف ليلة وليلة ، ام ماذا ؟

انها الواقعية السحرية ، او العجائبية التي كتب بها ماركيز رواياته.

تروي أحداث رواية ” الحب في زمن الكوليرا ” قصة حب شاب وشابة منذ فترة المراهقة، وحتى ما بعد بلوغهما السبعين، حيث اتفق (فلورنتينو) وشابة هي “فيرمينا ” على الزواج ، وتبادلا الحب ، الا انها  تزوجت من شخص اخر .

ان إصرار الشاب المحب (فلورنتينو) على الوصول لهدفه في الزواج من ” فرمينا” ، رغم تجاوزهما السبعين من العمر، يدعو حبيبته التي توفي زوجها وهي في عمر السبعين لرحلة نهرية على سفينة تمتلكها شركته ، فيتخلص من المسافرين الآخرين بحجة أن السفينة عليها وباء الكوليرا لكي لا تنتهي الرحلة ، الا ان السلطات تحجر عليها صحيا ، فيظلان هكذا تدور بهم السفينة مبحرة ، ما دام حبهما في مرحلة أفضل لوصول الى مرحلة الحب لذات الحب.

الرواية هذه تؤكد الاصرار على الحب رغم الصعاب.

فيما تبدأ رواية ” مائة عام من العزلة  ” بهذه السطور التي ابدعت فيها مخيلة الكاتب الابداعية : ((بعد سنوات طويلة ، وامام فصيلة الاعدام ، سيتذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا ذلك المساء البعيد الذي اخذه فيه ابوه للتعرف على الجليد . كانت ماكوندوة انذاك قرية من عشرين بيتا من الطين والقصب ، مشيدة على ضفة نهر ذي مياه صافية ، تنساب فوق فرشة من حجارة مصقولة ، بيضاء وكبيرة ، مثل بيوض خرافية ، كان العابلم حديث النشوء ، حتى ان اشياء كثيرة كانت لا تزال بلا اسماء ، ومن اجل ذكرها ، لابد من الاشارة اليها بالاصبع )) ، التي كانت من افضل الافتتاحيات لرواية فنية ناضجة ينظري.

تتحدث الرواية عن انشاء قرية ماكوندو التي اسسها خوسيه اركاديو بوينديا والتي تتحول الى قرية  كبيرة تنبض بالحياة ، إذ تنشأ عائلة كبيرة يكون للعزلة تأثير كبير على الشخوص وعوالمها الذاتية ، وكل ذلك يصبه ماركيز باسلوب واقعي يفيض منه السحر .

الرواية حكاية عن أسرة أوريليانو على مدار عشرة عقود من الزمان، قدم الكاتب في هذا الزمن وباقتدار وبراعة بالغين، الواقعي الساحر والسحر الواقعي ،حيث جمع بينهما ، وقدم كذلك دخائل مشاعر شخوصه ،ودقائق التحليلات وعظائم المفاجآت، أتى بها لتروي قصة هذه الأسرة .

في هذه الرواية نلتقي باللامعقول الذي يتلبس السحر بما تنضحه الرواية من الواقع المنعزل ، ،مثل العاصفة المطرية التي استمرت اكثر من أربع سنوات ، وطيران ريميدوس الفتاة الجميلة ،وغير ذلك مما هو  مدهش واللامنطقي.

ان ابطال (مائة عام من العزلة) هم ابطال ذواتهم ، انهم يمثلون ذواتهم بكل ما تنزع اليه في عزلتها ، فنجد ان لكل شخصية من شخصيات الرواية أسلوبها و فرادتها الانسانية ، وكانت شخصية المراة وخاصة ( اورسولا ) هي المركز الذي تدور حوله تلك الحيويات النابضة بالحياة في عزلتها.

– قرأت اغلب روايات دوستوفسكي ، خاصة رواية ” الاخوة كرامازوف ” التي ظل بطلها عالقا في ذاكرتي ، اذ انها جاءت خلاصة لفكر الكاتب الاجتماعي ، والاخلاقي ، والفلسفي ، والديني .

ترتكز احداثها الرئيسية حول جريمة قتل الاقطاعي العجوز (كارامازوف) ، فيضلل الكاتب قارئه ، وكذلك شخوص روايته عن القاتل الحقيقي من خلال وضع القرائن والادلة لاتهام الابن الاكبر للضحية ، أي ( ديمتري ) بسبب تنازع هذا الاخير مع والده بخصوص ميراث امه ، وكذلك تنافسه معه على حب ( جروشنكا).

وفي نهاية الرواية ، يتعرف القارئ على القاتل الحقيقي وهو ( سمردياكوف ) بالرغم من اتهام اخيه ( ايفان ) بأنه هو القاتل الحقيقي برغم ان ( سمردياكوف) قد نفذ الجريمة ، والسبب كما يقول لاخيه ، انه نفذ تلك الجريمة تحت تاثير افكار ( ايفان ) .

وتاتي اهمية هذه الرواية من كونها جاءت كاتهام للواقع الذي افرز مجموعة الافكار الفوضوية والشريرة .

كتبت عنها وعن تناص قصة ” جروشنكا ” للقاص جليل القيسي معها في دراسة لي بعنوان (تناص الاجناس الادبية – قراءة تناصية في قصتين قصيرتين ) في مجلة الاقلام ع /5-6 /1993 ، ثم نشرت بكتابي ( الذئب والخراف المهضومة ) – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 2001 .

– قرأت روايتي الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكي ، “زوربا اليوناني ” ، ورواية ” المسيح يصلب من جديد ” ، ورواية ” الاخوة الاعداء ” .

اعجبتني رواية ” زوربا ” التي قرأتها اكثر من مرة لان بطلها الذي اجاد الكاتب في وصفه ، يعيش حياته بكل حسية ، وفلسفته فيها هي حبه للحياة بكل قوة .

اما رواية ” المسيح يصلب من جديد ” التي احترقت مع الكتب التي شب الامريكان فيها النار عند احتلالهم قاعدة علي بن ابي طالب عام 1991 وكان داري ضمن دور ضباط القاعدة وقد اصبح مقرا لهم ، فاستعرتها من الروائي الصديق زيدان حمود لاعادة قراءتها ، حيث مثلت لي اجواء الجنوب في شهر عاشوراء التي كتبت عنها رواية نشرتها على النت بعنوان ( التشابيه ) والتي رفض خبير دار الشؤون الثقافية العامة عام 2002 ( احتفظ باسمه ) اجازتها،لانها تناقش امورا دينية كانت من التابوات في العراق .

– قرأت رواية ” الغريب ” ورواية ” الطاعون ” ورواية ” اسطورة سيزيف ”  للبير كامو .

و رواية ” الغريب ” كانت فاتحة لي للتعرف على فلسفة العبث وادبه ، حيث يتلقى بطلها ” ميرسو ” خبر وفاة والدته بكل برودة ولا مبالاة، انه لا يتصنع ولا يجيد التظاهر يعيش الحياة وفق ما تمليه عليه مشاعره واحاسيسه .

– قرأت رواية ” الساعة الخامسة والعشرون ” للروائي الروماني كونستانتان جورجيو، هذه الرواية المكتوبة عن اهوال الحرب العالمية الثانية ، يجد بطلها تلك الساعة التي تحولت البشرية فيها إلى أرقام وآلات بعد ان  تفجرت الحضارة الانسانية فوصلت الى حالة حرب ، وتفتقد الى مخلص من هذه الاهوال ، حيث اخذ إلانسان يبحث عن نور في نهاية النفق الذي لا نور فيه.

– قرأت رواية ” للحب وقت وللحرب وقت” للكاتب الالماني اريك ماريا ريمارك صاحب رواية ” كل شيء هاديء في الميدان الغربي ” ، وهي رواية تشرح حال الجنود الالمان في اواخر الحرب العالمية الثانية ، و قيامهم ببناء علاقات حب في هذه الفترة الحرجة من الحرب لانهم يعرفون ان الغد غير مضمون.

– قرأت رواية ” دكتور زيفاكو ” لبوريس باسترناك ، انها قصة حب مفعمة بالرومانسية التي توافقت مع ذائقتي وقت قراءتها في فترة المراهقة .

اعجبتني نهايتها ، حيث يموت د. زيفاكو بالسكتة القلبية وهو يركض خلف حبيبته السابقة ” لارا “.

اراد باسترناك ان يوصل فكرة لنا هي : اننا نركض خلف سعادتنا فلم نمسك بها .

– قرأت اغلب روايات ” اجاثا كرستي ” وروايات ” شارلوك هولمز ” ، في فترة الصبا والمراهقة ، قراتها لاحداثها ، كمن يقرأ خبرا صحفيا للاستمتاع باحداثها ، اي لم التفت الى قيمتها الفنية.

اثرت في ذائقتي الادبية هذه الروايات فذكرتها ، و لم اكتف بقراءتها، بل قرأت المزيد من الروايات الاجنبية ، والعربية ، والعراقية .

***

ذائقتي الادبية لم ” تستسغ ” الروايات التالية :

– رواية ” 1984 ” لجورج اورويل .

– رواية ” العراب ” لماريو بازو .

وهناك روايات لم استطع تذكر عناوينها  لم تستسغها ذائقتي الادبية.

لم اكمل قراءة الروايات التالية :

– موبي ديك للروائي الامريكي  هيرمان ملفيل.

– رواية ” المناضل ” ، ورواية ” الزهر الشقي ” للكاتب عزيز السيد جاسم .

وهناك روايات لم استطع تذكرها ، لم اكمل قراءتها .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الادوات التعبيرية و الفكرية في رواية ” ليل علي بابا الحزين “…

والكتابة تحت تأثير الفكر الجمعي العراقي

 

للتاريخ رجاله و مصادره ، وللرواية ( الفعل المسرود ) كذلك ، ولا يخلط المهتم بالتاريخ ومصادره برجل الرواية ومصادرها ، على الرغم من انهما يشتركان في العالم الذي تنهل منه مصادرهما ،  وهو الواقع ( النص الغائب / الحاضر ) الذي ينهلان منه مادتهم الاساسية ، فيدون المؤرخ ما يراه او يسمع به من وقائع واحداث وحوادث ، فيما يكتب الروائي روايته ( النص الحاضر ) متخذا مما رآه او سمع به مرتكزا لمخيلته ” الابداعية ” لتنتج عوالم الرواية الفنية الناضجة التي تمتثل لاشتراطات الجنس الادبي هذا .

من اول سطر في رواية ” ليل علي بابا الحزين ”  يبدأ الزمن الواقعي للعراق الذي تتحدث عنه الرواية، وهو زمن الاحتلال الامريكي للعراق  عام 2003 ( ص31 ) ، ( يوم عدت باسرتي الى بغداد – عقب رحلة كابوسية الى مدينة الاسلاف انتهت باعتقالي – فوجئت بالجيران يرددون كلاما غريبا غير قابل للتصديق مفاده ان ” كهرمانة ” في نصبها القائم في منطقة ” الكرادة ” ، توقفت ، يوم التاسع من نيسان ، عن سكب الزيت في جرارها ، حيث شوهد اربعون لصا يثبون تباعا مغادرين تلك الجرار ليتوزعوا ، تحت جنح الظلام ، في شتى احياء العاصمة !!) ( ص 7 ) ، وينتهي بالفتنة الطائفية التي تأججت بعد تفجير ضريح الامامين في سامراء ، ( فانتشر ، في اعقاب تفجير سامراء ، رجال ملثمون مزودون باسلحة اوتوماتيكية كانوا يقيمون نقاط سيطرة وهمية لغرض الخطف والقتل على الهوية .) ( ص 13 ) ، مرورا بتوقيف الكاتب / الراوي ، وتحريره من قبل الامريكان ” المحتلين ” (ص 30 )، والاحداث السردية الاخرى التي تكوّن بناء الرواية ، وصرحها الكبير والعظيم .

من هذين المفصلين التاريخيين يستعيد الروائي صور الاحتلال الانجليزي للعراق، في اسلوب اتبعه الركابي في سردياته السابقة وهو ” التخيل التاريخي ” لتاريخ العراق ، فيكون هناك مزاوجة بين الواقع والمتخيل ، فمرة نجد الواقع يسبق المخيلة في عملها ، ومرة نجد العكس ، وهذه معادلة لم يحافظ على المساواة فيها الروائي الكبير عبد الخالق الركابي ، بل انه تحيز كثيرا الى جانب المخيلة ، والمخيلة التاريخية / الابداعية بالذات ، في كل اعماله الروائية ، فكان الواقع يظهر باستحياء على شكل مرتكزات ما تلبث ان تولد وقائع متخيلة ، اي ان المخيلة النشطة هي التي تعمل ، فتؤثر في هذه المرتكزات من مثل : الاحتلال الأمريكي، والاحتلال الانكليزي للعراق ، وسرقة الاثار ، وآثارهما على الناس .

يلعب المخيال دورا كبيرا في روايات الركابي ، إذ انه يسابق الواقع معتمدا على الذاكرة الحية ، وخزينها المتراكم الذي تنهض عليه احداث الرواية ، ليفضي في النهاية الى رواية احداث واقعية / خيالية ، او خيالية / واقعية ، وهذا التوصيف الاخير هو ما يمكن ان توصف به رواية ” ليل علي بابا الحزين ” .

من المرتكزات الواقعية في هذه الرواية التي تعبر عن زمن وقوع احداث الرواية ، وهو زمن الاحتلال الامريكي ، والتي ذكرت مرة واحدة لترمز الى هذا الزمن ، هي : انتشار لصوص المال العام ،واعمال النهب والسلب ،  تجارة الاسلحة ، هدير السمتيات الامريكية في سماء العراق ، مرأى مدرعات المارنيز ،كثرة الميليشيات ، اصوات سيارات الاسعاف ، انتشار الهاتف النقال ،وغير ذلك من الرموز التي تدل على ان زمن الرواية هو زمن الاحتلال الامريكي ، وهذه من وسائل الكاتب التعبيرية كي يخبرنا بصورة غير مباشرة عن الزمن الذي تتحرك فيه الرواية .

في الحكاية الالف ليلية ” علي بابا والاربعين حرامي ” يقبض “علي بابا ” على الاربعين حرامي ، فيما في رواية ” ليل علي بابا الحزين ” يتحرر هؤلاء الحرامية من قبضة ” كهرمانة ” التي اوكل لها ” علي بابا ” صب الزيت عليهم 😦 يوم عدت بأسرتي إلى بغداد ــ بعد رحلة كابوسية إلى مدينة الأسلاف انتهت باعتقالي ــ فوجئت بالجيران يروون كلاما غريبا غير قابل للتصديق مفاده ان ” كهرمانة ” في نصبها القائم في الكرادة توقفت يوم التاسع من نيسان عن سكب الزيت في جرارها ، حيث شوهد أربعون لصا يثبون تباعا مغادرين تلك الجرار ليتوزعوا تحت جنح الظلام في شتى أحياء العاصمة ).(ص 7 ) وهذه صورة من صور مرتكزات الواقع التي يلعب بها المخيال الابداعي ، اضافة لما قلناه سابقا، وكانت اداة تعبيرية اختارها الكاتب لتضم احداث روايته من اول سطر فيها الى اخر سطر.

ترتسم هذه الثيمة الرئيسية للرواية ( الثيمة الام ) على مثلث متساوي الاضلاع تتوزع على اضلاعه الشخوص الثلاثة ، علي بابا ، كهرمانة ، الحرامية ،و ينتهي دور الضلعين الثاني والثالث في الصفحة السابعة ، ثم يصبح ذكرى تستعاد مرة واحدة في النص في الصفحة (114 ) الا انها ذكرى تبقى دائما في الذاكرة الحية للمخيلة الابداعية مثل معنى المعنى في الشعر.

اما الضلع الاول الذي يقف عليه ” علي بابا ” فانه يتماهى بالراوي لنقل الاحداث التي عليه كشفها.

يعمل الاسترجاع كثيرا في تقديم احداث الرواية ، فيسترجع الراوي مع ” دنيا ” ذكريات علاقتها مع ” يحيى ” ، ويسترجع مع ” بدر ” النصف عراقي والنصف انكليزي ، ذكرياته عن سرقة الاثار من قبل الانكليز: ( لم يرو لي “ثومسون” كل هذه الأمور دفعة واحدة وبالطريقة التي لخّصتها لك على شكل حكاية .. كان يكتفي بترديد بضع كلمات ردّا على أحد أسئلتي المباغتة لينصرف بعدها الى صحيفته او الكتاب الذي بين يديه ) . ( ص 243) .

يشكل ” بدر ” مصدر الهام الراوي على طول الرواية ، يقول : ( لقد بقي ” بدر ” مصدر الهام دائم لي ، لم تمنعه الجلطة الدماغية التي تعرض لها – مسببة باصابته بشلل نصفي – من مد يد العون لي في تلك الفترة العصيبة التي كوت العراقيين دون استثناء ) .( ص14 ) وكذلك (ص18 ) ، فيما يشكل ” يحيى ” و ” دنيا ” المصدر الاخر لالهامه بكل احداث الرواية ، اذن الرواية تنهض على المشاهدة الذاتية للراوي ، وذكرياته مع ” بدر ” مرة ، ومع ” دنيا ” و ” يحيى ” مرة اخرى.

اسماء فصول الرواية لها مغزى في مجريات الاحداث ، فـ ” الخروج من المغارة ” يمثل انطلاقة اللصوص ، و انهاء ” كهرمانة ” ( في المصدر الاصلي الالف ليلي تدعى مرجانة ) من صب الزيت ، و هروب الاربعين حرامي ، وتوزعهم في بغداد للنهب والسلب ، والفصل الثاني ” افتح يا سمسم ” يرمز الى فتح ” مغارة ” العراق امام من هب ودب ، امام الهمجية الامريكية ، وما يذكره ” بدر ” من ذكريات عمل الاحتلال الانكليزي ، وما رافقهما من اعمال وممارسات اعوان بعض دول الجوار ، و امام اللصوص وسرقتهم للاثار ، ( يجوبون الشوارع ليقتحموا دون تردد الوزارات والدوائر الرسمية لينهبوا ما يستطيعون نهبه قبل أن يضرموا وراءهم النيران وكان منظرهم يبعث على التقزز حقا وهم يتخطون دبابة أمريكية ) . ( ص 146 )

اما القصل الثالث ” كلمات كهرمانة الأخيرة ” فقد كان يتحدث عن دور الميلشيات في عراق ما بعد الاحتلال، وكذلك عن رسالة ” دنيا ”  من امريكا ، وهو امر اقف حائرا امامه ، حيث ” كهرمانة ” صاحبة ” علي بابا ” في الرواية هي التي تصب الزيت على الحرامية فيبقوا بعيدين عن لصوصيتهم ( مسجونين في قماقمهم )، فيما نجد ان ” كلمات كهرمانة الأخيرة ” هي وجود رسالة ” دنيا ” في هذا الفصل ، و ” دنيا ” التي تقوم جل احداث الرواية عليها وعلى سيرتها ، تركت بلدها والتحقت ببلد المحتل هاربة من واقعها ، ومن “يحيى ” ، ومن واقع العراق الدامي.

بعد هذه المقدمة القصيرة التي تحدثت بصورة اجمالية عن الرواية ، سندرس حالة علاقة واحدة ، وهي علاقة “دنيا ” بـ ” يحيى ” لنعرف مدى تأثير الثقافة الاسلامية ، و العادات ، والتقاليد ، والاعراف العراقية المسكوت عنها ( الفكر الجمعي العراقي المسكوت عنه ) في تقديم الفتاة ” دنيا ” في عمل ابداعي ، والتي اختيرت في هذه الرواية من بنات المسيحيين  .

ان علاقة ” يحيى ” و ” دنيا ” ( ص 47 ) غير الشرعية بحسب العادات ،والتقاليد ، والاعراف في العراق ( الفكر الجمعي العراقي المسكوت عنه ) التي تكبل التفكير فتمنعه من ان ينطلق نحو افاق واسعة ، ستؤدي الى نتائج غير صحيحة ، وغير شرعية ايضا بحسب ذاك الفكر الجمعي للمجتمع الذي افرز هذين النموذجين منذ اكثر من ستة الاف سنة ، اي منذ السومريين الى يومنا هذا ونحن نحمل على كاهلنا هذه التقاليد ، والاعراف ، والعادات التي اصبحت ثقافة متراكمة و عامة لمجتمعنا ، مصبوغة بصبغة دينية اسلامية.

نتساءل : لماذا اختار الركابي فتاة مسيحية ورجل مسلم ؟ هل لكون المجتمع العراقي يتكون من هذين الديانتين ؟ وماذا عن الديانات الاخرى في المجتمع العراقي ؟ ولماذا لم يكن العكس هو الصحيح ، في ان المرأة مسلمة ، والرجل مسيحي ؟ الم يحدث ذلك في الواقع ؟ ام ان الكاتب اختارها مسيحية لترمز الى الوطن ، حيث كما تقول بعض المصادر ان المسيحين هم اقدم الشعوب في العراق التي لا زالت تعيش فيه ، ولما كانت كذلك ، فان اي شخص منها سيرمز الى العراق ، وقد وضع للفصل الاخير من روايته اسم ( كلمات كهرمانه الاخيرة ) واذا به يقدم رسالة ” دنيا ” التي تخبر الراوي برحيلها واستقرارها ، وميلاد طفلها ، في بلد المحتل .

هل يعني ان ” كهرمانة ” التي تركت صب الزيت فهرب الحرامية هي نفسها ” دنيا ” التي هربت الى امريكا ، وتركت حرامية القرن الواحد والعشرين يمارسون فعلتهم تحت انظار الامريكيين ؟

اسئلة كثيرة تثار امام اختيار الكاتب المرأة المسيحية ، وبهذا الفعل والممارسة والاخلاق ،ان كانت سوية ام غير سوية ، لاننا لسنا في معرض التقييم والتقويم ؟

المجتمع العراقي ذو الثقافة المسلمة يرى في المسيحيين انهم اول مكون مجتمعي يرحب بالمحتل ، لان المحتل هذا من ملتهم .

هذه الفكرة خاطئة ، ذلك لان اول من رحب بالاحتلال الامريكي ، وصفق له هم قلة قليلة من المسلمين في الجنوب والوسط ، وليس المسيحيين ، إذ دخلت قوات  الاحتلال من جنوب العراق .

اذن ، فاختيار الكاتب للمرأة المسيحية قد جاء تحت التأثير غير الواعي ، وغير المعلن ، للثقافة الجمعية للمجتمع ذي الثقافة الاسلامية ، والعادات ، والتقاليد العراقية التي ترى ان الرجل لا يمكنه ان يفعل مثل ما فعلت هذه المرأة ، ان كان ذلك في تحررها الاخلاقي عن القيم الشرعية – حسب تلك الثقافة المدافة بالتعاليم الاسلامية – في اقامة علاقة غير شرعية مع الرجل المسلم ، وكأن الرجل لا يسأل عن هذه العلاقة ، مع العلم ان “يحيى” هو المسلم المتذبذب ، و الفاسد ، والباحث عن الثراء السريع باي طريقة كانت ، كما تقدمه الرواية.

وايضا ، فانها رحلت الى بلد المحتل ” امريكا ” ، وكأن النساء الاخريات من ديانات اخرى خاصة الاسلام ، لا يفعلن ذلك ، مع العلم ان المصادر الاحصائية تؤكد عكس هذا.

ان الرحيل الى امريكا ، الدولة المتحررة من كل شيء  ، ومنها الاخلاق ، كما يراها التفكير الجمعي ، وبحسب الثقافة الاسلامية للمجتمع العراقي ، هو التحاقها بالاصل ( وهذا تعبير خاطيء تستعمله هذه السطور )، اي التحاق ” دنيا ” بابناء ديانتها المسيحية .

تقول في رسالتها : (فكل بقاع الأرض لم تعد تعني لدي شيئا منذ خيّم هذا الليل الحزين على وطني فهجرته دون وداع ( … ) فقررت لحظتها نفض يدي عن كل شيء والنجاة به ، هو ابني الوحيد وسط زبانية جهنم ) (ص290 )، لم يكن هذا سببا كافيا لان ترحل الى بلد المحتل لو كانت تعي وطنيتها حقيقة ، اذ دول اوربا مفتوحة الابواب امامها ، الا ان الكاتب وتحت تأثير الثقافة العامة للمجتمع الاسلامي ، والتقاليد ، والاعراف العراقية “رحـّلها ” الى امريكا ،وهي امريكا العدوان ، و الاحتلال ، فلماذا فعل ذلك ؟

انني ارى في ذلك الامر هو تمثلا لما يعتقد به ابناء المجتمع العراقي من ثقافة ، وتقاليد ، واعراف غير معلنه ، وانما هي من ” المسكوت عنه ” في هذا التصور ، وليس ذلك لسبب فني ، او ابداعي ، او فكري من الكاتب ، انه تعبير عن المسكوت عنه في التفكير .

وهكذا كان الكاتب مبدعا في استخدام ادواته التعبيرية ، من التخيل التاريخي ، في سرد ما بعد الحداثة ، واستخدامه الواقع كمرتكز رئيس ، والانطلاق مع المخيلة ، الا انه في استخدامه لادواته الفكرية كان منسجما مع الفكر الجمعي للمجتمع الذي يعيش فيه ، فجعل بطلته ” دنيا ” من ديانة مسيحية ، وهذا اجحاف بحق المسيحيين في العراق ، ولو كان قد جعلها من الديانة المسلمة لكان في ذلك متوافقا مع الواقع الحقيقي عند دخول الاحتلال الامريكي من جنوب العراق ، وما وجده عند البعض ( وهم قلة قليلة ) من ترحيب بهم ، على الرغم من اننا نعي جيدا ان النصوص الابداعية غير مطالبة باتباع الواقع كما هو ، او ان نملي عليها كل تصورات فكرنا ، لان في ذلك مصادرة لحق الكاتب ، وحق ابداعه ، ولكن واجبنا هو طرح الاسئلة التي من شأنها ان ترفد العمل الابداعي هذا طاقة ابداعية كبيرة.

ويبقى سبب ابعاد رواية ” ليل علي بابا الحزين ” من جائزة ” البوكر” فيما تراه هذه السطور هو انها قدمت نقدا لاذعا للعدوان و الاحتلال الامريكي ، وما سبقة من احتلال انكليزي ، وهذا الامر غير مرض عنه عند اصحاب ” البوكر” العربية ، واصلها الانكليزي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

رواية “مثلث الموت” لعلي لفته سعيد..

المغامرة التي أدت الى الموت المجاني

 

الرواية عالم خاص ينهل احداثه وشخوصه من الواقع ، فاما ان يدخل ما اخذه من الواقع مخيلة الروائي ليخرج منها نصا روائيا ، واما ان يبقى ذلك الواقع كما هو ليكون خبرا صحفيا ، او من منقولات الناس فيما بينهم ، ولا يقترب من عالم الرواية الفنية.

ان الرواية التي سنتحدث عن جانب منها في هذه السطور وهي تنقل خبر ما حدث في ” مثلث الموت ” بتدخل المخيلة الابداعية للروائي ، تنقل لنا هذا الواقع العراقي المأزوم بكل مفرداته و تجلياته ، فتضع الانسان العراقي بكفة والمجاميع المسلحة ( العراقية ؟؟؟) بكفة ثانية إذ يحركها فكر واحد يعود الى ما قبل 1400 سنة مضت ، انه فكر ملتبس تقدمه الكتب الصفراء التي يقرأ البعض من ( العراقيين ؟؟؟ ) فيها ما التبس من فكر ، وحوادث ، واحداث.

و ” الصراع ” الصراع الجسمي او النفسي بين شخوص الرواية – اية رواية – هو من عناصر الرواية الفنية ، لتتشكل جراء هذا الصراع مثلث الرواية المعتاد ، وهو : البداية والعقدة وحل العقدة .

وان تركب الصعاب يعد مغامرة بحد ذاتها ، لان ركوب الصعاب معناه ان الهدف بعيد المنال ونادر الحصول عليه الا بشق الانفس.

ومن المعاني القاموسية للمغامرة هي : رمَي النفس في الشدائد ، أي ركوب الصعاب للوصول للهدف المنشود ، و الدخول في تجربة مثيرة ، وجريئة ، وخطرة في الوقت نفسه ، وكثير من ابطال الاساطير ، و الملاحم ، والقصص ، والروايات يدخلون في عالم المغامرة للوصول الى هدف ما ، كأن يكون الحصول على الفتاة الحبيبة مثلا .

والصحافة كما هو معروف تعتبر مهنة المصاعب ، ذلك لانها تبحث عن الخبر اليقين في مصادره الاصلية ،و استقصاء الواقع لمعرفة اسبابه ، وهذا الامر يتطلب الدخول في مغامرة ولوج طريق غير سالك للوصول الى الهدف المنشود.

في رواية ( مثلث الموت ) يركب ثلاثة صحفيين صعاب المغامرة التي ودوا الدخول فيها ، وهي الحصول على الخبر اليقين من مصادره الاصلية ، الا انهم يبقون في رأي رجال الدين انهم خونة: ((عبر الشيخ الذي لا أحد يعرف اسمه إلّا من صوته العصبي وعباءته التي تطير خلفه،عن غضبه تجاه الإعلام، كونه لا حقيقة له وإن الاعلاميين أغلبهم عملاء للحكومة التي لا هم لها سوى تسقيط الشرفاء والوطنيين..ثم عبر عن غضبه بشدة حين راح يشتم صحفياً لم يذكر أسمه نشر تحقيقاً عن المظاهرات التي ينظمها رجال الدين كونها تسبب الأذى للناس وهي لا تهم البلاد بل هي مروجة للشخصيات..)).

و في رأي فصيل مسلح بالضد من رجال الدين فانهم : (( خونة .تبيعون الوطن ..أنتم مع الحكومة صفويون. )).

والنتيجة التي يحصلون عليها هي الموت المجاني .

ابطال الرواية هم الصحفيون ” سلام وخضير وأحمد “، والحدث الذي تقدمه الرواية هو عمل هؤلاء الصحفيين للحصول على الخبر اليقين في اوضاع سياسية صعبة في بلد ملتهب كأهله بحمل أرث فكري دموي لما قبل 1400 سنة ، واحتلال يؤجج الارث هذا فيبقى المجتمع منشغلا فيه ، انه مجتمع ” يرقص ” على صفيح ساخن ، لا يهدأ ولا يكل.

ان البلد وهو ” يرقص ” على صفيح ساخن يؤججه ويزيد من اتونه الاحتلال من جانب ، ومن جانب اخر رجال الدين المتصارعين الذين يحملون افكارا مضت عليها قرون عديدة ولا نعرف الصواب الذي تمتلكه ، وكما تثبت الرواية ذلك ، حيث تكون الأزمة قد انعقدت بين الفصائل التي يتزعمها رجال دين ((بادر ذات مرة حين حصلت مواجهات مسلحة بين فصيلين تابعين لرجلي دين..إلى الطلب من الصحفيين بعدم نشر الأخبار السرية أو أعداد القتلى..وقال لهم..إن هذا الأمر قد يثير الأتباع في محافظات أخرى وتحصل مواجهات مسلحة والخاسر هو المواطن والأمن في جميع المدن العراقية خاصة وإنهم في كل المدن..بل في داخل البيت الواحد..)) ، حيث ((الوضع العام غير مهيأ لفتح جبهات عديدة على الدولة التي تحاول بكل الإمكانات أن تدافع عن نفسها،فهي أيضا في موقع الضعف وكل هذه التيارات أقوى منها..ثم لا تنسَ إن الجماهير لا تثق بالحكومة وتثق بالمرجعيات سواء منها الدينية أو المسلحة فهي التي تسيطر الآن على حركة الناس.)).

او كما قال الضابط لسلام : ((لو أن كل رجل دين أو مرجعية أو حزب ينظم احتفالا أو تجمعاً فلن نشهد الراحة أبدا )).

اذن كان المهاد لبناء رواية فنية كاملة موجود في الحدث الذي يهم الناس ، وفي الشخوص ، الصحفيين ،وبعد ذلك فانه تابع للروائي في بناء روايته بناء فنيا ، حيث يكون لمخيال الكاتب دور كبير في بنائها من حيث المكان ( تفتقد الرواية هذه لبنية المكان كعنصر مهم من عناصر بناء الرواية )، والزمان ،و الوصف ، والحوار ، وغير ذلك من العناصر الخاصة بكتابة الرواية .

في سطورنا هذه سنتحدث عن المغامرة التي وضع الكاتب فيها شخوص الرواية انفسهم عندما بدأت الرواية تتشكل منذ سطورها الاولى .

تبدأ مغامرة الصحفيين الثلاثة ( احمد ، خضير، اضافة لسلام الذي نزل في منطقة ما و فقدانه بعد ذلك ) بعد دخولهم منطقة ” مثلث الموت ” في مناطق (اليوسفية والمحمودية واللطيفية ) .

تتوزع شخوص الرواية الثلاثة (احمد ، خضير، سلام )على عالم المغامرة ، وهو البحث عن الخبر اليقين في مضانه الاصلية.

تبدأ احداث المغامرة عندما يترك “سلام ” صاحبيه ( احمد وخضير ) في منتصف طريق عودتهم ويذهب للبحث عن علبة سكاير(( كان سلام يحاول طرد الخوف من رأسه،مشيراً إلى خضير أن يوقف السيارة ليشتري علبة سكائر، تاركاً الاثنين فاغري أفواههما من هول ما سيفعله وهو مصمم على معرفة الحقائق بطريقة جنونية لا تمت إلى الواقع الصحفي العراقي بصلة كما قال خضير لأحمد..سار سلام وسط تراص البيوت المواجهة على الشارع العام كخط متوازٍ طويل..يحمل ارتعاشة بدأت تتصاعد كلما وصل الى صف البيوت، مبتعداً عن رفيقيه وعن الشارع العام الذي يوصل الى بغداد..تأكد أحمد أن سلاماً لن يتراجع عما في رأسه وأن علبة السكائر كانت الخطوة الأولى التي ستفضي إلى حكايات عديدة ومواضيع مختلفة ودقائق مبعثرة ربما ستغير بعد ذلك من شأن الكتابة والقناعة والحقيقة.))، ثم نعرف ان مجموعة مسلحة تلقي القبض عليه ، وتعرف هذه المجموعة انه صحفي ، فيتصلون برئيس تحرير الصحيفة التي يعمل فيها للاتفاق معه لنشر ما يتفق وتوجهاتهم كي يطلقوا سراحه ، ثم تضيع اي معلومات عنه .

اما (احمد ،و خضير) فنتعرف عليهما كجثتين بعد ان حدث لهما ما حدث ، (( لم يفهم أي منهما كيف يجيب..ولا حل للمشكلة ..فثمة أمر لا بد أن ينتهي..كان أحمد يحاول أن يبين أن الأمر ليس كما يتوقعون، من أنهما صحفيان مرموقان..فليس لهما أي تأثير حتى لو تم قتلهما..فهما هاويان يجمعان المكافآت من هذه الصحيفة وتلك..حتى أنهما يكتبان بأسماء مستعارة لكي يحصلا على قوت يومهما..لكنه شعر بلحظة أن دماً ينزل من حافة شفته..كانت الصفعة الثانية أكثر إيلاماَ ومفاجئة.. ولم يسأله ليجيب..فلزم الصمت.

– أنتم خونة تبيعون الوطن ..أنتم مع الحكومة صفويون.

كانت الأرض أكثر سرعة..وكان صوت الكلاب يقترب أكثر من شحمة أذنيهما..وقد اعترفا أن لحظة قتلهما دنت وإنهما سيلحقان بسلام..وهما سيتمددان على مقعدٍ من دم.)) .

اما الصحفي الرابع صديقهم ” منتظر ” فهو لم يشترك بمغامرة البحث عن الخبر اليقين ، يبقى لينعى اصدقائه الى اهلهم : ((لم يرد عليه..لكن المحافظ واصل الحديث.

– أريدك أن تذهب الى المشرحة..وعليك تقع مسؤولية إبلاغ عائلتيهما..

سقط منتظر على الأريكة..لكن المحافظ لم يبال.

– مثلما نشرت خبر الاختفاء عليك نشر خبر العثور على جثتين واختفاء ثالثة.

لم يعد المكان يتسع للاثنين..ثمة صور مرعبة تمر برأس منتظر وهو يحاول أن يثبت على الأرض..متشبثاً ببقايا قوة كي لا يسقط..مرتقياً حالة من الهلع والخوف..ليست المشكلة بالنسبة له، إخبار العائلتين وليس نشر الخبر، فمثل هذه الأخبار تنتظرها الوكالات والفضائيات العالمية والعربية وحتى العراقية..لكن المشكلة..هي أين اختفى سلام؟.)).

هذا ما آلت اليه امور الاصدقاء الثلاثة بعد ان كانوا يبحثون عن الخبر اليقين لنشره في صحيفتهم ، اذ كان الموت في انتظارهم في ” مثلث الموت ” .

واذا كانت المغامرة – اية مغامرة – تستدعي اشتراك المغامر بصراع مع الاخر ، مهما كان نوع الاخر هذا ، ويسمى في الادب الشعبي ” قوى الشر ” ، ففي رواية ” مثلث الموت ” يدخل كل من الاصدقاء الصحفيين الثلاثة هذه التجربة ويشتركون في صراع مع الاخر ، حيث يدخل ” سلام ” في صراع مع قوى اسلامية  قائم على الحوار الذي يفضي الى نوع من النتيجة النهاية الغامضة عن المتلقي وهي الموت الذي لم تعلنه الرواية لزيادة افق ترقب المتلقي .

فيما يدخل الاصدقاء ” احمد وخضير ” في صراع مع نفس القوى بلباس اخر ، لا يعرف المتلقي نتيجته الا من خلال زميلهم الرابع ” منتظر ” الذي يخبر بانهم عبارة عن جثتين عليه ان يذهب للطب العدلي و اخبار عائلتيهما.

هكذا تصوغ الرواية احداثها ، وتصوغ مغامرتها واركانها ،وشخوصها :البطل والبطل الشرير ، وما بينهما من امور ، وهو فعل الشر ، الشر الذي كان مخبأ طيلة 1400 سنة مضت ، ياتي محتل دخيل فيستقبله شلة قليلة من الشعب تعد على الاصابع بالورود ، فيما يستقبله قسم ثان منه بالرصاص ، اما القسم الثالث من ابناء الشعب وهم قلة قليلة جدا ينتفض عندهم ما يؤججه المحتل من الماضي السحيق الذي أزال عنه غبار النسيان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قضية الجنس عند عبد الرحمن مجيد الربيعي

 

منذ سنوات ، وحتى كتابة هذه السطور ، كان هناك موضوع يلح عليّ، وكنت اتابع بعض تفاصيله هنا وهناك فيما اقرأ ، واتلمس بعضا من خيوطه المتشعبة ، الا وهو قضية الجنس في الادب القصصي العراقي، وكنت عندما اقرأ اسجل بعض الاجوبة لاكثر من سؤال اطرحه على ما اقرأ عن هذا الموضوع – القضية، ومن هذه الاسئلة : كيف تعامل المبدع العراقي مع هذا الموضوع – القضية؟ وما هي تصوراته الخاصة عنه ؟ وهل يمتلك هذا المبدع نظرية ما ؟ – او على اقل تقدير – وجهة نظر معينة ينطلق منها عند تناوله لهذا الموضوع – القضية ، ام ان ما يطرحه كان عبارة عن تصورات ذاتية يستخلصها بنفسه من واقع الحياة اليومية التي تعيشها شخوصه ، وهل ترتقي تلك التصورات لان تكون نظرية ، او وجهة نظر رصينة ، ام لا ؟

اجابات كثيرة حصلت عليها وانا اتابع هذا الموضوع – القضية على مدى اكثر من خمسة عشر عاما ، حتى اذا قررت الخوض في غمار الكتابة ، وجدتني اقف حائرا امام مسألتين مهمتين لهما علاقة بهذا الموضوع – القضية ، الاولى : هي قضية المصادر والمراجع التي تناولت هذا الموضوع – القضية ، والثانية :هي قضية اختيار النماذج التي ستكون ميدانا لهذه الدراسة 0

كان الكتاب الوحيد – حسب علمي – الذي تناول هذا الموضوع – القضية ، هو كتاب الناقد المصري غالي شكري ، المعنون : (ازمة الجنس في الفصة العربية – 1971 ) ، اذ درس فيه هذا الموضوع – القضية (الازمة كما اسماها) عند مجموعة من الكتاب العرب من مصر وسوريا ولبنان .

اما المسألة الثانية ، فقد وجدت نفسي اقف حائرا – ايضا – في اختيار نماذج دراستي ، ذلك لان المتتبع للنتاج الروائي العراقي منذ نشأته وحتى كتابة هذه السطور ، يجد ان من اهم ما طرحه ذلك النتاج هو علاقة الرجل بالمرأة ، وخاصة احد جوانب هذه العلاقة ، وهو ( الجنس) كظاهرة انسانية بدأت منذ خلق الانسان وتواجد على الطبيعة ، اذ ان الرواية العراقية قد اهتمت بهذا العلاقة ( الظاهرة – القضية) كأهتمامها بالعلاقات الاجتماعية الاخرى التي تطرحها الحياة ، لهذا وجدتني اضع مجموعة من المؤشرات الهادية لي عند الاختيار ، فكان اختيار ثلاث روايات من مجموع نتاج الربيعي بسبب نضج النتاج الابداعي لهذا الكاتب في جانبيه الفني والفكري ، اضافة لما يتمتع به من مكانة ابداعية في العراق وخارجه 0

إذ لم يحتفل ويحتفي الوسط الثقافي والادبي، عراقيا وعربيا ، كما احتفل واحتفى بنتاجات عبد الرحمن مجيد الربيعي القصصية والروائية ، لما فيها من جديد ومثير من ناحية الفكر ومن ناحية التعبير 0

ولم يلق كاتب عراقي ما لقيه الربيعي من ابواب مفتوحة ومشرعة بوجه نتاجاته ان على مستوى النقد ام على مستوى الدراسة والبحث ،لاسباب كثيرة نذكر منها : ذلك الاقتحام ( الثوري ) الذي قام به الربيعي لمعاقل عالم القصة القصيرة خاصة في الستينات ، تلك الفترة التي كانت من اشد فترات عدم الاستقرار السياسي التي مرت في التاريخ المعاصر للعراق والوطن العربي ، وقد توجت تلك الانكسارات في العراق بنكسة حزيران 1967 ، على المستوى الوطني والقومي ، ونحن هنا لا نريد ان نتحدث عن مسيرة الربيعي الادبية ، بقدر ما نريد ان نجعل من هذه السطور مدخلا لدراستنا هذه والتي سنتناول فيها قضية “الجنس ” عند الربيعي ، خاصة في رواياته الثلاثة مبعدين عن اهتمامات هذه الدراسة قصصه القصيرة 0

ان قضية ” الجنس ” من القضايا التي كانت وما زالت محورا مهما من المحاور التي حفلت بها الرواية في ادبنا العراقي منذ نشأته حتى كتابة آخر نتاج ابداعي من هذا النوع الادبي ، وما سيكتب مستقبلا ، ما دام “الحنس ” بنوعيه المشروع او غير المشروع ، واحدا من العوامل المؤثرة في شخصية الفرد والجماعة كذلك ، ودوره الكبير في رسم الصورة الحقيقية لعلاقة الرجل بالمرأة على السواء باعتباره بارومترا لقياس مدى توازن المجتمع ، اذ أن القاعدة المعرفية تقول ان : (( المجتمع المتوازن يفرز علاقات جنسية متوازنة وليس العكس )) الا ان المسألة التي هي اشد خطورة من كل ذلك ، هي زاوية النظر التي من خلالها يمكن للكتاب ان ينظروا الى هذه القضية 0

والربيعي واحد من الكتاب الذين زخرت نتاجاته الروائية بهذه القضية ، الا انه لم يجعل منها محورا رئيسيا تدور حوله احداث الرواية لتكون من ثمّ واجهة اعلامية لتحسين صورة ما يكتب امام القراء خاصة ممن يستهويهم مثل هذا الموضوع ،بل ان قضية الجنس عنده اخذت لها ابعادا خاصة بها ، من خلال ما يحمله الكاتب من وجهة نظر مميزة لهذه القضية التي ترتبط بمجمل القضايا التي تطرحها الحياة المعيشة لأبطاله ، وصورة من عدة صور كان لها الوقع الخاص والمميز على صعيد الواقع 0

ولما كانت كتابات الربيعي قد ( تشم ) منها رائحة التاريخ الذي يموه عند بعض القراء نظرتهم الفاحصة عند القراءة ، الا ان تلك النتاجات تبقى في المحصلة النهائية ليست روايات تاريخية ، لأن الربيعي لم يكن في أي من رواياته ، معنيا بكتابة التاريخ و لا كتابة الرواية التاريخية المتعارف عليها ، وانما كان التاريخ ، او ذاك النسغ التاريخي الصاعد في اجواء الرواية ( من احداث واقعية ، وزمن محدد معلوم 000 الخ ) ما هي الا وسيلة فنية لاظهار ما يريد ان يظهره الكاتب من خلال هذه الرواية او تلك ، لهذا فأننا في ( الوشم ) لم نلتق بالتاريخ ، كما التقينا به في ( الانهار) او في ( القمر والاسوار) وفي ( الوكر ) ، حتى في روايته الاخيرة ( خطوط الطول 000 خطوط العرض ) الى حد ما ، بل نجد التاريخ كإطار عام للعمل الفني ، يأتي ضمن مستويات عدة حسب حاجة النص الروائي ، وما تقتضيه الضرورة الفنية والفكرية في طرح قضية ما في شكل ادبي محدد ، لهذا فإننا لا نجد قضية الجنس عنده هي المحور الرئيس لعمله الابداعي ، وانما نجدها كواحدة من القضايا التي يطرحها ذلك العمل وحسب الزمن التي استلت منه ، ولكن برؤية فنية تأخذ من الواقع الشيء الكثير لتصقله في بوتقة الفن 0

وتأسيسا على ذلك ، نجد ان هذه القضية عند الربيعي تأخذ لها عدة مسارات حسب عواملها واسباب تكونها ، والظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية ، كذلك ، للفترة التي تتخذ منها الرواية زمنا لها ، اضافة لذلك ، فإن اشكال هذه القضية تتلون عنده ، الا انها – في النهاية – تتبلور في اشكال معينة معروفة لهذه القضية في اغلب رواياته ، وهذا ليس عيبا يسجل ضد المنهج الفكري وكذلك المنهج التعبيري للكاتب ، بقدر ما هو حسنة تضاف الى حسنات عمله الابداعي والفني لأن الواقع الذي يتحدث عنه هو الواقع العراقي بكل ثوابته ومتغيراته ، ضمن فترة تاريخية محددة ، وستبين لنا السطور القادمة صحة هذا القول 0

في هذه الدراسة ، لن نناقش أي جانب او مظهر حياتي تقدمه روايات الربيعي ، عدا ما تشكله قضية الجنس من مظهر ( حياتي ) في رواياته ، اضافة لذلك ، فأن الدراسة ستتناول رواياته الثلاثة حسب تسلسل تواريخ نشرها ، لان ذلك سيتيح للدراسة تتبع نظرة الكاتب الى قضية الجنس حسب تقادم الزمن ، وحسب الفترة التي تتحدث عنها تلك الرواية 0

***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مورفولوجيا الزمن في رواية

( حين تكونين مع الغيوم ) للروائي زيدان حمود

 

ليس من جديد القول ، ان الرواية ، كفن سردي ، تعتمد – حالها حال الفنون السردية الاخرى – اساساً ، على عنصرين مهمين – من ضمن عناصر كثيرة – هما الزمان والمكان ، على الرغم من نسبية هذا الاعتماد ، وتأثيره في مسيرة السرد ، وان من السرود ما يعتمد اساساً على الزمن ، حتى صيّره البعض بطلاً في بعض النصوص.

وقد توصلت المناهج النقدية الحديثة التي درست النص من داخله ، الى اهمية الزمن ، كعنصر فاعل فيه ، فضلاً عن ابراز تنوعاته العديدة ، وصيغ تجلياته .

ان للزمن دور كبير في عملية السرد . اذ انه يقوم بوظيفة هامة وخطيرة ، هي وظيفة تحويل ، تحويل الحدث ( الخام ) ، أي الترتيب الطبيعي للاحداث كما جرت بالفعل ، حقيقة ام تخيلاً ، الى حدث مسرود ، اضافة لذلك ، فأن وجوده في النص ، لم يكن وجوداً مستقلاً ، ذلك لأن عناصر النص الاخرى ، ترتبط ارتباطاً وثيقاً به ، فالشخصية مثلاً ، لا يمكنها ان تعيش وتنمو وتتطور في النص خارج نطاق الزمن ومساره ، والحدث كذلك ، لا وجود له خارج النص ، اذ لولا الزمن لما كان هنالك حدثا ما ، والقول نفسه ينطبق على المكان ، وعلاقته بالشخصية او الحدث .

في دراستنا هذه ، سنستخدم مصطلحين مهمين ، ونحن نحلل البنية الزمنية في النص الذي بين يدي هذه الدراسة ، هذان المصطلحان هما : ( القصة ) للدلالة على الاحداث حسب ترتيبها الطبيعي ، و ( الحكاية ) ( 2 / 46 ) ( 3 / 73 ) للدلالة على الحدث اثناء السرد .

ان تنوع وتعدد اوجه السرد ، يتأتى اساساً من تنوع وتعدد بناء الزمن في النص ،

وهكذا يحظى الزمن بالاهمية ، فضلاً عن اهمية تحليله ودراسة تركيبه كما يتجلى في النص .

واذ نقوم بذلك في هذه الدراسة ، علينا التنبيه الى مسألة هامة عند دراسة تشكل الزمن في ( الحكاية ) واختلافه كما هو عليه في ( القصة ) ، هي ان النصوص السردية الحديثة تقوم بتشكل زمنها بصورة معقدة جداً ، خاصة اذا كان النص من نوع الحكايات ذات الشكل السردي الذاتي الى حد ما ، و / او الذي يستخدم ضمير المتكلم في تقديم الاحداث … ويكون التعقيد شديداً عندما ينبني النص على تعدد الاصوات بتعدد وجهات النظر ، او وجهة تقديم الحدث ، والنص الذي بين يدي هذه الدراسة من هذا النوع .

وتأسيساً على تلك الملاحظة ، علينا ايضاً ، التأكيد على : ان نصنا – هذا – قد تكون اساساً من ثلاثة نصوص – ثلاث قصص وثلاث حكايات – على الرغم من تداخلها ، ويجمع بينها :

  • الحدث العام الجامع لها .
  • اشتراك الشخصيات الرئيسة الثلاث ، او اثنتين منها ، في احداث النصوص الثلاثة.

وقبل الدخول في تحليل بنية الزمن في النص ، علينا التأكيد على ما يلي :

آ – ان زمنية النص السردي ، لا يمكنها ان تتجلى بصورة ما ، الا في حالة القراءة ، اذ تبقى هذه الزمنية غير مبنيَة ( وبدقة اكثر غير مبنية دلالياً ) لأن فعل القراءة – مهما كان نوعها – هو الحقيق بأن يعطي للنص المسرود زمنيته الخاصة .

ب – ان زمن الحكاية الذي ستقوم بتحليله هذه الدراسة ، هو زمن ( مزيف وكاذب ) كما يحلو لـ ( جينيت ) ان يصفه بتحفظ ( 2/46 ) . والذي يقوم مقام زمن حقيقي ، هو ( زمن القصة ) . لأن زمن الحكاية هو زمن ( تخييلي ) ابتداء من اول كلمة وضعت على خطيته حتى اخر كلمة تنتهي بها هذه الخطية ، لأن النص ، ومهما كانت الصيغة الزمنية التي يستخدمها في تقديم الاحداث ، يقدم احداثاً قد مضى وقوعها ، وعند اعادة تشكلها مجدداً ، فأن للخيال دور في ذلك التشكل .

منهج الدراسة

—————-:

ولكي لا يكون تحليلنا القادم للزمن ضرباً من الكلام المجاني ( علماً ان النقد بكل اشكاله وانواعه هو كلام على كلام ) ، فأن الدراسة ستعيّن حدود تحركها ، وآليات اشتغالها على / وفي النص المختار ، من خلال منهج تتراتب خطواته بحيث تفضي الاولى الى الثانية ، وتستفيد من نتائجها ، وهكذا.

هذا المنهج الذي لا تدعي الدراسة ابتداعه ، سيحلل الزمن وبنيته وفق الطريقة التالية:

آ – دراسة صيغ الزمن حسب الترتيب الطبيعي للاحداث ( أي كما هي في القصة ) وحسب ترتيبها في النص ( في الحكاية ) . أي دراسة الصلات بين الترتيب الزمني لتتابع الاحداث في ( القصة ) وبينه في ( الحكاية ) ، او ما يدعى بـ ( المفارِقات الزمنية ). ( 2/ 47 )

ب – دراسة الصلات بين الفترة الزمنية التي تستغرقها الاحداث ( طبيعياً ) وبين الفترة التي تستغرقها في ( الحكاية ) ، أي ( المدة ) وكذلك ( سعتـ ) ـها .

ج – دراسة التواتر . أي العلاقات الحادثة بين قدرات تكرار وقوع الحدث الطبيعي ( في القصة ) وقدرات ( الحكاية ) في تكرارها .

ومن الجدير بالتنويه ، ان الدراسة هذه لم تكن معنية – اساساً – بأطلاق اية احكام تقييمية ، لأنها دراسة وصفية ، تهدف الى فهم دقيق لبعض القضايا الفنية التي يطرحها الخطاب السردي في ادبنا الروائي العراقي الحديث ، انطلاقاً من النص نفسه ، وهذا لايعني جعل المنهج النقدي الحديث مسطرة نقيس من خلالها هذه الظاهرة او تلك ، وانما جعلنا النص هو الذي يسيّر المنهج في اكثر من مثابة ، لكي لا يكون المنهج قيداً ثقيلاً على النص .

*** ***

مورفولوجيا الزمن

———————– :

آ – صيغ الزمن وترتيبها في الحكاية :

في العربية ، هناك ثلاث صيغ عامة للزمن ، هي الماضي والحاضر والمستقبل ، ويعتمد الزمن ( الادبي ) على الماضي خاصة ، لأن مايريد الأخبار عنه ( او سرده ) النص الابداعي هو ما حدث في الماضي ( اذا تجاوزنا نصوص الخيال العلمي المستقبلية ) . اما زمن الحاضر ، فأنه زمن ( نصي ) وليس طبيعي . لأن النص يستخدمه لكي يتحدث عن احداث قد وقعت في الماضي ( وينطبق هذا القول على نصوص التراسل والمذكرات كذلك ) .. وهكذا تأتي تسلطية صيغة الماضي على كافة صيغ الزمن الاخرى .

ولكي يكون تحليلنا لبنية الزمن دقيقا ً ، سنستخدم لصيغة الماضي تدرجات زمنية ، من مثل الماضي ، والماضي القريب ، والماضي االبعيد ، نسبة الى حاضر الزمن النصي .

ولما كان على النص ، أي نص ، ان يحدد بداية انطلاقه منذ اول كلمة ينطق بها ، فأن نقطة البداية في نصنا قد تحددت – زمنياً – من لحظة افاقة ( حازم ) من نومه عندما نادت عليه زوجته ( علياء ) اثناء القصف الجوي ( عند بدء العدوان الامريكي عام 1991 ) ، اما بقية الاحداث ، وازمانها ، فقد تمددت يمين وشمال هذه النقطة .

ولو تمعنا في الترسيمة التالية ، لعرفنا مدى الاختلاف البيّن في طبيعة الزمن ، بين ان يكون زمناً قصصياً ، وبين ان يكون زمناً حكائياً ( سردياً )  .

 

 

 

ان ما يعني هذه الدراسة ، هو زمن الحكاية . أي التقنية التي استخدمها النص لترتيب الزمن على خطيته ، بعيداً عن خطية الزمن الطبيعي ( زمن القصة )  .

وكمثال على ذلك ، يمكن تتبع ترتيب الزمن في القسم الاول من الفصل الاول والذي يمتد على مساحة ( 16 ) صفحة ، من الصفحة (7) ولغاية الصفحة ( 22 ) كما في الجدول ادناه ( جدول -2 ) :

 

 

هكذا تبدو خطية زمن الحكاية ، أي ترتيب الزمن في النص . وان دراسة هذه الخطية ، هي دراسة لـ ( المفارِقات الزمنية ) في النص .

 – المفارِقات الزمنية :

ونعني بها ، اشكال التنافر بين الاحداث ، او المقاطع الزمنية في الحكاية .

ولما كانت دراسة المفارِقات الزمنية لأي نص ، تستدعي معرفة درجة الصفر ( المقترحة ) بين ( القصة ) و( الحكاية ) أي حالة التوافق الزمني التام بين الحكاية والقصة ( 2/ 47) ، الا ان معرفة تلك الدرجة – رغم افتراضيتها – تحيط بها الصعوبات ، كون هذا النوع من النصوص ، ذات الطابع الاستذكاري ، لا تتوافق فيه زمنيته وزمنية القصة التي يعتمد عليها ،الا اننا سنحاول قدر الامكان الوصول اليها وتحديدها ، من خلال تحديد بداية زمن ( القصة ) لكل نص من النصوص الثلاثة المكونة للنص .

فـ ( حازم ) يسرد قصته بضمير المتكلم على مساحة فصلين (الاول والرابع ) منذ ان كان صبياً في العاشرة من عمره ، حتى انتهاء حكي هذه القصة ، الا انه يبدأ سردها من لحظة بداية القصف الجوي (عام 1991 ) عند سماعه لصوت زوجته وهي توقظه من النوم . (ص13)

اما زوجته ( علياء ) فأنها تحكي قصتها بضمير المتكلم ايضاً ( الفصل الثاني ) ابتداء من خطبتها لابن خالتها (ماهر ) عندما كانت طالبة في الكلية (ص34) حتى افاقتها من غيبوبتها .(ص59) الا انها تبدأ من زمن لقائها بـ ( حازم ) . ( ص33)

فيما راح (ناصر) يحكي قصته بضمير المتكلم ( الفصل الثالث) من لحظة تعرفه بـ (حازم ) في جبهة القتال حتى لقائه في البستان .

اما على صعيد ( حكايته ) فيسردها من لحظة جلوسه غروب يوم ما من ايام الحرب العراقية الايرانية مع ( حازم ) حتى الالتقاء به في البستان . وهذا لايعني تطابق في خطية الزمنين ، لأن بين هذين التحديدين يأخذ الزمن مسارات ترددية .

اما بالنسبة لوقت لقاء ( حازم ) بـ ( ناصر ) فأن كل الدلائل تشير الى ان اللقاء قد تم في بداية الحرب العراقية الايرانية .

اما لقاء ( حازم ) بـ ( علياء ) فأن الدلائل تشير الى انه قد تم في السنة الرابعة للحرب . اذ بعد شهر واحد على تعارفهما ، تطلب منها امها ان تخلع ثوب الحداد ، لأن (( اربع سنوات كافية لخلع ثوب الحداد )) . (ص40)

ومن خلال زمنية هذه اللقاءات ، يمكن وضع الترسيمة التالية لتبين الزمن الخارجي للقصة ( الترسيمة – 3 ):

 

ترسيمة تبين الزمن الخارجي للقصة الشكل /3

من خلال المرتسم اعلاه ، يمكن حساب الزمن الخارجي ، أي زمن ( القصة ) ، وكما في ادناه :

اولاً : ان زمن قصة علياء يمتد على مساحة ( 13) سنة ، ابتداء من عام 1979 م عندما كانت طالبة في السنة الاولى في كلية العلوم . ولما كانت الحرب العراقية الايرانية قد بدأت في شهر ايلول 1980م ، فأنها كانت في بداية سنتها الثانية (1) . وتنتهي القصة في عام 1991م اثناء القصف الجوي الامريكي .

اما زمن ( حكايتـ ) ها فيمتد على مساحة فصل واحد ويقع في (27) صفحة من الصفحة (33) ولغاية الصفحة ( 59 ) وفي سبعة اقسام . (2)

اما درجة الصفر بين زمنها وزمن ( حازم ) فهي السنة الرابعة من الحرب العراقية الايرانية  .

ثانيا- ان زمن ( قصة ) ( ناصر ) ، يمتد على مساحة (12 ) سنة ، ابتداء من عام 1980 ، أي من بداية ( القادسية ) وتعرفه على ( حازم ) حتى لقائه مرة اخرى بـ ( حازم ) عام 1991 في بستانه .

اما زمن ( حكايتـ ) ـه ، فيمتد على مساحة فصل واحد بـ ( 21 ) صفحة من الصفحة(61) ولغاية الصفحة ( 81) في خمسة اقسام.

ثالثا – ان دراسة زمن قصة ( حازم ) تلاقيه صعوبة كبيرة في معرفة بداية الانطلاق ، اذ لاتوجد اشارة ، او تلميح لذلك ( لايشير الى ميلاده .. مثلا ) لهذا ، فاننا سنلجأ الى التخمين . فعلى اعتبار انه خريج كلية ، وقد تخرج فيها وهو في الثانية و العشرين من عمره ، ثم سيق الى الخدمة العسكرية ، ليقضي فيها عامين ، فيكون عمره عند التسريح منها اربع وعشرين عاما .. بعدها عين بوظيفة محاسب .. ولنفترض انه ظل في الوظيفة عامين – على اقل تقدير – فيكون عمره عند دعوته لخدمة الاحتياط ست وعشرين عاما اثناء معركة القادسية يضاف لذلك سنتان فترة الخطوبة ، فيكون مجموع عمره عند الزواج ثماني وعشرين عاما ، وهو سن مناسب للزواج وقتذاك .

بناء على ذلك . يبدا زمن ( قصتـ) ـه التي تمتد على مساحة زمنية قدرها سبعة و عشرين سنة .

اما زمن ( حكايتـ ) ـه ، فانه يمتد على مساحة فصلين ( الاول والرابع ) و بـ ( 45 ) صفحة من الصفحة (7) ولغاية الصفحة ( 32 ) . ومن الصفحة (83) ولغاية الصفحة (101) . وبواقع اربعة اقسلم ، ثلاثة منها في الفصل الاول .

ان اكبر مساحة كل قسم من اقسام الفصل الاول ، وكذلك امتداد الفصل الرابع على فصل واحد ، يدل على اهمية هذه الشخصية في النص ، خاصة وانها ترتبط بعلاقات مؤثرة مع الشخصيتين الاخريتين .

وبهذا تكون درجة الصفر بين زمن القصة وزمن الحكاية بالنسبة لـ ( علياء) هي السنة الرابعة للقادسية . اما بالنسبة لـ( ناصر ) فهي عام 1980 م اما بالنسبة للنص الروائي – بصورة عامة – فان درجة الصفر هي زمن العدوان الامريكي عام 1991 ، لان الثلاثة قد التقوا سوية في بستان ( ناصر ) وقد تم الاخبار بما جرى ( الحكاية ) بعد هذا التاريخ .

اشكال المفارقات الزمنية

——————————- :

بعد تحديد نقطة الصفر ، وهو تحديد خاص بقضايا الترتيب ، فان هناك العديد من اشكال المفارقات الزمنية التي تنتجها دراسة مورفولوجيا الزمن ، والتي لها علاقة بالتنافر الزمني على مستوى الترتيب ، كاللواحق والسوابق .

اولا: اللواصق

———————-:

يذكر ( جينيت ) ان اللواصق ، اوما يسميها ( الاسترجاعات ) ( 6 / 20) تشكل ((بالقياس الى الحكاية التي يندرج فيها – التي ينضاف اليها – حكاية ثانية زمنيا )) وهي (( عملية سردية تتمثل في ايراد حدث سابق للنقطة الزمنية التي بلغها السرد )) ( 5/ 76) ، وهي على نوعين :-

استرجاع خارجي – يعود الى ما قبل بداية الرواية .

استرجاع داخلي – يعود الى ماضي لاحق لبداية الرواية قد تاخر تقديمة في النص . (3)

قليلة هي اللواصق الخارجية . أي الاحداث التي وقعت قبل الفترة التي استغرقها زمن النص وتذكرها الشخصية لاسباب كثيرة .

فعندما يستذكر والد( ناصر ) – عندما يطلب منه الاخير ان يخطب له ( كميلة ) – الظروف التي تعرف بها على ( ام ناصر ) ، وكيف احبها ، ومن ثم الزواج منها (ص6 / 690) . فان ذكره عبارة عن استرجاع لما مضى من الزمن . جاء ليسد ثغرة في زمن الحكاية . وان سبب ايرادها ، ما تحمله من دلالات اجتماعية ، تؤكد على ان الابن على سرأبيه .

وكذلك بالنسبة لحكاية والد ( حازم ) التي يقوم بسردها ( حازم ) اذ تعتبر من اللواصق الخارجية ، أي خارج زمن ( القصة ) ( ص16- 17 ) .

والقول نفسه بالنسبة لما تستذكره ( علياء ) من معلومات عن طفولتها مع ( ماهر ) الذي يكبرها بسنوات اربع ( ص34 ).

اما بالنسبة للاسترجاعات الداخلية ، فقد حفل النص ، وخطيته الزمنية وهي على انواع ، مثل الاسترجاعات التكميلية (( التي تضم المقاطع الاستعادية التي تاتي لتسد بعد فوات الاوان ، فجوة سابقة في الحكاية ))(2/62) . والنوع الثاني ، هي استرجاعات ( النقصان ) (2/62) .

ومن امثلة النوع الاول ، مايرويه ( حازم ) امام عائلة ( ناصر ) وزوجتة في دار ( ناصر ) من احداث مرت به اثناء الهجوم في معارك القادسية ، والتي سبق ان نوه في الصفحات (8 – 9 ) وكذلك التي نوه عنها ( ناصر ) في الصفحات ( 71-72 ) فاعادها ( حازم ) بالتفصيل على الصفحات ( 88 – 95 ).

اما الحذوف الجانبية ( أي النقصان ) والتي (( لها طابع زمني اقل صرامة ، والتي لا تقوم على الغاء مقطع تزمني ، بل على اسقاط احد العناصر المشكله للوضع ، في مرحلة تشملها الحكاية مبدئيا )) فهي قليلة .

وكمثال على ذلك ، ما تستذكره ( علياء ) عن عائلة ضابط الشرطة ( ابو مهند ) وزوجتة المدرسة ( ص 43-44 ) . اذ ان هذا الاستذكار لايؤثر على خطية زمن الحكاية ذكر ام لم يذكر .

ثانيا : السوابق

—————- :

يسميها ( جينيت ) بـ ( الاستشراف) (2/76) . وتعرف ، بانها (( عملية سردية تتمثل في ايراد حدث ات او الاشارة اليه مسبقا ))( 5/ 76) . وهي ايضا على نوعين ، داخلية ، وخارجية ، نسبة الى المدى الزمني .

واذا كان السرد التقليدي يخلو الى حد ما من هذه المفارقة الزمنية ، فانها في السرود الحديثه اكثر ملائمة كما يذكر ( جينيت ) ( 2 / 76) ولكن النص الذي بين يدي هذه الدراسة شبه خال منها ، ذلك لانه يعتمد في تقديم الاحداث على ضمير المتكلم ، حيث ان الرواي (( يحكي قصة حياته حينما تقترب من الانتهاء ويعلم ماوقع ، قبل وبعد لحظة بداية القص ويستطيع الاشارة الى الحوادث اللاحقة دون اخلال بمنطقية النص ومنطقية التسلسل الزمني )) ( 4/ 44) اضافة لذلك ، فان تفكير الشخصية مرتبط اساسا بالماضي ، ولا مجال هنا للتفكير بما سياتي .

ومن الامثلة القليلة للسوابق الداخلية ، هو ما ذكره ( حازم ) من ان قوات العدو (( ستهاجم خلال الساعات القادمة ))(ص 14 ) . الاانه ياتي متاخرا ، اذ يذكره بعد وقوع الحدث .

وكذلك ماورد من ( اعلان ) عن تعيين ( علياء ) في بداية القسم الاول من الفصل الثاني عندما يحاول والدها ان يثنيها عن عزمها في قبول التعيين في محافظة جنوبية .وتتم الموافقة في القسم الذي هو عبارة عن حوار بين علياء ووالدها يقع في النصف صفحة اما النوع الثاني من السوابق ، فهو مايذكره والد ( حازم ) من انه سيموت في مكان عمله (( كالحمار ولكنني ساترك لي ولدا يحمل اسمى في الاقل ))( ص17 ) .

قد حدث الموت في مكان اخر خارج نطاق زمن ( القصه ) أي قبل ان يكون عمر ( حازم ) عشر سنوات . رغم ان الجزء الاول من هذه النبؤءة جاء مخالفا لموت والد ( حازم ) في مكان اخر تحت عجلات القطار ، الا ان جزأها الثاني قد تحقق .

ج / تحليل خطية زمن حكاية :

لما كان النص الروائي قد كتب بعد انتهاء الاحداث كلها بعملية استذكارية تشبه المذكرات ، مع انثيالات غير منظمة لها ، فان نقطة الصفر في الزمن للقياس عليها ستكون هي اخر محطة زمنية في النص ، وهي زمن احداث العدوان الامريكي ، أي زمن الحاضر ( المستوى / آ ) . ويبدأ هذا المستوى في الثلث الاول من الفصل الاول (ص13) عندما تحاول ( علياء ) ايقاض زوجها من نومه عند بدا القصف الجوي المعادي .

لهذا ، فان ماورد من احداث ما قبل هذا التاريخ يعتبر من اللواحق ، وما بعده فهي من السوابق .

ان فحض صيغ زمن الحكاية قد توصل الى ان هذه الصيغ اربعة :

اولا :- زمن الحاضر ابتدأ من القصف الجوي المعادي في العدوان الامريكي. ( المستوى الزمني /أ ).

ثانيا : – زمن الماضي القريب (ويمتد بين نهاية القادسية وبداية العدوان الامريكي )( المستوى الزمني / ب )

ثالثا :- زمن الماضي ( فترة القادسية ) (المستوى الزمني / ج ).

رابعا :- زمن الماضي البعيد( زمن الطفولة ) ( المستوى الزمني / د ). اما صيغ الزمن في ( القصة ) – أي الزمن الطبيعي – فقد تدرجت حسب التسلسل الآتي :-

1 – زمن الماضي البعيد .

2 – زمن الماضي .

3 – زمن الماضي القريب .

4 – زمن الحاضر .

ولتحليل خطية زمن الحكاية لمعرفة المفارقات الزمنية والمفاصل التي تقف بين زمنين متنافرين ، سنختار القسم الاول من الفصل الاول ، لا لانه اطول قسم في الرواية فحسب ، بل لانة قد تجسد فيه التنافر بصورة حادة معقدة .

وقد كانت نتائج الفحص ، كما يأتي ( جدول – 1) :

 

من الجدول علاه ، يتوضح لنا تساوي زمن المقاطع النصية ( د ، ج ) التي تقع ضمن المستويات الزمنية ( 1 ، 2 ) من زمن القصة .

ان المقاطع النصية (د ، ج ) ماهي الا لواحق ، نسبة الى احداث زمن ( أ ) وهذا يدل على ان للماضي بنوعيه ( د ، ج ) تأثير كبير على حاضر الشخصية.

في المقاطع الشخصية ( 14 ، 17 ، 19 ) المؤشرة بالاسهم ذات الرأس المتجه  للاسفل ، ترد ( استباقات ) اما في المقطع النصي ( 14) المؤشر بالسهم ذي الرأس العلوي ، فيضم لاحقة واحدة .

اما نتيجة تحليل الفصل الثاني كما في الجدول / 2 ، فهي :

 

د – نتائج تحليل خطية الزمن

———————————- :

من خلال خطية الزمن ، يمكن التوصل الى النتائج التالية :

اولا: سرعة جريان زمن الحكاية :

ومن خلال النتائج اعلاه ، نرى:

1 – ان حازما قد روى قصته الممتدة على مساحة (27) عاما ، وبسرعة (4و12) يوم لكل سطر ، وهي سرعة عالية جدا ، ذلك لان حازما قد اسقط من قصة حياته فترات زمنية كثيرة ، وهذا ما سنعرفه بعد قليل .

2 –  روت علياء احداث قصتها الممتدة على مساحة (13) عاما ، وبسرعة (2و9) يوم / سطر . وعلى الرغم من ان السرعة هذه بطيئة نسبة لسرعة احداث قصة حازم الا انها سريعة ايضا .

3 – اما ناصر فقد كانت سرعة احداث قصته المروية بصورة سريعة ، الا انها كانت اقل سرعة من حكاية حازم ، واكبر من سرعة جريان حكاية علياء .

ثانيا : الحركات السردية :

ان تحليل تلك الخطية في زمن الحكاية سيعيننا كثيرا على تلمس اسباب مثل هذه السرعة ، وذلك من خلال التوصل الى نوعية الحركات السردية التي توزعت على طول تلك الخطية .

وقد توصلت نتائج التحليل الى ان هناك اربع حركات سردية استخدمها النص الروائي المفحوص ، وبعيدا عن الصعوبات التي تحدثنا فيها عن كيفية تحديد المقاطع الزمنية في النص ، يمكن القول : ان تأشير تلك الحركات يمكن الوصول اليه من خلال الرجوع الى المخططات التحليلية التي انتجتها هذه الدراسة لاكثر من قراءة للنص .

ولو اخذنا الفصل الثاني من النص – على سبيل المثال – ، وفحصنا مخططاته (التجريبية) لامكن تأشير ما يلي :

* ان زمن الاحداث – من بداية الفصل(ص33) وحتى نهايته(ص56) – يمتد على مساحة عشر سنوات ، ثمانية منها تمتد على مساحة طباعية من (ص33) وحتى (ص54) ، اما الصفحتان الباقيتان فقد خصصتا للسنتين الباقيتين (سنوات ما بعد الحرب العراقية الايرانية ).

* ان الحركات السردية التي احتواها النص ، هي :

1 – الاضمار(الحذف ) (ز ح  <∞ زق) (2/109) :

وهو: ((الجزء المسقط من “القصة”(4)اي المقطع المسقط في النص من زمن “القصة”… سواء نص السارد على ديمومة هذا الاسقاط ، كأن يقول “ومرت خمس سنوات “)) (5 / 89 ) ام لا .

آ – بين الفصلين الاول والثاني يحدث (اضمار ) لسنتين ، وهو من نوع الاضمار المذكور، اذ ان تعيين (علياء) قد حدث بعد تخرجها ، اي بعد سنتين من استشهاد (ماهر) على الرغم من ان التعيين قد تم الاعلان عنه في الفصل الثاني عندما حاول والدها اقناعها بعدم التعيين في محافظة جنوبية بعيدة .

ب – في القسم الثالث (ص38) تحذف (علياء) اربع سنوات من عمرها (بعد استشهاد ماهر) لم نعرف ما فيها من احداث ، اثنتان منها وهي طالبة في الكلية ، واثنتان بعد التعيين ، (هناك احداث قليلة تذكرها ، منهاتعيينها ، ورؤيتها لحازم) وهي من الزمن المضمّر المنوه عنه في النص .

ج – بين القسم الثالث والقسم الرابع ، هنالك اضمار لثلاثين يوما ، تذكرها (علياء) صراحة :((لم اشاهده منذ ثلاثين يوما)) (ص43).

د – في بداية القسم السادس (ص49) تذكر لنا ان خطبتها قد مضت عليها سنتان .

هـ – كذلك في (ص54) تذكر انه قد مرت على زواجها سنتان ، وبعد اسطر تقول :

((انهينا السنة الثالثة في الزواج والحرب))(ص54).

2 – المجمل (زح  < زق) (2 / 109):

وهو : ((سرد ايام عديدة او شهور او سنوات من حياة شخصية بدون تفصيل للافعال او الاقوال وذلك في بضعة اسطر او فقرات قليلة))(5 / 85).

ان فاحص زمن الحكاية في هذا النص ، يجده عبارة عن مجمل كبير ،وان المخطط التجريبي الذي انجزته الدراسة للفصل الثاني يؤشر اكثر من مجمل ، فالاحداث المدونة على الصفحات (38 ، 39 ، 40 ، 41) هي مجامل لازمان امتدت في (القصة) على مساحة ثلاثة اشهر. اما الصفحة (42) فهي مجمل لاحداث زمنها في (القصة ) ثلاثين يوما ، وفي الوقت نفسه ، نجد ان الصفحات (42 ، 43 ، 44 ،45 ، 46 ، 47 ، 48 ) هي مجمل لزمن مقداره شهرين . اما الصفحات (49 ، 50 ، 51 ، 52) فأنها مجمل لسنتين ، فيما الصفحة (45) هي مجمل لاحداث امتدت على مساحة سنة واحدة .

وان فحصا دقيقا للمخطط التجريبي لهذا الفصل يرينا ان داخل هذه المجامل مجملات اخرى ، من مثل :

آ – اختصار فترة ثلاثة اشهر في ستة اشهر . اذ تذكر انها قد زارت بغداد ثلاث مرات .

ب – يتقلص زمن فترة الزفاف من خمسة ايام ليكون في الحكاية في (14) سطرا، دون سرد لاحداثه .

3 – الوقفة (زح ∞ > زق) (2 / 109):

وهي : ((التوقف الحاصل من جراء المرور من سرد الاحداث الى الوصف ، اي الذي ينتج عنه مقطع من النص القصصي تطابقه ديمومة صفر على نطاق القصة))(5 / 86).

ان اهم ما يتصف به النص الروائي الذي يعتمد اسلوب التذكر ،هو عدم استخدام الوصف الا نادرا، لانه معني اساسا في تقديم الحدث ، كون الشخصية التي تدون الاحداث التي مرت بها ، ليس لها المزاج الكافي لان تصف ما ترى الا ما هو ضروري وله علاقة بالحدث المروي ، وان المخطط التجريبي يبين ان نصنا يخلو من الوقفة التي اساسها الوصف الخاص ، الااننا وفي بعض المقاطع السردية نلتقي بوصف قصير ممتزج بالحدث ولا يفترق عنه ،ذلك لانه يدخل في نطاق التجربة الحسية للشخصية نفسها ، وهذا الوصف لا يدخل ضمن مفهوم الوقفة ، وانما ضمن مفهوم المشهد .

4 – المشهد (ز ح = ز ق )(2 / 109):

وهي : المشاهد التي ((يكاد يتطابق فيها زمن السرد بزمن القصة من حيث مدة الاستغراق))(3 / 78).

ومن الامثلة على ذلك : الحوار الخاص ، على الرغم من بعض الشكوك التي يبديها بعض الكتاب حول ذلك (2 / 109)

واذا كان الحوار بين شخصيتين او اكثر يستمر لفترة زمنية محددة من زمن (القصة) ، فأن الزمن الذي يستغرقه من زمن (الحكاية) يساويه بالضبط ، اذا كان يخلو من اية توقفات زمنية طويلة .

اما النوع السردي الاخر من انواع المشاهد فهو الوصف . واذا كان المخطط التجريبي لهذا الفصل لا يحتوي على مثل هذا النوع ، فهذا لا يعني خلو النص الروائي بأكمله . فالصفحات (8 ، 13 ،21 ،83 ، 91 ،92 ،95) تحفل بمثل هذه المشاهد .

هـ – التواتر

—————:

بعد تحليل البنية الزمنية للنص حسب الترتيب الزمني بين ما هو عليه في (القصة) و بين ما هو حاصل في (الحكاية ) وكذلك حسب الديمومة (الاستغراق الزمني – 3 / 75 ) ، فأن السطور القادمة ستقدم تحليلا للبنية الزمنية حسب التواتر ، اي مجموع علاقات التكرار بين (القصة) و (الحكاية) ، او ((اجترار الحدث الواحد)) (2 / 129).

ومن المعروف ان هناك اربعة انماط من علاقات التكرار(2 / 130) وان النص الذي بين يدي هذه الدراسة استخدم ثلاثة منها ولم يستخدم نمط ( رواية اكثر من مرة ما حدث اكثر من مرة ) كون البنية الزمنية لهذا النص لا تتحمل مثل هذا النمط للاسباب التي جئنا على ذكرها في السطور السابقة .

ان انماط التكرار التي توصلت اليها تحليلات البنية الزمنية للنص ، هي :

اولا – حكاية تروى مرة واحدة ما وقع مرة واحدة :

اي ((الحكاية التفردية))(2 / 130). وقد حفل نصنا بمثل هذا النمط، ولا مجال لذكر امثلة لذلك لكثرتها .

ثانيا – ان يروى مرات لا متناهية ما وقع مرة واحدة :

او ما يسمى ((الحكاية التكرارية))(2 / 131). ومن الامثلة التي طبقها النص :

(1) تكرار رواية حادثة لقاء (حازم) بـ (ناصر) في البستان (ص 80 ، 85).

(2 ) اعادة رواية حادثة القصف واغماءة (حازم) (ص 8 ، 71 ،88).

(3 ) تكرار رواية حادثة الاب المفجوع بموت عائلته بالقصف (ص 30، 59).

(4 )  ثالثا – ان يروى مرة واحدة (بل دفعة واحدة) ما وقع مرات لا نهائية :

(5 )(1 ) تذكر (علياء) لقاءها مع (حازم) فتقول : ((توالت لقاءاتي مع حازم عبد الحميد …)) (ص 49) . اذ انها لا تذكرعدد المرات التي تم فيها اللقاء .

(6 )( 2 ) تذكر (علياء) انها زارت بغداد ثلاثة مرات في ثلاثة اشهر (ص 40).

(7 ) (  3 ) تذكر كذلك : ((تمضي ايامنا بمودة وحب ، عشنا الساعات واللحظات والدقائق ، صديقين حميمين يلمنا الليل وحتى ساعات متأخرة من النهار في بيتنا الصغير الذي اصبح ملاذنا الامثل لحياة جميلة ))(ص 53).

(8  ) ) 4 ) وكذلك قولها : ((مرت على زواجنا سنتان، كنت احلم خلالهما بطفل يعوض …))(ص 54) .

(5 )  وتقول كذلك : ((وفي يوم من ايام التجوال المعتاد بين العوائل التي ازدحمت …))(ص 80) .

و – التزامن

——————:

ان تحليل البنية الزمنية للنص الروائي لهذه الدراسة ، يبين ان تزامن حدثين او اكثر في زمن واحد يخلو منه النص ، ذلك لان النص قد اختار واصطفى بعض الاحداث التي ذكرها بسبب تأثيرها المباشر على الشخصية .

الا اننا نجد ان هنالك تزامنا حاصلا بين احداث النصوص الثلاثة التي يجمعها نص الرواية ،اذ ان المرتسم المذكور في فقرة (المفارقات الزمنية / الزمن الخارجي) يبين ان الاحداث التي مرت على(علياء) او (حازم) او (ناصر) قد تزامنت اغلبها فيما بينها.

نتائج عامة

—————– :

أ – من خلال الجدول /1 الوارد في فقرة تحليل خطية زمن الحكاية ، يمكن استنتاج الاتي :

ان التعامل الحاصل بين عدد مرات ورود المقاطع النصية (د ، ج) في النص ، يشير الى مدى التأثير الكبير للماضي على الشخصية ، اولا ، وثانيا ، يشير الى ان هذا القسم – وهو قسم استهلالي للنص – هو المكان الذي تبدأ فيه الازمان بالتحرك على مساحة النص كله ، فيما نجد المقطع النصي (ا) والذي يقع ضمن المستوى الزمني (4) يرد اربع مرات ، لانه زمن الحاضر ، زمن الانطلاق بالاستذكار .

ب – اما الجدول / 2 في الفقرة نفسهااعلاه، فأنه يبين ان الزمن المهيمن في هذا الفصل هو زمن الحرب العراقية الايرانية ، ذلك لما لاحداثه بالنسبة (لعلياء) من تأثير بالغ الاهمية عليها، اذ انها في هذه الفترة :

خطبت لـ (ماهر) ثم استشهاده ، وتعرفها ومن ثم زواجها من (حازم(.

ج – اما الجدول / 3 ، فيبين كذلك هيمنة زمن الحرب (المقطع ج) على حياة (ناصر) ، ذلك لان هذا الاخير راح يتحرك بين قطبين مهمين بالنسبة له ، هما :حازم وكميلة وعلاقته بهما كانت وثيقة ، وزمن تلك العلاقات هو زمن الحرب العراقية الايرانية .

د – ومن التحليلات السابقة ، والنتائج التي توصلت اليها ، يمكن القول ان المقطع النصي (ج) الخاص بالحرب ، هو المهيمن الكبيرعلى زمن النص وشخصياته ، لا لان الحرب قد امتدت لثمان سنوات فحسب ، بل لان الاحداث المهمة في حياة شخصياته قد وقعت في هذا الزمن ، فضلا عن اكمال بناء الشخصيات اجتماعيا فيه (الزواج وتكوين العائلة).

هـ – واخيرا ، فأن ما يمكن التوصل اليه بعد هذا التحليل لبنية الزمن في رواية زيدان حمود (حين تكونين مع الغيوم) هو ان زمن النص الروائي ، والذي يعتمد احداثا ممتدة على فترة زمنية طويلة يحتاج الى سعة اكثر من زمن الحكاية ، الا ان التقاليد الروائية الحديثة ، ولاسباب موضوعية ، كتراجع استهلاك النصوص الروائية من قبل القراء في زمن تطور وتقدم وسائل الاعلام المرئية خاصة ، وكذلك الحاجة الى الانتاج السريع (عصر السرعة) ، واسباب ذاتية لها علاقة بالمبدع وامكانياته الابداعية، لكل ذلك ، ولغيرها من الاسباب ، راح المبدعون يؤسسون تقاليد روائية جديدة ، اهمها قصر النص الروائي ، دون الابتعاد عن الشروط الفنية للعملية الابداعية .

الهوامش

———-:

1 –  من المعروف ان السنة الدراسية في العراق تبدأ في منتصف شهر ايلول من كل عام .

2 – الصحيح ثمانية اقسام ، ولا ارى سببا يدعو الكاتب الى عدم جعل القسم الاخير الذي افرده عن القسم السابع بنجوم ثلاث ، قسما مستقلا .

3 – هنالك نوع ثالث ، هو الاسترجاع المزجي الذي يجمع بين النوعين ، سنهمله في هذه الدراسة .

4 – بسبب سوء الترجمة ، يجعل مؤلفا كتاب (مدخل الى نظرية القصة ) مصطلح القصة (اي الاحداث الطبيعية) مقابلا لمصطلح (الحكاية) وقد قمت بتبديل كل مصطلح بأخر في كل فقرة اقتطعتها من كتابهما وردت فيها هذه المصطلحات .

المصادر

————–:

1 –  حين تكونين مع الغيوم – رواية – زيدان حمود – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 2000

2 – خطاب الحكاية – بحث في المنهج – جيرار جينيت – تر: محمد معتصم وعبد الجليل الازدي وعمر حلي – المجلس الاعلى للثقافة – ط2 – 1997 . ( الارقام المثبتة في متن الدراسة تدل على :الاول منها على تسلسل المصدر والرقم الثاني على رقم الصفحة) .

3 – بنية النص السردي – د . حميد الحمداني – المركز الثقافي العربي – ط2 – 1993 .

4 – بناء الرواية – د . سيزا احمد قاسم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1984 .

5 – مدخل الى نظرية القصة – سمير المرزوقي وجميل شاكر – دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد – 1986 .

 

 

 

 

 

 

” تراجيدية مدينة ” بين التاريخ والرواية

 

يقول المصور ناصر الجبلاوي احد ابطال رواية ” تراجيدية مدينة “:

))  تمتم : لو كانت أجاثا كريستي هنا لكتبت الحادثة رواية طالما توارى القاتل دون اكتشاف واتهم الابن والجارة وحارس المدرسة وتاهت خيوط الجريمة وعجز المحققون عن الوصول إليها .. لو كان آرثر كونان دويل هنا لكلَّفَ شارلوك هولمز ومساعده في اكتشافها متتبعا بعين الدهاء والخبرة والتحري الدقيق تفاصيل خطة ظنها المُطبِّق الجاني مُحكمة لتُكتشف وليس لأكبر متحرٍّ حاذق ركوب زورق الوصول واد راك المبتغى .. لو جاء الفريد هيتشكوك لأصدر أوامره للمصورين بتنصيب كاميراتهم من زوايا متعددة ووجه مصابيح البروجكترات لتصنع ظلال داكنة أكثر من المعتاد مُظهِرة وجوها وأشياءَ تربك فراسة المشاهد ، ولأخرج فيلما مثيرا يكتنف أحداثه الغموض ويحفز العين على التتبع لتقف واثقة على الجاني الحقيقي  )).

.وفي نهاية الرواية :

(( أما يوسف فظل معطوب الذهن ، متذبذبا ؛ يرى الناس هياكل من رماد تمشي وتجلس ، تأكل رماد ا وتنام على رماد .. ظل مُطوَّقا بجملةِ ذكريات بعضها يغرق في الزهو وبعض آخر حالما تنزل إلى ميدان الذاكرة يتسلل اليها لون الرماد : وقوفه وجها لوجه أمام شميران ) زهو ( ، ليلة اقتحام الحرس القومي غرفته في القسم الداخلي ) رماد ( ، شوقه لزيارة مكتبة مكنزي ومتابعته عناوين الكتب ( زهو ) ، ارتياح الدكتور الوردي له وحديثه عن مشاريعه القادمة ( زهو ) ، النصعاق لمشاهدة أبيه مقتول بشناعة ( رماد )، ضجر عبد العزيز القصاب وشكواه من تذبذب ناس المدينة ( رماد )، فصول ابن خلدون في نظرته للعرب ( رماد ) ، التعذيب في التوقيف واجباره على الاعتراف بقتل أبيه ( رماد ) ، غياب بائعة القيمر الشابة ( رماد ) ، سماع اعتراف قاتل أبيه وموته ( رماد )، مخبَّل والله مخبَّل // عايف دينه و رايح لستالين ( رماد) . ))

بين السطور الاولى للرواية والسطور الاخير ، يقدم الروائي زيد الشهيد مسردا تاريخيا لمدينة السماوة في حقبة زمنية عاجة بالاحداث الاجتماعية ، والثقافية ، والسياسية .

رواية ” تراجيدية مدينة ” ليست رواية تاريخية ، ولا هي بحث تاريخي يتايع الاحداث من مصدرها ، بل هي رواية ، تاخذ من فن الرواية اشتراطاته الفنية والفكرية ، وتاخذ من التاريخ بعض مرتكزاته و اساسياته ، ثم يدخل الروائي كل ما اخذه من التاريخ في مخياله الخصب لينتج رواية .

واذا كانت الرواية التاريخية نوع من الرواية التي يمتزج فيه التاريخ بالخيال ، فان هذه الرواية تضعنا على اعتاب التاريخ كمنظومة سردية ، وبالوقت نفسه تضعنا على اعتاب الرواية كفن سردي ايضا ، وبين الاثنين ( المنظومة ) و ( الفن ) تقدم رواية ” تراجيدية مدينة ” نفسها للقاريء.

رواية ” تراجيدية مدينة ” كتبت بقلم الروائي المتمكن زيد الشهيد ، وخرجت من مشغله السردي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دراسات اخرى

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النص والنقد …

 الروائي واالقاص محسن الخفاجي انموذجا

 

امتدت صداقتي بالمرحوم محسن خريش الخفاجي من عام 1967 ، الى ان انتقل الى العالم الاخر ، وقد نشرت عن نتاجه القصصي والروائي ثلاث مرات ، الاولى في جريدة الجمهورية في 1/ 2 / 1995 وكان عنوان الدراسة ( الشيطان في صورة ملاك – تعويم الموضوعة والتناول الخاص ) عن قصة ( الشيطان في صورة ملاك) المنشورة في ملف الاقلام في عددها ( 1 ، 2 ، 3 ) عام 1994 .

والثانية ، حين كتبت دراسة تحدثت فيها عن قصته (قناع بورشيا) ونشرت في مجلة الاقلام بعنوان (تناص الاجناس الادبية – قراءة تناصية في قصتين قصيرتين ) ، في العدد المزدوج /5-6 – عام 1993 ، وضمها كذلك كتابي ( الذئب والخراف المهضومة – دراسات في التناص) إذ ناقشت فيه قضية تناص نصه القصصي مع مسرحية ( تاجر البندقية ) لشكسبير ، إذ درستها من خلال الية التناص ، وخرجت باستنتاجات :

أ . ان النص المرجعي (المسرحية ) ليس بالنص المهيمن كلياً، وهذا ما يؤكده انتزاع النص الجديد ( القصة القصيرة ) من هيمنة النص المرجعي ، والخروج من اطاره والعودة مرة اخرى الى الواقع الآني ، كما انطلق منه في البداية.

ب . عدم تماهي الشخصية القصصية بالشخصية المرجعية كلياً ، فـ ( بورشيا ) عند الخفاجي ، لم تكن كما هي عند شكسبير .

ج . ان حدوث ( التناص ) اعتماداً على ثنائية القصة / المسرحية ، جاء لأغناء التجربة القصصية لدى القاص ، وكذلك تكثيفاً للرؤية عنده ، تحقيقاً لذائقة جديدة في ابداع النص القصصي .

والمرة الثالثة حين كتبت دراسة عن روايته (يوم حرق العنقاء) بعنوان(يوم حرق العنقاء – ملاحظات اولية في المكان والشخصية) التي فازت بالجائزة الاولى عام 2000 ،و قرأتها في الامسية التي اقامها الاتحاد العام للادباء / فرع ذي قار في وقت صدور الرواية ، ثم نشرتها على موقع النور.

قلت في هذه الدراسة ( ان ” يوم حرق العنقاء” صورة من صور الصمود والمجابهة العراقية ابان الصفحة العسكرية للعدوان الامريكي الثلاثيني خارج ساحات الحرب، وما رافقها من حصار ظالم ، وما خلفته تلك الصفحة من آثار مدمرة في البنى التحتية ، اذ لم يبق مرفق من مرافق الحياة العامة إلا وطاله العدوان ، فجاءت هذه الرواية لتصور جانباً من جوانب هذا العدوان وآثاره المدمرة .

الرواية تتحدث عن فترة العدوان العسكري الجوي على العراق ، ابتداء من 17 ك2 ولغاية انتهاء القصف الجوي (وربما قبل ذلك بأيام) ، تلك الفترة التي لم يبق شبر من الارض العراقية لم تطلها قنابر وصواريخ (البرابرة) كما تصفهم الرواية ، فضلاً عن المعاناة جراء الحصار الظالم بكل انواعه .

يختار الخفاجي بطلا سلبيا وبكل معنى الكلمة لهذه الصفة ، والسطور هذه تنطلق من فهم لـ ( البطل ) يعتمد الانسان العادي ، بعيدا عن الخصائص الجسدية ، او ما هو خارق للطبيعة البشرية ، التي يتصف بها البطل التقليدي ، ان كان في الروايات التقليدية ام كان في الاساطير والحكايات . ).

و تتوصل الدراسة الى خلاصة مهمة هي : اذا كان العنوان يوحي لمن يقرأ الرواية ، على ان ( العنقاء ) رمزا للشعب ، او للمدينة التي تدور فيها الاحداث ، الا ان خيبة امل القارئ كبيرة عندما يتعرف في الفصل الاخير على ان العنقاء هي رمز لـ ( مريم ) الحبيبة … و هذا من باب كسر توقع القارئ حسب نظريات القراءة الحديثة.

الرحمة والراحة الابدية للقاص والروائي محسن الخفاجي الذي ودعنا ، او نحن الذين ودعناه وهو في قمة ابداعه ، وستبقى كتاباته خالدة عبر الزمان وهي تحدثنا عن محسن الرجل الذي يعيش الحلم واقعا ، ويجعل من الواقع حلما ، هذا الحلم الذي لم يصب احد الناس مهما كان ، بشيء مضر .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اصدقاء :

 د. ضياء خضير ” ثنائيات مقارنة ” وسنوات الغربة

 

للنقد الادبي الابداعي اذا صحت التسمية في العراق تاريخ يربو على خمسين عاما ، اذ بدأ هذا اللون الادبي في ستينيات القرن المادي وبدأ يتلمس مناحي النص المنقود بحذر وحياء وكانت ادواته بسيطة بعد ان خرجت من مفهوم النقد كتقييم وتقويم ، ودخلت في مفهوم ان النص عالم يمكن تلمس دواخله بعيدا عن كاتبه ، ومن ضمن مناهج النقد المستخدمة هي النقد المقارن الذي يضع نصا عربيا وعراقيا مقابل نص اخر اجنبي ، ليجلو نقاط التناص والتأثير والتأثر فيه ، اي من الاجنبي الى العربي وبالعكس ، وظهرت دراسات لا بأس بعددها تنهج هذا النهج ، وهو منهج النقد المقارن .

اذكر انني كتبت مقالة قدمت فيها كتاب الدكتور ضياء خضير النقدي ( ثنائيات مقارنة – ابحاث ودراسات في الادب المقارن ) وقت صدوره ، نشرت في جريدة العراق في 6 ايلول 1994 ، والكتاب يعد لبنة في بناء الادب المقارن في العراق.

في هذا الكتاب يخرج المؤلف من معطف المدرسة الفرنسية للدراسات المقارنة ،ويدخل تحت معطف المدرسة الامريكية لها ، هذه المدرسة التي ركزت على النص الابداعي ذاته من خلال دراسة العلاقات الداخلية للنصوص المدروسة ، وتاتي تسميته لما تضمنه الكتاب من دراسات بـ ( الثنائيات ) لتؤكد على الفضاء الحيوي الذي يضم كل حقلين من حقول الثقافة والادب والفنون سوية ، إذ جمعت تلك الدراسات بين فن وفن ، وادب وادب ، وفن وادب ، اي انها تضع فضاء ابداعي مع فضاء ابداعي اخر ، ولا ينسى الناقد الحقل التطبيقي لكل دراسات الكتاب ، فهو مثلا عندما يدرس مسالة الترجمة من والى الفرنسية يجعل ميدان التطبيق لهذه الدراسة اعمال نجيب محفوظ المترجمة الى الفرنسية ، وعندما يدرس العلاقة بين الادب و المسرح ، باخذ من مسرحية ( العيطة ) الجزائرية ميدانا تطبيقيا للدراسة ، وفيلم ( مدام بوفاري ) للمخرج الالماني ( جون سكوت ) ميدانا لدراسة العلاقة بين الادب والسينما .

ومن خلال منحوتات الفنان علاء بشير وقصائد الشاعر يوسف الصائغ وفلم ( حلم انسان عراقي ) يدرس الثنائية المركبة بين النحت والشعر والسينما .

ويدرس كذلك علاقة التاريخ بالرواية في دراسته عن الرواية التاريخية .

و علاقة الادب و التكنلوجية ـ والمثقف والسلطة .

ان كتاب ( ثنائيات مقارنة ) كان الحجارة التي رميت في المياه الاسنة فحركتها .

ومن كتبه التي تناولت فنون الادب في بلدان مهجره منذ النصف الاول من تسعينات القرن الماضي ، كالاردن و عُمان صدرت له الكتب التالية :

– شعر الواقع وشعر الكلمات دراسات في الشعر العراقي الحديث من “منشورات اتحاد الكتّاب العرب دمشق – ” 2000

– الشعر الأردني الحديث

– حكاية الصبي والصندوق – الجنس عند غالب هلسة

– الابيض والاسود – في السرد العماني ونقده

– وردة الشعر وخنجر الاجداد – دراسة في الشعر العماني الحديث

– القلعة الثانية – دراسة نقدية في القصة القصيرة العمانية .

ومن ذكرياتي الجميلة والحميمة ، هي اني تعرفت على الاكاديمي والقاص و الناقد العراقي الكبير د. ضياء خضير في الناصرية عندما زارنا هو و المرحوم الشاعر عبد الامير معله رئيس الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق نهاية عام 1991 ، اوبداية عام 1992 ،للعمل على افتتاح فرع للاتحاد في الناصرية ، وقد استضفتهم في بيتي على العشاء برفقة بعض ادباء الناصرية ، وتوطدت العلاقة بيننا كثيرا .

د. ضياء خضير ناقد متمكن من ادواته النقدية ، كما انه قاص متمكن من ادواته القصصية ، وقد فازت احدى قصصة ، وكانت بعنوان (نسر بين جبال الثلج) ، في الجائزة الاولى في الثمانينات.

تحية لصديقي واخي الدكتور ضياء خضير ، واهلا وسهلا به في مدينته ، مدينة الادب والفن والثقافة ، مدينة الغبار والفقر ، المدينة التي يجري في منتصفها نهر الفرات وتشرب من نهر اخر ، نهر دجلة وهذه مفارقة كبيرة لم تحظ بها مدينة في العالم ، لهذا نجد كتابها ومثقفيها وادباءها وفنانيها يهاجرون منها الى بغداد او الى بلدان العالم .

 

أضف تعليق