مسيرة في جبال كردستان، يحيى سلو – يوميات مقاتل

WhatsApp Image 2020-06-18 at 9.57.50 PM
لتحميل الكتاب :
https://www.4shared.com/web/preview/pdf/oAKdULngea?
أو

لقراءة الكتاب
تابع للأسفل

*يحيى سلو
“مسيرة في جبال كوردستان”

(يوميات مقاتل)

مسيرة في جبال كوردستان
المؤلف : يحيى سلو-
نوع العمل :يوميات مقاتل-
رقم التسلسل : 84-
2020-الطبعة الثانية -حزيران –
تصميم الغلاف : ريبر هبون-
دار تجمع المعرفيين الأحرار الالكتروني-

https://reberhebun.wordpress.com/
واتس : 004915750867809-
بريد الكتروني-
reber1987@hotmail.com
reber.hebun@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف-

مسيرة في جبال كردستان
يوميات مقاتل
مقدمة الكاتب

عام 1998 وصلت مع مجموعة إلى مدينة ديرك (غرب كردستان)، للذهاب إلى مدرسة الحزب في سوريا، وحدث خروج الزعيم عبدالله اوجلان من سوريا، وبقينا هناك لعدة اسابيع، وكانت تلك المرة الاولى التي دخلت إلى مدينة منذ نزولي من السيارة عام 1989 وعبور نهر دجلة إلى شمال كردستان (تركيا)، بعد انقطاع لسنوات من الكتب والأدب، التي لم تكن تصلنا الا الادبيات الحزبية المنحصرة في تحليلات القائد اوجلان، فكنت متعطش للأدب، وخاصة الروايات من الأدب العالمي، حدث ان كنا في منزل احد مناصري الحزب، وفوراً سألت إن كان لديهم من الكتب الادبية، فكانت ابنة صاحب المنزل مدرسة، فأجابت: لدينا كتب وتحليلات القائد ..فقلت لها أي كتب المهم بعيدة من أدبيات الحزب… أدب عالمي روايات…فأجابت مستغربة من تأكيد لرفيق مقاتل على (ادبيات غير حزبية)، و بأن ليس لديهم من تلك الكتب (اضافت): ولكن هنالك كتاب جديد لأحد الرفاق المقاتلين اصدره الحزب، أنه كتاب رائع، هو يوميات مقاتل.
طالما لا يوجد طلبي فوافقت.. وإذ جاءت بالكتاب. حقيقة ليس بالكتاب بل بالمفاجئة.. لأرى أخيراً إن دفتر من يومياتي رأى النور وطبع ككتاب، ولهم انهم لم يصدقوا إن ضيفهم كاتب هذه اليوميات.. كانت لحظة لا تنسى.. لمقاتل بقي لسنوات في احلك ظروف الحرب منسي في تلك الجبال.
هذه اليوميات التي كتبتها صيف عام 1996 من بين المئات من الصفحات خلال السنوات التي خضتها كمقاتل في جبال كردستان، ملئ عشرات الدفاتر، منها يوميات ومنها كتب سياسية وعسكرية، من بينها كتب مهمة كمثال، كتاب عسكري تحت اسم (ثقافة البداوى في حياة الانصار)، وكتاب (دور الثقافة والمثقف ضمن ب ك ك) وغيرها.
من بين كل ذلك كصدفة لترى فقط هذه الصفحات النور، وذلك بوقوعها بين أيدي بعض الرفاق من المهتمين بالمجال الثقافي. اما الاخرى.. مع الأسف بقيت الكثير منها مدفونة في زوايا مخابئ الجبال، ظروف الجبال التي لا ترحم، فكان من الصعب ابقاءها في حقائبنا العسكرية التي كانت تعتبر حمل إضافي، ومن جهة اخرى ظروف المقاتل في حرب العصابات والتنقل الدائم سيراً على الاقدام، والبعض منها بكل تأكيد اتلفت نتيجة الامطار والظروف الطبيعية أو أكلتها القوارض، والبعض وصلت إلى ارشيف التنظيم وبفيت منسية او ربما مصيرها كغيرها التلف كالكثير والكثير منها.
لعل من أصعب المهام في تلك الظروف هو ان تحمل القلم، في حالة الكلمة الأولى والأخيرة كانت لفوهة البندقية ومتطلباتها.
لم يكن لي علم بنشرها، وبالأساس كنت ككافة المقاتلين، كل يوم كنا نصدق بأنه ربما يكون اليوم الأخير، ولكن كان من سابع المستحيلات أن أصدق بأن ترى كتاباتي يوماً النور، طالما عقلية التنظيم الشمولية التي كانت تلغي الفرد ودوره.
الرفاق الذي عملوا على الكتاب لم يكن يعلمون من يكون الكاتب، واكتفوا بذكر فقط اسمي الحركي (دوعان) الذي يأتي في اليوميات.
الكتب الوحيدة التي كانت تنشر وتترجم إلى العربية عدا بعض الكتب المتعلقة بمقاومة السجون من قبل حزب العمال الكردستاني، كانت فقط كتب الزعيم عبدالله اوجلان، وللحقيقة التاريخية بأن الزعيم اوجلان في السنوات الأخيرة قبل خروجه من سوريا ومؤامرة اعتقاله، كان بصدد تنشيط حركة ثقافية، كمثال كان يركز على الرواية.. فكانت هذه اليوميات كـأول كتاب باللغة العربية خارج كتب الزعيم.
بخروج الزعيم من سوريا وكان أيامها في روما، عدنا لعبور الحدود من خلال مدينة الموصل ومعسكر مغمور ومن ثم السليمانية وإلى جبل قنديل، هناك من ما جرى في أحد لقاءاتي مع مراد قرة يلان (الرفيق جمال)، ومن بين ما تطرق إليه معي هو موضوع هذه اليوميات، حيث قال: بأن الكتاب الذي كتبته.. هناك الكثير من التقارير وصلت إلى الحزب من انصارنا ويقولون ( إن الكتاب يسيئ إلى الحزب.. كونه يتطرق إلى ذكر الكثير من سلبيات الحزب وحياة الرفاق في الجبل…حتى البعض كتب: كيف يسمح الحزب بنشر هكذا كتاب..) ثم تابع: أعرف إن قلمك قوي وتستطيع الكتابة بشكل جيد.. ولكن عليك أن تنتبه إلى الحالة المعنوية للشعب.. علينا أن نرفع من معنوياته لا التطرق إلى الجوانب السلبية لنحبطها.. تابع الكتابة بتلك الطريقة… ركز على جانب الرفع من معنوياته دون التطرق إلى السلبيات.
بعد اعتقال القائد عبدالله اوجلان اصدرت قيادة الحزب قرار اعدام بحق كتاب هذه اليوميات، والقرار كان على الشكل التالي: (جمعه وحرقه). وبذلك يكون هذا الكتاب هو الاول ايضاً في تاريخ حزب العمال الكردستاني يصدر بحقه قرار الإعدام.
الكتاب كان قد توزع بشكل واسع، لا سيما في سوريا ولبنان وأماكن اللغة العربية، وأمر جمع كافة نسخه كان من المستحيل. علماً ان العشرات من المقاتلين والمقاتلات من الذين التحقوا بالجبل فيما بعد، كانوا فور وصولهم يبحثون للقائي، والبعض منهم كانوا يقولون: لقد اتخذنا قرار الالتحاق بالغريلا نتيجة تأثرنا بكتابك (يوميات مقات)..
خريف عام 2000 عندما تركت صفوف الحزب ونزلت من الجبال، تركت كل شيئ، حافظت فقط بعض الدفاتر التي كانت في حقيبتي. ومن بينها التي نشرته (رواية أنبعاث في اغوار الجبال) وهناك عدة كتب اخرى اعمل عليها بصدد نشرها.
في هذه الطبعة وبعد سنوات حدثت الكثير من الأحداث، راجعت اليوميات كما هي بقيمتها التاريخية كيوميات، اضفت فقط بعض التوضيحات والتعريف لبعض الشخصيات ومصيرها كهوامش، ليتثنى للجميع قراءتها، ليس فقط من الوسط التنظيمي والكرد.
الكاتب 2020
المانيا
المقدمة
مهما كان إحساسك مفعماً بالشوق لقضاء بعض الأيام في جبال كردستان، والتعرف على طبيعتها الأسرة، فإنك ستجد في هذه اليوميات، فرصة لإشباع هذا الشوق، بمختلف صور الحياة، و بكل ما فيها من المآسي والأفراح .
كتب الرفيق دوغان هذه اليوميات وهو في ساحة القتال، أثناء تنقله بين مواقع سريته على مختلف جبهات المعركة. ولم تكن هذه هي المرة الأولى ولا الأخيرة التي يكتب فيها دوغان مثل هذه اليوميات .
بل كان أول شيئ يتفقده في حقيبته أينما اتجة، وجود الأوراق والأقلام، لما ترسخ في ذهنه من أهمية هذه المرحلة التي تعيشها أمته .
و لم يكن ليدع حدثاً من الأحداث أن يمر من أمامه، من غير أن يشبع منه نظره، و يبحث في حقيقته ويلخص ذلك على صفحة من صفحاته .
و كان يرى في تلك المشاهد والأحداث، ما هو حري بأن تحتفظ به الأمة في ذاكرتها، سيما وأنها لاتزال حتى اليوم محرومة من حقها في أن يكون لها تاريخ، يحافظ على هويتها و يرسخ معالمها على ارطة الشعوب .
يعجب القارئ، متى كان يجد الرفيق دوغان الفرصة، لكتابة خمس و عشرين صفحة في ذات اليوم الذي يقوم فيه بتنفيذ أخطر العمليات الهجومية.. أثناء اقتحامه لجبل سنبل، مع أنه قائد المهمة، التي كلفته أن يسير في نفس اليوم عشرات الكيلومترات، بين تسلق الجبال والانحدار في الوديان الوعرة، و هو مثقل بالعتاد الحربي الكامل .
و لا ننسى هنا أن نذكر بحقيقة دوغان، التي يعترف هو بسلطتها على وجوده، و أنه في الدرجة الأولى فنان. لو خيروه كما يقول: بين أن يكون نابليون أو أن يكون الفنان دوغان، لاختار الثانية بلا تردد، و عندما تقف أمام لوحاته التي اصطبغت بشفافية روحه، فإنك لا تقف أمام لوحة أبدعتها ريشة فنان فحسب، وإنما تقف أمام قطعة من الحياة الصاخبة بالأحداث والألوان والمعادلات الطافحة بالجدل والحركة والإلهام .
و هو فنان إلى درجة معاقرة الفن، وفي اللحظات التي يفتقد فيها القدرة على تحمل الأحزان، لا يري سلواناً له يخفف عليه وطأتها، إلا أن يقلب دفتر رسوماته ويتشرب ما يرقد فيها من متع الجمال .
وكما يقول في هذه اليوميات، فقد كان إفراطه في العناية بهذه الموهبة، سببا لخرقه قواعد الحزب وتعرضه للاستجواب أكثر من مرة .
و مع ذلك فقد كان حتى في هذه الأثناء، ينتهز الفرصة ليرسم بعض تلك اللوحات، بالإضافة إلى قضاء معظم أوقاته بمطالعة أحدث الروايات وآخر تعليمات القائد .
و أينما وقفت من فصول هذه اليوميات، فستجد نفسك أمام فنان أديب، يرسم بقلمه ويكتب بريشته . . . و يهيجه ما يهيج الأديب و يأسره ما يأسر الفنان .
و لكنه مع ذلك كله محارب مر و قائد محنك .
و هو ليس محارباً في معركة، و لا قائداً عسكرياً في حرب عابرة، و إنما ثائر يعيش كل ما تعنيه الثورة من امتداد أعوام الحرب و ظلام أيامها .
و أكتفي هنا للتدليل على حضوره العسكري و أثره في فعاليات الجبهة، أن اللجنة التركية التي قامت مؤخرا بإعداد آخر خرائط المناطق الحدودية الكردية، سجلت على خرائطها المنطقة المعروفة بـ ( باب دوغان ). بنفس هذا الاسم، ظناً منها أنه اسمها التاريخي، بينما هو في الواقع الاسم الذي أطلقه المقاتلين على المنطقة التي كان فيها مقر دوغان .
كانت لهذا المقاتل الفنان، وقفات أمام سحر طبيعة كردستان وجمالها الآخاذ . . . و هو يوضح أنه اضطر وقوف تلك الوقفات، ليعدل من خياله القديم، الذي لم يكن مطابقاً لما بات يراه من واقع هذه الطبيعة الفاتنة .
و يقدم نماذج مختلفة، لتلك المفاجآت التي عاشها في اللحظات الأولى لرؤية تلك اللوحات . . و يستفيض في التفنن، بإبراز أدق الألوان التي امتلكت أحاسيسه، و فجرت متعته، مؤمناً أن مسؤولية الفنان والأديب، في الدفاع عن هذه الطبيعة المغتصبة، لا تقل أبداً عن مسؤولية المقاتل والمحارب في الكفاح من أجل حريتها وكرامتها .
ولم يكن متطفلاً على الفن و الأدب، عندما أقدم على حمل هذه المسؤولية، و هو على ساحة الحرب والقتال .
بل أثبت كل معاني الخبرة والاقتدار على مضاهاة، كبار الأدباء، في تصوير أعمق الانفعالات الروحية، و تحليل أعقد تناقضات الحرب والحياة .
و في الحقيقة، فإن دوغان بعمله هذا، ينحى بالأئمة، على الكثيرين من أدباء الكرد وفنانيهم، الذين وقفوا مكتوفي الأيدي، أمام ما تفيض به طبيعة كردستان من الإلهام، وما تعنيه حياة شعبهم من القسوة والمرارة.
فهو و إن كان نذر نفسه ليكون واحداً من أولئك المقاتلين الأشاوس والفن، إلا أنه لم يجد في ذلك ما يبرر له، أن يتهاون بمسؤولية الأدب والفن، اللذين حمل رسالتيهما جنباً إلى جنب مع رسالة الثورة والنضال، بل كان يرى فيهما أسمى أبعاد الثورة والحرب والحياة.
و ليس من الغريب أن يكون في أوساط الـ ( كَريللا ) الكثير من أمثال دوغان، بعد التحول العميق الذي شهدته الأمة الكردية مع مولد حزب العمال الكردستاني ( PKK ). الذي يقود الثورة الكردستانية المعاصرة، تحت راية القائد الوطني ( آبو )، و أضرب على ذلك مثلا، بما قاله دوغان في هذه اليوميات، عند حديثه عن الرفيق محمود ، قائد السرية الأولى في كتيبته – يوم / 25 / آب – قال : ( في تلك الأثناء كان الرفيق محمود أيضاً قد وصل إلى السرية ومعه عدة عناصر . . ولم أكن حتى الآن أعرف من هو الرفيق محمود، حيث كنت أسمع به وأتحدث معه على اللاسلكي فقط . . . فذهبت لاتعرف عليه .
و بينما أنا أنظر في وجوه الرفاق رأيت رفيقاً قديماً اسمه أيضاً محمود، فألقيت عليه نظرات التحية من بعيد، وأنا أبحث عن الرفيق محمود قائد السرية، لأتفاجأ فيما بعد أن الرفيق محمود قائد السرية الأولى هو نفسه الرفيق محمود الذي أعرفه مند أيام بوطان في ( كَارسا و بستى ) وهو من شرناخ . . . ولكن كيف يمكن تصديق هذا . . ! ؟ فقد تركته منذ سنتين وهو لا يعرف أن يركب كلمتين، فكيف تحول إلى قائد سرية بهذه المدة السريعة وأصبح بهذه الفهلوية، بحيث لم يخطر ببالي وأنا أتحدث معه طوال هذه المدة أنه محمود الشرناخي ) .
لقد كان دوغان في هذه اليوميات ينظر إلى كل اللحظات التي يعيشها الأنصار الكَريلها بأنها أسمى قيم الثورة، التي يجب المحافظة عليها في سجل الشرف .
و نحن أيضاً بدورنا ننظر إلى يوميات دوغان، على أنها أيضا إحدى تلك القيم التي يجب المحافظة عليها والنظر إليها بإجلال .
وتنبع قيمة هذه اليوميات، من أنها يوميات وليست ذكريات، وقد كتب دوغان كل صفحة منها وهو لا يدري هل ستكون الصفحة الأخيرة أم لا .
قبل المسير
منذ فترة طويلة لم أمارس الكتابة، إلا في الحالات الضرورية القصوى، أو الرسمية الروتينية، ككتابة تقرير أو ما شابه ذلك من الرسميات الأساسية .
حتى وصلت إلى حالة التعثر في تركيب الجمل، وبالأخص اللغة العربية .
وفي كثير من المرات . . . أجد نفسي مضطراً للوقوف، لكي أتذكر بعض المفردات اللغوية، و لاسيما في الحالة التي تخص من يفكر بلغة و يكتب بأخرى ، وهي ظاهرة عالمية تجبر الكثيرين من الذين يجيدون أكثر من لغة، أن يمارسوا التفكير بلغتهم الأم، ثم يقوموا بترجمة ذلك إلى اللغة التي يريدون الكتابة بها .
المهم .. مرة أخرى أنني وبعد الضغط على الذات لإقناعها ، . . . بحمل القلم ثانية، بدأت ألملم أفكاري للشروع بتسجيل ذكريات هذا المسير .
الحرب من الخيال إلى الواقع
سابقا وقبل إنضمامي إلى حياة الأنصار، كثيرا ما كنت أحدث نفسي، فيما إذا عشت بضعة أشهر في أجو ء الحرب، ماذا ستكون النتيجة ؟ .
مما جعل صورة الحرب ضمن هذا السؤال الآسر، ممزوجة في خيالي بالكثير من مشاهد أفلام الكوبوي والعنف، على الطراز الأمريكي، حيث لا ترى طوال الفيلم طلقة تطلق في الفراغ ، وهكذا كنت أتخيل، أنني وبتلك السهولة أستطيع مواجهة العدو تماماً، كأنهم جرذان متراكضة أو صفوف من الخراف متراصة من أمامك وأنت في موقعك المُحصن، تقوم بفتح نيران رشاشك عليها ، لتتساقط مثل الذباب .
لذلك كنت أتخيل الحرب وكأنها متعة من متع الحياة، وبطولة على طراز أفلام (رامبو)، فالموت المحقق فيها من نصيب العدو، وإذا أصابك فيها مكروه، فإنه لا يعدو أن يكون جراحاً طفيفة، وفي أصعب الأمور ستضطر للمكوث في المشفى شهراً أو شهرين .
في تلك الأيام، كنت أحاول قدر الإمكان أن أكون محارباً في الخيال، ولكنني لم أكن أستطيع حتى على الصورة الخيالية هذه، أن أتابع حمل السلاح أو أن أتخيله معلقاً على كتفي . . إن ذلك مستحيل . . مستحيل، و بعيد علي كل البعد عن منطق الوسط الذي أعيشه .
ولكنني – ولنترك ذكريات تلك الأيام – وجدت نفسي أحمل السلاح، وألبس لباس الأنصار وأقطع الحدود وأتجول في الجبال وأشارك في العمليات، أواجه العدو وأطارد حماة القرى(1)

. ولكن هل كل شيء انتهى؟.
بطبيعة الحال كان ما في خيالي، مختلفاً تماماً عن الواقع على الأرض والحقيقة شيئ آخر .
(عالم الخيال عالم جميل، تستطيع فيه نسج أي رواية تشاء، وعالم الواقع عالم جميل أيضاً ولكن جماله هذه المرة في أنه يقنعك أنه هو الذي يرسم أحداث الرواية في خيالك لا كما صورها لك )
إنها الحرب، وليست لوحة تتحرك الفرشاة عليها وفق مقاييس الجمال المرسومة في خيال الفنان .
إنها الحرب، تلك اللوحة التي يقوم فيها الخيال والواقع، بالتوقيع على إتفاقية لا تعرف المصير المجهول، الذي سيكون من نصيب أي واحد منهما في النهاية .
بل و لا تعرف ماذا ينتظرك في القريب العاجل، وأنت في غمار الحرب، تلك الصيغة التي ابتكرتها الطبيعة لتزاوج الحياة والموت .
هكذا قُدّر لي أن أدخل غمار هذه الحرب، بكافة أشكالها، و أن أواجه أبشع وقائعها، وفي الكثير من المرات، كنت أقف على قدمي لأستنشق هواءها بشكل عجيب، وأنا أتنفس الصعداء، وكأنني أقول : لقد تخلصت من خيالات تلك الحياة، التي عشتها قبل الإلتحاق بصفوف الثوار.
وباعتبار أنني كنت أطور خيالاتي، حسب طموحي في الحياة وأوجه كل إمكانياتي لأصبَها في بوتقة واحدة، وهي أن أكون في المستقبل واحدا من كبار الفنانين، لذلك كان هاجسي المستمر في بداية مزاولتي لحياة لأنصار، أنني طرف فيها ولست جزءاً منها، أتيت لكي أقضي فترة من حياتي ضمنها، وأتعرف على حقائقها وألم بالنواحي النفسية والمعنوية لأجواء المقاتلين، كأنني مجرد باحث أو صحفي صغير، أو كمن دخل الحرب ليطور مفهوم الحياة، مما أثر تأثيراً مباشراً على نواحي التطور في شخصيتي، وجعل شغلي الشاغل التفكير بضرورة الخروج من هذا الواقع، الذي زجتني به خيالات ناشئ، كان أقصى مناه أن يكون له وجود في عالم الفن .
في الشهور الأولى لإلتحاقي بحياة الأنصار، كنت أحس بصعوبة كبيرة في تخطي هذه المرحلة .
و أما اليوم وبعد مرور تلك السنوات، ومواجهة محتلف المصاعب التي تخص حياة الكريلا، بكل ما فيها من الصعود والهبوط، أصبحت أجهد ذاكرتي في تذكر أحوالي الروحية خلال السنوات الأولى من إنضمامي.
مسير ضمن المسير

المسير الجديد الذي سيكون ضمن المسير، هذه المرة نحو ( هكاري ). بعد فترة طويلة مرت، منذ دخولي إلى جبال ( جنوب كردستان – عراق ) في آواخر أيار ( 1994 ) .
تلك الفترة التي كانت من أصعب المراحل التي واجهتها، لما واجهت فيها من مصاعب الحياة اليومية، التي تعنيها حياة الكريلا والتي يتطلب التأقلم معها، التنازل عن الكثير من الخصوصيات الشخصية، مما جعلني أتعرض مرتين للإعتقال من قبل الحزب، بسبب إهتماماتي الثانوية وإنشغالي ببعض الرسومات، التي كانت تنسيني موقعي وأنا أتابع العمل فيها .
وهكذا في تلك الظروف، التي أختلط فيها كل شيء، وبسبب بعض الاقترابات الخاطئة، تعرضت للإعتقال لمدة شهرين في (هفتانين)، وبعدها في المقر المركزي لإيالة بوطان .
تعتبر تلك المرحلة مرحلة التعمق في صنع الشخصية بالنسبة لي، لأنني بعد الدورة التدريبية التي قضيتها في الشمال، كنت أعيش مرحلة من مراحل انغلاق الشخصية، إلى درجة كنت أشعر فيها بنوع من الموت الداخلي البطيء يكتسح شخصيتي، وكأنني انتهيت وأصبحت كبطارية فرغ منها طاقتها .
في خريف نفس العام عدت ثانية من المقر المركزي لإيالة بوطان إلى (هفتانين)، وبقيت فيها إلى الشتاء، ثم عدت إلى المقر في فترة إنعقاد المؤتمر الخامس للحزب، ربيع عام ( 1995)، حيث انتدبني المقر في مهمة لإدارة (مقر قطاع هفتانين). وفي فترة التمشيطات الفولاذية، التي تعرض لها القطاع، في ربيع نفس العام، من قبل الجيش التركي، بالالتفاف من الجهة الجنوبية عبر مدينة زاخو. بقيت فقط بعض وحداتنا القتالية والخفيفة. ولتخفيف القوات، قمنا بالتراجع نحو جبل سبـــي Sipî /.. إلى الجهة الشرقية من مدينة زاخو. حيث قضينا مدة حول قرية (زاويتا)، لننعطف من بعدها باتجاه (وادي هارونا) المشهور، حيث أيام الثورة ضد الجيش العراقي، كان مقر مهم لقوات البيشمركة بقيادة عيسى سوار وغيره.
و بعد إنتهاء عملية التمشيط التي استهدفت جبال هفتانين، بدأت قواتنا التي خرجت بالعودة إلى القطاع بشكل تدريجي، ونتيجة للفرز الجديد، تغيرت مهمتي، لأصبح قائد فصيلة في السرية التي بقيت في جبل سبي ، . . ولما كان الفرز في السرية، قد تم تشكيله من ثلاثة فصائل – فصيلتين للمقاتلين و فصيلة للمقاتلات – اتجهت مع فصيلتي ومجموعة من الرفيقات إلى جبل ( بى خير) .
و بعد فترة قصيرة ونتيجة للمفاهيم والأخلاق التي كانت قد تفشت ضمن السرية التابعة لهذه المنطقة، كان الأمر قد وصل إلى درجة وجود كافة أنواع المفاهيم والخصوصيات، عدا مفهوم وخصوصيات المناضلين، ونتيجة النواقص التي ظهرت تحت مسؤوليتي والتناقضات التي لحقت السرية ، تمّ تجريدي من المهمة وتكليفي بتقديم تقرير النقد الذاتي .
وباختصار، قمت بإعداد التقرير وكان من حسن حظي تكليف الرفيق (بوطان)(2) بمناقشة التقرير وتم الإفراج عني بإنعقاد اجتماع شكلي، آخذين بعين الإعتبار الاقترابات الفاسدة التي أوصلت الأمر إلى هذه الحالة .
وهكذا أكون لأول مرة قد تعرضت لهذا النوع من الإعتقال، نتيجة عدم معرفتي للقاعدة وللإقترابات غير الحزبية التي تتسرب إليها .
ولما كانت المسألة في أساسها مسألة أخلاقية، وتدور حول اسلوبي وتصرفاتي مع بعض المقاتلات، وبما لهذه المسألة من صلة بصميم الشرف الوطني، ورغم محاولة قائد القطاع المرة بعد المرة تقديم المبررات، لمن تخيل تلك الاقترابات الفاسدة، رفضت بإصرار أن أتجاوز ذلك، وبقيت مستمرا على النظر إلى مثل هذا النمط من الرفاقية بالازدراء والامتعاض، ولكنني مع ذلك وقفت لمراجعة اسلوبي وشخصيتي من جديد .
فمهما كانت الأسباب، لابد من وجود أسباب تعود إلى شخصيتي التي لعبت دورا جوهريا في سير الأحداث بهذه الطريقة .
لماذا أنا بالذات وما هي الضغائن التي بيني وبين كل هؤلاء ؟ ! . . .
لابد أن وراء ذلك سراً يقبع في شخصيتي أنا، وفي أسلوب و اقتراباتي.. وإذا أساء هؤلاء
إلى المفاهيم والمبادىء التنظيمية، فقد أسأت أنا أيضاً إليها بطريقة أو بأخرى .
لأن الضعف إلى هذه الدرجة . . . التي تجعل صورتك مهزوزة في عيون الآخرين، إساءة أيضا للمفهوم التنظيمي .
والذي يقع في تآمر الناس عليه، لا يختلف في الحقيقة عن من يشارك في حياكة المؤامرة .
وفي الحالتين أنت ستدفع الثمن، إن تآمرت.. لماذا تآمرت.. وإن تعرضت للتآمر… لماذا تعرضت له .
اتجهت إلى (هفتانين) مع مجموعة من الرفيقات وبعض الرفاق، وكما قالت الرفيقة سارة (ساكينة جان سيز)(3)، المكلفة بالقيام بمهمة القاضي العام للتدقيق في قضيتي – كنت على هيئة دراويش الصوفية. لحية طويلة وملابس مبعثرة، فلا حزام ولا جعب ولا سلاح، الله هم إلا المسدس المقدم إلي من الحزب كتكريم، على اثر نجاح عملية عسكرية نفذتها ضد الجيش التركي و حماة القرى عام 1993 في جبل هركَول.
وعندما أردنا الخروج من معسكر (وادي هارونا) قبل التوجه إلى (هفتانين)، اجتمع كافة المقاتلين ليقدموا لنا مراسم الوداع .
و لكنني تعمدت التأخر عن حضور هذه الحفلة إلى أن أنتهت مراسمها، وهكذا خرجت من المعسكر من غير أن أودع أحد، حيث كنت أعيش حالة من عدم التوازن، لا تساعدني على ممارسة تلك الشكليات و بالأخص عندما يجـيء الوداع كخاتمة لتلك الإقترابات العصبية .
في نفس اليوم الذي اتجهنا فيه إلى (هفتانين)، وقع إشتباك بين سرية من سرايانا في سهل زاخو، بالقرب من ( دركارى )، و كانت السرية قد تعرضت للكمين، من قبل وحدات من الجيش التركي، بقيت في المنطقة بشكل سري، لتنفيذ هكذا مهام.. و طلبت المساعدة، لذلك رجعنا إلى المعسكر لننطلق في اليوم التالي .
اتجهنا إلى (هفتانين) في اليوم الثاني، و لأول مرة عرفت دور الحزام وفائدته الحقيقية، عندما وصلنا سفوح المرتفعات الصاعدة إلى (هفتانين) .
بدأ ظهري يتعرض لوخرات الألم، وبدأت أشعر و كأن ظهري سينقطع إلى النصف، لذلك سارعت لأخذ كفية إحدى المقاتلات وحزمت بها ظهري. و في الصباح وصلنا إلى نقطة إنعقاد المؤتمر الخامس .
و لا أريد الدخول في التفاصيل، فالمهم أني بقيت في مقر القطاع حوالي عشرين يوما، حيث تدخل الرفيق ( بوطان ) و أغلق ملف المسألة .
و هكذا مرة أخرى حملت السلاح، و حزمت حزامي وجعبي، لانضم إلى إحدى الفصائل بدون مهمة. و بعد فترة قصيرة تم البدء بانطلاقة آب الثانية في ( 26 آب 1995) ضد قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني PDKلتكون أول عميلة أشترك فيها محاصرة مقر (دركاري) .
أخذت مكاني ضمن هذه الحملة، و تعرضت عدة مرات إلى الموت المحقق، فكنت في كل مرة أنجو فيها من الموت بطريقة تدعو إلى العجب، أكثر من التي سبقتها. مشاركاً في معظم عمليات ووقائع هذه الحرب بشتى أشكالها. إشتباكات.. عمليات فدائية ، كمائن ، زرع ألغام الخ ..
(طوال عام كامل) لم تستقر الإدارة في قطاع هقتانين، فتغيرت أكثر من عشر مرات، وفي كل مرة يجيء أحدهم، ليقترب حسب مفهومه من الفرز والقاعدة، وهكذا كنت في كل مرة من هذه التغييرات تتغير مهمتي، من ( موجه سياسي ) إلى (قائد فصيل) إلى (قائد مجموعة) .
و تحت وطأة ردة الفعل المتفاقمة جراء هذه الحالة، رميت بأقلامي ودفاتري، وبدأت أمارس الإقتراب، كأحد أبناء القرى ( لا أعلق ولا أنتقد وأنفذ ما كلفت به) .

في معسكرات الزاب

في بداية خريف ( 1995 )، كان مجــيء الرفيق جمال ( مراد قرة يلان) إلى هنا، في طريقه إلى الزاب – المقر المركزي لإيالة بوطان – وهو يحمل مهمة إحضاري أنا وبعض الرفاق إلى مقر الزاب .
وفي اليوم التالي توجهنا معه إلى الزاب، وبمرورنا بـ جبل ( متينا ). كان قد أعلن عن وقف إطلاق النار ما بيننا وبين قوات بيشمركة حزب الديمقراطي الكردستاني ( PDK ).
لذلك استطعنا أن نتابع بالسيارات من اسفل (سى مالكا)..على شكل مجموعات واتجهنا للنزول بالقرب من نهر الزاب، لدى جسر حديدي تعرض احدى طرفيه للتفجير من قبل قواتنا، ايام الاشتباكات قبل فترى. . . لم نكن نعرف ما ينتظرنا من المصير الجديد،
بينما كان اجتماع اللجنة المركزية قد انعقد، وأسفر عن تعيين إدارة جديدة للمقر المركزي، بسبب المشاكل التي أثارها الرفاق ( فؤاد ، زكي ، قره سو)، وكان إذ ذاك قد تجمع أكثر من خمسمائة مقاتل و مقاتلة في دورة تدريبية، وكمعظم المقاتلين القدماء، وبالأخص العائدين من إيالة (بوطان)، مرت الدورة دون أن نتحدث بكلمة، نتيجة بعض الاقترابات غير الحزبية التي مارسها الرفاق المذكورون آنفا، وفي مقدمتهم الرفيق زكي – شمدين صقاق.
بعد إنتهاء الدورة، تم ضمي إلى دورة جديدة بمهمة قائد فصيل. الأمر الذي كان بمثابة ترويض لتجاوز المفاهيم الحزبية.
في دورة الربيع وبعد مرور حوالي شهر، تمت التحضيرات لإنعقاد اجتماع المجلس العسكري. حيث كلفت بمهمة قائد سرية لمتابعة سير الدورة وفعاليات المقر، أنا والرفيقان ( أسكندر ، و إريش).
في هذه الفترة، استطعت أن ألملم نفسي، لأستعد مرة أخرى لجولة جديدة. بعد انتهاء اجتماع المجلس العسكري وانتقال فعاليات الكونفرانس الوطني إلى هذه المنطقة .
وبإنتهاء الاجتماع، كانت قد تمت التحضيرات لإرسال بعض الرفاق إلى ساحة القيادة (سوريا)، وكان قد اقترح اسمي في القائمة، باعتبار مرور سبعة أعوام وأنا ضمن الجبال، في ساحة الحرب ، ولكن أسفر النقاش عن استبعادي بعدما تجهزت لذلك .
ومرة أخرى تعرضت معنوياتي ونفسيتي للزلزلة، بينما بدأت حملة تمشيط واسعة في المنطقة .
و بعد انتهاء الدورة، عقد اجتماع عام أمام مقر القيادة، حيث تم إخراجي من بين الجميع، وتناقل الرفاق أن الرفيق (كمال سور(4) وهو من ابناء عفرين شمال غرب سوريا). جاء وسنذهب معا إلى ساحة القيادة ضمن ترتيبات المجموعة الجديدة .
و لكن الذي حدث مرة أخرى أنه تم التوقف ثانية على وضعي مما جعلني أحس أن ذلك لن يتحقق أبدا ولن ترى عيني تلك الساحة .
كان هذا التوقف من جهة وعدم معرفة المصير من جهة أخرى يزيدان الأمر حيرة وبالأخص تلك الأجواء الرتيبة التي تدفعك اللالتهاء بأي شيء حتى بالنوم ولا أحد من حولي سوى جدران المستشفي و الرفيق القديم منذ أيام الدراسة في الجنوب ( الرفيق صادق – نضال بدرو – قامشلي ) وما يتوافد على المشفى من الرفاق المرضى أو الجرحى في مناوشات ضمن عمليات التمشيط الأخير للجيش التركي على الحدود بين الحين والآخر ألتقي بعض الرفاق القدماء حيث أقضي معهم معظم وقتي .
وعندما أسأل الإداريين يكون الجواب: ماذا وراءك ؟ انتظر .. نم .. ارتح ربما للحزب مخطط وترتيب جديد لك، لماذا تستعجل .
وفي المساء كنا نقصي الليل بمتابعة برامج ( ( MED , TV على التلفزيون إلى أن انتقل مقر الرفيق فؤاد ( علي حيدر قايتان ) و ذهب بذلك التلفزيون أيضاً .
وفي تلك الأثناء كنت أترقب عودة الرفيق الرفيق جمال ( مراد قرة يلان ) وقد تم توزيع عناصر الدورة على الشكل التالي :
1 – حوالي سرية ألحقت بقسم التموين .
2 – فصيل ( الإستقامة ) لبناء الملاجئ والانفاق وغيرها من المهام .
3 – حوالي فصيل توجه إلى (جبل متينا) حول مدينة الآمدية (العمادية) .
4 – حوالي فصيل توجه إلى الكتائب الحدودية ـ أي التابعة لإيالة الزاب .
5 – بينما بقي فصيل، جميعهم بمستوى القادة (ضباط)، بدءاً من قادة المجموعات الى قادة الفصائل والسرايا، ومن بينهم استحدث فصيل كقادة (احتياطيين). حيث سيتحرك هذا الفصيل مع الرفيق (جمال)، بعد انتهائه من انعقاد اجتماعات الكتائب.

طموح الكريلا

عاد الرفيق (جمال) إلى المقر واتجه إلى مكان دورة تدريب الكوادر. مايزال القلق يزعجني، لماذا أوقفوني هكذا ؟.. وما هي الاحتمالات التي تنتظرني ؟.. هل سيتم إرسالي إلى ساحة القيادة ؟… ولكن هذا غير ممكن الآن، لأن المجموعة ذهبت، وإرسالي إلى كتائب الحدودية، أيضا غير متوقع، لأن الفرز والتوزيعات انتهت .
لم يبق إلا فعاليات (التنظيمية بين القرى والمدن) ومراكز النشر والإعلام، فربما من أجل هذه الأخيرة تركوني هنا. (هناك تنظيم المركز الثقافي في السليمانية، فهل يمكن أن يرسلوني إلى هناك ؟ ).. وهل يمكن أن ينظروا إلي بتلك النظرة ؟ . ولكنني بالتأكيد سأرفض بإصرار أن أكلف بمثل تلك المهام، وسأحاول بالتأكيد أن يكون هذا الرفض بمنتهى الاحترام. حيث سأضع نفسي في مقابل ذلك، لتقبل كل العقوبات التي يوجبها هذا الرفض، وليحدث ما يحدث، فلن أرضى إلا فعاليات الجبهة العسكرية، وكفي مارأيته في التشكيلات و المقرات التي أكلت رأسي وجعلتني كاللعبة، كل واحد يقترب منها بأسلوبه الخاص ويفرض عليها مزاجه ومفاهيمه.
29 حزيران 1996
في اليوم قبل الأخير من حزيران، وبعد الظهر، طلبني الرفيق (جمال) بعد انتهائه من انعقاد إجتماع التشكيلات. أنا والرفيق (خالد) ( والرفيق خالد رفيق قديم كان قائد قطاع في ماردين في نصيبين وهو من غرب كردستان، يزيدي) وتباحث مع الرفيق خالد حول مسألة زرع حقول من الألغام في القسم الحدودي .
قبل غروب الشمس، ذهبت إلى مكان إنعقاد إجتماع قوات التشكيلات، كان صوت الرفيق (رضا آلتون) بالتركية يأتي متقطعاً، وبعد انتهاء الرفيق (جمال) كان هو يتابع الاجتماع .
وفي فترة الانتظار، وقفت عند الرفيقة فاطمة، قائدة اتحاد المرأة الكردستانية الحرة YAJK ) ). بينما كانت جالسة في جوف ذروة صخرة، متكئة على ساعدها، وهي ببشرتها السمراء، وردّها التحية بابتسامة و إشارة من الرأس ، مكتفية بذلك عن الكلام، تدل على منزلتها من القيادة ومحلها من الرفيقات . . . ، وكنت قد عرفتها أيام إنعقاد كونفرانس المرأة في الربيع. حيث قمت هناك بعض التحضيرات لهن والمشاركة ببعض اللوحات من بينها صورة القائد بحجم مترين تقريبا .
و بصوت منخفض بدأت تسأل . . . إلى أين ؟ أين بقيت ؟. وما إلى ذلك من مثل هذه الأسئلة ، بينما أنا في حالة اللحظة الأخيرة لمعرفة المصير الجديد .
وبينما كان الرفيق (رضا آلتون)، يتابع حديثه حول القسم الشرقي من الوطن -ايران، وقيام الطائرات التركية بقصف بعض القرى، وقيام الشعب هناك بالمظاهرات ومهاجمتهم للقنصلية التركية في مهاباد، جاء الرفيق الإداري الذي لا أريد ذكر اسمه، وبإشارة من رأسه الشايب عرفت بأن الرفيق (جمال) يطلبني، بينما كان الرفيق جمال بجلوسه الهاديء كأنه تمثال مستقر، غارق في التفكير وقد أخذ مكانه منذ مئات السنين، لا أحد يستطيع زعزعته . . . ، التفاتات وقورة ونظرات عميقة، تعبّر بكل معنى الكلمة عن الثقة بالنفس .
وبأداء التحية وهو يصحح جلسته ويسند ظهره إلى الحقائب المحشوة والتي تأخذ مكان الوسائد. أشار إلي بالجلوس وبدأ يسألني عن وضعي .
– كيف حالك . . . كيف وضعك ؟
– جيد .
وبسؤاله الاعتيادي تقريباً :
– ما هي آراءك ؟ هل لك اقتراحات من أجلك ؟ . .
– ساحة القائد . . . فإذا لم تتم فأنا جاهز من أجل فعاليات الجبهة .
– حسناً ، هل عندك معرفة بجغرافية (جقورجة) .
– على ما أعتقد .. مهما كان جغرافيتها.. لن تكون أعسر من جبل هركَول ، وليس لدي مشاكل أو صعوبات تواجهني .
– يبدو أنك تختلف عن بقية الرفاق الذين كادت أعصابهم أن تتحطم في الشتاء المنصرم وهذا يدل أنك لم تضع نفسك في موقع المواجهة المباشرة .
– صحيح فالوضع لم يكن طبيعياً .
– ولكن يجب أن لا ننسى المباديء . . . (بابتسامة ومزاح) .
– لا أحد يستطيع أن يتلاعب بمبادىء ( PKK ) .
– حسنا ، منذ متى وأنت في ( الزاب) بالتحديد ؟
– منذ الخريف الماضي.
– متى.. منذ الخريف ؟ ( يبدو أنه قد نسي) ! .
– جئت معكم .
– معنا ؟ .
– نعم عندما جئنا ضمن مجموعة، حيث افترقنا عند نهر الخابور وتابعنا مع الرفيق (جلال الشرناخي) (5 ) إلى هنا .
۔ صحيح.. صحيح.. تذكرت . كيف تنظر إلى الوضع هنا.. وكيف مر هذا الشتاء حسب نظرتك ؟
– باختصار كل من لم يكن حسب مزاجهم كانوا يحطمونه حتى يتروض حسب نظرتهم بالتفصيل .
– كيف ؟
– كما يتم ترويض الحيوانات البرية لركوبها، وبالأخص مع القادمين من إيالة بوطان ، فالخطة أن يتعرض هؤلاء للتحطيم أولا.. ثم يتم إعطاؤهم الشكل الذي يريدونه .
– تدريب هذا الشتاء لم يكن تدريباً .
– صحيح ، كان التلاعب بالمشاعر يتم بطريقة مدروسة .
– المهم … هناك الرفيق (أردال) – هذا الرفيق أعرفه منذ عام 1990 وهو شرناخي – مريض ومكانه شاغر في طابور الرفيق (باهوز) وقد اقترح اسمك لتحل محله.. ونعتقد من الأفضل أن تبدأ بقائد الفصيل الأول، كمساعد قائد السرية.. ومن ثم تترقـى نحو الأفضل وضمن الواقع العملي، الأمر راجع إليك في أن تلعب دورك الصحيح في تسيير الوظائف والمهام اليومية ولكن إن وقعت هذه المرة فلن تستطيع القيام ثانية .
– بالنسبة لي المهة ليست مشكلة .
– لاشك.. فقد مرت عليك تجارب كثيرة وتجمعت لديك إمكانيات الابأس بها .
– حضرة الرفيق، كل ما وقع لي في السابق كان نتيجة قصور أسلوبي في الإدارة.. فأنا أواجه مشكلة أساسية في إدارة الأمور بصورة يومية.. وخاصة عندما تتضارب حلولها مع برامج الفعاليات، وربما كنت مصاباً بعدم التناغم الصحيح بين القدرة والادارة .
– صحيح ، صحيح انظر إلى الرفيق عباس (دوران قالقان) إنه يستطيع بتنظيراته ابتلاعنا جميعاً، ولكن عملياً لا يحسن الاستفادة من تلك القدرة.. مما اضطررنا إلى تحجيم مهمته من قيادة المقر العام إلى مستوى قائد قطاع .
– حضرة الرفيق لقد مرت السنوات الطوال ولم أجد حتى الآن المساعدة المطلوبة وحتى لم يتحدث إلي واحد من الرفاق القادة بهذا المستوى .
– كيف ؟ ألم نناقش معكم تطورات الفعاليات عام 1994 أيام الدورة التدريبية .
– صحيح ، ولكن كنت في وقتها أعاني من مسألة إنغلاق الشخصية.. حيث تعرضت كما تعلم أثناء تلك الظروف للاعتقال من قبل الحزب.. وليس هذا فقط بل طوال هذه السنوات انعقدت المؤتمرات والكونفرانسات والاجتماعات الأساسية ولكنني كنت بعيداً من كل ذلك فكيف أطور شخصيتي وأنا بعيد كل هذا البعد عن التطورات الأساسية .
– سنقف على هذه الأمور ولكن بالنسبة لك يجب عليك أن تتخلص من مرض التذرع بأخطاء الآخرين.. فالشخصية الضعيفة تلعب أكبر دور في تعريض أصحابها للمشاكل .
– لقد تفهمت هذه الناحية جيداً وسأقوم باستدراك ما في شخصيتي من التردد وعدم الثقة .
– من الواضح أنك استفدت من تلك التجارب ويظهر من كلامك أنك تفهمت هذه الحقيقة وأتمنى أن لا تقع في المشاكل مرة أخرى ولن نقصر معك فيما يقع على عاتقنا من المساعدة .
– أشكر لكم هذا الموقف وأرى أني على استعداد وجاهزية أكثر من كل المراحل التي سبقت .
– هل سبق أن التقيت مع الرفيق باهوز ( فهمان حسين)(6) في عمل من الأعمال ؟
– كلا .
– ستجد منه المساعدة الكافية ونحن سنتحدث معه أيضاً بخصوص أسلوب التعاون معك .
– ولكنني سمعت عن الرفيق ( باهوز) أن له مفاهيم غير صحيحة .
– كيف ؟
– انه يتخذ القرويين وأسلوبهم أساساً له .
– ولكنك تقول لم تلتق معه في مهمة من المهام ؟
۔ صحيح ولكنني أعرف خصوصياته منذ أيام فعاليات إيالة بوطان في(بستا ، كَارسا).
• صحيح ، ففي عام ( 1993 ) كانت مراصد العدو ومحارسهم من الحجر فوق وجه الأرض وكان رفاقنا يعرفون جغرافية توزعها وبمجرد بعض قذائف الـ (آر بج) كانت تتطاير . . فجاءت تعليمات شاملة للعدو تقضي بإزالة أي نوع من تلك الخنادق والإستعاضة عنها بحفر الخنادق في الأرض .
فالذي حدث أن الرفاق لم يطوروا حربهم وفق هذه الإجراءات وبدا النقص واضحاً من خلال تقارير فعاليات الجبهة بالمقارنة مع فعالياتها قبل عام 1993 . .
يمكن أن تبقى معنا في الفصيل الجديد إذا كنت ترغب بذلك، حيث سنقف على هذا الفصيل بشكل خاص وبنوع جديد من التدريب وإضافة دروس عن الحرب والفن والأدب . . . الخ .
– لا يهم أين أبقى ولكن من الأفضل أن أذهب إلى الفعاليات المباشرة .
– حسناً، ستكون هناك مساعد قائد السرية وستتوقف على الأمور اليومية المباشرة، وقائد السرية رفيق كغيره من الرفاق القادة، لا أعرف وضعه بالتفصيل ولكن يبدو تفوقه من الناحية العسكرية وتراجعه الملموس من الناحية السياسية واضح .
وهكذا نحن أيضا نكمل بعضنا بعضا من مستوى الإيالة وحتى ادنى درجات الإدارة . . – حسنا أنا على أهبة الاستعداد .
– هل تريد البحث في شيء آخر؟ .
– كلا . ولكن أولئك الرفاق الذين تعرضوا لتلك الضغوطات بحاجة للمساعدة .
– سنتوقف على ذلك فابق اليوم في السرية و غدا سنتحدث ثانية و إذا لم يكن لديك مشاغل يمكنك المجيء إلى المكتب في المساء لمشاهدة برامج ( MED , TV ) أنت والرفاق الآخرون إذا أرادوا .
و هكذا كان قد انتهى اجتماع التشكيلات وتعالي صوت كمثل الهدير من تداخل أصوات المقاتلين والمقاتلين مما ذكرني بأيام الدراسة في المراحل الأولى أثناء الفرص.
المقاتلين الذين لم يلتقوا منذ فترة طويلة، تجمعوا هنا وهناك، بينما الرفيق (رضا) جاء وقال: العشاء جاهز فهلموا إلى العشاء .
بعد تناول وجبة العشاء، صعدت إلى مقر الرفيق جمال. حيث مكثت عنده برهة قصيرة ومن بعدها خرجت إلى المهجع .
كان الآخرون أكثر مني تشوقا للأحداث، ليعرفوا مصيري ومسيرتي الجديدة .
أما أنا فقد خرجت في حالة تشبه الذهول، حيث لم أشعر بنفسي إلا وأنا أجثو على ركبتي، لأشرب من نبعة ماء صغيرة، وسط بركة قد اكتست أرضها بالحشائش، وتغطت بالأعشاب. فغسلت وجهي وتابعت إلى مقرنا في المشفى .
وقد حاولت جاهداً وأنا في الطريق، أن أتخلص من تضارب الاحتمالات، كمن يجرد غصنا من أوراقه وفروعه الجانبية، ليبقى أخيراً الفرع الأساسي .
وهكذا أخذت أركز كل خيالاتي وأفكاري للتحضير النفسي والمعنوي، من أجل هذه المسيرة .
وما إن دخلت المغارة، حيث المستشفى، حتى تحلق من حولي الرفاق ينهالون علي بالأسئلة .
الرفيق ( أردال): تأخرت كثيراً با دوغان .
– انظر يا رفيق (أردال): في عهود الإمارات و عندما كان يحل أمير مكان أمير.. هل تعرف ماذا كانوا يفعلون ؟ .
– لم أفهم ما تقصد ؟
– كانت تتم في الحقيقة عملية مضحكة من تبادل الأدوار، والعامل المعزول يتقدم بتسليم كافة خصوصيات الإمارة إلى الأمير الجديد .
– أفهم من ذلك أنك ستحل محلي.. (قال ذلك وابتسم ابتسامة العارف المتظاهر بالبلاهة) .
– سأذهب إلى مكانك وستذهب أنت إلى مكان آخر . . . إلى الجنوب الكبير أم إلى إيران لا أدري .
– هل تعرف الذي حدث البارحة ؟ ـ يتابع – تلك الرفيقة جاءت إلى غرفتنا وأخذت سلاحي وذهبت به بلا علم مني وأنا الآن كالمجرد من السلاح .
ثم توقف عن الحديث بنوع من الخجل والتردد حيث لم يكن يستطيع التعليق على ذلك بكلمة لأنه غير مطمئن للذهاب، ثم غير راض لتسليم سلاحه إلى غيره. حيث كان سلاحه من نو ( M16) و هو نوع من السلاح، لا يحصل عليه المقاتل بصورة هيّنة . وأضاف قائلاً : بالنسبة لي أنا موافق على إعطائك السلاح، ولكن الدكتور (صادق)(7) طلبه مني قبلك فإن تنازل لك عنه أعطيته لك .
وهنا تدخل الدكتور (صادق) بأسلوبه الفج الذي أثار اشمئزازي وقال : وهل ذهب ؟ ماهذا الكلام الفارغ ! .
فاتجهت أخاطب الرفيق (أردال) وفي مخيلتي اقترابات الدكتور المتعجرفة : لو أن الدكتور يذهب إلى ساحة الحرب لأعطيته كل مالدي، ولكن في هذا المكان أعتقد أنه لا حاجة به حتى إلى المسدس .
قلت ذلك وتعمدت الإسراع في الخروج لكي لا يجرنا الحديث إلى الإسفاف والهبوط،
و مباشرة شرعت بجمع ملابسي وتفقد حقيبتي وخاصة (كيس النوم)، الذي حصلت عليه. واتجهت إلى ساحة تجمع الفصيلة، حيث كان الرفيق درويش (وهو من أهالي بلدة بلبل – عفرين) وقد أعده القهوة لبعض الرفاق، وهو يريهم ما حصل عليه من القهوة من مركز التموين، لتكون معنا في مسيرنا الجديد عبر الجبال. حيث ستكون هذه الأشياء من قبيل النوادر .
و بينما كان العناصر يحتسون القهوة، كنت أتجول بين أفراد الفصيل. إن فصيلا من هذا الشكل العجيب و غريب.
الجميع من الكوادر المجربين والمخضرمين ضمن حرب العصابات. وكلهم بمستوى القادة .
لذلك يغلب على أحاديثهم طابع الانفتاح والموضوعية وعدم الحاجة إلى التحفظ، الأمر الذي لا تجده في كثير من التشكيلات وبالأخص عندما يكون الفصيل قد تجمّع من مستويات مختلفة، حيث تضطر في مثل هذه الأجواء أن تقترب ضمن رسميات التنظيم وعدم تجاوزها، مما تجعل الصور الحقيقية للرفاق تختفي.
أما في نموذجنا هذا، فالجميع بمزاجية واحدة، وهنا تظهر العجائب والغرائب من الاحترام المتبادل والمحبة والرفاقية الخالصة، والاقتراب التنظيمي الصميمي و المزاج الطيب والتفكير الممتع، وما يتخلل ذلك من التباري بتضييف لفائف الدخان الجاهز الذي نسميه ( الدخان السياسي).
فإذا حدث أن أحداً تلكاً في إخراج علبة سجائره، صاح به آخر: أخرج ما عندك يا حماة القرى .

30 حزيران 1996
في الصباح وبعد ليلة قضيتها كمعظم الليالي، بإبداء المقاومة في الحرب مع البراغيث والبعوض وبتغيير مكاني عدة مرات، وكأنني تماماً في الحرب، وخاصة ما حدث البارحة، حيث كان النوم في مكان شبه مغلق، لذلك ناورت بالخروج من تحت شجرة التين المتفرعة من الصخر، لأنام تحت وفي الهواء الطلق.
بعد الاستيقاظ – كمن لا عمل لهم في تلك المنطقة – تناقل المقاتلين نبأ احتمال التحرك، لأن الرفيق جمال سيتوجه إلى الطرف الآخر من الإيالة، بعد أن أنهي اجتماعات تشكيلات كتائب جبهة الجبل الأسود، فسوف يذهب إلى جناح (متينا) للقيام بنفس المهمة.
و حيث أنه لم يتأكد من ساعة التحرك، جلب أحد المقاتلين (كرة القدم) ونزل البعض منهم إلى حقل مهجور كان لبعض القرويين، على شكل أرض ملعب مناسبة للعب ، بينما انشعل القسم الآخر بتحضير جعبهم وحقائبهم . . . الح
كان أكل التوت بدل وجبة الفطور قد صار أمراً اعتيادياً، نظراً لكثرة أشجار التوت الضخمة في المنطقة، وبمجرد أن تهز أحد الأغصان، سرعان ما تتساقط عليك حبّاتها التي كانت بحجم الجوز – هذا إذا بالغنا قليلا . وترى الأرض أصبحت وكأنها الثوب المنقط،
وما عليك إلا أن تجلس القرفصاء وتتحرك في مكانك بشكل دائري، لكي لا تستطيع أكل المزيد.
و في الساعة العاشرة انضم الفصيل للاجتماع، بينما كان أحد الرفاق يقوم بترجمة كتاب (فن الحرب) لـ (تسو سوت).. الكتيب الذي كتب قبل ألفي عام عن فنون الحرب، التي لاتزال سارية بمفعولها وحقائقها حتى الآن، وقد قيل إن تطوير نظرية حرب العصابات من قبل الزعيم الصيتي(ماو تسي تونغ) كان بشكل مؤكد، على أساس هذا الكتيب .
قبل أن ننتقل إلى متابعة المسير الجديد، نسينا أن نتحدث عن الليلة التي قضيناها على صوت الرفيق (شاكر)(8) وأنغام بزقه الحنون وهو يتنقل ما بين مختلف المقامات و الأغاني العاطفية والثورية .
و لا سيما هذه الأغنية التي تبدأ بما ترجمته ( أنا سائر على هذا الدرب وعاشق لهذه القضية) .
أو الأغنية المشهورة في الأوساط الكردية والتي مطلعها ما ترجمته :
( إنك ظالمة وغادرة يا حبيبتي
أما آن لك أن تتحرري) . . .
و كانت حنكته الفنية تكمن في قدرته على مخاطبة الروح وتوجيه الحالة النفسية بالضرب على الأوتار الحساسة والكشف عن نقاط الضعف.
لذلك تراه لم ينسى الأغنية التاريخية في الفلكلور الكردي المعروفة – باعتبار المسير نحو هكاري ـ بـ (جبلي أمير هكاري) .
بعد الظهر وصل أحد الرفاق من مكان تمركز إدارة المقر واسمه (آيهان) – وقد كان هذا الرفيق قائد فصيل في سريتي أثناء التدريب – وقال :
– هيا لنذهب… هل أنت جاهر ؟
– إلى أين ؟
– إلى كتيبة الرفيق (باهوز) .
– هل أنت أيضاً ستذهب معي ؟
۔ بالتأكيد، الآن تحدث إلـي الرفيق (جمال) بأنني سأذهب أيضاً ولكن إلى كتيبة الرفيق ( كاظم – حاملي يلدرم).
– ولكنه قال سنتحدث ثانية.
– نعم أخبرني بذلك وقال : لقد تحدث عن وضعك مع الرفاق وهم الآن ينتظرونكم.
حزمت حقيبتي وسألت عن نقطة تعسكرهم، وإذا بمجيء مجموعة من نفس الكتيبة، بينهم مقاتلين أعرفهم، ولاسيما الرفيق (معصوم) (وهو من الجنوب كان قائد قطاع في إيالة ماردين وأثتاء مجيئه إلى هذه الساحة منذ العام الماضي تلاعب البعض به وأوقعوه واعتقلوه تحت اسم المفاهيم والأفكار غير الحزبية، و لكن الأمر لم يكن كذلك بل كان مزاجية مطلقة، و كنا معا منذ ايام كَارسا في أطراف مدينة سرت وفي مناطق اطراف شرناخ) . معهم بعض المقاتلين المرضى الموفدين للعلاج .
وفي تلك الأثناء اتجهت إلى مركز التموين لاستلام التعيينات اللازمة لمدة تحركنا.
و نقطة التموين كالعاداة، كأنها قرية عامرة، مجموعات في الذهاب وأخرى في الإياب وعلى طول الطريق إليها تلتقي بالبغال المحملة والعائدة من تفريغ الحمولة و أينما اتجهت رأيت مجموعات مختلفة تلك بايديها الرفوش والمعاول وهذه يتصبب منها العرق في استلام وتسليم المواد التموينية وأخرى منهمكة في إعداد الطعام اليومي للفصائل القريبة.
وبعد العودة إلى المقر كان معظم الرفاق قد حضروا للتو لتلق دروس التدريب العسكري بما في ذلك الإدارة والقاعدة بينما اتجهت أنا الأنعام التحضيرات اللازمة للمسير،
و في الساعة التاسعة مساء، انطلقنا مروراً من نقطة قاعدة التدريسية، بجانب نهر الزاب في الوادي العميق والتي أصبحت جزءا من الذكريات، بينما كان التلفريك المستخدم للتنقل بين ضفتي النهر في إنتظار الرفاق، وهو (تلفريك) متواضع، عبارة عن صندوق من حديد يتسع لشخصين، قد أحكم تماماً بالكيلات الحديدية الواصلة ما بين ضفتي النهر، وفي الضفة الأخرى من النهر، هناك أيضاً تلفريك آخر، بحيث يستخدم أحدهما للذهاب و الأخر للإياب.
وهكذا وصلنا بقطع نهر الزاب إلى مشارف وادي (شيفى). حيث تعسكر السرية التي فرزنا إليها، وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية عشرة ليلاً، بينما كان معظم المقاتلين فيما عدا الحرس قد غطوا في نوم عميق.
في تلك الساعة المليئة بالتوقعات، جلست على ناحية من الرفاق استرجع ذكريات هذه المرحلة، (منذ الخريف وحياتي شبه متوقفة عن الحركة، وها قد بدات بالمسير من جديد ضمن هذه المسيرة الطويلة، ولكن هذا المسير الجديد، لابد أن تكون معه أشياء جديدة، ويبقى السؤال الذي لا يفارق الخيال ماذا سيكون هذا الجديد ؟ ! ).
المسير سيكون باتجاه هكاري في مرتفعات جبل سنبل، على منحدرات (نهر الزاب)، المناطق جميعها مصايف الكرد الكوجر – البدو – (زوزان) و أول ما يخطر على البال في مثل تلك المرتفعات، البرد القارص، الذي طالما ذقت قساوته في الأيام الفائتة، وقلما يوجد مقاتل في صفوف الأنصار، لم يتعرف على هذه الحقيقة.
و لكن الذي يتاقلم مع اجواء تلك المرتفعات، سرعان ما يشعر بالفارق الملموس في بنيته الصحية، حيث يصبح مثل الفولاذ، لنقاء هوائها وسلامة أجوائها من ملوثات البيئة.
ها أنذا أنضم إلى سرية جديدة ، وكأني مقاتل حديث يتعرض لفرز جديد ، لابد أن أول ما يشغل باله هو وضع رفاقه الجدد، وبالأخص الإداريين.. من هم.. وما هي خصوصياتهم وكيف تكون اقتراباتهم.. وبالدرجة الأولى قائد السرية و أسلوبه ومؤهلاته؟.
وقد استطاع الرفيق (معصوم) أن يعطيني صورة ملخصة عن واقع السرية وحسب ما أوضح لي فإن وضع السرية لابأس به.
كانت تلك التساؤلات جميعها تتمحور في ذهني حول تدابير الخطوة الأولى، لأن الخطوة الأولى في أي مجال تخوضه هي التي تتحكم بكل الخطوات التالية من بعدها، فإذا استطعت الانضمام بصورة صحيحة، فإن كل النواقص و الأخطاء فيما بعد يمكن تلافيها، وإذا انضممت بصورة فاشلة، فإن كل ما تقوم به من الأعمال المتميزة فيما بعد، سينظر إليه من إطار تلك الصورة.
(و أعتقد أن الشخصية الكردية بالذات، متشبثة بهذا القانون، بطريقة تميّزها عن كثير من الشعوب، لما تخضع له من الأحكام القاسية، التي تنصها شروطها التاريخية وواقعها الاجتماعي ومناخها الطبيعي، حيث تتضافر كل هذه العوامل لتجبر الشخصية الكردية على أن تكون ضحية العجلة وعدم التريث في كثير من مواقفها وآرائها).
وقد تنبهت إلى هذه الظاهرة من خلال ملاحظاتي المتكررة لآثارها في صفوف الأنصار ، فترى لكل مقاتل انطباع مُعمّم في نفوس الرفاق، يتعلق هذا الإنطباع في الحقيقة، بالطريقة الأولى التي تم التعرف بها عليه أو بالحدث المهم الذي ارتبط به اسمه، فإذا طرق اسم مقاتل مسامع الرفاق في المرة الأولى، بأنه محارب شجاع أو سياسي ماهر، فيكفي أينما ذهب هذا الرفيق، لتكون النظرة إليه من خلال هذه الشهرة.
و إما إذا طرق اسم أحدهم مسامع رفاقه بعكس ذلك، فإنه حتى لو قام بما لم يقم به ( رستم زال) فستبقى النظرة إليه أينما ذهب من خلال ذلك لاسم.
وكما يقال في الأمثال العامية (طلوع الروح من الجسم ولا طلوع الاسم).
1 تموز 1996
في الصباح، وهو اليوم الأول من تموز، استيقظت متاحراً نوعاً ما، بينما الشمس لم تكن قد أشرقت، أضف إلى ذلك، أنه في هذا الوادي العميق، لا ترى الشمس إلا في ساعات الظهر، وكان ذلك أول صباح لي في السرية الجديدة .
وفي الاجتماع قام الرفيق (باهوز) مع قائد السرية الرفيق (روزهات) بتقديم مراسيم تحية الاستقبال لنا.
قائد السريه روزهات وهو من جنورجه، أعرفه معرفة سطحية، حيث لم يتم تعمق الحديث بيننا من قبل، فكل ما في الأمر، أننا كنا معا في دورة التدريب في الشتاء الماضي، وقبل أيام كذلك التقيته في المشفى، حيث كان مصابا بالملاريا.
بدأ (باهوز) بالحديث وكان واضحاً من حديثه، أنه يزن الكلمات ويقيسها قبل التفوه بها، فبالرغم من معرفتنا لبعضنا منذ فترة طويلة، كان هناك نوع من التحفظ في الحديث وبدا لي أن تحفظه مبني على افتراضه الخاطىء، أنني سأكون مغتاظاً من تفاوت المهام، مع أننا أبناء دورة واحدة.
و لهذا الموقف، ما لا يحصى من الحالات المشابهة في شتى نواحي الحياة، حيث يلتقي زملاء الدراسة، يحملان الشهادة الواحدة وقد تخرجا من جامعة واحدة، ولكن العلاقات الخاصة جعلت أحدهما يحصل على كرسي الإدارة، بينما نسيت الآخر ليكون مجرد موظف يعمل في غير اختصاصه.
فكيف يكون الاقتراب بين الزميلين في هذه الحالة، (الاقتراب حسب الرسميات والشكليات يفقدهما الصداقة، والاقتراب بالأشكال الأخرى يفقدهما الاحترام).
بهذه الحيرة والارتباك كان الرفيق (باهوز) يدير الحديث.
و في الواقع أنا أيضاً كنت أعاني ذات الحالة النفسية، ولكن شيئاً فشيئاً استطعت إزالة هذه الحواجز، وبدأ الرفيق ( باهوز ) بالسؤال عن أحوالنا.
– لقد تأخرتم البارحة فلماذا لم تأتوا باكراً . ؟
– كان ذلك بسبب انتظار دورنا في أخذ مخصصاتنا من مركز التموين، حيث كان الازدحام بشكل غير متوقع.
– هل تحدث الرفيق (جمال) معك ؟
– نعم ، ولكن ليس بالتفصيل.
– بخصوص مهمتك مثلا ؟
– كلا باعتبار أنه اتفق معكم.
– حسناً ستبقى هنا، بينما سأذهب أنا إلى كتيبة الرفيق (كاظم) لقضاء مهمة مستعجلة وبعد ذلك نتابع الحديث .
– كما تريدون.
و هكذا كان الاستقبال قصيراً، بينما نظرت إلى المجموعات، عندما تجولت في النقطة، فكان لابد أن أرى في كل مجموعة بعض الوجوه التي أعرفها، وبالمقابل فإن أغالب الذين لا يعرفونني يتوقون إلى معرفة هذا الرفيق الجديد الذي انضم إلى حياة سريتهم، وكل واحد يسأل: من هو ؟ ما هي مهمته ؟ كم ستكون إقامته بيننا ؟ إلى ما هنالك من هذه الأسئلة.
بعد تناول وجبة الفطور، والتي غالباً ما تكون (شوربة العدس)، تم جمع الإداريين مباشرة، حيث انضممت إلى هذا التشكيل الإداري كعضو جديد، وهو على الشكل التالي :
1 – روزهات : قائد السرية .
2 – أنا : قائد الفصيل الأول مساعد قائد السرية .
3 – توفيق قائد الفصيل الثاني – وهو من جقورجة – .
4 – جيهان قائدة الفصيل الثالث المؤلف من الرفيقات.
5- بالإضافة إلى قادة المجموعات .
كان الاجتماع قصيراً، حيث عقد من أجل التعارف، وإسناد المهام الجديدة بين الإداريين، وفي صدد توزيع المهام تحدث قائد السرية عن المكان الشاغر الذي سأملؤه، بينما قاطعته إحدى الرفيقات بقولها: أرى من الأفضل أن تسند للرفيق دوغان مهمة التدريب.
نظرت إلى تلك الرفيقة فلم تسعفني ذاكرتي في التعرف عليها، ولكن يبدو أنها تعرفني، لذلك اعتبرت المسألة أمرا عادياً دون إعطائه شيئاً من الأهمية.
وهكذا تم توزيع المهام، وتغيير أسمائنا في الشيفرات اللاسلكية، لتكون على النحو التالي :
1 – قائد السرية (روزهات) مسؤول المالية، اسمه على اللاسلكي (جيلو) .
2 – أنا مسؤول التدريب اسمي على اللاسلكي (جمعة)
3 – توفيق مسؤول الاجراءات الأمنية، اسمه على اللاسلكي (جسور).
4 ـ الرفيقة جيهان مسؤولة التموين، اسمها على اللاسلكي (نورحق).
و بذلك كان الإجتماع قد انتهى، حيث تحدثت أثناءه بشكل مختصر مع قائد السرية عن أوضاعها بشكل عام، وأوضح لي أن السرية شكلت من جديد، وأن معظم المقاتلين لا يعرفون بعضهم، وأما بخصوص مشاكل السرية، فقد تم إبعاد كل العتاصر الذين تسببوا باحداث القلاقل في بدء تشكيل السرية، باستثناء اقترابات بعضهم السطحية التي يمكن تجاوزها بطريقة بسيطة.
و في الظهيرة، انحدرت إلى سفح الوادي، حيث وجود بركة تتجمع فيها المياه المتدفقة من المرتفعات، بينما جو تموز الخانق والشديد الحرارة ضمن هذا الوادي المغلق، يزيد من ضغط الحرارة، حيث يتصبب العرق منك كيفما تحركت، وبالرغم من وجود الأشجار السامقة والمتشابكة، فإن الجلوس في ظلها لا يغني في اتقاء هذا الجو.
و بعد برهة قصيرة تفاجأت بنزول معظم العناصر للسباحة والاستحمام في البركة وإذ هذه عادة السرية، منذ انتهاء عملية التمشيط الأخيرة كل يوم .
مساءً وفي الساعة الخامسة بعد الظهر، كان الجميع يحزمون حقائبهم على عجلة من أمرهم، متداخلة أصواتهم في تحضيراتهم بطريقة تثير المتعة.
– لا داعي لجلب صاج الخبز.. يوجد العديد منها في كافة النقاط التي سنتوجه إليها .
– ماذا نفعل بهذا التبغ الفائض ؟
۔ اجلبوه كله.. فلا يوجد تبغ في طريقنا .
– ماذا نفعل بهذه الكتب ؟ .
– و زعوها على الرفاق فسوف يحتاجون إليها في أوقات الفراغ .
– حملي ثقيل لم أعد أستطيع حمل المزيد .
– هل أصطحب هذا الفيللت معي ؟.
– أكيد ، أكيد ، فإن برد ( الزوزان) سيجعلك تندم على تركه.
و على هذا النحو من الجلبة تكون العادة، عندما يقوم الرفاق بالتحوّل من نقاط تعسكرهم، بينما فصيل الرفيقات كان قد خرج من بين الأشجار المتشابكة إلى ساحة مفتوحة، وهن ينظرن بشكل واضح إلى هذا الرفيق الجديد.
حاولن (الدبكة) قليلاً بدورهن، لما رأين الرفاق قد تجمعوا في حلقة الدبكة).
و لكن سرعان ما انفضت تلك الدبكة بسماع إيعاز الاجتماع، حيث اصطف المقاتلين والمقاتلات على شكل فصائل متتالية، مرددين الشعار المعروف ( بالروح بالدم نحن معك يا قائد).
بدأت السرية بالتحرك، بينما تخلف أحد المقاتلين لإلقاء نظرة أخيرة على النقطة وأماكن المجموعات للتأكد من عدم نسيان أي شيء.
و هكذا شرعت في المسير الذي لم أمارسه منذ فترة طويلة، وقد علمتني التجربة، أن الساعة الأولى من ساعات المسير، هي أصعب ساعاته إلى أن ترتفع درجة حرارة الدم، ويبدأ القلب بالخفقان وفق ضربات حركة المسير.
(عند البدء بالمسير تشعر بنوع من الضيق والاختناق وشيء من الوخزات في القلب ، أما بعد مرور الساعة الأولى فيخفق القلب بشكل طبيعي، عند ذلك تقول : ليستمر المسير ماشاء له أن يستمر فلا يهم ) .
ها نحن نخترق (وادي شيفى)، هذا الوادي الضيق السحيق الذي يشكل اشقا فاصلا بين (كورى جعرو) و (جيايه رش)، وعلى طول امتداد هذا الوادي، وبين مسافة وأخرى هناك آثار نقاط تعسكر للرفاق، منها ما هو جديد، ومنها القديم ومنها ما يعود إلى بدايات الثورة .
و بين الصعود والهبوط تعترضك أماكن لا مجال فيها لوضع الأقدام، لتجد أن الرفاق قد تلافوا ذلك، بمد جذوع الأشجار كجسور على النهير، لتغيير الطريق مرة على اليمين ومرة على اليسار لإنجاز المسير بأسرع طريقة، وهذا يعني أن الدواب – البغال والحمير – لا قدرة لها على السير في هذا الطريق الوعر الضيق.
استمر الصعود، نصعد ونصعد، وعلى ضفاف الوادي تتصاعد روائح الدخان والحريق، نتيجة حرق الغابة أثناء التمشيط، حيث كانت حملة التمشيط قد عسكرت أياماً في هذا الوادي، ثم اضطررت للانسحاب منه، فأضرمت فيه النار بطريقة وحشية. وقرى هذا الوادي كمعظم القرى المهجورة على الخط الحدودي، حيث لم يبق منها إلا آثارها، بينما بساتينها ولاسيما الأشجار المثمرة – كالتفاح والتوت والخوخ والعنب . . . الخ ـ ماتزال مستمرة في العطاء، فإما أن يأكل منها الرفاق، وإما أن يكون مصيرها التلف ومرتع للحيوانات كالدببة.
في تلك المنحدرات والممرات الضيقة، وفي أسفل (وادي جهنم)، حيث تقع على اليمين منك (شكفتا بريندارا) – كهف الجرحى – وعلى اليسار مرتفعات جرداء باتجاه الشمال الشرقي. وبينما كنت أراقب طريق المسير، إذ المحت بالمنظار الحوامات تقوم بالإنزال.
في تلك الأثناء كان قد اشتد مرض أحد المقاتلين، ولم يستطع متابعة المسير، فتركنا معه بعض المقاتلين لرعايته، وتابعنا المسير على أن نلتقي في نقطة تعسكرنا القادمة.
في الطريق تم الاتصال باللاسلكي مع الرفيق (باهوز) عن تحديد نقطة التعسكر، بينما كانت الليلة الأولى من المسير قد شارفت على الزوال، حيث أنهينا تسلق مرتفعات الجزء الشمالي، وبدت لنا سفوح الجبال التي أكلت ألسنة النيران التي اشعلها الجنود عمداً معظم غاباتها، وأخذ المقاتلين يشيرون بأصابعهم إلى نقاط تعسكر الرفاق القدماء . . . ، تلك نقطة الرفيق (أبو بكر) وتلك نقطة (الخائن ساري باران)، حيث اتخذ الرفاق هذه المنطقة مراكز لتعسكرهم منذ عام۱۹۹۰ وأوتاد الخيام والهياكل المبنية من جذوع الأشجار ماتزال كما تركوها . . حتى التنور لايزال صالحاً للاستخدام.
ونظرت إلى الساعة، فإذا بعقرب الساعة يشير إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.

2 تموز 1996
بعد شروق الشمس وصل الرفيق (باهوز) والمجموعة التي تركناها في الطريق مع المقاتل المريض، وفي الضحى صدف اجتماع أعضاء الإدارة بصورة غير مقصودة، فاستغل الرفيق (باهوز) الفرصة وقال: مادمنا قد اجتمعنا فلنحدد المهام التي يجب القيام بها في هذه الأيام، فالكتيبة على أبواب العبور إلى الشمال، وسريتنا الأولى هي أمامنا.. اليوم هم على الحدود.
إن عبور سرايا الكتيبة معاً غير مأمون، بل إن عبور السرية بكاملها غير صحيح فكيف ستعبر هي و الكتيبة؟.. لذلك سنكلف فصيلاً من السرية الأولى للقيام بكشف ودراسة المنطقة.
و هناك مسألة أخرى، وهي مسألة التموين، فلم يعد باستطاعتنا الحصول على التموين من مقر الزاب، لذلك سيكون تمويننا منذ اليوم من مركز تموين إيالة زغروس، وهو الآن في (جمجى)، لذلك يجب إيفاد أحد الرفاق لتنظيم ذلك، وسنرسل أيضا بعض المقاتلين إلى (شكفتا بريندارا).. لجلب بغالنا التي تركناها هناك، وما تبقى لنا من التموين الذي تركناه في سرية الرفيق أريش في كتيبة الرفيق كاظم (يلدرم حاملي).. أما ما تبقى من الرفاق فعليهم متابعة نشاطات السرية ودروس التدريب، وهكذا تقرر أن يذهب الرفيق (روزهات) إلى مركز تموين إيالة زغروس ومعه مقاتلين ومجموعة رفاق إلى طابور الرفيق (كاظم).
بعد الظهر أخذت التفقدات اليومية، ثم تحدث الرفيق (باهوز) عن النواقص التي ظهرت في مسير البارحة، وخاصة العناصر الذين كانوا يتخلفون ويتسببون بانقطاع رتل سير السرية.
بعد التقرير اليومي و الاجتماع المسائي، قرأت على أسماء المقاتلين المكلفين ببعض المهام الأمن، التموين، التدريب، وسلمت الضابط المناوب، جهاز اللاسلكي لمراقبة مكالمات العدو، ومتابعة الاتصال بالوحدات لمراقبة سير الوضع بشكل عام.
مع غروب الشمس، يبدأ البعوض فعالياته، بالبحث عن الأماكن البشرية العارية، منقبة في طنين مستمر عن ثغرة للوصول إلى هدفها، مقدمة لك درساً لا ينسى من استمرارية العناد وروح الإصرار .
3 تموز 1996
لم يستيقظ أحد، حسب الموعد المتفق عليه في الرابعة صباحاً، وفق الصورة العسكرية، بالرغم من تدخل عريف الحرس، مما جعلني أشعر بحالة التبعثر التي تخيم على أوضاع السرية، حتى إن الرد على الكلمة الروتينية (صباح الخير) كان يعبر به عن الانزعاج.
و تكررت حالة الفوضى، أيضاً أثناء حضور الفطور، حيث لايزال بعض العناصر يغطون في النوم.
كان الوضع بالنسبة لي مايزال مراقبة الأحوال، والتعرف على أوضاع المقاتلين وواقع السرية. وفي الاجتماع الصباحي، تحدث الرفيق (باهوز) لمدة ساعة ونصف عن التطورات السياسية، بشكل عام، وتوقف في حديثه على العملية الفدائية التي أخذت صدى عالمياً في وقتها، حيث تم إجراء اتصال هاتفي مع القائد آبو من قبل إذاعة ( BBC ) تلك العملية التي نفذتها الرفيقة زيلان: وهي من (ديرسم)، ألغمت نفسها على شكل امرأة حامل، وفجرت نفسها في تجمّع ضباط أتراك، مما ألحقت بهم الكثير من الخسائر ولم تكن المسألة مسألة خسائر، وإنما مسألة التطور إلى نوع جديد من المقاومة الانتحارية، بطريقة تثير الرعب في أوساط العدو .
و قد قامت هذه الرفيقة، بتسجيل كلمتها الأخيرة على شريط فيديو، وإرسال برقية إلى القائد أيضا، ولايزال في مسامعي قولها : (لأنني أحب الحياة، أقوم بتنفيذ هذه العملية، وليعلم الناس أن لكردستان أيضاً كرامة ).
في السابعة مساء قدمت الاجتماع، وبعد ترديد الشعار تحدثت حديثا مختصراً أمام السرية، وحيث أنها كانت مخاطبتي الأولى للعناصر، لذلك حاولت الضغط على نفسي لأحافظ على توازني واتجنب القسوة في الحديث.
و هكذا بشتى الوسائل أخذت أبحث عن الكلمات والجمل المرنة التي تجذب المقاتلين، محاولاً البعد قدر الإمكان، عما يثير ردود الفعل، وبالأخص في نفسية المقاتلين، الذين لا يعرفونني بعد، لذلك اختصرت الكلمة فقالت: (في تكميلات اليوم تم توقفكم . . . . بشكل عام على بعض النواقص، التي تلخصت بأمور بعيدة عن الحياة العسكرية، من ناحيتي كنت أراقب ذلك وأشعر بشيء من الخجل، لقيام رفيق قيادي مثل الرفيق (باهوز) بالوقوف على مشاكلنا البسيطة، مثل الاستيقاظ من النوم وتنظيم الحراسة، إن هذه الأمور غير اللائقة لجنود بسطاء بالخدمة الاجبارية، كيف تليق بحياة المناضلين؟.. تذكروا كيف كان استيقاظكم هذا اليوم، فهل يليق الهبوط إلى هذا المستوى بالمقاتل الثوري، لا أريد هنا أن أذكر أسماء العناصر الذين أخلوا بمهامهم في الحراسة في الليلة الفائتة، لأنهم يعرفون أنفسهم، وكذلك الرفاق الذين يذهبون إلى النبع او يتجولون بلا أسلحة، وكأنهم في نزهة، وهل يسمح لي عناصر المطبخ بتذكيرهم بما فعلوه البارحة فوق النبع الذي نشرب منه، ببعثرة الطحين والعجين بطريقة يستحي القرويون من ارتكابها، وهل نسكت عن الرفاق الذين يقفون على النبع، وينزعون ملابسهم وأحزمتهم رغم تردد الرفاق والرفيقات إلى هناك، أليس في ذلك ما يدعو إلى الخجل ؟ ..
صحيح أن هذه الأمور أمور بسيطة، ولكننا إذا لم نقف عليها، ستكبر غداً وستكون أسبابا لأمور أخرى تسبب لنا الكثير من المشاكل.
هذه الأمور البسيطة في ساحة الجنوب، ستكبدنا خسائر فادحة في ساحة الشمال، لذلك يجب الاهتمام كثيراً بهذه المسائل، بدءاً من حياة كل واحد منا، وكما أرى فإن معظمكم من الرفاق المجربين، وليسوا غرباء عما أذكره، ولكن رغم ذلك يجب إعادة النظر مجدداً.. والتعاون على تلافي هذه الأمور …وشكراً ).
و هكذا أعطى مسؤول الأمن كلمة السر وانتهى الاجتماع.
تفرق العناصر، ولكن الذي بدأ يشد إهتمامي، عدم ارتياحي لاقترابات لجنة الأمن، المؤلفة من الرفيق أردال مساعدي في السرية، والرفيق داوود قائد المجموعة الثانية من الفصيل الثاني، و الرفيقة (ميديا) قائدة المجموعة الأولى في فصيل المقاتلات.
و الثلاثة تجمعهم خصوصيات واحدة .
(أردال) من قرية (كونديكى رمو) من قرى (جبل جودي). في تعامله شيء من الصلافة، و لكنه سليل عائلة وطنية، قدمت العديد من الشهداء، كمعظم أبناء قريته الوطنية ومثله كمثل قائد المجموعة الثانية في بعض خصوصياته.
و أما الرفيقة ميديا فهي من ماردين وإذا قلت ماردين بين صفوف المقاتلين فلا داعي للتفصيل .
من المعروف أن لجنة الأمن تحمل على عاتقها أهم قضايا الوحدة، حيث تتفرع مهامها من تنظيم شؤون الحرس وتوجيه سرية الكشف ودراسة نقاط التعسكر وتحديد أماكن الرصد واتخاذ التدابير اللازمة لأعمال الدوريات وتفقد الكمائن، ولكن هؤلاء عندما تحين ساعة اجتماع لجنة الأمن، كأنهم سيذهبون إلى عرس، وهذا يعني أنه إذا لم تتخذ التدابير اللازمة، فستتدهور أوضاع الوحدة، ولكنني لا أستطيع التدخل هكذا بصورة مباشرة، لأن ذلك سيجعلهم يتخذون أي شكل من أشكال رد الفعل تجاهي، فماذا ستكون النتيجة؟.. إنهم بدائيون وذلك واضح من قائمة ضباط الحرس، لقد سجلوا أسماءهم بالتتالي، ليوقظ بعضهم بعضاً، لذلك عمدت إلى تغيير ساعات مناوبتهم والمباعدة بينها . . .
بعد الاجتماع المسائي، جمعت قادة المجموعات في فصيلتي مع مساعديهم وتحدثت إليهم عن دورهم، ولاسيما دور الفصيل الأول في التأثير على السرية أثناء التحرك، وما يجب عليه من الجاهزية الدائمة، لأنه محور النظام والانضباط في السرية، ونبهت قادة المجموعات ومساعديهم، على ضرورة الانتباه إلى هذا الدور، وخاصة دور المساعدين الذين لم يعد لهم دور ملحوظ ضمن الفعاليات، وكأنهم غير موجودين، يتصرفون كأي مقاتل، وهذا يجر السرية أخيرا إلى التسيب، لأن كل مجموعة حسب التعليمات تنقسم إلى قسمين، قسم مرتبط مع قائد المجموعة، وقسم مع مساعده على شكل ( ( TIM – مجموعة صغيرى – .
و هكذا فتحت المجال للمساعدين ليلعب كل واحد دوره، ويعبّر عن نظرته. وكانت هذه هي الخطوة الأولى التي تدخلت من خلالها في القضايا الرسمية، فما الذي نتج عن ذلك . ؟
4 تموز 1996
كل شيء عاد إلى شكله الطبيعي، لأن مسألة فرض الانضباط والتنظيم ضمن وحدة، مؤلفة من شخصيات مختلفة الخصوصيات ليس بالأمر السهل، وبالأخص في نموذج سريتنا. حيث تضم مقاتلين من أجزاء كردستان الاربعة، بما في ذلك البعض من أكراد روسيا ولبنان وأوربا وآخرون من كرد كازاخستان وأرمينيا… في خليط عجيب، ربما يكون من نوادر الدنيا .
فتصور معي، مختلف هذه الأمزجة التي تجتمع في قطعة عسكرية تنظيمية واحدة، لذلك كنت أشعر بنفسي وكأنني في مخبر كيميائي، وأمامي من المواد ما يستحيل جمعها مع أخرى وإلا كانت النتيجة غير محمودة العواقب، لذلك على كل إداري هنا أن يستعد، ووفق نفس طويل، محلى بالصبر والعناد لفرض أسلوب وأخلاق التنظيم وإلا دمّر نفسه ودمر كل من حوله .

تموز الجبال
بدأت الغيوم تتشكل في سماء المنطقة، مما سيزيد من إرتفاع درجات الحرارة،، لأن تلبّد الغيوم يعيق من سرعة الهواء ليؤلف بذلك جواً خانقا، تتخلله شمس لا تعرف الشفقة، عندما ترسل نيرانها على الأرض، لكي لا تستطيع مجرد الجلوس على الأرض منذ الساعة العاشرة وحتى الرابعة بعد الظهر .
ها هي المجموعات تلوذ بالأشجار، والجميع في ساعات الظهيرة يصبحون كالمخدرين، العرق يتصبب من الوجوه، وعندما يسير الواحد منا، تراه وكأنه يسير بدون إرادته، وهو يجر جر أقدامه من ورائه، لا يقوي حتى على الكلام، ولولا المقاتلين الذين يصرون على مواجهة جبروت ذلك المناخ، لانقطعت الحركة تماماً، ولكن الطبيعة قد تركت لنا ما نقاوم به قسوتها، وذلك في مياه النبع المتدفقة من بين الصخور الشامخة، حيث يتكسر على تلك الصخور، ليسقط على الأرض وينتشر في سفوح أشجار الجوز العملاقة، وما يجاورها من أشجار الفواكه، التي ونتيجة لهجر أصحابها، منذ أيام تواجد جيش صدام في المنطقة، تكدست بالحشائش والشوكيات، بصورة لم تعد تسمح لمرور أي شيء من بينها إلا في أماكن محدودة وبصعوبة بالغة .
كانت مياه ذلك النبع كما قلت، هي المخرج من هذا الجو الخانق، ولذلك ألزمنا العناصر القيام بالاغتسال في النبع كل يوم على الأقل مرة واحدة، للتمكن من مقاومة هذا الجو، ومع ذلك فإن برودة الماء كانت قارصة إلى درجة، أنك لا تستطيع أن تترك يدك فيها دقيقة واحدة، وحتى تنتهي من غسل جواربك، يتحتم عليك أن تنفخ على يديك المرات وتستريح قليلاً لتعاود الكرة .
و على الرغم من تلك الحرارة، فعندما تغسل رأسك بالماء، تشعر وكأن دماغك قد تجمّد، وأول ما تصل إلى النبع، و عندما تحسو ماءه القراح تحس أنك ولاشك كميت عادت إليه روحه، أو أن روحك كانت في سبات عميق، فاستيقطت عندما لامستها قطرات ذلك النبع .

مفاهيم خاطئة
هكذا و بهذه النشوة عدت من النبع، حيث كان الارتباط قد تم باللاسلكي مع الفصيل القادم على شكل مجموعتين، بقيادة أحد الرفاق (وهو رفيق كان معنا ضمن الفصيل الذي تلقي التدريب من الرفيق « جمال » وقد بعث به كقائد للفصيل الذي سيتم تشكيله، وبعد الظهر حين تحدث إليه الرفيق « باهوز » اعترض على المهمة لأنه لم يكن يعلم انه سيعيّن قائد لفصيل التموين) .
و في الواقع إن هذا الاعتراض، ناشيء من المفاهيم الخاطئة التي كانت قد انتشرت بين صفوف المقاتلين، من أن الذين يأخذون أماكنهم ضمن التشكيلات غير الحربية، هم ولاشك انتهازيون، وبالتالي غير الائقين بالحرب وفي النهاية جبناء، وحتى إن النظرة إلى قادة تلك التشكيلات يشوبها الكثير من الاستصغار، وانتشار مثل هذا الانطباع في صفوف المقاتلين، يسبب الكثير من المشاكل، والاقترابات والمفاهيم البعيدة عن مفاهيم الحزب وحياة الكريللا .
وحين تحدثت مع الرفيق (معصوم) عن القيام بأعباء هذه المهمة، كرر نفس الموقف قائلا: لو قبلت بهذه المهمة، فإن كل الذي يقال بحقي سيصبح حقيقة، قد يكون ذلك وقوع مني في المفاهيم غير الحزبية، ولكنني لا أريد ذلك، ليس لأنني أنظر بنظرة استصغار إلى هذه المهمة، كلاً بالعكس تماماً فهي من أصعب المهام وأشقها، ولكن وضع بالذات يختلف، لذلك لو يتم إعفائي من هذه المهمة سيكون من الأفضل) .
عندها نظر إلي الرفيق (باهوز) قائلا : حتى قريبك أعترض يا دوغان. فقلت له : إنه محق في ذلك لأن اقتراباتنا تخربت كثيراً أيها الرفيق .
تجمعت الإدارة، بينما كان الرفيق (روزهات) قد استيقظ متأخرا، لأنه وصل في الصباح الباكر، وقد اشترى ثلاثة بغال، وجاء بها محملة بالتموين من مركز تموين إيالة زاغروس .
و بدأ النقاش حول وضع تشكيل فصيل التموين، فتم تبديل بعض العناصر من سريتنا ومن السرية الأولى، ببعض المقاتلين القادمين، كون جميعهم جدد ولا تجربة لهم، وأخيراً تم اتخاد قرار بتشكيل وحدة صغيرة، على شكل مجموعة من عشرة عناصر، وتم طلب أحد المقاتلين المجربين من طابور – كتيبة – الرفيق كاظم كقائد لهذه المجموعة وهكذا تم تأمين حاجياتهم ولوازمهم الأساسية، بتسلمهم عشرة بغال وجهازين لاسلكي ومنظارين و الخ .
و أثناء ذلك جاءت الأخبار، بعبور السرية الأولى بكاملها منذ البارحة، وأن الوضع كان طبيعياً جداً، لذلك تم اتخاذ القرار بالتحرك نحو الحدود في اليوم التالي .

لمحة عن فائد السرية
شيئاً فشيئاً تزداد وتتعمق معرفتي بأحوال الإداريين و أوضاع القاعدة .
فقائد السرية، بشخصيته التي أحاول التعرف عليه أكثر فأكثر، تبرز النزعة الاستعراضية في أكثر تصرفاته وذكرياته، وينتهز كل فرصة للحديث عن بطولاته، وبين الفينة والأخرى، ينفجر ضاحكاً، والمقاتلون من حوله ينظرون إليه نظرة اعجاب وإكبار .
ويستمر في قوله. (كنا نأخذ الهاون ونتمركز في بعض القرى الجنوبية (اقليم كرستان)، ونضرب من هناك القرى الشمالية التي انضمت إلى تشكيلات حماة القرى). ليلاً كنا نخترق بستانين الجنوبيين، فتخرب حقول الزرع ويتكسر البطيح، وفي الصباح يأتي القرويون ليشتكونا إلى الإدارة، بأن ذلك ليس من أخلاق الحزب كما نعلم، حرام علينا أن نمنعكم الأكل وحرام عليكم أن تخربوا رزقنا، وفي أحد المرات أمسكت أحدهم من عنقه وقلت له: انظر جيّداً.. إذا لم تقطع لسانك وتلتزم أدبك، ففي المرة القادمة أفرغ هذا المسدس في دماغك، كلهم كانوا يرتجفون عندما كنا نمر من قراهم) .
شخصية من هذا النوع هي في الواقع من نتائج المفاهيم غير الحزبية التي تفشت مؤخرا بين بعض قواتنا.
و على الأغلب، فإن الشخصيات التي لم تتشرب روح فكر وثقافة الحزب، ولم تتفهم أيديولوجيته، يرتبطون بالجانب العملي من الحرب، فقط تحت شعار (عسكريون لا سياسيون).. وهكذا تطفو صورة الحياة العملية على أسلوبهم، على حساب الوعي السياسي والرفاقية التنظيمية، وحتى إنهم لا يرون في أنفسهم حاجة لقراءة أدبيات الحزب، ولا دراسة نظريته السياسية، لذلك نلاحظ تكرار مثل هذه الظاهرة في (بوطان) باعتبار أن الجانب القروي كان المسيطر غالباً، مما كانت النتيجة ظهور شخصية على غرار ( قطاعي الطرق ) ضد المفهوم الحزبي .
أما في (زاغروس)، وباعتبار سيطرة روح البرجوازية الصغيرة على الوسط العام هناك، وتميزها بقسط من الثقافة، وعلاقات القرى الحدودية بالتهريب وشرائح المهربين تشكلت لديهم ثقافة ممارسة المهنة،بما فيه تجار المخدرات والمافيات القادمة من افغانستان عبر ايران، فقد أثر ذلك على صفوفنا، بانتاج شخصية هي مزيج غريب في ممارسة السياسة شبيه بـ (الكونترا) .
و كلا من هاتين الشخصيتين، لابد أن تكون سائرة إلى نموذجها الطبيعي، لولا توقف الحزب على تحليل شخصيتهم وتركيبها من جديد، وفق إيديولوجية الحزب وسياسته .
لم أجد بداً من التدخل بالتعقيب على بطولات ( روزهات )، بأن مثل تلك البطولات، لو علم بها الحزب لحاسبكم عليها، لأتفاجأ مرة أخرى، بأنه يجيبني باستصغار : (ومن الذي يحاسبنا، إن التفوق في العمليات الحربية، معيار النجاح و أساس الترقي في المناصب العسكرية) .
مثل هذه الشخصية، تراه من الجانب الآخر لايزال كالطفل الصغير، حيث يظهر جانبه البريء والصريح والقويم في كثير من تصرفاته. ولكن الظروف التي عاشها والتي أكسبته تلك الشخصية، كانت أقوى من أن يتجاوزها بهذه السهولة .
و مع أن مثل هذه الشخصية، بلاء على رأس الحزب، فهي الشخصية الأكثر تأثيرا على القاعدة . . . ، وبعض المقاتلين في العادة ينظرون إلى هذا النموذج نظرة القدوة، الشجاع الذي لا يهاب أحداً، والبطل الذي لا يقهر، وينظرون بإزدراء إلى المثقفين، على أنهم مجرد ثرثارين يدعون السياسة ولا يفهمون منها شيئا . .

روح المرحلة
بعدما أنهيت إرسال البرقيات إلى الوحدات المقاتلة، التحقت بالاجتماع المسائي، وكان الرفيق ( باهوز ) يتحدث مرة أخرى عن التطورات السياسية، وتعليمات الحزب والروح الفدائية التي تتطلبها المرحلة، وتكرار التوقف على عملية الرفيقة (زيلان)، ومعاني هذه العملية البطولية، حيث شارك المجتمعون أيضاً في التعليق على معاني هذه العملية، بأنها رمز روح هذه المرحلة، كما كانت عمليات (آروه) و (نروه)(9) روح المرحلة التي بدأت عام 1991 .
وتطرق الرفيق (باهوز) في حديثه لتحليل الأوضاع الأخيرة في تركيا بعد تشكل حكومة
( أربكان – تشيلر) وأن القائد أوضح في مقابلة أجرتها معه إذاعة ( ( BBC بأننا ننتظر جواب هذه الحكومة لحل المسألة سياسيا، لذلك مايزال إعلان وقف إطلاق النار سارياً حتى إشعار آخر .

الرفاقية القويمة
بعد هذا الحديث الذي استمر أكثر من ساعة، كانت قد تجاوزت الساعة السابعة مساء، بينما كان قرص الشمس قد اختفى وراء المرصد، على تلك القمة الصخرية، وأشعته الصفراء تتكسر على قمم تلك الجبال، التي غطت وديانها الظلال مستسلمة شيئاً فشيئاً للظلام الدامس، الذي سيلفها، وتتضح لك النيران نتيجة القصف العشوائي للثكنات الحدودية، التي لا تزال تشتعل وتحسد الغابات المنتشرة في سفوح تلكالقمم و الوديان، ويبدو الجو أكثر هدوءاً، ولا سيما بعد انخفاض الضغط الجوي، ويتراءى لك وأنت تنظر إلى تلك النيران المنتشرة وسط الظلام الحالك، أنك لابد أمام اضواء مدينة عريقة .
في الاجتماع، تم التشهير بذكر أسماء بعض الرفاق، حول النواقص التي ظهرت منهم عبر المسير، وفور انتهاء الاجتماع، اعترض أحدهم بصوت مسموع قائلا: ارفض هذه الانتقادات.. وهي غير مقبولة لأنها غير صحيحة .
فأجلت الحديث معه حتى نفرغ من العشاء، وبعد العشاء دعوته للحديث معه أمام قائد مجموعته، حيث أفهمته أن أخلاقيات الحزب لا تتيح له الاعتراض بهذه الصورة السوقية، وقانون النقد والنقد الذاتي له قواعد في الحزب، بمراعاتها نعبّر عن الرفاقية القويمة .
في التاسعة إلا عشر دقائق مساءً، كانت الحقائب محزومة على الظهور في الاجتماع والمقاتلين ينصتون إلى تعليمات وتوضيحات المسير :
1 – سيبقى قسم من مجموعة الرفيق جيا للتحرك مع البغال .
2 ـ أهم قواعد المسير، عدم انقطاع في الرتل اثناء الحركة وعدم المحادثة .
3 – التدخين سيتم في الاستراحات فقط، ولايجوز التدخين بدون إذن .
4 – التعليمات التي تأتي من مقدمة الرتل..يجب أن تصل إلى آخر مقاتل.. وبنفس الصورة وبالعكس .
بدأ المسير، وها نحن نخلف وراءنا الجبال والوديان، بينما الرفيق (باهوز) ومرافقه (باشور) بقيا في المقر، من أجل التوقف على مخطط تأمين المواد التموينية مع فصيل التموين.
المسير يستمر، بينما التنقل يتكرر على طرفي مجرى الماء في الوادي، ومن فوق بعض الأحجار التي رصفت في الماء، نقفذ بأنفسنا من طرف إلى آخر، ولكثافة الأشجار العملاقة تزداد الظلمة حلكة، بحيث لو وضعت يدك أمام عينك فلن تراها، لذلك فأنت تخطو خطوات العميان، والسير يتم حسب تلامس الخطى بمنتهى الحذر والدقة .
و في كل لحظة أنت معرض للارتطام بالأشجار والأغصان والصخور والحفر، رغم كل هذا يتم المحافظة على وتيرة المسير وسرعته، والشيء الوحيد الذي يلعب دوره في تلك اللحظات، التجربة الطويلة والتراكم الذي يمنح الحس، موهبة فريدة في التأقلم والتحرك حتى مع الظلام .
مما يجعل المقاتلين الجدد يتمسكون برفاقهم القدماء، وإلا لابد من وقوعهم مرات و مرات .
ويكاد يكون من المستحيل، على الانسان العادي أن ينضم إلى هذا المسير.
الانقطاع يتكرر، وبين الحين والآخر تأتي التعليمات، بانقطاع بعض المقاتلين من الرتل، ومثل هذه الأمور لابد أن لها تأثيرها السلبي على المسير، مما يفقد المسير روح التحدي .
أضف إلى ذلك، أن التوقف المتكرر ضمن المسير، يوقظ مشاعر الألم والتعب، لأن الدماء الساخنة التي ستبرد أثناء التوقف، تسبب الخمول .
و بتكرر العملية، تصاب بالضيق والإنهاك، وتكتسحك آلام المفاصل، وتشعر بأكتافك تكاد تتقطع بما عليها من الأحمال، وبضغطهما على العنق تشعر بألم حاد في البصلة السيسائية، وعندما يكون حمل السلاح بطريقة غير متوازنة، فإن ذلك سيزيد الطين بلة، وستشعر بالخلل يسيطر على خطواتك، وكلما راوحت في حملها من كتف إلى آخر، كلما ازداد الخلل سيطرة عليك .
أما عندما يكون المسير منتظماً وغير متقطع، فإن تدفق الدم يستمر بصورة منتظمة، مما يجعلك لا تشعر بكل تلك الآلام .
قبل الوصول إلى القرية المهجورة (شيف رزا).. اعترضنا بعض الوديان السحيقة، وكان منسوب المياه في الوادي يرتفع طردياً مع الانحدار، فلم يعد بالامكان قطع الماء بالتنقل على الحجارة، ولابد من خوض الماء بالتشمير حتى الركب .
و كان الأفعى – أي الدليل – يضيع الطريق أحياناً ولا يهتدي إلى الجسور البدائية من جزوع الاشجار ، التي أقامها سكان هذه القرية المهجورة في منخفضات الوادي.
و بينما نحن في هذا الظلام الدامس.. إذ صاح أحد المقاتلين: عواميد الحدود، عواميد الحدود . . . ونظرنا من بعيد إلى عواميد مزروعة بين الأعشاب التي تغير لونها إلى الأصفر والأبيض ليلا، لأنها يابسة، وتلك العواميد المطلية باللون الأبيض، بارتفاع متر تقريباً، هي عواميد الحدود التي زرعها العدو أثناء التمشيط الفولاذي .
و تابع الرفيق قوله : ( كان هناك طابور للجنود الاتراك في القرية والقرية كانت من حماة القرى، وعند انسحاب عملية التمشيط، فرغوا الطابور و هجروا القرية، وذلك في العام الماضي 1995) .
لم يكن أحد يجرؤ على العبور من هنا، وكان طريق قواتنا من مكان آخر في أطراف ثكنة ( إريش) و الطريق من هناك أقرب للعبور إلى الشمال الكردستاني – تركيا .
و هنا سأله أحد المقاتلين : فلماذا إذن لم نأت من ذلك الطريق ؟
– فأجاب: جغرافية (الزوزان) جغرافية جرداء وفي قمة ثكنة ( إريش).. مراصد مزودة بأجهزة الليزر.. ولا يستطيع أحد بتلك السهولة العبور من ساحتها … خاصة وحدة كبيرة.
قطعنا القرية التي ماتزال بيوتها الطينية كما هي، سوى الأبواب والشبابيك المخلعة، وجدران بعض البيوت كما هي، بينما السقوف مهدمة، ويبدو أن أصحابها انتزعوا جذوع الأشجار من السقوف لبيعها، مخافة أن يقوم اللصوص بذلك، أو أنهم فعلوا ذلك لاستخدامها في بناء بيوت جديدة في القرى التي لجأوا إليها، لغلاء هذه العواميد الخشبية المستخدمة في أسقف بيوت معظم القرى الريفية، والمدن التي لاتزال تحافظ على طرازها القديم، وبنفس الطريقة انتزع سكان القرية أخشاب الجسر الكبير، الذي يربط بين ضفتي النهر، وقد استبدل عنه الرفاق بوضع هياكل السيارات المنسقة، ولذلك كانت التعليمات تنتقل من مقاتل إلى آخر، بأن نقطع الجسر واحداً وراء الآخر .
المسير الذي كان يفترض أن لا يتجاوز الخمس ساعات، أمتد حتى الفجر، وبعد الخروج من القرية بحوالي نصف ساعة، كان هناك نقطة توقف. والرفاق بشكل عام عندما يمرون من هذا الطريق، يقومون مباشرة بتحديد مواقع كل فصيل، وتعيين عناصر الحراسة والرصد .
وهكذا بالسرعة القصوى أخذت المجموعات اماكنها، ولم يبق إلا القادة والإداريون يتنقلون بين الفصائل والمجموعات، لفرز عناصر الرصد والحراسة والتموين والخدمة العامة، وهكذا لم تمض ساعة حتى سيطر الهدوء والصمت التام على جو نقطة التعسكر.
5 تموز 1996
في الصباح كان الاستيقاظ باكرا وتعذر تحضير الفطور، ولذلك تدبر العناصر فطورهم بكسرات الخبز المتبقية في الحقائب، بغمسها مع الشاي، والتقوت بها حتى يحين موعد الغداء. بعد ذلك، عاد أكثر المقاتلين إلى النوم، ولما كنت أنا الضابط المناوب، بقيت مستيقظاً مع عناصر الحراسة وبعض المقاتلين. بعد الفراغ من متابعة أخبار المراصد عن طريق اللاسلكي، لإعداد تقرير الصباح، كانت الشمس قد أشرقت، وكانت نتيجة الكشف وجود قواتنا المتمركزة من كل طرف على شكل فرض حصار على ثكنة (أرتوش).. متوزعين على طول الخط الحدودي .
بقيت مستيقظاً حتى العاشرة، حيث وصل فصيل التموين مع البغال، وعلى إثرهم وصل الرفيق (باهوز). فسارعت لإيقاظ الطباخين المناوبين لليوم، واستقبلت فصيل التموين وقائده الرفيق (زانا) – وهو من الجنوب – اقليم كردستان- . أعرفه منذ أيام (كَارسا ) عام ،1993 وفي بداية عام 1994 فارقنا إلى ديرسم، ليعود في الخريف الماضي مع (الرفيق زكي).. وكان في شخصيته يفتقد المبادرة، ويفتقر للحاكمية، مما يوقع مجموعته في البلبلة أغلب الأحيان .
فها هو في أول ساعة يختلف مع مقاتل، وهو من كرد قفقاسيا، لم يشأ أن يتحرك من مكانه محتجاً بالتعب، بينما كنت أراقب الوضع من بعيد، فاقترب منه مقاتل آخر من أبناء هذه القرى، لم يبلغ التاسعة عشرة من عمره وقال له : ( والله يا سيبان لو كنت في مجموعتنا لربطوا يديك ورجليك، إذا كنت من أول يوم تفعل هذا.. فماذا ستفعل غدا؟! ) تأثر (سيبان) فيما يبدو، خجل من نفسه ونهض مباشرة إلى المهمة، وهو يضحك ويقول : لأذهب قبل أن يربط ( عكَيد) يدي وقدمي .
و في موعد الغداء، قمت مع عرفاء الحرس بإيقاظ المقاتلين، وكان كل شيء جاهزاً، وبعد الانتهاء من تناول وجبة الغداء وشرب الشاي، عاد البعض إلى الاستلقاء تحت أشجار الجوز، (الجنار – دلب) والصفصاف.. وفي مجاري الماء التي جفت، والتي كان الماء يغمرها طوال فصل الربيع، ومعظم الصخور المحيطة بتلك المجاري، أصبحت بجريان المياه عليها منذ قرون طويلة ملساء، وكأنها البسط والسجاديد بأشكالها المختلفة .
تحت ظلال هذه الأشجار وفوق هذه الصخور الملساء، وفي مثل هذه الساعات من أيام تموز، وبمجرد الاستلقاء، تشعر وكأن كل مكيّفات الدنيا من حولك، يا لها من برودة ناعمة، تغريك بالاستسلام إلى النوم. وهكذا استلقيت للنوم، حيث أنني لم أنم في الليلة الماضية غير ساعة واحدة بعد كل هذا المسير .
و في الثالثة بعد الظهر استيقظت، بينما كان هناك بعض الرفاق الضيوف، قادمين من كتائب ( زاغروس) الحدودية. يجلسون عند الرفيق (باهوز)، ولكنني لم أعرف أحداً منهم ، كان منهم اثنان قادة سرايا وآخر قائد فصيل وبعض المرافقين، ولذلك نهضت قبل إنهاء كوب الشاي للتجول على المجموعات لإعطائهم التكميلات اليومية، بينما كانت مجموعة الرفيق (زانا) مبعثرة، رغم تكرير التنبيهات له، فكان البعض منهم الايزال نائماً حوله، وهو يحاول إيقاظهم، فلا يستجيبون له، وهكذا اضطررت لأول مرة أن أتعامل بقسوة، وطلبت منه إيقاظهم فوراً وبأقصى سرعة، ومن ثم تجمع قادة السرية والفصائل والمجموعات للتكميل اليومي(10) .
لاتزال النواقص تستمر في المسير .
فعند وصولنا إلى النقطة، وقبل إتمام الكشف عن أوضاعها، كان معظم المقاتلين يشعلون سجائرهم بشكل مكشوف، بالإضافة إلى ما تسببوا به من الضجة أثناء الفرز .
المجموعة التي جاءت مع البغال، كان قيامهم بالمهمة مفتقرا للكثير من الشعور بالمسؤولية، وذلك واضح من خلال اختلاط السمن بالأرز، وفساد بعض المواد التموينية .
و عندما وصلوا إلى النقطة أفرغوا الحمولة عن البغال، وتركوها على الأرض كما هي بلا تنظيم ولا ترتيب .
ثم إن ربط البغال ضمن النقطة وبين المقاتلين غير صحيح، فأي عملية كشف تقوم بها الحوامات أو الكوبرا، ستقدم البغال أسوأ المصير لنا .
قبل أن أبدأ بالحديث عن كل هذه النواقص، سبقني الرفيق (زانا) إلى القول : (هناك انتقاد على الرفيق دوغان، حيث وجّه لمجموعتنا التعليمات بأسلوب غير لائق ) .
لم أسرع في الرد على (زانا)، ومعظم مقاتلي مجموعته أوضحوا له، بأنه يجب أن يتقدم بنقده الذاتي قبل نقد الآخرين .
و في الواقع فإن هذا التقديم والتأخير في النقد والنقد الذاتي، تشكل ضمن ثقافة الحدود وتبلورها بشكل أوضح في ( الزاب) .
و الظاهر أن هذا المفهوم، تسرب إلى حياة الكريلا، تحت تأثير الاحتكاك المباشر بالأجواء الكمالية(11)، فعندما يعطي قائد سرية تعليمات إلى قائد فصيلة، أو قائد فصيل إلى قائد مجموعة، تراه لا يرفض التعليمات، ولكنه ينفذها بشكل فاسد، ليتهم التعليمات بعد ذلك بأنها تعليمات فاسدة، والنتيجة إلقاء المسؤولية على عاتق الذي أعطى التعليمات .
و قد تطور هذا المفهوم ضمن ثقافة الحدود، حيث تدخل التعليمات بسلسلة من المزاجية بين الإداريين والقاعدة، تجعلها في النهاية تعليمات ميتة .
فالمقاتل يقول.. إنها تعليمات قائد المجموعة، وقائد المجموعة يحيلك إلى قائد الفصيل. وهذا يشير إليك برأسه إلى قائد السرية، وهكذا تستخدم أنظمة الحزب التمييع، التعليمات تحت أسماء لا حصر لها من الرسمية، والرفاقية و . . . إلخ وهكذا تتطور أساليب المكر والخداع والكذب القروي، وأخلاقيات البرجوزاية الصغيرة، حيث تمارس مقولة الهجوم أفضل وسيلة للدفاع).. بصورة منمقة تدعو للسخرية ، والظاهر أن الرفيق زانا يطبق هذه المرة نفس المقولة (حتى لا ينتقدني أنا أنتقد) . . . لذلك تدخلت لتوضيح ذلك قائلا : إننا لسنا أطفالاً هنا، ولا مصارعين على حلبة، وليس معنا وقت لتبادل الألاعيب والحيل، ولسنا هنا في دورة تدريبية حتى نتعلم من جديد كيف نتقبل الحياة النظامية .
إن كان في ظن الرفيق زانا أنني أقصده بالذات في التعليمات التي وجهتها، فهنا تكمن المشكلة .
و إذا كان يرى أن الحالة التي كانت عليها مجموعته، تعني الحياة العسكرية، فأنا أعتذر منه ألف مرة .
و بعد ذلك وجه بعض الرفاق انتقاداً آخر لي، بأنني نمت وأنا الضابط المناوب، فبينت أن هذا الانتقاد في محله وحتى لا يتكرر ذلك مني ومن غيري، يجب تعيين أكثر من ضابط مناوب في مثل هذه الحالة، فنحن في مسير مستمر وإذا لم أنم في الظهر، فكيف سأتابع المسير هذه الليلة مع أنني لم أنم طوال الـ ٢٤ ساعة الماضية غير ساعة واحدا، لذلك أرى أن يكون في مثل هذه الظروف في الفترة النهارية ضابط مناوب، وفي الفترة الليلية ضابط آخر .
أثناء ذلك مرت مجموعة من المقاتلات، تابعة لسرية حدودية، ومعهن بعض البغال المحملة من مركز التعسكر، فخرج أحد البغال عن الرتل، فحاولت رفيقة أن تحافظ على وقارها وهي تلحق بالبغل، ولكن عثرت قدمها ببعض الأعشاب، فتطاير منها سلاحها وتدحرجت لتقع في بركة الماء . . . ، ولكي لا يزداد احراجها حاول كل واحد منا أن يتمالك نفسه ولا ينفجر ضاحكا، لذلك لم أجد بَداً من فض الاجتماع وإعطاء الفرصة للمقاتلين لإخراجها . ثم اتضح لي أنها من المقاتلات الجدد من وحدات زاغروس .

في الطريق إلى منفذ بلوجان
بعد الخامسة بعدة دقائق تمت التحضيرات، وبعد الإجتماع مباشرة تحركنا، حيث ستكون هذه الليلة هي الأهم في ليالي المسير، لأننا سنعبر أثناءها منفذ (بلوجان) ويعتبر حسب الواقع العملي أهم المنافذ الحدودية، لأنه يقع بين ثكنة أرتوش و ثكنة إريش و مرصد الجنود في سري سيفى.. وهو بالتالي.. المكان الخصب لكمائن العدو .
لذلك وقبل حلول الظلام، قمنا بإرسال عدة مقاتلين للاستطلاع، لتتابع السرية المسير من ورائهما، بينما فصيل التموين وبغالهم يتجهزون للحاق بنا من طريق آخر .
ها نحن نصل إلى مثلث الوادي، حيث تلتقي الوديان الثلاثة، مشكلة بمجموعها وادياً سحيقاً، ونتابع المسير بين البساتين وأشجار الفاكهة، وتستوقفك بين الفينة والأخرى جدران البيوت التي استوت مع الأرض، فيما عدا الطاحونة المائية التي لاتزال جدرانها كما هي .
قطعنا مثلث الوادي وصعدنا قليلاً، ثم جاءت التعليمات بالتوقف عن المسير، لأن الشمس لاتزال تضيء المرتفعات .
و مع حلول الظلام، اتصل معنا أحد مراصد رفاقنا من وحدات ( زاغروس)، وأعلمونا بوجود تحرك للعدو باتجاه ذلك المنفذ، وبالرغم من تقدم عناصر الكشف، إلا أنهم لم يعودوا، بنتيجة وسرعان ما جاءت التعليمات مرة أخرى من المركز، بضرورة العودة إلى المثلث، وهكذا عدنا لقضاء الليلة في الوادي .
و خلوت بنفسي متفكراً بالمرحلة التي سندخلها: (منذ عامين ولم أواجه الجنود الأتراك.. رغم مشاركتي في المعارك مع قوات (12 ) ( PDK ) .. ضمن الحملة التي سميت بانطلاقة آب الثانية، ولكن النفسية هنا تختلف، فتشعر أنك على مشارف حرب حقيقية، العدو أمامك، ومراكز الحدود من حولك و الحوامات تحلق من فوقك والدبابات والمصفحات تتراءى لك من بعيد، وأنت في كل نقطة من هذه المنطقة تحت عدسات مراصده، لذلك يجب عليك في الدرجة الأولى أن لا تكون سبباً في القضاء على كل المقاتلين بتحركاتك الغبية، وأن تكون على كامل الاستعداد في كل لحظة، الحقيبة على ظهرك وسلاحك على كتفيك. وحين تضطر للنوم، يجب عليك أن تلتحف بكيس النوم، لا أن تدخل فيه وتغلق السحاب، لأنه في مثل هذه الظروف، لو حدث شيء مفاجيء، فلن تستطيع الخروج منه.. وأذكر عدة مرات، هاجم رفاقنا مراصد العدو وأمسكوا بجنود
وضباط العدو وهم في أكياس النوم، وبما أنك في ظروف الحرب، فيجب توقع كل شيء وأخذ العدة له، لأن الحرب في واقعها مكان وزمان، لا تعرف من أين يأتي العدو.. ولا تعرف متى يكون ذلك ) .

6 تموز 1996
مرت الليلة بشكل طبيعي ولم تحدث تطورات جديدة، وحتى الظهر استغرق الرفاق في النوم والاستراحة من مشقة المسير، ولم نقم بالاستعدادات إلا بعد الظهر .
و المشكلة الوحيدة التي يجب حلها، هي إصابة أحد المقاتلين الجدد بالفتق، وهو من الجنوب الكبير (اقليم كردستان – عراق). فاضطررنا إلى تكليف عنصرين بحمله إلى إحدى سرايا ( زاغروس ) القريبة، لإرساله إلى المقر المركزي، وللتوقف أيضاً على أوضاع الطريق وتحركات العدو .
في هذه الأثناء، اتصل مرصد مساعدي الرفيق (أردال)، وأخبرنا بأن بعض الحوامات حطت البارحة على المنفذ، واختفت وراءه، ولم نعرف هل قامت بالإنزال هناك.. وهل بقيت هناك أم عادت من طريق آخر .
فتم التأكد بالاتصال مع السرية الأولى بعدم وجود أي شيء، بينما المقاتلين الذين يعرفون المنطقة، أكدو وجود قطعة عسكرية في الطرف الآخر من المنفد .
و مباشرة تم الاتصال ثانية بالمرصدين، ليعود ثلاثة منهم إلى السرية، ويتابع ثلاثة آخرون مع قائد المجموعة باتجاه المنفد للقيام با لاستطلاع التام .
تم النقاش في الإدارة حول الوضع، فتقرر عبور فصيل واحد هذه الليلة، لاتخاذ تدابير عبور البقية في الغد، ولولا وجود البغال لما كانت هناك مشكلة .
قبل غروب الشمس تعدل القرار بتحرك السرية بكاملها، وفعلاً تم ذلك، وفي حوالي الساعة التاسعة ليلا كنا قد عبرنا المنفذ، وهو يمر خلال سلسلة مرتفعات مزنرة بالخنادق، على طول الطريق الترابي المؤدي إلى ارتوش، حيث تستطيع القول أن الحدود انتقلت إلى هنا .
و عند عبور مثل هذه النقاط، يتوحد الفكر والاحساس، ويتجمعان في نقطة واحدة لتصبح وكأنها مركز العالم، حيث تستطيع في تلك اللحظات أن تسمع بأذنيك دقات ضربات القلب، وكأنها ضربات على طبل، ولاتجد بداً من حبس أنفاسك ما استطعت، لأنك بذلك تستطيع التقاط كل صوت وحركة من حولك، حيث أن العين في مثل هذا الليل البهيم تصبح لا دور لها، وتصبح حياتك كلها رهينة لأذنيك .

قرية طاليس
كان المقرر أن نعبر المنفذ عبر الطريق الترابي، ولكن حفاظاً على عدم ترك آثار لأقدامنا، صعدنا إلى الجانب الأيمن من المرتفع، لنعبر المنفد من خلال الخنادق على ظهر السلسلة، فكنا بين الحين و الآخر، نتعثر بحجارة الخنادق المبعثرة، وكان يزداد المسير صعوبة، بأمتلاء تلك الخنادق بعلب (الكونسروة) الفارغة، التي يتعمد العدو ببعثرتها حول المرتفعات،، لما تصدره من الأصوات عند اصطدام الأقدام بها وتدحرجها على الصخور، فيتنبهون بذلك إلى وجود تحرك، حيث أن معظم تحركات الكريللا تكون في الليل.
الجو غائم نسبياً، والغيوم متقلبة ومختلفة الأشكال، منها السوداء القاتمة ومنها الخفيفة الرمادية، وبين الحين والآخر تقوم ببعض زخات من المطر، وكأنها تريد أن تخفف من تعرقنا، الذي بدأ ينساب على أجسادنا نزولاً حتى الأقدام .
و بعد هذا المسير الطويل أشعر بالتعب الشديد، فقدماي متحجرتان، وأوصالي تكاد تتفتت، حيث كنت طول المسير، مضطرا لتفقد أوضاع الرتل، بالتأخر إلى الخلف والتقدم إلى الإمام، و ما صاحب ذلك من تكرر الانقطاع، بسبب فصيل الرفيقات، وتدهور الوضع الصحي عند بعضهن، وفوق ذلك كله، فالدليل يضيّع الطريق بـين الحين والآحر .
(ها هو جبل كَارى الصغير، واتجاهنا إلى منفذ طاليس، ومن الجانب الأيسر تظهر أضواء مرصد الجنود (سرى سيفى)، بينما يشير الرفيق عكيد، بأن قريتهم وراء ذلك المرتفع، فيتدحل مقاتل آخر. وهو في فعاليات هذه المنطقة منذ أربعة أعوام، اسمه (دجوار) وهو من عفرين، يلقبونه بذئب المنطقة، لأنه يعرفها أكثر من سكانها، ليقول: إن الرفيق عكَيد.. ابن مختار تلك القرية.. وعندما كنا ندخل قريتهم، لم يكونوا يطعموننا إلا الأرز ، أرز أرز ، أرز ، حتى الضفادع في تلك القرية، عندما تنق.. تحسبها تقول أرز ، أرز ، أرز ….( فيصيح عكَيد : لا تصدقوه ، لا تصدقوه) .
دخلنا قرية طاليس، وكان دجوار دليلنا قد تخلف مع البغال، أما الدليل الآخر فهو أيضا من بلدة دجوار اسمه ذوكان، هو ودجوار منذ نفس المدة في هذه المنطقة، وهما يعرفان المنطقة جيداً، ويعرفان كل مراكز و مخابئ التموين والذخيرة، لذلك يتم الاعتماد عليهما بشكل خاص في تحضيرات التموين والذخيرة .
كانت الحشائش في قرية طاليس المهجورة، تكاد تصل إلى الخاصرة، وبالأخص الشوكيات، وهكذا نتابع المسير من وراء (ذوكان)، ولا نعرف كيف يدخل ويخرج بنا من أزقة القرية وبيوتها، فمرة ندخل من الأبواب، ومرة من الشبابيك، ولا تسمع إلا اصطدام الأقدام بألواح الصاج المبعثرة، أو تهدم الجدارن من تحت أقدام المقاتلين، مما جعل الضيق والانزعاج يخيمان على نفسية المقاتلين، بالإضافة إلى العطش الذي أنهك الأجساد، حيث نفذ ما بحوزتنا من الماء، وكلنا في غاية اللهفة السماع خرير الماء، فلابد أن يكون في القرية نبع ماء، ولكن أين ؟ وقف حمار الدليل في العقبة .
ملابس المقاتلين كلها قد اتشحت بالسواد، لاستعانتهم أثناء التنقل في الظلام بأغصان الأشجار المحروقة، وهكذا أصبحنا جزءاً لا يتجزأ من سمفونية الخراب والدمار، فهل تصغي تلك الأشجار إلى مناجاتنا حين نناجيها .
كم مرة تعرضت هذه المنطقة إلى تلك الوحشية ؟ . . وهل يحتفظ الزمان بصفحات تلك الملاحم، أم سرعان ما تنسى الأجيال مآسيها ؟ . . ما الذي اقترفته هذه القرية المسكينة والمنسيّة في لحف هذا الجبل، ومن الذي يسمع أنينها ويصغي لحنين أبنائها ؟ .
لابد أن أكتب هذه العذابات، ولكن الكتابة في هذه المرة ستغمسك في الأحزان، وستصبح عواطفك كالحصان البري الذي ينطلق في السهول، وستلهث كلماتك من ورائها حيرى، وهي تتطاير من وراء أحزانك كالغبار المتعالي من وراء ذلك الحصان . . لابد من ترويض هذا الفرس.. أريد أن أكتب :
(يا غابات طاليس.. أعدك أن أكتب عنك يوماً ما، فأنت حلبة هذا الحصان الجامح، ولكن حان وقت المسير) .
عندما تخرج من بين ذلك الركام، القرية التي كانت تحتضن الحياة، حولها همجية الاجيش التركي إلى مقبرة الدمار و الانقاض، تشعر وكأنك خرجت من القبر لتستنشق الحياة، مباشرة تشعر بالفارق الكبير في عملية التنفس.
حان وقت الاستراحة، وها أنا استلقي بجانب جدول المياه المتدفقة إلى الوادي، لاتزال هذه الساقية تحافظ على معالمها، علامة استمرارية الحياة، وقد حفرها أصحاب القرية لجر المياه إلى بساتينهم، واعتنوا بنظافتها، لأنها تقوم مقام البرادات في المدن، حيث تمتلىء في الصيف بقدور اللبن والحليب والعيران، للحفاظ عليها .
و على طول هذا الملف الصخري الصاعد، تفرق المقاتلين على شكل مجموعات، وقام فصيل التموين بإعطاء كل فرد، رغيفاً من الخبز وكأسا من الـ (بيبسي). الذي يتم تحضيره محليا من السكر وملح الليمون والماء، ويسمّى (بيبسي الرفاق)، وبإضافة الملح بدلا من السكر، تحصل على شراب بطعم العيران، وكلا الشرابين بعد هذا المسير المنهك يمثلان الدواء المنعش، بعد فقدان السكريات والأملاح بسبب التعرق، مما يعيد الطاقة إلى الجسد، ويجدد فيه النشاط .
بعد هذه الاستراحة القصيرة، تابعنا . . . . الصعود هذه المرة إلى مستوى مرتفعات الزوزان، حيث التضاريس الجرداء، باستثناء الأعشاب والنباتات الشوكية كالكعوب والكَوني (شجيرات شوكية).. وما إلى ذلك، وبالأخص النبات المعروف بـ (الهللز)(13) مصدر أعلاف المواشي، الذي يتم جمعه وطحنه عوضا عن التبن .
بدأ الإنهاك يسيطر على أكثر المقاتلات، مما اضطر آخرون لحمل حقائبهن، بما في ذلك الرفيق (باهوز). ولكن بعض الرفيقات يرفضن المساعدة، ويبدين الجلد والإصرار على متابعة المسير، وهن يحملن كافة عتادهن،، وعندما تعرض عليهن المساعدة يكون الرد، بطريقة تجعلك تحس بالندم .
قبل الوصول إلى القمة، جلسنا ننتظر الرفيقات حوالي الساعة بين أكوام (الهللز)، ومع الوصول إلى ذلك المستوى من الارتفاع، بدأت أشعر بتغير الهواء. إنه هواء الزوزان(14) وصفاؤه ورقته، حيث تشعر بكل نعومته وبرودته الحقيقية التي تضرب وجهك، وكأنها راحتا طفل تداعبان وجنتيك .
لقد تغير كل شيء، فأنت الآن تتنفس حقيقة، وأما قبل ذلك، فقد كنت مكرهاً على التقاط أنفاسك .
أنت الآن لا تشبع من تنفس الصعداء، وتتقصد أن تكرر ذلك مرة تلو الأخرى وتستنشق أكبر قدر تستطيعه من الهواء، وكأنك تستنشق العطر من الورد، لقد مرت السنوات ولم تنعم روحك بهذه الرائحة العطرة، مرت السنوات وأنت تتشوق إلى هذا النسيم العليل .
وفعلاً فمنذ نزولي من هركَول عام 1993 وحتى الآن لم أشم هواء الزوزان، و بدأت نسمات الزوزان تقلب صفحات الذكريات وتوقظ في الخيال ما كان في طي النسيان من صور تلك الأيام وحوادثها .
بدأ النقاش بين القياديين حول تمركز المجموعات ، هناك ستتركز مجموعة المرصد أما السرية فيجب أن تنزل إلى القرية ولكن أين الطريق إلى القرية .
تم التعرف على الطريق إلى القرية بعد جهد جهيد ونشب الخلاف بين الرفيق (باهوز) والرفيق روزهات حول مكان تمركز المرصد حيث تفاجأت بأول رد فعل من قائد السرية الرفيق (روزهات) عندما قذف باللاسلكي والسلاح جانبا وقال (مادام الأمر هكذا فلا علاقة لي بالمهمة) وبقي في مكانه متخلفا عن السرية حتى الصباج بينما اتجهت السرية إلى القرية في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل وبعد ساعة ونصف من النزول وصلنا إلى القرية إنها قرية (كَوزى رش) التي لاتزال جدران بيوتها المهجورة كما هي ، ها هي مدرسة القرية، والبيوت متداخلة مع البساتين والحقول وأكثر ما يشد الانتباه صخامة أشجار الجوز الضاربة في السنين والتي لم أر في حجمها طوال حياتي .
عند الوصول إلى القرية، حاول بعض العناصر النوم، ولكن تم منعهم من ذلك، لأن الساعة كانت تشير إلى الرابعة صباحاً، فعمدنا مباشرة إلى تنظيم ثلاث دوريات إلى جهات القرية المختلفة، لأخذ التدبيرات اللازمة، ولكي لا ينام أحد منهم في مثل هذه الساعات، بينما كان بعض المقاتلين، قد قام بجمع الكثير من الخوخ وتقديمها للرفاق.
ثم تقرر الابتعاد عن القرية، والدخول في بساتين الجوز على شكل مجموعات، حيث بدأ فصيل الرفيقات بالوصول، بعدما أضعن الطريق، ولم يعرفن مكان الجسر، مما اضطرهن إلى قطع النهر بصعوبة بمساعدة الرفاق، ورمي الحقائب إلى الرفاق في الضفة الأخرى، ومع ذلك لم ينج بعضهن من الوقوع في الماء .

7 تموز 1996
في الصباح وبعد تناول الفطور وصلت البغال، يجرها فصيل التموين، وتم الاتصال مع المرصدين للتعرف على الأوضاع الجديدة، بينما انشغل الكثير من المقاتلين بغسل جواربهم، وتفقد حقائبهم، وامتلأت أغصان الأشجار بالجوارب، حيث كان منهم من يلبس الزوجين أو الثلاثة أو الخمسة أزوج فوق بعضها .
بعد ذلك خيّم السكون، واستغرق الجميع في النوم، فيما عدا الطباخين والحرس.
حتى البغال، بعدما تم تفريغ الحمولة ونزع البرادع من على ظهورها، أخذت تعدو بسرعة إلى الحقل الترابي، وبشكل جماعي شرعت بالتمرغ على التراب، ورفع قوائمها إلى الأعلى، حتى تعالى الغبار، لتكسو طبقات الغبار كافة صحون (المرتوخة)(15) – وجبة الصباح – مما أثار حنق المقاتلين، وجعل البعض ينفجرون ضاحكين من هذه الصورة، وأما (المرتوخة).. فلم يقدر لنا أن نأكلها هذه المرة، بالرغم من الفترة الطويلة التي مرت علينا ونحن نتشوق لأكلها، حيث كانت هذه المرة الأولى بعد شهور طويلة، يقوم فيها الرفاق بطهي هذه الوجبة اللذيذة .
يتم تحضير المرتوخة من (السمن والطحين والملح أو السكر) وقد تم إطلاق هذا الإسم عليها بين المقاتلين خاصةً، فإذا أضيف إليها الماء أصبح اسمها (بينو): وجبات سريعة، ولكنها ثقيلة على المعدة بالنسبة للإنسان العادي، وأما بالنسبة للأنصار فالمعدة تصبح بالنسبة إليهم طريقا قابلا لأن يمر عليه كل شيء .
بينما أخذت أنا بالبحث عن مكان للنوم، بحيث يكون عرضة للنسيم بشكل مستمر، ويكون مع ذلك بعيداً عن وصول الشمس إليه، على الأقل حتى الساعة ( ۱۲) ظهرا. بعد أن مهدت الأرض حسب مكان تمددي، كما يفعل الماعز، وذلك بمقدمة حذائي المدبب، فرشته بأوراق الأشجار ومن فوقها كيس النوم، وتوسدت الحقيبة، وبازائها الحزام والسلاح مسندان على الشجرة واستسلمت للنوم، بينما كانت رائحة الحذاء قد تلاشت شيئاً فشيئاً .
عندما استيقظت، كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ظهرا، والشعور بآلام الظهر ازداد بعد هذه الراحة، و بالأخص مواضع المخازن التي ممنوع أن نقوم بنزعها، فهي جزء من الجسد، الغريللا في حالة الجاهزية والاستنفار الدائم..وكأنني أنام على الحجارة ، بقيت مسترسلاً في الأفكار وأنا في مكاني زهاء الساعة، وعندما قمت للالتحاق بالرفاق
كان الجميع قد تناولوا وجبة الغداء، ولم يبق لي إلا القليل من حبات الفاصولياء الضائعة في ماء القدر المكسو بطبقة من السمن، بينما كان الرفيق (باشور) ومعه بعض المقاتلين، قد عادوا وبأيديهم الأكياس الممتلئة بأنواع الفواكه ( الخوخ ، التوت ، التفاح ، الحصرم). حيث تناولنا بعض الفاكهة ونحن نناقش موقف الرفيق (روزهات) ليلة البارحة، وفي هذه الأثناء كان موعد إجتماع الإدارة قد حان، فاتجهنا مباشرة إلى مكان الاجتماع .
في الإجتماع تم الوقوف على نواقص مسير البارحة، لاسيما موقف قائد السرية (روزهات)، حيث فقد الحاكمية على السرية، وكان هو والرفيق باهوز يسيران مع الدليل، بدلا من أخذ مواقعهما في قيادة الرتل، وإعطاء التعليمات اللازمة ومتابعة أوضاع المقاتلين، ومن أمثلة هذا الإهمال، تدخين بعض المقاتلين في الأوقات غير المسموح فيها بالتدخين، فهذا يقول.. تستطيعون التدخين وهذا يقول: من سمح لكم بذلك ؟ . . مما جعل من هذه الأمور السخيفة مثاراً للتناقض بين القاعدة والإدارة .
عيون الرفاق على قائد السرية، ولكنه لا يلعب دوره المطلوب، وتدخلنا في هذه الحالة سيعتبر تجاوزاً وتفريغاً لدوره، وزاد الموقف حساسية ما فعله الرفيق (روزهات)، عندما رمى بجهاز اللاسلكي وبـ بندقيته على الأرض أمام المقاتلين، وكأنه يقول : ( أنا أو باهوز) .
و في جلسة النقد الذاتي، ركز الرفيق (روزهات) على هذه الناحية، وبدا من خلال كلامه أن تصرفه جاء كرد فعل لتدخل الرفيق باهوز، مما اضطر الرفيق باهوز للتدخل في تبرير موقفه بقوله: ليس هناك شيء جديد، حسب التنظيم فأنا هنا المسؤول الأول على كل ما يحدث اللكتيبة، لأنني قائد الكتيبة، وهذا لا يعني إلغاء دور قائد السرية، ولا يعني (إما أنا أو هو)… لأن لكل واحد منا دوره حسب نظام الحزب .
وبعد انتهاء الاجتماع وأخذ التكميلات، حسب تحليلات وانتقادات الرفاق، خلوت قليلا بالرفيق (روزهات) وتباحثنا في طريقة اقترابه الإداري فقال لي :
– لم أعد أفهم شيئاً من نظام الحزب، كل واحد يأتي ويقول هذا هو أسلوب الحزب.. ولا أرى أحدا في أسلوبه يشابه الآخر .
– يا رفيق (روزهات) كل ذلك نتيجة نقاط الضعف في شخصيتك.. ولا أريد بقولي أنك السبب المباشر في ذلك، ولكن عليك أن تتعمق في مفهوم الشخصية، وتلم بأدبيات وأنظمة الحزب لتستطيع تجاوز كل هذه التناقضات.
– في الصيف الماضي جاء الرفيق (عباس) وسار بنا بطريقته الخاصة وقال: هكذا هو أسلوب الحزب. ثم جاء الرفيق (فؤاد) .. ثم الرفيق (زكي) (16).. نغيّر أنفسنا مع كل واحد، وكل واحد يقول : هذا هو أسلوب الحزب .
– يا رفيق روزهات لكل شخصية خصوصياتها وثقافتها ولا يمكن للحزب أن يصنع من كل ذلك شخصية واحدة ولكن لكل حزب أنظمته وقواعده وأصوله ولا أحد يستطيع التلاعب بها وإن اختلف اسلوب التطبيق من رفيق لآخر .
– الظاهر أنني لا أفهم ما تقول .
– كل ما عليك هو أن تملأ مكانك وسأساعدك بكل مالدي من الإمكانيات .
مع غروب الشمس تحرك الرفيق (باهوز) ومعه ثلاثة مقاتلين للذهاب إلى السرية الأولى، أما نحن فبدأنا بالاعداد للتحرك باتجاه الشرق نحو(دشتا خانى)، بينما اتجه الرفيق باهوز إلى الغرب نحو وادي الزاب.
أثناء التحضيرات كان الليل قد أسدل ستاره، وحجبت الأعين عن الرؤية، حيث يزداد
الليل ظلمة تحت هذه الأشجار، إلى درجة تفقد معها العيون دورها تماماً، وتحس بأن الليل سلطاناً يأمرك بعدم التحرك، ويقول لك: من الأفضل أن تقف في مكانك، وفي عمق غريزتك، تجد صدى هذه النصيحة، ولكن سرعان ما تتذكر أنك في ظروف الحرب، وأن جبروت الليل وصداه في الغرائز يتلاشيان، عند أول خطوة تخطوها في مسير الأنصار ( كل شيء أصبح جاهزاً للمسير، ولكن باعتبار أن النقطة التي نقصدها لا يستغرق فيها المسير أكثر من ثلاث ساعات، اتخذنا القرار بعدم التحرك حتى الساعة الثانية عشرة ليلا. في هذه الفترة اقترب أحد المقاتلين للحديث معي، وعند سماع كلماته الأولى عرفت أنه ((بيرو))( 17) وهو مقاتل (سرهدي)(18) الأصل، كان مساعدي في العام الماضي أثناء فعاليات جبل (جيايى سبي) وجبل (بى خير)، وكل ما وقعت من المصائب في تلك الفترى،كان بسببه في الدرجة الأولى، حيث لم يترك شيئاً من التهم الساقطة إلا و رماني بها .
تم اعتقاله وسيق إلى وادي الزاب، وقضى مدة الاعتقال في سجن الحزب مع آخرين، حيث اعترف لي أثناء ذلك بكافة الاعيبه ونواقصة .
بعد أن قضى مدة الاعتقال الأولى، تم اعتقاله لمرة ثانية، و لمدة تجاوزت الأربعة أشهر، ونحن اليوم نلتقي لأول مرة بعد تلك الأيام السوداء، وهو حتى الآن لا يستطيع النظر في عيوني، ويحاول بشتى الأساليب أن يعتذر مما بدر منه .
و هنا يظهر مدى دور الرفاقية والروح الثورية وبالأخص أنني اليوم قائده مرة اخرى، فكيف سأعامله بعد كل الإهانات التي عرضني وآخرين إليها ؟.. ولكنني إنسان، وطالما تفكرت بالانتقام لنفسي، بأي طريقة من هذا الرفيق السيء الطالع، والذي لا يستحق كلمة (رفيق) .
و كلما تذكرت صورته وهو يزمجر فوق رأسي، ويبحلق في وجهي مثل الجلاد، امتلأ قلبي بالحنق والرغبة بالانتقام، ثم أعود لأراه واقفاً أمامي وقفة الجندي أمام قائده، لا يجرؤ حتى على رفع نظره إلي .
و بعد برهة من الوقت استرجعت خلالها كل هذه الصورة المؤلمة، كان أول كلمة قالها : هل يمكن أن تعطيني الفرصة لأكون موضع ثقتك هذه المرة .
هنا حاولت أن أكسر الحواجز التي بيننا، وأن أعود باللائمة على الشيطان، وأن أفتح معه صفحة جديدة، وكما يقال (ما فات مات فعليك بما هو آت) .
و بما أننا نلتقي مرة ثانية، فيجب علي في الدرجة الأولى أن أعلمه روح الاقتراب الرفاقي وأخلاق الحزب، ومددت يدي بالصفح إليه وأنا أقول له: أتمنى أن لا تتكرر مواقفنا السابقة، فربما يكتب لنا أن نكون شهيدين في خندق واحد .
كنت تظن أننا لن نلتقي مرة أخرى، وها نحن نلتقي، فلنتساعد على نسيان الماضي، أنت تعلم أنه هناك الكثير من العملاء تسربوا إلى صفوفنا كمقاتلين، وعند اكتشافهم اعترفوا بعمالتهم وأعلنوا الانضمام الرفاقي من الصميم، وأثبتوا صدق النية في الواقع العملي ، حتى أسندت إليهم الأمور القيادية وسرنا من تحت إمرتهم .
و هكذا أنت، يجب أن تثبت انضمامك الصحيح في الواقع العملي، والتزام روح الرفاقية، ومع أن ما رأيته منك لم أره من أكبر العملاء. فإن هذا اليوم سيكون ستاراً أسدله على تلك الأيام التي يرثى لها والحياة، كما تعرف مليئة بالدروس والعبر .
اعترف لك، بأنني حتى الآن غير لائق بأن أقول أنني الكادر حزبي المثالي، وأظن أنك تشاركني هذا الاعتراف، بل ويشاركني في ذلك معظم رفاق هذه السرية، فكل نواقص فعالياتنا في الجبل الأبيض مستمرة .
إنظر إلى الرفاق الذين ينظمون قائمة الحراسة، إنهم كل يوم يقومون بعقد شبه مؤتمر مصغر لأجل كتابة قائمة الحراسة، وتحت هذا الاسم ينقطعون للثرثرة والكلام الفارغ، والاستمرار في ذلك ستكون نتيجته غير لائقة .
إنها اقترابات ثقاقة تعسكر الزاب البعيدة من الانضباط العسكري، مرة أخرى تعود إلينا بكل تعفناتها، قائد السرية لايزال تحت تأثيرات حياته القديمة، بالرغم من وجود خصوصيات جيدة لديه، فهو مستمع جيد ولكنه من الناحية العملية، يفتقر للكثير من الجوانب التنظيمية، وتقع على عاتقنا مهمة التوفيق بين ذلك.
بعد هذا اللقاء القصير ذهب كل منا إلى مكانه، حيث حاولنا النوم اللاستيقاظ حسب الموعد المحدد للمسير .
وفي الساعة ( ۱۲ ) ليلاً تحركنا، للخروج من وسط الظلمة القاتمة بين تلك الأشجار إلى ضفة مجرى النهير المقابلة، حيث طريق السيارات الترابي المؤدي إلى (دشتا خانى) . . . عند التحرك، كانت هناك في منتصف الطريق الترابي كتلة سوداء، وعند اقترابنا منها، إذ بها (دب).. يبدو أنه في طريقه إلى القرية التي أصبحت مملكته، هي والمنطقة بأسرها، حيث لم يعد هناك وجود لأحد سواه. القرية وكل ممتلكاتها تحت تصرفه، وله فيها الحاكمية المطلقة، يأكل ما يشاء ويبعثر ما يشاء ويخرب ما يشاء، بينما لا أحد يعلم ماذا فعل التشرد بأهالي هذه القرية.. وأين رمي بهم الزمان.. وهي مقارنة صعبة، عندما يكون طرفاها بهذه الصورة، تستمر بعرض مشاهدها القاسية طوال اليوم .
أما الدب، فيبدو أن الأمر قد اختلف عليه هذا اليوم، فهو يرى أناساً غرباء في مملكته، لذلك سرعان ما أبدى انزعاجه، صارخاً مرة، ملتفتاً مرة أخرى ضارباً بأقدامه على الأرض، حيث لم نعد نميّز مكانه إلا بالغبار الذي يتعالي هنا وهناك جراء هيجانه هذا .
لقد تزلزل سلطانه وحكمه، واضطر أخيراً لترك الساحة لنا، بعدما تأكد أنه ليس في وسعه مواجهة هذا الانقلاب .
كانت البغال تشاركنا النشوة من اندحار هذا الشاه، وهي تستلم الطريق الترابي المرصوص بالحصى والحجارة، باستثناء بعض المسافات التي أتلفتها نتيجة انهيارات الثلجية وتدفقات السيول .
و بدا الطريق كالزقاق الطويل، وعلى جانبيه المرتفعات الجرداء والصخور القاتمة، التي تبدو وكأنها محروقة، وكلما ارتفعنا في مستوى الطريق، كلما ازدادت نسبة برودة الهواء.
وبعد مسافة ساعتين من هذا المسير، توقفنا قليلاً، بينما كان الرفيق الدليل (دجوار) يقول : في الجنوب الكبير (اقليم كردستان – عراق).. ألتقيت بأحد ميليشياتنا(19) وهو من هذه القرية، وكان يقول : أتمنى لو يقدر لي مرة ثانية أن أشرب من نبع ( أوووف)، ثم لأمت من بعدها، وهذا النبع على بعد خطوات منا .
بهذه الطريقة أغرانا الذئب (دجوار).. للذهاب معه للشرب من نبع (أوووف)، وفعلاً لم أجد نفسي، عندما رشفت أول رشفة من ماء هذا النبع، إلا وأنا أقول: (أوووف) ما هذه البرودة . . ؟. لابد أن الناس اصطلحت على تسمية هذا النبع بهذه الكلمة، لأنها الكلمة التي لابد من النطق بها عند احتساء هذا الماء القراح .
تابعنا المسير، وعلى الجانب الأيسر من الطريق، بعض البيوت المهجورة والمتخربة، وعلى أطراف الطريق، تناثرت برك الماء المتجمع من ذوبان الثلوج وتدفق السيول. ونتيجة لما تجرفه السيول من أملاح التربة وموادها المعدنية في طريقها، فإنك تحس عندما تقوم بغسل يديك في تلك البرك، بشيئ من الرغوة، وكأنك تستعمل الصابون .
نحن الآن في قلب (الزوزان) والرفيقات اللاتي وقعن في الماء أثناء العبور، يتقصون من البرد، وها هي (دشتا خانى)* ..ولكن أي (دشت). ـ أي سهل ـ ..انها مجرد أرض مستوية على شكل حقل عرضها لا يتجاوز المئة متر، ولكن طولها حوالي ساعة من المسير ، تكتنفها المرتفعات من جانبيها، وعلى طول الطريق، تستوقفك الجدران الضخمة، لم يبفى منها الا بفامة الإنسان ارتفاعاً.. والتي يبدو أن البعض منها مواقع أثرية، حيث أن بعض حجارتها تتجاوز الأطنان، وكما يتناقل أهالي هذه المنطقة أنها بقايا قصور لامراء هكاري ).. هل هي باسم اميرة اسمها خانى؟… أو ربما نسبة إلى عشيرة أمير الشعراء الأكراد أحمد خاني(20).. أم اسم هذه القرية .. وبه سميت هذه القرية (دشتا خانى).
و على ضفاف الطريق هناك أسوار حديثة البناء، بناها الكوجر – البدو- ـ..كحظائر لقطعانهم .
و في واد متفرع على اليمين من القرية، هناك نقطة اعتاد الرفاق على التوقف فيها قديما، وهكذا اتجهنا إلى هذه النقطة، بعد فرز مجموعة الرصد مروراً بالينابيع التي تكدست الأعشاب من فوقها، والتي جعلت العبور يزداد صعوبة، ضمن تلك المساحات الواسعة التي غمرتها المياه .
تحت الصخور العملاقة، التي سقطت فيما بعد من المرتفعات المجاورة للوادي، أخذت المجموعات أماكنها، بينما كانت الشمس قد بدأت تلامس بأشعتها قمم المرتفعات .
معظم العناصر أيديهم في جيوبهم من البرد، وأجسامهم تكاد تتقصف بانتظار ارتفاع قرص الشمس ووصول أشعته إلينا .
و في تلك الأثناء حدث ما لم يكن بالحسبان، جيش من الذباب الناعم يحيط بنا من كل جانب .
في بداية الأمر حاولنا دفعه عنا بنوع من عدم الجدية، ولكن الأمر بدا وكأنه غير طبيعي، مما جعل أحد المقاتلين يفسر ذلك – مازحاً – بأن الذباب.. أصبح بهذه الوحشية البريئة، نتيجة لعدم وجود الإنسان في هذه المنطقة، منذ فترة طويلة، فهو بهذه الطريقة يعبر عن شوقه للانسان، انظروا كيف يقبلون وجوهنا وأعيننا وشفاهنا.. يا له من استقبال حار .
8 تموز 1996
مع حلول الساعة الثامنة صباحا ومع ازدياد درجة حرارة الشمس، تناثر الذباب من حولنا، ولم يعد له وجود يذكر .
و بدأنا مرة أخرى نمارس حياة (الزوزان)، وفي المقام الأول، تعذر وجود الحطب والشجر، والعناية بجمع (الشيح و الهللز)، وبذلك أضيفت مهمة جديدة إلى عناصر الحرس، وهي مهمة جمع الحطب، ولكن أي حطب هذا؟!، إنه بمثابة القش، ويتطلب على الأقل عمل السرية كاملة في جمعه لمدة ساعة من أجل إيقاد تنور الخبز .
أثناء ذلك، تبين أن عناصر المطبخ نسوا صاج التنور في (كَوزى رش).. مما اضطرنا لإعادة مقاتلين لإحضاره مع ادوات الحفر التي نسيها الرفاق أيضاً .
مر اليوم بدون تطورات تذكر، سوى التكميلات اليومية، ليعاود الذباب حملته المسائية علينا مع برودة الجو في المساء، بينما قضى المقاتلين معظم النهار في الاستحمام والحلاقة وغسل الملابس. وفي الاجتماع المسائي، تقرر إخراج العناصر على شكل مجموعات، للتعرف على جغرافية المنطقة .
و كأول إجتماع لنا، عند وصولنا إلى منطقة فعالياتنا، وكصفحة أولى لنا في هذه المرحلة، اتفقت القيادة على لزوم فتح المجال أمام الرفاق للمشاركة بالنقد بكل صراحة ووضوح، ولنبدأ فعالياتنا بأسلوب يليق بالتنظيم، وفي الدرجة الأولى، التخلص من اقترابات (الزاب)، ورفض سياسة (الحيّة التي لا تلدغني لتعش ألف عام).. ورفض حياة التوافق.. اتركني بحالي وأتركك بحالك) .
فإذا كنا نريد فعلاً أن نقف غداً أمام الشعب ووجوهنا بيضاء، فإن ذلك لا يكون إلا بالتزام الحياة الرفاقية واحترام قواعد النقد والنقد الذاتي، وأن لا نترك الأمر على كاهل الإدارة فقط، فإن على كل مقاتل بدوره مسؤولية في تحقيق الالتزام وفق مبادىء الحزب .
بعد ذلك تم تحديد المجموعة التي ستنطلق إلى القمة التي كما يقول الرفاق، هي أعلى قمة في المنطقة، والتي لابد أن يتمركز فيها العدو، عند قيامه بأي من تمشيطاته، ليقوم من هناك بإدارة عملياته .
إنها قمة ( كرى برخا – قمة الخواريف) التي يسميها العدو بالتركية قمة النمور .
سأذهب أنا مع مجموعة، عناصرها تشكلت من كافة المجموعات، ليكونوا فيما بعد بمثابة الدليل لمجموعاتهم في حال حدوث أي شيء، وهكذا تألفت المجموعة من ستة مقاتلين وثلاث مقاتلات .
(في الواحدة ليلاً) أيقظنا عريف الحرس لنباشر التحرك، حيث أن تحضيراتنا كلها كانت كاملة .
بعد خروجنا من دشتا خانى وبعد ساعتين من متابعة المسير نحو الشمال عبر الوادي الممتد، وصلنا إلى ( نبع خضركى).. توقفنا هناك للتزود من مائه، الذي قام أهالي هذه المنطقة سابقاً برص مجراه لعشرات الأمتار بالأسمنت، بينما ذهب الرفيق دجوار مع رفيقه الدليل لتفقد مستودع (دكما)، وهو مستودع قديم للرفاق، وهل تعرض لتخريب الدببة أم لايزال على وضعه ؟ . . وسرعان ما عادا وبأيديهما بعض المواد التموينية، مما يدل على سلامة المستودع، وهكذا تابعنا المسير .
و في الطريق عثرنا على حطام حوامة ( هيلوكبتر) متناثرة، وأوضح الرفيق دجوار أن هذه الحوامة تحطمت أثناء عملية (أورامار) في بداية ربيع 1994. عندما قام العدو بإنزال أكثر من أثني عشر ألف جندي في اليوم الأول، وحاصر معسكرات الرفاق، وفي اليوم الثاني كانت العاصفة الثلجية، التي أسفرت عن مصرع العشرات من جنود العدو ، حيث تجمد معظمهم تحت الانهيارات الجليدية وبين الثلوج، وحاولوا التتدخل لإنثاذ الجنود بالحوامات، وهذه الحوامة قد اصطدمت بالجبل نتيجة العاصفة .
و في أثناء ذلك كانت معظم الأسلحة الفردية قد تساقطت من على أكتاف الجنود، حيث عثر الرفاق على الكثير منها بعد ذوبان الثلوج .
عند منفذ (بازى) المؤدي نزولاً إلى (أورامار) و سفح مرتفع ( كَرى برخا) وطأت أقدامنا الثلوج، هذا المثلث الذي تلتقي فيه الوديان الثلاثة، حيث الثلوج تتراكم بالأمتار، وبدأنا الصعود، وكأننا نتسلق هرما من أهرامات مصر، وتحت أقدامنا المروج والأعشاب الطرية التي ماتزال في بدايتها، حيث الاخضرار التام وكأنك هنا في بداية الربيع .
استمر الصعود مدة ساعتين، كنت أشعر خلالها أنني أصعد من قاع الأرض، وحيثما تنظر تنفتح الطبيعة من أمامك، بعد خطوات، تتغير زاوية اللوحة، وتتغير المقاييس ! وبدأت أقدامنا ترتطم بفوارغ علب الكونسروة، التي بعثرها جنود العدو كالعادة، وقبل الوصول إلى القمة، عثرنا على أكداس منها لاتزال كما هي، حيث قذف بها جنود الاتراك فيما يبدو لتخفيف أحمالهم، فكان ذلك فرصة لينوع الرفاق أطباق الفطور الذي لم يكن طوال هذه الأيام سوى الخبز والشاي .
ها نحن قد وصلنا إلى القمة، وهي من جهة تسيطر على جغرافية المنطقة، ومن جهة أخرى لا تقوى على حماية دجاجة، في حال وقوع أي اشتباك على أرضها الجرداء وسطحها الممهد والمستوي، والذي قامت فيه السيول بعملية التسوية، وطمر كل ما فيه من الشقوق، وتفتيت كل ما عليه من الصخور، وهي بالتالي أرض لا تناسب بقاء المقاتلين فيها، حيث أن أي حوامة ستمر من فوقها، ستكون النهاية بالنسبة للمقاتلين .
9 تموز 1996
مع الوصول إلى القمة، كانت الشمس قد آذنت بولادة يوم جديد. ولكن الغيوم المتلبدة في السماء، لم تمكنا من رؤية قرص الشمس، مع أن عقارب الساعة تشير إلى السابعة صباحاً .
و كان طبيعياً، أن يكون أول عمل لنا، البحث عن خندق من الخنادق التي تركها العدو، وبدأت (كَرى برخا) تميط اللثام عن وجهها، وبدأت أشعر أنني لست على قمة صخرية، وإنما أنا على جزيرة في وسط بحر الجبال. القمم التي تعانق السماء كأمواج البحر المتمردة.
إلى الشمال بدأت تظهر مدينة (هكاري) .
و أخيراً ها انتي يا هكاري.. أيتها البلدة الضاربة في تاريخ شعبنا، بكل أنواع الأدب والشعر والخيال .
ها أنذا أراك أخيرا يا مدينة هكاري يا مرتع الأعلام والأحلام .
هكاري يا عروس الجبال يا شمعة العيد ، يا إكليل الأفراح .
أما آن لشمسك أن تشرق من جديد .
إلى الجنوب من هذه القمة، يلوح ( جبل كَارى) وفي القسم الشمالي، مرتفعات أورامار التي تحتضن نهر ( الزاب).. وهو يخترق سفوح ( هكاري ) متجهاً نحو الجنوب، حيث قمة
(سرقدار) و (جلا دو كوه) و مرتفعات (ساموراء) .
تلف و تدور ولا يشبع خيالك من نظرك .
لقد كانت زاغروس وجبالها.. شكلاً آخر في خيالي، أما الآن، فيجب أن يتطابق الواقع مع الخيال، يجب إعادة فرز الخطوط والألوان .
الخيال في الثواني الأولى يعلن التمرد، وكأنه بحاجة إلى من يقنعه بالتنازل للواقع . . أيها الخيال الجامح كم كنت مقصراً هذه المرة .
يجب أن تصدق، إنها الحقيقة، هذه جبال هكاري ، وتلك مدينتها .
(عندما تلتفت إلى الشرق من هذه القمة، تتغير زاوية النظر، وأنت مرغم هذه المرة أن تشبع نظرك من هذه اللوحة التي تقنعك بعجز الخيال، لتعيد رسم ما تراه من جديد في صفحات الذاكرة) .
إلى الشرق من هذه القمة، يلوح لك جبل (سنبل)، متابعاً من قريب، قممه البارزة إلى (جيلو).. ثم من بعيد (جار جيلا). إنها قمم سنبل، التي يرد الحديث عنها في الكثير من الأغاني الكردية القديمة .
فهو في أغانيهم مرتع العشاق وملتقى الأشواق وهاجس المتغربين ومعقل الأحرار .
تلف وتلف.. وفي أعماقك شوق حاد، لتستمر في الدوران، وكأنك على كرسي دوار . ما هذه القمم المهيبة . . . ؟ إنها قمم جيلو .
كن ما مابدا لك أن تكون، فلابد من أن تبهتك قمم جيلو.. ولابد أن تختلط عليك الصورة . . ماذا أرى ؟ قمم ، أم أبراج ، أم منارات كنائس تبحث عمن يهز نوا قيسها، لتعلن يوم الخلاص، ومآذن مساجد يتعالي أنينها في الأسحار لتوقظ شعبها من السبات .
أقول ذلك، وأحس أنها تسخر مني وتقول : بل أنا خوازيق لكل عدو غاشم، سولت له نفسه العدوان على تراب جبالي .
و أسنة رماح، مغروزة إلى الأبد، لتدمي عليه رؤوس الخونة وجماجم الأوغاد، ألا تراني محيطة بثكنات العدو التركي من كل جانب، وانتظر من يزينني برؤوسهم .
و عندما تغمض عينيك، فإن صورة تلك القمم المتشحة بالمنحدرات الصخرية ، الجبارة، تتجمع في خيالك وكأنه صورة تمثال عظيم، نحتته خصيصاً لنا يد كردستان ، ليكون رمزاً لعناد ثورتها .
حتى الظهيرة، بقينا نمتع أبصارنا بجمال مشاهد تلك القمم الآسرة، حيث كدنا ننسى أننا في مهمة عسكرية، من أجل الاستطلاع والكشف الجغرافي، بالنظرة العسكرية وليس بأسلوب السواح والرحالة .
وربما كانت هذه مشكلتي بشكل خاص، فليس في وسعي أن أتجاوز مثل هذا الجمال الخلاب، الذي يخدّر الخيال، ويسكر الروح، إلى درجة أنني أتجنب التأمل الذي يؤجج روح الفن ويوقظ أحلامه النائمة، لكي لا أستسلم أخيراً وأمسك بالريشة .
و هكذا أذكر نفسي في كل مرة بأني أنصاري وأنني هنا قائد عسكري .
كالعادة في مثل هذه المرتفعات، فإن البرد القارص يقطع الكثير من سلسلة أفكارك.
إنني أرتجف، وأحاول الالتحاف بكيس النوم، ولكن ما الذي يفعله هذا الكيس أمام هذا البرد القاتل ؟
في تلك الأثناء، كان المقاتلين قد جمعوا أكواماً من علب الكونسروة، التي تركها العدو التركي في هذه القمة أثناء العاصفة الثلجية .
الكثير من هذه العلب، مزودة بالمفاتيح، ولكن البعض منها بلا مفاتيح، ولم يوجد معنا قطعة سكين واحدة، مما أخرج مشهدا كوميدياً فريداً، حتى قام بعض العناصر ببقر بعض المعلبات بواسطة سيخ تنظيف الكلاشينكوف، ليتطاير الزيت على وجوه البعض وملابسهم، وليكون أكثرهم تعرضاً لذلك، أكثرهم تنذاً وضحكاً .
(قبل التحرك في منتصف النهار، جمعت الألغام المضادة للأفراد، وقمت بالتأكد من سلامتها، وجمعت المقاتلين للتعرف على أماكن زرعها) .
و هكذا بدأنا بالرجوع، وفي الطريق لم يكفوا عن جمعهم لعلب الكونسروة الصالحة حسب تاريخ الانتاج .
و تعمدنا النزول هذه المرة من طرف القمة الآخر، للتعرف على جغرافيته أيضاً، فكنا نمر في طريقنا على أماكن قديمة، لتمركز مضارب البدو (الزوم) ومحال خيامهم، حيث المروج الخضراء الطرية والأعشاب الندية .
بينما كانت الغيوم قد تلاشت، ومدت الشمس سلطانها على قمم المرتفعات، وبعد تجاوز الثلج في مثلث الوادي، اسفل القمة إلى الجنوب، الوصول إلى الطريق الترابي، توجهنا لنشرب ثانية من نبع (خضركى)، حيث أخذنا قبل ذلك بعض الصور عند حطام الحوامة، ولا أنسى هنا أن أذكر، أننا قمنا بأخذ الكثير من الصور في القمة لمرتفعات (جيلو) وجبل سنبل، باتجاهات مختلفة، وكنت قد أخذت الفيلم الوحيد الذي كان مع الرفيق معصوم، وآلة التصوير التي في حوزة قائد المجموعة الرفيق داود .
بعدما قطعنا النبع بمسافة قصيرة، تفاجأت بقائد المجموعة والمقاتل (شيار) حامل القناص، وهو من – ماردين – يركضان من أمامنا، وإذا بحيوان مرتعد يعدو هارباً منهما، بينما هما يقومان بإطلاق الرصاص عليه، اعتقدت في البدء أنه خنزير بري، بينما كان هو الدب مرة أخرى .
استمرا تسديد الطلقات عليه، واحدة تلو الأخرى، ولكن بدون نتيجة .
و بالرغم من إصابته بعدة طلقات استطاع الفرار، لأن سماكة الشحوم على جسم الدب، تجعل الرصاص لا يؤثر فيه إلا في الأماكن الحساسة .
تابعنا الطريق، لنلتقي بعد مسافة قصيرة ببعض المقاتلين ومعهم البغال، متجهين إلى بعض مخابئ التموين السرية .
و بين الحين والآخر، لابد من المرور بين الأعشاب الممتدة على طول الطريق، لنتفاجأ برفوف الحجل تتطاير من بين أقدامنا، وكأنها شظايا قذيفة انفجرت أو كأن عشرات أوكار الفئران تفتح دفعة واحدة، وما أشبه بفراخ الحجل حين تركض بالفئران .
وكما هو معروف فالحجل طائر كسول، وهو يشبه الدجاج في تصرفاته، يطير ولكن تشعر أنه في طيرانه مجبر على الطيران، لعدم تناسق جناحيه مع حجمه .
لذلك تستطيع أن ترتفع أمتاراً قليلة، ثم سرعان ما تحط في مكان قريب، حيت يعود رف الحجل للتجمع مرة أخرى، وعندما تصل إليها ثانية، تكرر نفس العملية لمرات ومرات .
(تحرك الحوامات هذا اليوم كان بشكل غير عادي، فأكثر من أربع مرات تم توجهها نحو ثكنة آرتوش، وقبل وصولنا إلى نقطة التعسكر كان المطر قد بدأ بالهطول، بينما الوديان يلفها نوع طفيف من الضباب، مما جعل الجو قاتما شيئا ما) .
و في تلك الأثناء، مرت من فوقنا حوامتان، اتجهت إحداهما نحو هكاري، وأما الأخرى فتابعت الطريق نحو أورامار، ونحن فيما بيننا نتساءل: هل يقومون بالإنزال أم أنهم رأونا اليوم في تلك القمم ؟ . . و هذا جائز لأن بعض المقاتلين تحرك بشكل مكشوف، ولكن الوضع فيما يبدو يمر بسلام .
وصلنا إلى نقطة التعسكر، بعدما قام أحد المقاتلين بقتل أفعى في الطريق، ولكن لم تكن صالحة للأكل، ولذلك عند الوصول إلى النقطة ومع انتشار رائحة الأرز، توجهوا مباشرة إلى المطبخ، بينما كانت ضابطة الحرس الرفيقة ميديا قد سارعت لاستقبالنا وتلبية حاجات الرفاق والرفيقات كالعادة .
و من بعيد بدأ الرفاق المجتمعون في التدريب يرمقوننا بأبصارهم، ويشيرون إلينا بالتحية، وشرعت الرفيقة ميديا تبيّن لنا أمر الحوامات، وهي تقدم لنا صحون الأرز وعلب الكونسروة التي جلبناها، حيث أوضحت لنا، قيام الرفاق بتنفيذ بعض العمليات في أرتوش، وأن قائد السرية قد صعد القمم المطلة نحو الجنوب، مع بعض المقاتلين لمتابعة هذه العملية، وبعدما انتهينا من شرب الشاي، كان الرفاق قد أنهوا درس التدريب وأسرعوا لاستقبالنا .
و كالعادة، عندما يعود أحدهم من مهمته تقال له هذه الكلمة (لتكن لك العافية) وهي مختصرة من الكلمة الشائعة بين القرويين (الله يعطيك العافية).. وذلك عندما يمر القروي بجانب أحدهم وهو منهمك في العمل .
و هكذا إنهال الرفاق علينا بالأسئلة والاستفسارات .
بعد ذلك تم التوقف على سير المهمة، ولاسيما تحرك بعض الرفاق بشكل مكشوف وإطلاق الرصاص على الدب بدون أذن .
و بعد أخذ التكميلات، كانت هجمات الذباب قد بدأت حملتها المسائية، وكان الرفيق روزهات قد عاد، ليخبرنا بالتطورات وأنه وقف على مكان يناسب تعسكر السرية، على بعد زهاء نصف ساعة من هنا، لذلك سرعان ما حملنا كل شيء، للتحول إلى المكان الجديد، الذي كان هذه المرة مفروشاً بفتات الصخور المرمرية المتهدمة، بفعل انهيارات الثلوج .
10 تموز 1996
في الصباح وبعد شروق الشمس وصل الرفيق (باهوز)، بينما اشتداد هطول المطر، لم يعط المجال لإنهاء التدريب، حيث الرفيق المحاضر يغطي رأسه بالفيللت وكتاب تحليلات القائد – كيف نحارب – بين يديه .
ازداد وقع زخات المطر، وبدا مشهد المدرب كوميدياً إلى حد ما، في عيون المقاتلين، حيث تجاوزت صورته تلك ضوابط الجدية، وبدأ الجميع يضحكون، فما الفائدة من مثل هذا الدرس ؟ .
لذلك تم إيقاف التدريب، وذهبنا لاستقبال الرفيق (باهوز) ومن معه .
في الظهيرة، بعد التوقف على التكميلات اليومية، انعقد اجتماع قصير لعناصر الإدارة، بطلب من الرفيق (باهوز)، حيث أعطى صورة موجزة عن واقع السرية وما تتعرض إليه من فقدان التوازن، وبالأخص علاقات المقاتلين والتقربات غير الثورية، التي سيتم التوقف عليها بشكل حاسم .
ثم تطرق الرفيق باهوز إلى مخطط التحرك الجديد .
و بعد الانتهاء من التكميلات، انفردت مع الرفيق (روزهات) وجرى بيننا الحديث التالي:
– كيف أنت يا رفيق روزهات ؟ .
– على مايرام ولكني أراك غير مرتاح ومعنوياتك متأثرة قليلاً .
– كلا إنها طبيعتي، ولكن هناك أموراً أريد التحدث معك بخصوصها .
– أفهم .. أفهم ، تريد السؤال حول أوضاع مسؤولي الأمن ومنظمي قائمة الحراسة .
– صحيح ، كيف عرفت ؟ !
– بعض الرفاق أخبروني وأنا ألاحظ ذلك .
– إن الوضع يتفاقم.. وإذا لم تتخذ التدابير اللازمة سيحصل ما لا تحمد عقباه .
( هنا انضم إلينا الرفيق توفيق قائد الفصيل الثاني) .
– انظر إلى الرفيق توفيق إنه بريء أكثر من اللازم .
– كلا ، كلا ، فأنا أعرف كل ما يجري .
– إن الذي أوضحه الرفيق ( باهوز ) يحدث أيضاً في أوساط سريتنا .
– انظروا إلى مساعدي الرفيق (أردال).. إن حالته مثل حالة السكران عن كل ما يجري ضمن مجموعته .
إن عناصر مجموعته هي التي تقوم بإيقاظه بدلا من سهره على شؤونهم .
بل إنه ينام بعيدا عنهم غير آبه بكل ما يجري .
البارحة مثلا عندما جئنا، كانوا ملتفين حول بعضهم، وعشرات المرات نبهتهم على ضرورة الانتشار، وليس فيهم واحد يمتثل التعليمات، ويحاولون بشتى الأساليب التخلف من مكانهم في الرتل حيث توجد الرفيقة (ميديا) .
– و من تكون (ميديا) هذه ؟
– ألا تعرفها؟ روزهات يسأل
– كلا .
– كيف لا تعرفها.. أما كنت في لجنة التحقيق حول الشبكة التي ظهرت في ( بوطان) ؟
– بلى .
– إن (ميديا) التي كان يتكرر اسمها أثناء التحقيقات هي ميديا هذه .
– أصحيح هذا ؟ صحيح صحيح لقد تذكرت ، . . . في تلك الأثناء تم فرزهم إلى الجبل الأسود، وحين طلبناها قالوا بأنه سيتم معها التحقيق هناك، وكان لها الدور الأساسي في التلاعب بالرفاق .
– ألم ترها في الشتاء يا دوغان؟ .
– لا أتذكر و لكن في اليوم الأول لقدومي.. وعندما كنا نقوم بتوزيع المهام في (وادي شيفا).. هي التي اقترحت اسمي لمهام التدريب. ووقتها نظرت إليها وأنا أتساءل من أين تعرفني هذه الرفيقة .
في تلك الأثناء انضم إلينا الرفيق ( باهوز ). فوضعناه في صورة الأحداث. وكيف أن وضع بعض المقاتلين يتدهور، وبالأخص (أردال، و بوطان، و داود) مع ميديا هذه ومباشرة تم اتخاذ القرار باستبدالهم بالرفاق (بيرو و جيا) لتنظيم قائمة الحراسة، بينما كان قد أعلن الاستعداد للتحرك، فسارعنا لتناول العشاء الذي كان هذه المرة الأرز وسلطة الثوم البري، الذي تم تحضيره وتقطيعه على إحدى الصخور المرمرية، مما أعطاه نكهة نادرة.
بعد ذلك، بدأ هذا النوع من الذباب، اسود ناعم، بحملته المسائية، كالعادة أسراباً بعد أسراب، بأعداد لا تدع محلاً للهرب، فهي من فوقنا ومن تحتنا وفي أنوفنا وآذاننا وأفواهنا وعيوننا وبين شعرنا، ومن كل جانب، ومهما لوحت وبأي شيء فلن تصد هجماتها، وخير طريقة لذلك أن تنزع الحزام وتلفه على رأسك كالطوارق ـ في صحراء المغرب.
و منهم من استعمل الجوارب النسائية بالتقنع بها، ووضع بعض الأخشاب بشكل إشارة ضرب أمام أعينهم، على هيئة أقنعة أصحاب المناحل .
و من نظر إلى المقاتلين من بعيد، أو جاء ليراهم على هذه الحالة، من غير أن يعرف السبب، فلن يتمالك نفسه من الضحك، ويظن أننا نعيش نوعاً من أنواع الكرنفالات التنكرية .
كلنا نريد الهرب من هذه النقطة، بينما الشمس على وشك الغروب .
و تقرر عقد الاجتماع بين نبات (الهللز)، الذي يصل في طوله إلى ما فوق الركب، وذلك تفادياً للذباب أن يرانا، ولذلك جاءت التعليمات بالامتناع عن الحركة أثناء الاجتماع، لكي لا نهيج الذباب علينا، وإلى أن انتهى الاجتماع، كان الذباب قد نخر أدمغتنا، واستطعنا بعد ذلك أن نحرك أيدينا، بينما قائد السرية كانت مهمته أصعب بالحفاظ على صمته أمام المقاتلين.
ومن طرائف أخبارنا هذا اليوم مع الذباب، بينما كانت الرفيقات في الجولة الصباحية، وكل واحدة تحمل كوفيتها بيدها، وتواجه هجمات الذباب، سأل أحد المقاتلين عن أماكن البغال، فأشار إليه آخر، تلك هي.. في ذلك الجانب، وهو يشير إلى المقاتلات ، حيث بدين من بعيد وهن يلوحن بكوفياتهن على الذباب، كالبغال تلوح بأذنابها، مما أثار ضحك المقاتلين على هذا المقاتل، الذي خجل بدوره، وهو يقول : ( الآن فهمت دور أذناب البغال) .
بعد الاجتماع، بدأنا التحرك في الطريق المؤدي إلى نبع خضركى، وقبل الوصول إلى النبع وفي الجبل الصاعد من الجانب الأيسر بدأنا الصعود، حيث استمر المسير لأكثر من خمس ساعات، نتيجة انقطاع المقاتلين من رتل المسير وخصوصاً المقاتلات، مع تكرر نفس الأسماء (غزال ، دجلة . . . ).. والأسوأ أنهن يزداد رد فعلهن، عندما تحاول مساعدتهن على صورة عجيبة من الغرور .
تالى والرفيق الغالي
توزعت المجموعات بين الصخور والشقوق العميقة، بعد فرز عناصر الرصد والحراسة، وقد أبدى الرفيق (أردال) سلوكاً غير انضباطي مع قائد السرية، حيث امتنع عن الخروج ضمن عناصر المرصد، متحججاً بأن دوره لا يكون اليوم حسب قائمة الرصد.
و أخذت المجموعات أماكنها المناسبة، بعدما تم التعرف على جغرافية النقطة كمكان جديد، وأما ( نبع خضركى)، فيبعد زهاء ربع ساعة عن موضع نقطة التعسكر .
و في الأسفل من النقطة، في قاع الوادي السحيق، تقع قرية تالى، التي هجرها سكانها وبالرغم من أنهم كانوا حماة القرى، كما يقول المقاتلين، إلا أنهم كانوا يمدون يد المساعدة للرفاق سراً.
و نظرة سريعة على أسلوب البناء، الذي امتازت به بيوتهم، تكتشف أن وضعهم المادي كان متميزاً، قياساً مع بقية قرى المنطقة، ذلك أن عملهم الأساسي كان التهريب مع تجارة المخدرات، وكان من بين أهالي هذه القرية مقاتل قديم، وقع في أسر العدو التركي أثناء احدى الاشتباكات، وتحت التعذيب الفاشي، أصيبت قدماه بالشلل، وقبل أن تهجر أهالي هذه المنطقة قراها، كان أهل هذا المقاتل كما يقول أكثر الرفاق، عندما يرون المقاتلين يقتربون من قريتهم، يُخرجون هذا المقاتل على عربة العجزة وفي يديه المنظار، لينظر إلى الرفاق، وكان أغلبية المقاتل لايتمالكون البكاء عند رؤيته بالمنظار أيضاً .
و من بين آلاف المشاهد، فإن هذا المشهد يظل راسخاً في الأذهان، لذلك كلما مر المقاتلين على مرتفعات ( تالى) يذكرون هذا الرفيق الغالي .

11 تموز 1996

مر صباح اليوم، المقاتلين منهمكون بترتيبات المعسكر الجديد .
و بعد الظهر تم النقاش من أجل التدريبات، بينما كان الرفيق (باهوز) يستعد للذهاب إلى قمة ( كَرى برخا – Girê Berxa ) التي ذهبنا إليها في المهمة الكشفية .
و تم الاتفاق على أن يكون الدرس الأول عن (حقيقة المساومة)، و أن يقوم الرفيق معصوم(21) بالقاء هذا الدرس، وكان الهدف أن نفتح له المجال لأخذ دوره، ولكنه أبدى عدم الاستعداد لمثل هذه المهمة بتلك السرعة، مما اضطرني للقيام بأعبائها .

حقيقة المساومة
المساومة و لا شك مفهوم بعيد كل البعد عن خط الحزب، ولكنها في الواقع تنبع من فقدان الثقة بمفهوم التنظيم الثوري، وعندما تمارس مع سابق إصرار، فإنها تعني التلاعب بقواعد حياة التنظيم، حيث تجد مرتعها الخصب في أوساط الوصوليين والمرتبطين من وراء الستار بالعدو الفاشي، وأبرز سماتها، دمج التناقضات وتشييع الأجواء الضبابية بين المقاتلين، عن طريق تشكيك بعضهم ببعض، وتعكير المياه الصافية، للصيد في الماء العكر، حيث تتم المساومة وسط هذه الأجواء، بأسلوب مُرن، يبدأ بالبحث عن أخطاء من ستتم المساومة معه، وتذكيره بهذه الأخطاء، باستعمال الطريقة العفوية، لتكون بمثابة تهديد مغلف، بعرض الصداقة والتظاهر بالرفاقية الثورية، مع التطرق بين الفينة والأخرى إلى جرائم التشهير، والرفاق الذين ذهبوا ضحية المؤامرات المدنسة، والحياة بطبيعتها تدعو إلى التكتلات، وأياً كنت، فأنت محتاج إلى من يحفظك من الخلف وإلا ندمت حيث لا ينفع الندم .
بعد ذلك فتحت المجال لهم للانضمام إلى النقاش، حيث تم عرض أمثلة من الحياة العملية، ذهب فيها بعض الرفاق ضحايا المساومة .
كان الرفيق (روزهات)، قد تعلل عن عدم حضور التدريب بالمرض، ولكن مرضه في الحقيقة كان نفسياً، بسبب التناقضات التي يمر بها، وخاصة مسألة خلافه مع الرفيق (باهوز)، وعدم تأقلمه مع أسلوبه الجديد، الذي يعني بنظرته تدخل في شؤون السرية، بينما يريد هو أن يستمر في قيادتها بفرديته، لذلك تراه يقوم باقترابات جديدة غريبة مع
المقاتلين الجدد، خاصة الذين لم يبلغوا العشرين، مستغلا ثوريتهم وبعدهم عن الإلمام بمبادىء الحزب، وقد بدا هذا التحول ظاهراً عليه، فهو في اجتماعات الإدارة لايكاد يتحدث إلا مكرهاً وببرودة قاتلة .
و عند تنفيذ المهام، يبدأ بالإنسحاب شيئاً فشيئاً.. حتى يصبح خارج الساحة .

12 تموز 1996
في الصباح، وفي حوالي الثامنة تجمعت الإدارة، وتم فرز مجموعة للقيام بمهمة كشف أوضاع قرية (كعى)، فتم إرسال الرفيق توفيق مع المجموعة، وبقيت أنا في نقطة التعسكر، لأن الرفيق (روزهات) على اساس لايزال مريضاً .
و بعد الظهر، تم الاتصال مع المقر، حيث كان الرفيق (جمال) يوجه كلمة إلى الرفاق عن طريق اللاسلكي، ودار الحديث حول التطورات الأخيرة، وبالأخص ضمن التنظيم.
حيث تم تقييم فترة تدريبات الشتاء، بأنها خارجة عن خط الحزب، علاوة على ما تضمنت من التلاعب بمفاهيمه، وما سببت من التخريبات الواسعة في أوساط القاعدة، لذلك تم إيقاف مهام عناصر الإدارة في المقر المركزي في فترة الشتاء، ومنهم الرفاق ( زكي، فؤاد ، كاظم(22) ، . . . ) .
و تم فتح ملف التحقيق بحق تلك الفعاليات، مع تحديد لجنة التحقيق المؤلفة من

خمسة رفاق مرتبطين مباشرة مع القيادة .
لذلك على كافة الرفاق الذين قضوا هذه الفترة ضمن المقر أن يرفعوا تقاريرهم بحق تلك الفترة، مع ما يريدونه من ملاحظات حول متطلبات المرحلة .
و قد توقفت قيادة الحزب، على كافة الشكاوى التي رفعت من قبل المقاتلين، بحق تلك المرحلة، وتدخل بشكل رسمي في حلها، ولذلك لم يعد هناك ما يدعو للتبرم والخوف من تكرر ذلك الوضع .
و المطلوب من كل رفيق، الانضمام مع الفعاليات بكل انضباط و جدية، وعدم السماح للنقاشات الفارغة أن تتسرب مرة أخرى إلى أوساط المقاتلين .
فليس هناك إلا أسلوب القائد، وخارج ذلك فكل أسلوب يعني التلاعب بالحزب .
بعد ذلك تم جمع السرية، وقام الرفيق (باهوز) بعرض تأثيرات تلك المرحلة على حياة السرية، وكيفية التخلص منها، لذلك فإن الحزب يطلب أن تقدم كل سرية تقريراً يومياً عن أوضاعها .
هذه الأمور جعلت الأزمة تتفاقم بالنسبة للرفيق (روزهات)، مما جعله ينضم إلى حياة السرية ثانية، ولكن ليس بالصورة الكاملة .
و في الاجتماع، وجهت إليه الإنتقادات اللاذعة، حول اقتراباته من بعض الرفاق، ومحاولته ربطهم بشخصه، مع إتخاذ أحدهم وكأنه خادمه، ينام بجانبه ويقوم بخدمته.
و كان رد فعله واضحاً، حين قام بتوبيخ الرفيق (مظلوم)، للانتقادات التي وجهها إليه، مما زاد حدة التوتر في السرية .
13 تموز 1996
في الثالث عشر من تموز، توجهت إلى الطريق الواقع أسفل النقطة، ما بين (دارافا تالى) و المرتفعات المطلة على وادي (غزالك Xezelkê- )، لكشف طريق الإسفلت، المؤدي من هكاري إلى جقورجة، لوضع مخطط شامل لتحرك السرية والكتيبة.
و هكذا توجهنا مع غروب الشمس إلى مشارف القرية، وبالقرب من النبع الذي تحتضنه شجرة عملاقة واحدة، مكثنا حتى الساعة الثالثة ليلاً، وبعدها توجهنا للبدء بمهمة الكشف، واستمرت العملية حتى شروق الشمس، مما أثار انزعاجي من الدليل المقاتل (دجوار). لأن تحركاتنا كانت حسب توجيهاته، فبالرغم من كل هذه الساعات، أشرقت الشمس ونحن في مكان غير مناسب للحركة، فلا تستطيع التراجع ولا تستطيع التقدم، مما جعلني أقترب من المقاتلين بردود الفعل، ولأقول لهم: (كلوا الخبز مع أخذ الحساب للغد أيضاً ، فسنبقى هنا حتى الغد) .

14 تموز 1996
في الظهيرة، كانت كسرات الخبز قد أصبحت كالعظام، فأيقظت الرفاق، بينما (بيدون الماء) الذي فقدنا غطاءه، كان يعوم بالنمل الناعم، ولم نجد بداً من استعمال حزام أحد المقاتلين، بوضعه على فوهة (البيدون)، ليكون بمثابة المصفاة، ولم يكن قد تبقى من الماء إلا مقدار ثلاث كاسات، لذلك قسمت لكل ثلاثة منهم كأساً من الماء، وقليلا من الخبز اليابس، لتكون وجبة اليوم .
ثم أخذت الرفيق معصوم و دجوار، وتركت الرفيق أردال مع بقية المقاتلين، على أن نلتقي مع غروب الشمس في أسفل القرية .
و هكذا في وضح النهار، بدأنا نحن الثلاثة بالتسلل إلى القرية من بين الأشجار .
و منذ الصباح، كنا نسمع دوي بعض الطلقات من الوادي، وكان العدو فيما قبل، كما يقول (دجوار)، يسد هذه المنافذ بحماة القرى، وتناوب الدوريات بالمصفحات، ولكن لم نعرف الخبر الشافي حول سماع تلك الطلقات، إلى أن وصلنا إلى القمة المطلة على الوادي المشرف على قرية تالى، حيث رأينا على تلك القمة آثار الجنود وخاصة أوراق الأشجار المفروشة في أماكن نومهم .
و الذي تم التعرف عليه، وجود معسكر على شكل حماة القرى في الأماكن المؤدية إلى الطريق، من أجل الكمائن وحفظ الطرق .
و قد لجأ العدو إلى استخدام هذه الطريقة في كافة المنطقة .
لفت نظرنا وجود بعض البيوت وسط الشوادر، وقد شرع العدو ببنائها لحماة القرى، ولكنها لم تجهز بعد، وجدنا أكثر من أربعة (شوادر) تعسكرهم، وهذا التأكيد يعني الكمين الدائم لهم. وهكذا قررنا الانسحاب من بين الأدغال، التي تبدو وكأنها لم يدخلها الإنسان منذ سنوات. بدأنا النزول بطريقة عشوائية، حيث تراكم الأعشاب بشكل غير طبيعي، لم يتح لنا المجال الرؤية الطريق، ولذلك تعرض كل واحد منا للوقوع أكثر من عشرين مرة، وكانت النتيجة تعطل جهاز اللاسلكي وتطاير بطارياته، وانقطاع الكابلات بطريقة فقدنا معها الأمل باصلاحه، لذلك عمدنا إلى تركه في بعض الأماكن، ومتابعة النزول، بينما العطش بدأ يبسط نفوذه علينا، إلى أن وصلنا إلى الماء، فتبرع الرفيق (معصوم) بحملنا على ظهره، والعبور بنا إلى الضفة الثانية .
ثم بدأ الصعود حتى الوصول إلى الطريق الترابي المؤدي إلى القرية، الذي انتشرت على جانبيه أشجار التفاح، التي لم تنضج بعد، ومع ذلك فقد التهمنا الكثير منها، وملأنا جيوبنا من أجل الآخرين، بينما كان الآخرون وهم بانتظارنا أسفل القرية، قد ملؤوا حقائبهم من التفاح، وقاموا بتحضير الشراب بنوعيه (ماء + ملح + ملح الليمون) ( وماء + سكر + ملح الليمون) و بتوزيع ما تبقى من كسرات الخبز بالتساوي .
بعد ذلك تحركنا لمتابعة صعود تلك المرتفعات، التي بدت وكأنها جدران الأهرامات، بصخورها المترامية التي تقذف بها في هذه الوديان، الإنهيارات الجليدية، وكلما قلت.. ها قد وصلنا إلى القمة، تصل لتراها سفحاً لقمة أخرى .
ولو كان تسلق تلك المرتفعات يكون بالسير على الأقدام لهان ذلك .
و لكن الدور الأكبر في تسلق تلك المرتفعات، يقع على كاهل يديك، حيث تقوم قدماك في تلك الحالة على الأغلب بدور التوازن، وأي خطأ في التقدير تتسبب به يداك، فسوف تكون النتيجة السقوط في الهاوية) (23).
استمر التعرض في الصعود لخداع القمم، فكلما قلنا تلك هي القمة بدت، عندما نبلغها مجموعة صخور في الطريق .
و بدأت الرّكب تخور، وبين خطوة وأخرى، تتزحلق على الأعشاب التي أصبحت لنداوتها وكأنها الصابون، وتحاول الاستعانة بالتمسك بتلك الأعشاب، فتمتليء أيديك بأشواكها، وتجتهد لاخراج ما يؤلمك منها، ولكن الظلام يحول دون رؤية رؤوسها، عدا التي تستطيع نزعها بتحسس رؤوسها البارزة، ويشتد الحنق، عندما تتكرر الحالة عند كل تعثر .
و قلما توجد جغرافية كجغرافية الزوزان تقمع الإنسان بهذه الصورة، فحتى المقاتلين الذين عايشوا هذه الجغرافية السنوات الطوال كثيراً، ما تراهم يتعرضون لتضييع الاتجاه فيها .
و ها نحن الآن نتعرض لشيء يدعو إلى السخرية، لقد ضاع الدليل، ضاع دجوار وفوق كل هذا التعب، تركت الآخرين في ذلك المكان، وأجبرت نفسي على النزول للبحث عن دجوار، وأنا أصرخ وأنادي . . دجوار . . دجوار .
و كم كان رد فعلي يدعو إلى العنف، عندما رأيته غارقاً في النوم، تحت بعض الصخور.
و لم أجد بداً من التعبير عن سخطي بطريقة إيقاظه، حيث أخذته من تلابيبه وهو نائم وأوقفته وأنا أصرخ في وجهه ( من الحمار، أنا أم أنت ؟ ) .
و لكن دجوار فيما يبدو لايزال نائماً، وهو واقف بين يدي، فما إن تركته حتى سقط كالميت .
عند ذلك راجعت نفسي، وبدأت أحسب الساعات التي قضاها دجوار في السهر والإرهاق، فلا بد أن سلطان النوم هذه المرة قد ضرب عليه بأطنابه، لذلك عدت مرة أخرى امسح على جبينه وأوقظه برفق، وهو يتمتم بشفتيه، وكأنه في الحلم ويقول : اذهبوا سألحق بكم في الصباح .
و لكن يا دجوار كيف نذهب ؟ هل نسيت أنك أنت الدليل ؟
عند ذلك، قام دجوار كمن نشط من عقال، ونظر من حوله وصوب إلي عينيه كالمتعجب، ولم أتمالك نفسي من الضحك، وأخذ يركض باتجاه الرفاق، وأنا من ورائه، لا أستطيع اللحاق به، حيث كان قد أخذ قسطاً من الراحة أثناء ذلك السبات العجيب.
بينما العطش بدأ يفتك بي مرة أخرى، ونحن نعاود الرجوع إلى النقطة .
و أثناء الرجوع، أنعطفت أنا والرفيق معصوم استخدمنا حاسة التجربة في التحرك في مثل هذه التضاريس، متجهين من طريق جديد، بينما بقية المقاتلين ينادون: أين تذهبون ؟ ..الطريق في هذا الاتجاه بعيد، ولكن فجأة وجدنا أنفسنا تحت النقطة بالذات، بينما ذهبوا هم في طريق سيستغرق ساعتين للوصول إلى النقطة، وكنا لانزال نراهم . فجعلنا نصرخ عليهم، فيسمعون ولكن لم يصدقونا أننا نناديهم من جوار النقطة ؟ ! ولكنهم رضخوا أخيراً لاصرارنا على النداء .
و صلنا إلى نقطة تعسكر السرية، وكانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً .
قالت إحدى المقاتلات اللاتي كانت معنا وهي تنزع حقيبتها: أخبر الحرس أن لا يوقظنا في الصباح، فأجابها المناوب: لا عليك اتركي حقيبة التفاح مفتوحة ولن يوقظك أحد حتى ينفد التفاح .
و بينما كنا قد أخذنا بعض الاستراحة، إذا بعريف الحرس ينادي : من هناك ؟ ، من هناك ؟ ! فأجابه أحد المقاتلين : صباح الخير ، يا لها من حراسة ! .
و لكن عريف الحرس كان يستقبلنا بالمزاح، فقد رآنا ونحن في أسفل النقطة وعرفنا وحاول الاتصال معنا باللاسلكي، ولكن لم يكن يعلم أن جهازنا معطل .
عرفنا صدقه من خلال تذكيرنا ببعض حركاتنا أثناء دخول النقطة، لذلك خصصناه ببعض التفاح، وحملناه كيسا من التفاح لعناصر الحرس لكي لا يزعجونا في الصباح .
15 تموز 1996

استيقظنا حوالي الساعة الثامنة صباحا، بينما كانت حقائب التفاح فارغة تماماً وتحلق حولنا المقاتلين، يستمعون لتفاصيل مهمتنا، وتركز الحديث حول (الشوادر) العسكرية على الطريق كهدف.
في تلك الاثناء سماعنا بالقرب صوت عيارات نارية.. فمن تراهم يكونون ؟.. ربما يكونون عناصر الميليشيا التي أطلعنا المقر المركزي على إرسالهم إلينا من معسكر (آرتوش)، وربما يكونون عناصر حماة القرى، أو دورية من دوريات العدو .
لذلك انحصر الحديث حول هذه المسألة بالذات .
الأمس كان (الرابع عشر من تموز).. يوم مقاومة السجون، وكان من المفروض بمرور هذه المناسبة أن ينظم الاحتفال، ويبدو أنه قد تم ذلك البارحة، حيث ألقى الرفيق ( باهوز) كلمة بهذه المناسبة .
بعد ذلك وفي غضون الساعة الثامنة صباحاً، سارعنا بتوجيه المهام .
1 – الرفيق (سربست)، قائد مجموعة التموين، يكلف بالذهاب إلى مركز ( كَوزى رش) لجلب الإحتياطات اللازمة من التعيينات والمهمات .
2 ـ الرفيق (روزهات) قائد السرية، يتحرك مع بعض العناصر لدراسة نقطة تعسكر الحماة، والعمل للقبض على أحدهم إذا سنحت الفرصة، للتعرف على أوضاعهم .
3 – الرفيق (باهوز) مع بعض المقاتلين، يتحرك باتجاه (جبل سنبل)، للقيام بالكشف اللازم .
4 – بينما أسندت إلي مهام تسيير شؤون نقطة التعسكر في تلك الأثناء .
بعد تحرك الرفاق تم الاتصال مع المقر المركزي، حيث اعلمونا باتجاه الميليشيا إلينا، لذلك أرسلنا مجموعة أخرى إلى مركز ( كَوزى رش)، من أجل جلب التموين والميليشيا وعند وصولهم سنقوم بتغيير مركز النقطة باتجاه (كاَنى كَلى)، لنكون بمثابة الحماية للرفيق روزهات ومجموعته .
بينما لم يبقى في النقطة إلا حوالي فصيل من المقاتلين، الحوامات وبشكل منخفض في ذهاب وإياب، على طول وعرض المنطقة .
و في المساء من كل يوم، تأتينا المخابرة من المقر بتفصيل التطورات اليومية لعمليات الرفاق على الحدود، بينما نحن لانزال منشغلين بالتعرف على جغرافية المنطقة ودراسة الأهداف .
و فهمت من خلال التقاط بعض المخابرات الاسلكية للعدو، انهم على علم بوجود تحركات في المنطقة، وتجـيء التعليمات من المقر، أن العدو يقترب بتحركاته من منطقتنا، وتلك هي عادة العدو في التمشيط، حيث يبدأ بإغلاق الحدود من الخلف ثم يقوم بالتمشيط باتجاه هكاري .
لذلك فإن توزع الرفاق بهذه الصورة، هو من أخطر الأمور على وحدات الأنصار، لأن تبعثرهم بهذا الشكل يضعف المجموعات من جهة، ويجعلها لقمة سائغة للعدو من جهة أخرى ، حيث لا تستطيع أي قوة التحرك والمقاومة وسط تلك التمشيطات .
16 تموز 1996
في الصباح كان الرفيق (توفيق) يعاني من الضيق والانزعاج من إهمال المقاتلين، فرغم تكريره التعليمات لهم، أن تجمع ادوات المطبح بعد استعمالها، بقي كل شيء مبعثراً في محله، هذا الصباح وبالنسبة لي، فهذه هي المرة الأولى التي أشهد بها ضمن حياة المقاتلين، الإهمال يصل إلى هذه الصورة، بينما الحوامات لا تنقطع عن التحليق في المنطقة .
في تلك الأثناء، عاد الرفيق داود ومعه مقاتل من مرافقي الرفيق (باهوز) بصورة غير متوقعة، وكان السبب مرض الرفيق ( داود ) .
عند منتصف النهار، تم الاتصال مع الرفيق (روزهات) والرفيق (باهوز)، وكان الوضع لدى الرفيق (باهوز) يمر بشكل طبيعي، وأما الرفيق (روزهات)، فقد طلب مباشرة أن أتحرك مع اثني عشر مقاتلاً إلى المكان الذي زرعنا فيه البصل ـ الألغام ـ في (قمة برخا)، حيث هناك غراب يتجول على القمة.
و لكن ماذا يقصد الرفيق بقوله (الغراب)؟… هل يقصد الحوامات أو إمكانية البدء بالتمشيط؟.. ولكن فيما بعد تحدث الرفيق (باهوز) بالعربية مع بعض المقاتلن، وفهمنا أنه يقصد أن هناك أحد الرعاة مع قطيعه في مكان زرع الألغام .
و هكذا اسرعت باصطحاب ثمانية مقاتلين واربع مقاتلات، والتحرك تحت شمس تموز، حيث اللهاث يصل إلى درجة الصفير إلى أن وصلنا إلى المنفذ، بينما الرفيق (أردال) والرفيقة (زوزان) لايزالان في الطريق، مما أثار حنقي على تصرفات (أردال) وعاداته هذه.
و لكن ما العمل؟.. فالاثنان من مقاتلي إيالة (سرحد)، الذين أصبحوا كمثل عائلة واحدة.. ( نحن أين وهم أين ؟ ) .
و بينما نحن بالكاد نستطيع متابعة المسير وقلوبنا تكاد تنفجر، تراهم من ورائنا كأنهم في جولة سياحية .
و لـ زوزان مقدرة عجيبة على الثرثرة والخروج من الحديث للدخول مباشرة في حديث آخر، مع كل ما يتضمن الحديث من الاستطرادات والذكريات .
لذلك لم أجد بداً من التفريق بينهما وأمره بالتحول إلى المقدمة .
و عند الوصول، صعدت للتو باتجاه حقل الألغام ومعي الرفيق (شيار)، حيث كانت بالقرب من الحقل بقعة كبيرة من الثلج، فلم نكد تصدق ذلك للعطش الذي ألمّ بنا، حيث أغمضت عيني وبدأت أفرك وجهي بالثلج، ولكن سرعان ما يبدأ العرق بالتجفف، ويبدأ العد العكسي إلى أن تصل إلى الشعور بالبرد .
تم الاتصال بعد ذلك مع الرفاق، ويبدو أن الراعي عاد إلى القرية. ثم تفرق المقاتلين لجمع بعض معلبات الكونسروة، التي خلفها العدو في هذه الأماكن، حيث عثروا أيضاً على بعض (بيدونات) الماء المليئة، مما جعلنا نستعيض بها عن عملية تذويب الثلج.
بدأ البرد يشتد، مما اضطرنا لإغلاق المغارة التي أوينا إليها بالحجارة، وهكذا أيضا فعل المقاتلات في مركزهن .
بعد ذلك قمت بتوزيع المهام :
۱ – ثلاثة مقاتلين يتجهون إلى القمة، مع تنبيههم على أماكن زرع الألغام .
۲ – مجموعة تتوجه إلى المنفذ الأعلى، كحماية للوحدة .
٣ – وما تبقى من المقاتلين يبيتون في هذا المكان .
و هكذا تحركت المجموعة الأولى في الساعة الثالثة ليلاً، والأخرى في الساعة الرابعة .
(إنها طبيعة الزوزان، حرارة النهار تنخر الدماغ، وكأنها تتسلط عليك عن طريق مجهر) .
و عند مرور أي غيمة وقيامها بحجب قرص الشمس، تشعر مباشرة بالبرودة، ولكي تستطيع النوم، فيجب أن تترك نصفك في الظل، وتعرض النصف الآخر للشمس .
أما ليل الزوزان، فالأسنان تصطك من البرد، وبعد تمدد الجسم بحرارة النهار وانتشار الارتخاء في المفاصل، يجيء الليل بالعملية المعاكسة .
و لكن بعد فترة من التأقلم مع هذه الطبيعة، يصبح الأمر بالنسبة لك عادياً، وتشعر بالتحسن الملموس في كل أحوالك الصحية والجسدية، حيث يصبح الجسد كالفولاذ، والزوزان أيضاً مثل الذئب، الضعف في مواجهته يعني الموت، والطبيعة التي لا ترحم، إنها حياة متداخلة، تعيش فيها الفصول الأربعة من العام في يوم واحد .
فصباحه ربيع، وظهره صيف، ومساؤه خريف وليلة شتاء، وهو لا ينسى أن يذكرك بأربعينيته بعد منتصف الليل، حيث يلجا العناصر في تلك الساعات، للالتحاف بالمشمعات العسكرية .

17 تموز 1996
في الصباح، كانت الأمور قد سارت بشكل طبيعي، ولاشيء يدل على قيام العدو بحملة تمشيط .
لأن الحملة، لو خرجت إلى المنطقة، فلابد من وصول قافلة السيارات ليلاً إلى هذه القرية، وسيقومون بالتمركز على إحدى هذه القمم للتحضير للانزال، ولو كانت الحملة ستنفذ من الجهة الثانية عند منفذ (قرية تال)، فهناك الرفيق روزهات يتخذ التدابير .
لم يبق إلا التساؤل عن وضع فصيل التموين، الذي اتجه إلى ( كَوزى رش – Gozê Reş ) ورغم المحاولات المتكررة من قبل مرصدنا لم نتمكن من الاتصال بهم .
و أما أوضاع النقطة، فقد كلفت الرفيق توفيق بإدارة شؤونها .
في ذلك الوقت وصل إلينا الرفيق (باهوز)، بعدما ترك مكانه ليوضح لي أنني سأتابع هذه الرحلة مكانه. هذه الرحلة التي أصبحت فعلاً مثل رحلة كولومبس.
و فهمت منه، أنهم بعد أن أعادوا الرفيق داود، مرض مقاتل آخر، وقضوا ليلة كاملة في الصعود تجاه (جبل سنبل)، وأضاع الدليل الطريق، لذلك عادوا للمبيت في المكان المطل على الوادي المقابل لمكاننا هذا، ومن هناك قاموا بتعريف الرفيق (روزهات) عن مكانهم قبل غروب الشمس بالمرايا .
و يبدو أن الرحلة ستطول، وقد اخبرنا الرفيق توفيق بوصول الميليشيا من مغمور، لذلك سيتوجه الرفيق (باهوز) إلى النقطة لفرز عناصر الميليشيا .
على الفور قمت بتجهيز سبعة مقاتلين، وتأمين المواد التموينية اللازمة، واتجهنا لتنفيذ المهمة.. (هذه الليلة لم أستطع النوم، حيث يبدو من خلال متابعتي لمكالمات العدو اللاسلكية، أن حماة القرى يقومون بالتحرك في المنطقة).. كان رمز حماة القرى في المكالمات هذه المرة قواق) – أي شجرة الحور – .
و كانت قد صدرت التعليمات لرفاق النقطة، أن يتمركزوا في مكاننا البارحة .
و أما نحن فانقسمنا إلى مجموعتين، واحدة نزلت إلى المنفذ وبقيت الأخرى في القمة وبعد منتصف الليل، حيث كنا على منفذ (سنبل) المؤدي إلى طرف هكاري، ارتفعت ألسنة النيران من أفواه البنادق رشاً .
لذلك رأيت من الأنسب المبيت مع المقاتلين في إحدى الاماكن، لمتابعة النزول في الصباح.
18 تموز 1996
في الصباح كنا على استعداد كامل للتحرك، وكان الوضع طبيعياً نوعا ما، فدعوت المجموعة التي تبيت عند المنفذ للانضمام إلينا، بينما كان (دجوار) و (بيرو) قد اعدوا وجبة الفطور، الذي كان هذه المرة خبزاً مقلية بالسمن والسكر، وجاءت مجموعة المنفذ وقد ملؤوا كفياتهم بالثلج، حيث عرضناه ليذوب، ونأخذ منه زادنا للمسير.. (وتتم عملية تذويب الثلج، بوضعه فوق الشادر معرضا للشمس إلى أن يمتليء الوعاء الموضوع تحت الشادر) .
فمن أراد الماء يشربه، ومن أراد الثلج يأكله، فتلك حياة الزوزان .
بعد الظهر تم إرسال أحد الميليشيا إلينا مع بعض الحاجيات الأخرى، حيث سيرافقنا هذا الميليشيا في هذه الرحلة . . رحلة سنبل، هذا الجبل الذي لم يدخله الرفاق بعد عملية الرفيق جمشيد – احمد كسيب – حتى اليوم .
و بعد كل هذه السنوات، ستكون هذه أول محاولة لنا لولوج هذا الجبل .
قام الرفاق سابقاً بعدة محاولات لاقتحام هذا الجبل، ولكنها كانت في كل مرة تتعرض للإخفاق، فهل سننجح هذه المرة ؟
ومع ما يعنيه اقتحام هذا الجبل من المخاطر، فنحن مصرّون على ذلك .
قمنا بعملية كشف الطريق الواصل ما بين قرية كعى والجبل، وفي هذه الليلة سنتحرك .
قبل التحرك، اتصلت بنا الرفيقة جيهان لتطمئن على وصول الميليشيا إلينا، ويبدو أنها اليوم في المرصد، ومن عادة قادة الفصائل أنهم لا يصعدون إلى المرصد إلا لأمر هام .
و يبدو من خلال لهجة انزعاجها من إعادة ثلاث مقاتلات إلى الجنوب ثانية، لما كن يقمن به من التسبب بانقطاع السرية أثناء المسير، ويبدو أنه تم إعادة نفس العدد من السرية الأولى أيضاً .
إنها مسألة غرور فيما يبدو، فقد نزل نصاب رفيقاتها إلى اثنتي عشرة مقاتلة، ويبدو أنها تتوقع تكسير رتبتها، من قائدة فصيل إلى قائدة مجموعة .
و هذا يفسر قيامها بالذهاب إلى المرصد، وهي مهام قادة المجموعات، ولعلها تعبر بذلك على رد فعلها .
و الرفيقة جيهان من عشيرة كَويا من (أولدره – شرناخ). و لكنها نشأت في مدينة (وان)، و بالرغم من أنها متعلمة، يبدو عليها وكأنها جاءت البارحة من خيم البدو ، . . شقراء البشرة، تسيطر عليها روح القرية وخصوصيات فتياتها ، . . . وانتقادات الرفاق تنصب دائماً عليها من أجل اقتراباتها الباردة، والمفتقرة إلى المبادرة، وهي لم تستطع حتى الآن فرض حاكميتها على فصيلها، لذلك تقترب من البعض منهن فقط حسب مزاجها وعاطفتها، مما يسبب نشوب التناقضات الحادة ضمن فصيلها .
و أكثر نواقص المقاتلات تنحصر في حقيقة، في هذه الخانة، أي ممارسة أوضاع العائلة، فمن التي ستقوم بدور الأم، ومن هي الخانم التي ستنظر إلى الآخريات وكأنهن بناتها ؟
مع غروب الشمس كنا نتبادل المنظار، لكشف الطريق المؤدي إلى سنبل من أعلى قرية ( كعى)، واستمر الكشف حتى غروب الشمس، حيث بدأنا النزول .
و أول التعليمات التي أعطيتها: أن لا يطأ أقدام أحد تراب الطريق، تجنباً لترك الآثار ، وأن يكون السير على الأعشاب والحجارة ما أمكن ذلك .
نزلنا إلى الوادي منعطفين من فوق القرية، وما إن وصلنا إلى المنفذ المطل على المقر تماما، حتى بدأت العيارات النارية ترسم الخطوط المنقطة في السواد المظلم . . . رشات ورشات إلى كافة الجهات .
و لكن كان الأمر يمر بصورة عادية، ومع ذلك وجه جهازنا اللاسلكي على قناتهم، وإذا بأحدهم يقول: إنني أرى اثنين على المرتفع ولم أعد أستطيع الصبر .
توقفنا قليلاً ثم تابعنا المسير .
و عند اقترابنا من المنفذ، وبشكل مفاجيء تراجع الرفيق ( أردال) والدليل ومن معهما.
– ماذا هناك ؟
– ألم تر القدح.. بالقدّاحة لعدة مرات ؟
معظم المقاتلين شاهدوا تلك الإشارة، والتي تعتبر تنبيهات من بعض حماة القرى ، الذين لايريدون إلحاق الأذى بنا، و قد اعتاد الرفاق على مثل هذه المواقف من بعض حماة القرى المؤيدين ضمنياً لنا .
و هكذا بدأنا بالتراجع إلى الخلف قليلاً، ومراقبة المنفذ، ولكن دون جدوى، وفي الليلة البارحة كانوا فوق المنفذ، عندما كانوا يطلقون النار، وهذا يعني أن الطريق الوحيد مسدود، ولابد إذن من العودة، ولا سيما عدم معرفتنا الكاملة بالأوضاع الجغرافية، مما اضطرنا للعودة ثانية، وبذلك يكون اقتحام جبل سنبل أملاً مخفقا مرة أخرى .
وفي الواحدة ليلاً، وصلنا إلى نفس القمة التي كنا فيها، لنقضي ما تبقى من الليل هناك .

19 تموز 1996
في الصباح، كان اثنان من المقاتلين قد تضعضعت أحوالهم الصحية، إلى درجة تعيق متابعة المسير، وتم الإتصال بالرفيق (باهوز) وإطلاعه على الصورة، وخاصة وضع الرفيق (أردال)، حيث يرفض متابعة المهمة ويقول: إنهم يرمون بنا إلى الجحيم، لولا قداحة (حماة القرى) لوقعنا في الكمين، وهو يؤثر باعتراضاته على معنويات الآخرين، مما سيجعلهم عرضة للتلاعب .
طال الحديث بيني وبين الرفيق (باهوز) وانتهى بالاتفاق على العودة إلى النقطة، حيث سيقف على الأمور بدقة .
و هكذا عدنا تحت جناح الظلام إلى نقطة تعسكر السرية، وكانت نقطة تعسكر السرية في سفح قمة (كرى برخا) ، حيث كان الرفيق روزهات أيضاً قد عاد مع مجموعته، ويبدو أنهم البارحة قد عقدوا إجتماعاً، ولم يحضره روزهات كعادته القديمة، مما جعل الرفيق (باهوز) يحل محله في إدارة الاجتماع، الذي وجهت خلاله بعض الانتقادات للرفيق روزهات وغيره من الرفاق، ثم توقف الاجتماع بسبب المكالمة المستعجلة التي أجراها الرفيق ( باهوز ) مع الرفيق (جمال – مراد قرة يلان).

20 تموز 1996
منذ الصباح الباكر، وبعد الإفطار مباشرة اجتمعت أعضاء الإدارة، حيث افتتح الرفيق باهوز الجلسة بقوله: دعوتكم لهذا الإجتماع بالذات لوضع النقاط على الحروف، وليفضي كل واحد منكم بما هو في داخله. فعندما تكون الإدارة عائمة في المشاكل فلا عتب على القاعدة. والمسؤولية التي تقع على عاتقنا تتحدد في هذه النقطة.. (عندما تكون القيادة مفككة، فإن القاعدة ستكون مفككة أضعافا مضاعفة، لذلك وفي هذا الاجتماع يجب أن تحلل كل تناقضات الإدارة، وتحسم بشكل نهائي) .
بعد ذلك توقف الرفيق (باهوز) عن الكلام وساد الصمت على الجلسة، ولم يتحدث أحد ،وكل واحد ينظر إلى الآخر .
عاد الرفيق باهوز ليقول: أكرر التشديد والإصرار.. بضرورة البوح بكل ما هو مكبوت، وبدأ الرفاق بطرح مشاكلهم .
و خلاصة الحديث: أن المشكلة أساساً تبدأ من عند قائد السرية الرفيق (روزهات)، فرغم التوقف على وضعه من قبل، لايزال مستمراً في اقتراباته، وإهمال واجبه، ولا تقف المشكلة عند رفضه لأسلوب الرفيق باهوز، ولكنها في الحقيقة تنبع من عدم ثقته بذاته، فهو يحسب أن الكل يتآمر عليه، وكأننا ذئاب من حوله، وربما تعرض لمثل هذه الحالة في ظروف سابقة، وبالتالي فهو يقوم على الأغلب بمجموعة مقارنات، تجعله في النتيجة يصب على أرض السرية، بناء كاملاً من الخيالات المستعارة من ظروفه السابقة .
وقد أبدينا كل ما في وسعنا لمساعدته من الناحية العملية، ولكنه كل مرة يتعلل بشيء، فحتى مرضه ينبع في الحقيقة من عدم قبوله لأسلوب سير السرية بعيدا عن فرديته ومزاجيته .
لذلك اقترح هو أثناء الاجتماع، أن يتم تعيين رفيق آخر بدلاً منه كقائد للسرية ، وبطبيعة الحال، تم رفض هذا الاقتراح، وتعاون الرفاق على إقناعه بضرورة الخروج من هذه الأزمة.
و أما الانتقاد الرئيسي الذي وجه إلي، فهو أنني أقوم بدور المستفيد من تلك التناقضات، بما أبديه من التوازن والتأرجح ما بين الأطراف، وإذا لم أكن أقوم بدور المستفيد فلا أعدو دور المتفرج .
أما الرفيق توفيق، فهو حيادي على الأغلب، ولذلك يؤثر عدم التدخل في كل شيء، ومثله الرفيقة (جيهان).. كما يقول المثل الكرديم لا من تسعة ولا من عشرة(24) .
وكذلك وجهت الانتقادات لقادة المجموعات واحداً تلو الآخر، حيث يقومون في مثل هذه الأجواء بتعويم موقفهم بين القاعدة والإدارة، وبدلا من أن يكونوا صلة الوصل بين القاعدة والإدارة، يقومون بدور حلقة الفراغ التي تميّع التعليمات .
بشكل عام، اختتمت جلسة النقد الذاتي على أساس توقف كل رفيق على نواقصه.
بعد الظهر اجتمعت السرية، وتوالت الانتقادات على بعض الرفاق، حيث طلب من هؤلاء القيام للاستفسار عن أسباب النواقص التي وقعوا بها .
و بدا ضعف الإدارة واضحاً من تداخل تلك الانتقادات، فأين كانت الإدارة مع كل ما يجري هنا ؟.
كان على الإدارة أن تعالج هذه المشاكل، قبل أن تصل إلى نقطة الانفجار.
و لكن النظر إلى المشاكل من زاوية المساومة.. ( الرفيق الفلاني لم ينتقدني، فلذلك لن أنتقده) هو الذي أوصل الأمور إلى هذه الحالة، بالرغم من الدروس المتكررة التي تلقاها المقاتلين حول ضرورة التخلي عن مفهوم التوافق .
لذلك عندما يتعرض الفرد لأبسط الانتقادات، يقوم بالانفجار بكيل الانتقادات على فلان وفلان، فأين كانت هذه الانتقادات .
إذا لم نعود أنفسنا على توجيه النقد بمجرد رؤية الخطأ، فإن جلسة النقد الذاتي ستتحول إلى ما يشبه مرافعات النيابة والقضاء .
و بهذه الطريقة سنقوم بدور الجزارين حول مباديء الحزب .
عندما أقع أنا مثلاً في الأخطاء والنواقص خلال قيامي ببعض المهام ولا أرى التنبيه عليها من الآخرين، سيجعلني ذلك أشعر بأنني قمت بواجبي على الشكل الصحيح .
و لكن عندما أقف بعد ذلك في قفص الإتهام، وتنهال علي الانتقادات من كل جانب ، فهذه قروية بكل معنى الكلمة، أي ( إذا وقع الثور كثرت سكاكينها) .
و على كل مقاتل أن يعبر عن رفاقيته الصميمية في مكافحة هذه الظاهرة .
بعد ذلك قام بعض المقاتلين بتقديم النقد الذاتي، لنواقصهم وللأساليب غير اللائقة التي وقعوا بها .
(و هكذا سادت روح الوقار والجدية حسب رسمية التنظيم، بكل احترام، وبدا الندم على الجميع، وكأن كل واحد يحاول إقناع نفسه، بأن ما ظهر منه لا يعبر عن مبدئية وعقيدة الحزب، ولابد من التعود على النظر إلى من يقوم بتوجيه النقد إلي، بكل الحب والاحترام والروح الرفاقية .
و بدأت الابتسامة تغمر وجوه الجميع، وحلت الجاذبية محل النفور) .
رقعة الثلج تصغر يوماً فيوماً ، وينساب منها الماء العذب، متجهاً نحو الوديان .
و تدريجياً تبسط الطبيعة بساطهما الأخضر، وهكذا تلاحظ تدرج الاخضرار حول بقع الثلج، بشكل دائري، بتفاوت نضارة اخضرار كل متر عما بعده، ليكون ما يجاور الثلج منها في ذروة النضارة، وهكذا يبدأ التدرج مرة أخرى، عندما تدخل هذه الحشائش مرحلة الاصفرار إلى أن يطوى بساطها .
( في مجرى الماء، وضع المقاتلين قطعة من (النايلون) على شكل بركة لتجمع الماء فيها، وتفاديا لتجمده في الليل، وعملية تذويب الثلج مسألة طويلة، سيما مع عدم وجود الحطب). رقعة الثلج هذه تتكرر في كل عام، لذلك قام البدو الذين كانوا يقيمون في هذه المنطقة، بربط هذه الرقعة ببرك متفاوتة الحجم ، وهي شبه متدرجة صعودا على طول
المجري، حيث كانوا يستخدمونها لسقاية قطعان الماشية، ولايزال أثر ذلك واضحا، وحتى أماكن خيمهم، لاتزال واضحة المعالم، والذي يلفت الانتباه عند التجول في هذه الجبال، كردية أسماء القرى، المرتفعات، الوديان والجبال..ألخ . . اثبات على ترابط الجغرافيا. مؤخراً هنالك كثرة القرى التي أطلقت عليها أسماء جديدة غير كردية، كما هو الحال في بوطان . ولكن لا ستخدمها سكان المنطفة، هي اسماء متداولة في الدوائر الرسمية و خرائط الاستعمار التركي.
و لكن أسماء القمم والمرتفعات والأقاليم فلا تزال كردية محضة .
نحن الآن في سفح (كَرى برخا)، وبعد الاجتماع، تمت التحضيرات للتحرك، هذه المرة على شكل فصيلين، فصيلي ومعي فصيل المقاتلات، ومعنا الرفيق (باهوز)، والفصيل الثاني ومعه روزهات سيتجهون إلى ( تال) .
مع غروب الشمس، تحرك فصيل الرفيق (توفيق) إلى جهة (تال)، وأثناء التحرك رفض أحد المقاتلين الذهاب، والسبب في ذلك كما أوضح أنه لم يعد يحتمل قائد المجموعة (داود)، ولن يشترك في مهمة يكون (داود) فيها، وحاول الآخرون اقناعه ليغير موقفه، ولكنه أصر على ذلك، مما اضطرنا لتجريده من السلاح، وإبقائه معي، وهذا المقاتل كان معي أيضاً في ( كَارسا ) عام ( ۱۹۹۳)، وبدر منه مثل هذا الموقف في تلك الفعاليات(25).
في الاجتماع، وبالرغم من إلحاحي بأن أرافق المجموعة التي ستتجه إلى سنبل، لم توافق الإدارة على ذلك، لعدم وجود قائد فصيل غيري. ولذلك تم إرسال قائد مجموعة فقط مع المقاتلين، وهم سبعة مقاتلين ومعهم ميليشيا، وكانت المهمة زرع الألغام في المدينة .
21 تموز 1996
في الصباح اتصل بنا روزهات وتحدث بالشيفرة، ليفهمنا أن (مظلوم) هرب، وتم القبض عليه في الطريق، وكان قد أخذ معه قناصا ومنظاراً وجهاز لاسلكي، وقد وضع الطلقة في بيت النار واستعد للمواجهة، ولما رأى المقاتلين يصوبون عليه الأسلحة، اضطر للاستسلام على بعد مئات الأمتار من (حماة القرى) .
وأثناء التحقيق معه، علل هربه باقترابات قائد السرية روزهات .
و في قناعتي ليس لـ روزهات أي علاقة بذلك، وكنت متوقعاً أن يقوم مظلوم بهذه العملية، فمن قبل استسلم لـ، ( PDK ) وعند تبادل الأسرى في الربيع، بيننا وبين ( PDK ) ، كان واحداً من بين الأسرى الذين تمت المبادلة بهم، لذلك تم اعتقاله وارساله إلى مركز
(كَوزى رش) مع فصيل التموين المكلف بجلب التعيينات اللازمة، بعد الظهر وبعد ما تحدثت إلى مجموعة (زانا) التي ستذهب إلى (سنبل). تحدث الرفيق (باهوز) أيضاً معهم، وبعد ذلك تحركت المجموعة، وقمنا بتوجيه مجموعة أخرى بقيادة الرفيقة (جيهان) لكشف قرية (كعى)، ومحاولة القبض على أي واحد من أهالي تلك القرية، مع الاتفاق معهم على ترك رسالة بأسلوب (الشيفرة)، يوضحون لنا بها تفاصيل تحركهم ويتركونها في مكان نتفق عليه .
(رقعة الثلج ذابت نهائياً، وبالتالي علينا الذهاب إلى أقرب نبع لتأمين الماء، ولكن أقرب نبع يبعد مسافة ساعة من المسير، لذلك صدرت التعليمات (ألا يذهب أحد إلى النبع بمفرده وبدون سلاح ) .
في تلك الأثناء، خلوت بالمقاتل الذي اعترض على التحرك مع الرفيق (داود) واسم هذا المقاتل (عكَيد) ومعروف بـ (عكَيد) الفوضوي .
حاولت أن أعالج موضوعه بالرفق، ولكنه بدا غير مكترث بنصائحي، وصار يرد علي بطريقة يفهم منها التهديد والوعيد، لذلك كلفت رفيقين بربطه من يديه ورجليه.
و خاصة عندما قال: (إذا كنتم تريدون كسبي فليس بهذه الطريقة) والمعنى واضح: إما أن أعيش حسب مزاجي وإما أن أهرب وأعرضكم للمسؤولية.
بعد ذلك التفت إليه وقلت له: ما هذا المستنقع الذي تريد أن ترمينا فيه، وماذا تعني بمفهوم الكسب.
لا أنت ولا أنا، بل أكبر قائد بيننا يرمي به الحزب كالثوب البالي عندما يفكر بهذه الطريقة.
الثورة لا تصغر ولا تكبر بأمثالك، وأنت الذي بحاجة إلى التنظيم وليس التنظيم بحاجة إليك .
ماذا كنا لولا التنظيم، أليس هو الذي صنع منا رجالاً ؟
أبهذه الطريقة ترد الجميل للحزب ؟ .
كيف تجرؤ على التهديد بالخيانة، و أين كان شرفك وأنت تتلفظ بهذه الكلمات، لو أنك هددتني بالقتل، لوجدت لك من الأعذار ما أنسى به تهديدك، ولكن تهددني بالخيانة بعد كل هذه السنوات التي قضيتها في صفوف الأنصار، ألا تخجل من نفسك.. عندما ينظر إليك كما ينظر إلى الطفل الذي يهرب من بين أيدي أمه، وهي تريد غسل ما على أرجله من الأوساخ ؟ أليس من المعيب ما فعلته البارحة أمام قائدك . . ؟
بدأت الدموع تطفر من عينيه وهو يكيل الشتائم للشيطان، وعدت مرة أخرى إلى تهدئة روعه، وأعطيته القلم والورقة، وطلبت منه أن يكتب تقريرا مفصلاً عن أسباب موقفه، ومع ذلك فسيبقى حكم التجريد من السلاح سارياً عليه، ويمنع من القيام بأي مهمة، ويمنع الآخرون من التحدث إليه .
مع غروب الشمس، تم الاتصال مع مجموعة الكشف في (كعى)، وأخبرونا بأنهم قبضوا على أحد القرويين، وتم تسليمه الرسالة الموجهة إلى أهالي قريته، وتم الاتصال أيضا بمجموعة (سنبل) وقد نفذت المهمة على أحسن وجه .

22 تموز 1996
في الصباح، كانت الرفيقة (جيهان) قد عادت مع مجموعتها بعد تنفيذ المهمة في (كعى)، والرصد لايزال في نفس المنفذ الذي قمنا بنصب الكمين فيه، ليلة الخروج إلى هذه النقطة، وبعد الظهر طلبنا الرفيق (باهوز) للحضور إليه، أنا وجيهان ليستقبلنا بقوله :
– أحد مقاتليكم هز أذنيه ـ أي هرب .
كان الخبر بمثابة الصاعقة بالنسبة لنا ، لأنه ليس في عناصرنا من يشتبه به .
– أين حصل ذلك ؟ عندنا ، أم عند روزهات ، أم في سنبل؟ .
– كلا ، بل في المرصد عند الرفيق (دجوار).
– ومن هو هذا الساقط ؟…
– برخودان .
– برخودان ؟ ! كيف و البارحة جاء من ساحة القائد ولم تمض له أشهر بين صفوفنا؟.
– هرب . . ، ومن كان يتوقع أن برخودان يهرب .. (و لكن كان الذهول واضحا على معالم برخودان، إلى درجة أنه كان ينسى غسل وجهه) .
– ألم يشعر بهربه أحد ؟ .
– لقد هرب عندما كان يقوم بدوره في الحراسة، فهل نضع حراساً على الحرس .
– ومتي تنبّه الآخرون لهربه ؟
– يقولون: بعد ساعة ونصف، ولكن كلامهم غير دقيق فالوصول إلى سفح الوادي يستغرق الساعات، وقد عرفنا من تتبع آثاره أنه متجه إلى قرية كَعى .
– و لكنه يبدو أنه قد حافظ على قسط من مصداقيته، فلم يهرب في النهار، و إلا كان سيجلب بذلك عيون الكوبرا، وستكون الطامة الكبرى على الآخرين .
– و مع ذلك فيجب اتخاذ التدابير وتغيير نقطة التعسكر .
– في وضح النهار ؟
– نعم في وضح النهار، فما أدراك ماذا ستكون النتيجة ؟ .
و هكذا استنفر المقاتلين لشد الرحال على البغال، والانتقال إلى عمق الوادي باقصى سرعة، و احتمال مجيء حوامات الكوبرا لايفارق الخيال، وكل عيوننا متجهة نحو السماء، ولكن بقيت هناك مشكلة الرفاق الغائبين في المهام، وخاصة فصيل التموين، كيف سيعرفون على نقطةتعسكرنا الجديدة؟. والمعروف أنهم سيصلون في الليل .
فكيف ستكون حالتهم في البحث عنا ؟ .
لذلك تقرر إبقاء عنصرين للقيام بهذه المهمة، وتقرر التعسكر في الجهة الأخرى، المقابلة لطرف (سنبل)، عند الوادي المؤدي إلى (أورامار) و قرية (ميده) .
كانت الشمس قد بدأت تغور في الغيوم وراء سلسلة الجبال، مودعة سماءها الوردية اللون، وبقايا أشعتها المتقطعة، تتكسر على ظهور البغال، التي تعدو أمام مقاتلي جيش التحرير الشعبي الكردستا ( ARGK ) ، لتصل أخيراً إلى منفذ الوادي، حيث بات المقاتلين ليلتهم تلك فوق حمولة البغال وتحت الشوادر المكتظة بغبار وتراب الزوزان .
23 تموز 1996
في الصباح الباكر، كنت مع الدورية في المنفذ للقيام بكشف المنطقة .
و بعدما تأكدنا من أوضاع النقطة الجديدة، عدنا لتناول الفطور .
وبعد الفطور، كانت الساعة تشير إلى السابعة تقريبا. وفي تلك الأثناء اتصلت الرفيقة (ميديا) من المرصد، لتخبرني بوجود تحرّك للعدو من المركز نحو الأعلى، حيث يتمركز الرفيق داود ـ أي من القرية نحو القمة التي تقابلنا .
• كم عددهم ؟ .
• نحو الخمسين .
• أين وصلوا ؟ .
• ما يزالون في الطريق .
• حسنا ، تابعي موافاتنا بكل التطورات ونحن سنتدبر الأمر .
و مباشرة أطلعت الرفيق (باهوز) على الأمر، فأخذ معه الرفيقين أردال وباشور وذهبوا إلى المنفذ للكشف، ثم عادوا متجهين نحو المرصد، بينما قمت أنا بتحضيرات التحرك. في حوالي التاسعة صباحا أتصل بي الرفيق باهوز، وكلفني بالتحرك مع العناصر إلى القمة المقابلة للمرصد، حيث كان الجميع قد تمركزوا أسفل القمة، باستثناء عناصر الاستطلاع، وبعد التمركز و التخندق في الأماكن المناسبة على تلك القمة الجرداء، التي كما قلنا، تضعف عن ستر دجاجة، مما جعل تحركاتنا كلها زحفاً على الأرض، وبعد نصف ساعة تقريباً، كان العدو قد وصل إلى أسفل القمة، وهناك اثنان من قواتهم قد ابتعدا عنهم مسافة طويلة، يبدو أنهما أحمقان فعلا .
و بدأ الرفاق بأخذ المواقع مستعدين للاشتباك .
تجاوزت الساعة العاشرة، ولكنهم فيما يبدو يتجهون إلى النقطة التي تركناها .
فأشار (باهوز) على المقاتلين بالزحف إلى القمة الصخرية، المطلة على النقطة القديمة، حيث من هناك يمكن السيطرة على الوضع أكثر.
و لكن في هذه القمة الجرداء كيف سيتم التنقل أمام العدو .
وهكذا كان انتقالنا هذا سبباً ليكتشفوا أمرنا، وبدأوا بالاستغاثة بالكوبرا وإطلاق العيارات النارية إلى النقطة التي تركناها وهم يصيحون: اذهبوا من قريتنا ، نحن لاتريد أن تراق الدماء بيننا، وحتى الآن لم نقدم على قتل واحد من عناصركم . . . ، يقولون ذلك وهم لايكفون عن الاستنجاد بالكوبرا.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة ظهرا، عندما جاءت حوامات الكوبرا، بينما كنت قد قمت بسحب معظم العناصر إلى أسفل القمة، وتركت فقط مقاتلين في القمة للحراسة، وعندما وصلت إلى أسفل القمة، رأيت الرفيق (أردال) ومعه رفيق ورفيقتان، جالسين أسفل القمة يثرثرون تحت الصخرة، بينما كان الرفيق (باهوز) قد أرسلهم كحماية لنا للتمركز في أعلى القمة، مما أثار سخطي عليهم، ولكن هدير الحوامات المتقدم جعلني أأجل محاسبتهم لوقت آخر.
و بالسرعة القصوى، قمت بانزال المقاتلين في حفرة مليئة بالثلج، كانت كما يبدو فوهة بركان قديم، بينما الكوبرا تحوم من فوقنا، والرفيق (باهوز) يقوم بالتشويش على مكالماتهم الاسلكية، لإعاقة تمكنها من تحديد المكان، وحماة القرى يبذلون جهدهم في تقديم المساعدة لها على تحديد مكاننا .
وأثناء ذلك، قامت الكوبرا باطلاق صاروخ على قمة المرصد، حيث يتمكز الرفيق باهوز، ولكن الرفيق (باهوز) كان قد ترك ذلك المكان قبل دقائق، وبعد ذلك قامت الحوامة الثانية باطلاق النار على موقعنا .
– و المعروف في تمشيطات الكوبرا، أنه يندر أن تأتي كوبرا واحدة بمفردها، لانجاز المطاردة والحصار بصورة ناجحة – وبدأ دوي القذائف وأزيز الشظايا يمر من فوق رؤوسنا ، حتى أن بعض الشظايا سقط في نفس الحفرة التي نحن فيها.
استمر القصف علينا حوالي الساعة إلى أن تركتنا الكوبرا، وفي كل ظنها أنها قد أجهزت علينا، ولكننا خرجنا بسلام ولم يصب أي مقاتل بخدش .
(الحالة النفسية التي تعيشها وأنت في تلك اللحظات، حالة كمثل البرزخ بين الموت والحياة ، حيث يقترب الاثنان من التمازج وأنت هو مركز هذه العملية) .
هكذا خرجنا من القبر أحياء، وهذه هي بعض المقاتلات تتمرغ على الثلج، بينما لم نأكل شيئاً طوال اليوم، فقامت إحدى المقاتلات بمعرفتها الخاصة بنباتات وأعشاب الزوزان، بجمع بعض أوراق نبتة ( الترشك)، وأضافت إليها قليلا من الملح، وقدمتها لنا كوجبة سريعة .
– يا رفيقة سوزدار هل أنت من الـ ( كوجر) .
– لماذا ؟
– لقد لاحظت مرات أنك تقومين بجمع أعشاب ونباتات لاتخطر لنا على بال، فمن أين تعرفين كل هذه المعلومات ؟ .
– أعرف ذلك من الصغر.
– إنها خصوصية جيدة وعلى كل مقاتل أن يتعرف على نباتات المنطقة التي يعيشها، وأنا أعرف بعض المقاتلين الذين تعرضوا للانقطاع عن وحداتهم، استطاعوا أن يعيشوا عدة أشهر على أكل النباتات والأعشاب.
بعد ذلك تأكدنا من سلامة المقاتلين الذين تركناهما على القمة، حيث كانت الحوامات أيضاً قد قامت بقصف منطقتهم.
و أما الحماة، فقد انسحبوا فيما يبدو إلى قمة مطلة على القرية.
جلست أتأمل هذا الخلع الصخري الذي أوينا إليه، وما فيه من الشقوق العجيبة والغريبة وما يتناثر حوله من فوهات البراكين، المتوجة بأكاليل الثلج وفتات الصخر المرمري الذي يتخلل بساط السندس الذي انحسرت عنه الثلج .
تم الاتصال في تلك الأثناء مع مجموعة (زانا)، وعرفنا أنهم في طريق عودتهم من سنبل، ومع غروب الشمس كانوا يتسللون من الجهة التي تقابلنا .
لقد وصلوا بسلام ولم تعد هناك أية مشكلة، وقمنا بالاتصال بالرفيق (جمال) وإطلاعه على كافة التفاصيل عن طريق الشيفرة .
و بعد ذلك أوينا لأخذ قسط من الراحة، لنستيقظ في الساعة ( ۱۱ ) ليلا على صوت هدير الكوبرا تحوم من فوقنا وسط الظلام بالقصف المستمر، حيث كان الرفيق (باهوز) في طريقه إلينا، ليخبرنا أن حماة القرى لا يزالون في مواقعهم يرتعدون من الخوف ويتابعون الاستغاثة بالكوبرا وهذا سبب مجيئ الكوبرا .

24 تموز 1996
في الصباح وفي حوالي الساعة الثامنة، تم الاتصال بالمرصدين، واعلمونا بعودة الحملة مرة أخرى على شكل مجموعة فقط، فقمنا مباشرة بتسيير الرفيق (أردال) إلى القمة، بينما كانوا يقومون باطلاق بعض الطلقات الانفجارية نحو القمة، ومن لايعرف نوعية هذه الطلقات يظن أنها تطلق من فوق القمة بالذات، كونها تنفجر الطلقة باصطدامها بشيئ.
بالرغم من توجيهات المرصدين وتعليمات الرفيق (باهوز)، لم يجرؤ الرفيق أردال مرة أخرى على الصعود إلى القمة، وكرر فعلته البارحة، متحججاً بأن ثلاثة من حماة القرى سبقوه إلى القمة، ولذلك بقي متمركزا في أسفلها، عرفنا بعد ذلك أن عدد الحماة سبعة – أربعة من الخلف وثلاثة أمامنا . فأصر الرفيق (باهوز ) على ضرورة تقدم الرفيق (أردال) .
و لكن (أردال) كرد فعل تقدم بمفرده، وترك مجموعته في مكانها، وبدأ الحماة باطلاق النار على الرفاق، مما اضطر المرصدين للتدخل واستمرت المناوشة حوالي نصف ساعة .
و لولا تلكؤ (أردال) لقضينا عليهم بشكل مطلق، واستولينا على بنادقهم .
لم يكن مركز (حماة القرى) يعلم بما يجري، ولو أراد التدخل فلن يجديه ذلك، لأن المسافة بينهم وبين نقطة الاشتباك زهاء أربع ساعات، مما اضطرهم للاتصال بمركز (هكاري) والاستغاثة ثانية بالكوبرا .
كنا نتنصت إلى مكالماتهم، وكان مركز هكاري يقابل استغاثتهم بالهزء والسخرية والإهانة، إلى درجة أن أحدهم قال : ماذا تفعلون منذ البارحة يا حيوانات ؟ ! .
بعد ذلك تراجع عناصرنا إلى وادي (أورامار)، حيث توزعنا هناك على أسلوب نظام الفصائل .
و كانت الانهيارات الثلجية قد حولت الوادي إلى شبكة من الجسور، مما سهل على الوحدة مسألة العبور فوق المنفذ الذي يتجاوز عرضه الخمسين متراً، بينما كنا قد أخذنا بعض الراحة بجانب إحدى المنعطفات الصخرية .
لم يكن قد تبقى معنا من الخبز ما يقيت المقاتلين، لذلك أعطيت كسرات الخبز للمقاتلين الصغار، لاكلها مبلولة بما تبقى معنا من الماء .
و مرة أخرى يقترب هدير الكوبرا من موقعنا، وحماة القرى يوجهونها بأجهزتهم إلى نقطتنا، وكأنهم بيننا، ومن الجانب الآخر، بدأت البغال تشحج كالعادة بما يدعو إلى لعنتها.
انها نهايتها المحتومة فيما يبدو، فقد أسرفت الكوبرا هذه المرة بصب جام غضبها على المقاتلين، إنهم إذا سلموا هذه المرة فستكون معجزة لا تنسى، وبعد أن أفرغت الحوامتان بكل حمولتهما على المنطقة، استمرتا برهة من الزمن في الاستعراض، ثم انعطفتا للرجوع إلى مركز (هكاري) .
كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً، عندما التأم شمل المقاتلين، وأخرجت البغال من اسفل جسر ثلجي، تشكل نتيجة انهيرااتها شتاءاً، بينما الماء فتح ممره اسفله، وتقرر تحول السرية إلى نقطة ثانية ومباشرة بدأنا التحرك .
و على طول الوادي الذي نخترقه، لا شيئ سوى آثار الديبه المبعثرة هنا وهناك.
الأعشاب الشوكية تغطي الوادي، لا سيما اليابسة منهما، حيث تقوم الرياح بالقائها في هذه السلة .
و على جوانب الوادي، امتدت برك مياه الثلوج والامطار، التي أصبحت ملتقى لمختلف الطيور، ولاسيما رفوف الحجل، التي تمت بصلة قربي إلى الكرد فيما يبدو .
و مرة بعدة مرة نواجه مشكلة تمرير البغال، فنتيجة الانهيارات الثلجية لم يبق من طريقها القديم ما يذكر به .
و رفوف الحجل من حولنا تكاد تصم الآذان بأصواتها، لما تواجهه من الإرتعاد والخوف ( ما الذي يجري في مملكتها) ؟ .
و في الطرف الآخر من المنحدر، يقف أحد الثعالب بالقرب من وكره، وهو يلقي علينا نظرات الارتياب – من تراهم هؤلاء – .
و على يساري أحد المقاتلين يمد إلي بيدة بين الحين والآخر، وكأنه يقدم إلي حفنة من الموالح، بينما أنا أنظر إليه بشيئ من الإنكار، حيث كنت أحسبه يسخر مني، كان هو في الحقيقة يقدم لي حفنة من بذور الـ (الكَرنك – الكعوب) اليابس التي تعد من فصيلة النبتة المعروف ب (عين الشمس) أو (دوار القمر)، وكأن بذورها هي بذور حبات الصنوبر.
و أذكر أننا عندما كنا في الحدود، كنا نشاهد القرويين وأولادهم وبصحبة كل واحد منهم وعاء من التنك وعصي، يجمعون به بذور تلك الأقراص، بالضرب على الأقراص بالعصا ضمن الوعاء، وهي فريبة في نكهتها من نكهة الصنوبر، لذلك فان أهالي المنطقة يستعيضون بـ ( الكَرنك – الكعوب) عن الصنوبر في تزيين أطعمتهم بنكهتها.
و يعتبر جمعها تجارة رابحة بالنسبة لنساء والأطفال في تلك القرى.
تابعنا النزول في الوادي، ولكننا لم نعثر حتى الآن على المكان المناسب والمغطى بالأشجار .
و بعد متابعة النزول، بدأت أطراف الغابات تلوح للمقاتلين، الذين لم يروا الأشجار طول إقامتهم في مرتفعات الزوزان .
و بشيئ من المزاح، أشار أحد المقاتلين إلى الأشجار، وهو يقول ما هذا ؟ من منكم يعرف ما أسم هذا الشيء الأخضر . . . ؟ فيجيبه آخر : في الزاب أعتقد كان اسمه شجرة.
و كان المقاتلين قد تراهنوا في الطريق (من منهم سيعثر على أول قطعة حطب).
و هكذا جعل أحد المقاتلين يدور حول أول حطبة رآها، وكأنه يدور على كنز، والظاهر أن بعض الرفاق لم يخرجوا بعد من هواجس الزوزان، فبدأوا يجمعون ما يعثرون عليه من الحطب، مع أنهم متجهون إلى الغابة، وكانت هذه المفارقة نكتة الموسم كما يقولون .
بعد البحث والتنقيب على المكان المناسب للتعسكر، لم نجد أنفسنا إلا ونحن في بعض القرى المهجورة، والتي تحيط بها أشجار الجوز والفواكة من كل جانب، والظاهر أنها قرية هجرت منذ سنوات وعلى الأقل، فمنذ عام تقريباً لم يدخلها إنسان .
فكانت هذه القرية هي المكان الأنسب للرفاق، حيث قمنا مباشرة بتفقد أحوالها وتوزيع المجموعات، بعد ذلك على أتم وجه، وما إن اكتمل وصول الآخرين حتى كانت المقدمة قد فرغت من خبز الخبز وتحضير العشاء .
و قبل العشاء اجتمعت الادارة وقمنا بوضع برنامج العمل لمدة يومين، والذي تضمن الاجتماع الأول والوقوف على النواقص والاستحمام وتنظيف الأسلحة وتعيير المناظير والقناصات .
25 تموز 1996
حسب البرنامج السابق بدأت فعالياتنا بعقد الاجتماع في الثامنة صباحاً، ولكن انضمام العناصر لم يكن بالشكل المطلوب.
و لاتزال التحليلات تتم وفق حسابات وموازنات مسبقة .
بدأ الاجتماع بشكل مقبول، ولكن تدريجياً تمت محاولة الانحراف به عن الخط المطلوب، وبالأخص من قبل بعض الرفاق الفوضويين، لزج القاعدة في التناقضات في أول يوم، من أمثال (آردال – بوطان – زوزان). حيث تحدثت زوزان عمّا سمته (الاقترابات المؤدية إلى الانفجار)، و ركز (أردال) على اتهام (باهوز) بأنه لايميز بين الكفاح والانتحار، وتابعه بوطان – مساعد قائد المجموعة – بنفس الشاكلة مبرراً رفض أردال للقيام بالمهمة .
و أما (بيرو)، فقد جر إليه الرفيق (باشور) هذه المرة، ليردد ما يقوله كالببغاء.
و تدخل هنا آخر بالتصفيق لهما، ولكن على طريق السخرية، مما اضطرني لطرده من الاجتماع، حفاظاً على مهابة النقد الذاتي .
كل هذه الأمور تحدث والقاعدة كأن على رؤوسها الطير، وكأنها في كوكب آخر، وهكذا رأيت من الأحسن فض الاجتماع .
و بدت ردود الفعل بارزة على وجوه بعض المقاتلين .
كان المقاتل الذي طردته من الاجتماع عقب ذلك، عند الرفيق (باهوز)، وفور وصولي، قام وهو يقول: يطردني بدل من طرد المثرثرين، ولم أجد بداً من الاعتذار له، وتذكيره بأن تصرفه سيفسر بأنه تم بتوجيهي .
بعد الظهر وحسب البرنامج المقرر، انتشر المقاتلين على ضفاف الماء للاستحمام وغسل الملابس، بينما المياه، مياه ذوبان الثلوج، المتدفقة من المرتفعات، كانت قارصة إلى درجة أصبحت فيها فرصة للتعبير عن البطولة في الانغماس بها مباشرة .
بينما يؤثر البعض على التدرج في النزول إلى الماء، وشهقات الروح تخرج منهم بغير إرادة مع كل انغماس، إلى أن تتأقلم الأجسام فتتابع الاستحمام .
كل ذلك يحدث تحت عين شمس تموز الحارقة، والتي ما إن أنهينا الاستحمام، حتى كانت قد فرغت من تجفيف ألبستنا .
كان الاستحمام بعد هذه السلسلة الطويلة من المشقات، فاتحة للتمتع بالنشوة المطلقة والاستسلام إلى النوم .
و ما إن تغمض عينيك، حتى تسير بك تلك النشوة، وكأنك على قارب وسط البحر، تعلو بك الأمواج وتهبط، فلا تزال تعلو وتهبط، حتى تغرق في السبات.. (خفة الجسد بعد الاستحمام وثقل المشقة على الروح خصمان يتشاجران، أيهما سيحكم الآخر، ولكنهما سرعان ما يتحدان).

26تموز 1996
كلمة الرفيق (باهوز)
في الثالثة قبل الفجر، قمت بارسال ثلاثة عناصر لتبديل نوبة الاستطلاع، والذي سيستمر حتى الساعة التاسعة صباحا، لكشف أوضاع القمم المجاورة .
بينما ارتباطاتنا اللاسلكية، كانت قد انحجبت تماماً في هذا الوادي العميق، ما عدا أجهزة ( الرولا) (26) لبعض أقنية العدو .
و كل شئ يبدو هادئاً .
في الثامنة صباحاً، اتصلت مع عناصر الاستطلاع للاطمئنان على سير المهمة، وأعطيتهم التعليمات، بامكانية نزولهم إلى النقطة، فحسب البرنامج المقرر، سيكون الاجتماع في الساعة الثامنة والنصف، حيث سينضم إلى الاجتماع، حسب التعليمات كافة العناصر الموجودين، بما فيهم الحرس وعناصر المطبخ ما عدا عريف الحرس .
بعد ترديد الشعار وتقديم الصف، كالعادة بدأ الرفيق (باهوز) الاجتماع، بالقاء كلمة، تحدث فيها عن نواقص المرحلة الأخيرة وعن ايجابياتها، حيث أننا بشكل عام مع عدم انقضاء شهر على وجودنا في المنطقة، قد قمنا بدراسة شاملة، واستطلاع كامل لكل
جغرافية المنطقة و أهدافها، ولكننا في هذه المرحلة تعرضنا لشبه انقطاع،عما يجري من تطورات على ساحة السياسة الدولية، وفعاليات الحزب وعملياته .
و من ثم بدأ بالحديث عن التطورات على الساحة الدولية، والتلاعبات التي تتم في الوسط التركي، ولاسيما تحالف الجناح الغربي الرأسمالي والجناح الديني الشرقي (تانسو – أربكان) (27)، وكيف تمكن العدو من إيصال هذين الجناحين المتناقضين، في المفهوم والايديولوجية إلى سدة الحكم، وربط هذه العملية من بعد ذلك بالتبجح بالديمقراطية، وصب ذلك كله في خانة مناهضة ( PKK ) .
و (اتحاد الأعداء) هذا في مواجهتنا، يجب أن يكون أساساً للتفكير بالمواجهة، وتطوير أدواتها وتجاوز الأخطاء، والتكاتف على تحقيق أهداف الحزب . . . ، وهكذا بدأ (باهوز) بالضرب على الوتر الحساس، ومعالجة نواقص المرحلة، المفاهيم الشخصية.
و مضى بعمق، يثير في المقاتلين الحماسة والندامة أيضا، على ما بدر من بعضهم بحق الآخرين .
و وقف عند الكلمات التي أصبحت كالشعارات بالنسبة للفوضويين .
من أمثال قولهم (لينفجر ما تخاف عليه أن ينفجر) أو (نحن لانخاف أحداً)، ثم توجه إلى العناصر الذين يعرضون أنفسهم للشبهات والمطاعن، وضرب لذلك مثلاً: بلص اعتاد على سرق البيض من بستان جيرانه، وصدف أن صاحب البيض جاء لزيارة هذا اللص، فلما قال له: السلام عليكم .
أجابه ذلك اللص : ومن قال لك أنني أسرق البيض، وهو يرتعد من الخوف .
و هكذا حال بعض الرفاق، تقول لهم : مرحباً . . يردون : أي علاقات ، أي شبهات ؟ انظروا إلى الرفيق (أردال) مثلاً، عندما أرسلناه إلى سنبل قال: ترسلوننا إلى الجحيم ، والبارحة قال: نحن لانعرف الكفاح من الانتحار .
فأي انتحار يارفيق (أردال في مواجهة ثلاثة من حماة القرى، وعناصر المرصدين من الطرفين يراقبونهم، ونحن من ورائكم، وهم بعيدون مسافة أكبر من مدى الكلاشينكوف.
ثم بعد كل الاصرار على ضرورة تحركه، يتحرك بمفرده، ويترك مجموعته مبعثرين في أماكنهم. فهل نحن أطفال، نلعب لعبة الأبطال والحرامية) . الذهاب بمفردك يا رفيق (أردال) هو الانتحار .
كان الحماة كاللقمة في فمكم، وبتصرفك الأرعن انقلبت الدفة، لو التزمت تعليماتي لأتيتم بالحماة الثلاثة أحياء، هم وأسلحتهم، وفوق كل ذلك تقول لانعرف النضال من الانتحار .
أنا مضطر لرفع تقرير بحقك يا (أردال)، لأن السكوت عما قمت به خيانة للثورة، وليس في الحزب حاجة لهذا النمط من المقاتلين، ولكن للأسف فأنت من المقاتلين القدماء المجربين، وبهذه الكلمة سأختم حديثي معك .
و بالنسبة للرفيقات، أيضاً سأتحدث معهن بشئ من المرارة، عندما يوجه النقد إلى إحدى الرفيقات، بأن لها اقترابات غير منضبطة. فهذا لايعني في كل مرة أنها تقيم علاقات حب وغرام مع أحد المقاتلين، إن هذه القروية أيتها الرفيقات، يجب أن تدفن إلى الأبد، لماذا لاتفهم بعض الرفيقات، أن المراد بالاقترابات غير الحزبية، أيضا الاهمال في الانضباط وتجاوز رسمية التنظيم والقفز من فوق التعليمات .
إن طريقة الاستيقاظ، علاقة حزبية، وأسلوب الانضمام إلى الاجتماع، علاقة حزبية أيضاً، حتى مجرد الأكل واللبس والنوم، يجب أن يكون ضمن مفهوم العلاقة التنظيمية .
و أريد هنا أن أختم حديثي معكن بقول القائد..(المرأة كل شئ في حياة الأمة، هي التي تدمرها وهي التي تحررها) .
بعد انتهاء الاجتماع، كان رد فعل (أردال) واضحاً، بينما الرفيقة (ميديا) تكرر بصوت مسموع: (لم أفهم شيئاً من هذا الاجتماع) ..
بعد الظهر، تمت التحضيرات من أجل التحرك، وأرسلنا بعض المقاتين مع البغال، مع إفهامهم بضرورة أخذ الحطب أيضاً، ولكن الرفيق (زانا) – قائد المجموعة – فيما يبدو لم يلتزم التعليمات، فركب أحد البغال واستمر في الصعود .
و بعد الرابعة مساءاً، بدأنا الصعود على الشرخ الصخري الصاعد من عمق الوادي، ونتيجة للجرف الذي خلفته السيول والانهيارات الثلجية على الطريق، فان المسافة التي تقطعها خلال ساعة في النهار، ستستغرق الساعات في الليل .
في المسير اقتربت من الرفيق (باهوز) ونبهته إلى وضع الرفيقين (أردال و بوطان) فالظاهر أنهما يعدان العدة للهرب، لذلك عمدنا لوضعهما تحت المراقبة .
استغرق الطريق زهاء ثلاث ساعات، و فور وصولنا، قمنا باخراج عناصر الرصد والحراسة، واقترب مني الرفيق (باهوز) بعد ذلك، وهو يهمس إلي بالغة العربية عن أوضاع ( أردال) و (ميديا) .
قلت له:
– لقد اعترف لي يشكل مفصل، أنها تجره للسقوط، وانه يخاف أن تتلطخ سمعته، لكنه كلما قرر الخروج من تأثيراتها يجد نفسه في براثنها .
– كيف نعالج حالته… الظاهر من حديثك أنه يقترب بطريقة جيدة .؟
– ماذا علينا القيام به؟
– أرى أن تنام في مجموعته هذه الليلة، وتحاول التخفيف عليه من القسوة التي تصرفت بها معه في الاجتماع، وأنا أعلم أن (أردال) يكن لك الاحترام، يجب أن ينام وهو مطمئن البال، على أنك ستقف بجانبه، فعلى الأقل يجب احترام عائلته الوطنية ودماء أخيه الشهيد .
تركت الرفيق باهوز وتوجهت إلى مجموعة (أردال)، ولما حان موعد النوم دعوته لينام بجانبي، وبدأت التودد إليه، وهو بدوره يفضي إلي بكل همومه، وبدا تأثره واضحاً من تأنيب الرفيق، باهوز ويقول: لم اعتناد على توجيه النقد إلي بهذه الطريقة، وأنا بطبيعتي لا أستطيع تحمل ذلك، لقد اسودت الحياة في عيني، الرفاق كلهم يتقدمون وأنا أتأخر، ففيما مضى، كنت بمثابة المقاتل المدلل، وأما الآن فأشعر بأنني انتهيت وتحطمت .
لم أدعه يستمر بالحديث عن هذه الخيبة، وأخذت أربط كلامي معه بمنزلة عائلته وقدسية دماء أخيه الشهيد، وما يقع على عاتقه، الإخلاص لدماء الشهداء، وأن انتقادات الرفيق (باهوز) لم يكن المقصود بها تحطيمه وإيقاعه، وإنما كانت توقفاً رفاقياً صميمياً، بحيث لو بدر مني أنا نفس الخطأ، لوجه إلي الانتقادات بنفس الطريقة وربما افصى.
استمر الحديث بيني وبين (أردال) زهاء ساعة، استطعت خلالها أن الملم جراحه و أفرغ كبته وأحول بينه وبين ردود فعله .
و هكذا عاد ثانية إلى وضعه الطبيعي والرغبة في الانضمام الصحيح .
أما الرفيق (بوطان) فهو لايزال فتى لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، يمتاز بالصفاء ونقاء القلب، ولكن ينقصه الكثير من التعمق في الأمور، لذلك فهو أرضية مناسبة لأي تلاعب، وفي كل مرة ألتقيه فيها منذ فعاليات الشتاء، يعترف لي بضعف شخصيته، و بأنه كالسكران بين الرفاق لا يعرف عن أي شيئ يتحدثون، ولا يعرف أين يضع أقدامه وهو بذلك. كما يقول : كالقارب المرمي على الشاطئ، ليركبه من شاء من هواة الإبحار .
أضف إلى كل ذلك، ظروفه العائلية ومحيطه الاجتماعي، فعائلته (حماة قرى) و من بينهم عملاء معروفون لدينا .
27 تموز 1996
في اليوم التالي وبعد التكميلات اليومية وتوزع قادة المجموعات إلى مهامهم، تحدثت إلى الرفيقة ميديا عن وضعها واقتراباتها .
– هناك رفيقات يارفيقة (ميديا) أقامهم الحزب بمنزلة القدوة، وهن يعبرن بسلوكهن عن الحزب وقيمه.. وما تعنيه هذه القيم من السمو.
– صحيح .
– و لكن وضعك لا يدل على أنك تحافظين على تلك القيم، إن لم نقل بأنك تعرضينها للتخريب .
– أنا ؟
– نعم أنتِ و لا أقصد انضباطك العسكري، ولا قدراتك الفنيّة ولكن أنت بحاجة إلى تطوير مسألة السمو .
– في الحقيقة هذه أول مرة أقابل رفيقاً يتحدث إلى بهذه الصراحة.. ويوجه إلى مثل هذه الانتقادات ، لقد سررت كثيرا من اهتمامك بشؤونى الخاصة، وأرجو أن تستمر بتوجيه الملاحظات إلي، فيما يخص هذه المسألة .
بدأت استوعب بعد المناورة التي تتمتع بها (ميديا)، بالاضافة إلى تميّزها البارز في كل نواحي الجمال والأنوثة، وخاصة صوتها الساحر، الذي أعطاني فكرة كاملة عما يكابده الرفيق ( أردال) .
و الأجواء التي عاشتها الرفيقة (ميديا) في (ماردين)، و المحيط الاجتماعي الذي لايزال يرافقها، بصوره المطبوعة في الذاكرة، هما في الواقع تربة خصبة، لجر كل من تتمتع بمواهب (ميديا) إلى الانحراف .
و لكن لو أرادت (ميديا) أن تستغل مزاياها بشتى الصور، لاستطاعت ذلك بأيسر الطرق .
فما الذي دفع بها إلى إيثار حياة الأنصار، بكل ما فيها من القسوة والمرارة والشظف وأفانين الموت ؟
إنه ولاشك إيمانها العميق، بواجبها تجاه أمتها، وحسها القومي المفعم بالتضحية والوفاء .
كان اليومان اللذان قضيناهما في اسفل القرية، بمثابة النزول إلى قعر بئر، حيث انقطعنا هناك عن كافة الاتصالات .
و بعد رجوعنا إلى المقر، عادت الحياة إلى شكلها الطبيعي، وتم الاتصال بكل الجهات والاستفسار عن تطور الفعاليات .
الرفيق باهوز مع عدة مقاتلين صعدوا إلى القمة المجاورة، وقاموا أيضاً بالاتصالات اللازمة، حيث عرفنا نتيجة الكمين الذي نصبناة والذي أسفر عن مقتل عميل من حماة القرى و جرح آخر .
بينما عادت إحدى المجموعات من إنجاز مهمتها، وهي القيام بقطع ساقية الماء المتجهة إلى معسكر (حماة القرى)، أسفل قرية تال، والقبض على أحد أهالي تلك القرية، وتكليفة بايصال رسالة من الرفاق إلى حماة القرى، لدعوتهم إلى التفاوض .
بعد ذلك جاءنا تقرير مفصل من جهة الرفيق (جمال)، حول أوضاع حماة القرى في منطقتنا، وأن العدو أقنعهم بأنه أتم القبض علينا، وكلف حماة القرى بانشاء مراكز للحماية على طول الطريق الاسفلتي المؤدي إلى جقورجة، و الطريق المؤدي بين (كفر) و (وان)، وهناك مخطط لإعادة أهالي القرى المهجورة في هذه المنطقة إليها، وإغداق المساعدات عليهم. وقد التقى الرفيق جمال نفسهـ كما يقول – بوفد من الحماة -، عرضوا عليه فتح الارتباط معنا، بأن نسمح لهم بالعودة إلى قراهم كحماة .
و أكد الرفيق جمال، على ضرورة الاسراع بتنفيذ العمليات ضد حماة القرى، وأن يستعد الرفيق (روزهات) للتحرك .

28 تموز 1996
في الصباح، اجتمعت الادارة وتم النقاش حول المهام الجديدة، واستفسر الرفيق (باهوز) عن جاهزية العناصر، وضرورة أخذهم القسط الوافر من الراحة، للقيام بالمهام على أكمل وجه .
أما مهمتي، فكانت التوجه إلى قرية (كعى) لزرع بعض الألغام المضادة للمدرعات في الطريق المؤدي إليها، وتنفيذ عملية على مركز من مراكز الحماة، وسيكون معي اثنتا عشر مقاتل ومقاتلة، بما فيهم قادة المجموعات ( زانا) و (ميديا) .
بعد الظهر وقبل التحرك، جمعت عناصر المهمة وتحدثت معهم عن أبعادها، ومباشرة كان قدر البرغل قد وضع أمامنا، حيث تناولنا وجبة الغداء على وجه السرعة وتحركنا على الفور، لأن تنفيذ المهمة سيكون في الليل .
و قبل الوصول إلى المنحدر المتصل بالقرية، اتصلت بالرفيق باهوز، وكان أثناء ذلك يتحدث مع الرفيق (روزهات)، فسألت (روزهات) عن نقطة تمركزه، حيث أطلعني على تفاصيل ذلك عن طريق الشيفرة، وأن (قواق) – وهو رمز حماة قرية (كعى) ينسقون حملة تمشيط جديدة على النقطة. بعد ذلك انقطع الاتصال مع الرفيق (باهوز) مع تكرار المحاولة، ولكن وحسب الاتفاق مع بيننا، علينا أن لا نتجاوز المنفذ المطل على القرية حتى تأتي التعليمات .
و هكذا بقيت على المنفذ، بانتظار التعليمات حتى مغيب الشمس، ولكن بدون جدوى، وحاولت الاتصال مرة أخرى من أعلى القمة وبعد تكرير المحاولات، استطعت التمكن من الاتصال بالرفيق (روزهات)، حيث كان ينتظر أيضا التعليمات من (باهوز) .
و المشكلة تتلخص بأننا لو نزلنا إلى القرية، فلن نستطع الوصول حتى الصباح، وسيكون المقاتلين في حالة من المشقة والإرهاق، لاتمكنهم من تنفيذ المهمة على الشكل المطلوب، بل لن يستطيعوا حتى المناورة .
لذلك اتفقت مع الرفيق (روزهات) على تأجيل المهمة، لأننا حتى ولو جاءت التعليمات بتنفيذ المهمة، فلن نستطيع تنفيذها الليلة، لفوات الأوان، حيث أنه على التوقيت الدقيق، ما بين تحركات الليل والنهار ، يتوقف نجاح كل مهمة .
29 تموز 1996
في الصباح وعند شروق الشمس، قمت بكشف المنطقة، كل شئ يبدو طبيعيا، وليس هناك مستجدات سوي رعشات الجسد تحت سطوة البرد، حيث لا أستطيع التركيز في الرؤية بالمنظار، بسبب تلك الرعشات، وخاصة عندما تكون متلحف بـ (الشوادر – المشمعات الفردية) المغلقة وتخرج إلى الهواء القارص، حيث يختل توازن الدورة الدموية في مواجهتها، لهذا التغير المفاجئ إلى أن تتأقلم مع الجو الجديد .
طبيعي، تختلف قوة التأثر بين مقاتل و آخر، حسب التجربة والمران، ويتعلق هذا التفاوت بصورة مباشرة، بمدى حاكمية الإرادة على الجسد، والاستعداد المناسب الذي تحتفظ به التجربة، وفي هذه الحالة، يستطيع المقاتل المجرب، كبت هذا الهيجان وتفريغه من غير أن يُشعر بذلك أحداً من حوله.
و هذه الناحية مهمة بالنسبة لمن يقوم بدور القيادة، حيث تكون عيون الوحدة كاملة متجهة إليه، كما تتجه عيون الناس في المحاكم إلى مطرقة القاضي، عندما يقوم بالضرب بها على طاولة الحكم .
و لكن اريد الاعتراف هنا، أنني أخفقت هذه المرة في الحفاظ على توازني، حيث يكاد جسمي يتقصف من الارتعاش، وأسناني تصطك بطريقة عجيبة، وقد حاولت التحدث مع بعض العناصر، ولكن لساني يتلعثم بين فكي، وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وبدأت أشعر بالإحراج، حين نظرت إلى بعض المقاتلين الجدد، وهم يتبرعون إلي ببعض ألبستهم الثقيلة.
و من ثم بدأت الشمس ترتفع، وبدأت حرارتها تدب في أجسادنا بالحيوية، فدعوت المقاتلين للاجتماع، حيث لاحظت مباشرة، عدم قدرة البعض على متابعة المهمة، لذلك اخترت تسعة منهم وأعدت الباقين مع الرفيق (زانا) ليوصلهم إلى أقرب نقطة، حيث كان (باهوز) قد تحول بالوحدة إلى نقطة قريبة منا في الجهة الشرقية من قمة (كَرى برخا) وأرسلت معهم مقاتلاً لجلب ما نحتاجه من التعيينات والمهمات .
في الساعة الواحدة بعد الظهر، بدأنا بالتحرك، بعدما أمرت العناصر بالتخفيف من أحمالهم وحقائبهم ووضعها في مكان آمن.
و هكذا بدأنا بالاتجاه نحو المنفذ، منحدرين في ذلك الوادي العميق، والذي لم يزل يحتفظ بأوسمة الثلج على صدره، مما كفانا مؤنة حمل الماء طوال الطريق، وعندما وصلنا إلى المنفذ، كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء، ولكن الشمس حسب التوقيت الصيفي، لاتغيب في هذه المنطقة حتى الساعة السابعة والنصف أو الثامنة مساء .
و على الفور، قمت باطلاع الآخرين على خريطة زرع الألغام، التي قام بزرعها الرفاق فيما مضى، وبعد ذلك قمنا بالاستطلاع اللازم لأطراف القرية والطريق الذي سنسلكه إليها .
وقبل التحرك، قمت بالاتصال مع الرفيق (باهوز)، ليخبرني بان الأوضاع تجري على أحسن حال، و يجب المسارعة في التحرك .
و هكذا بدأنا بالنزول، وقمت مباشرة بتغيير قنال اللاسلكي، حيث بدأت مكالمات حماة القرى تظهر على القنال، و عرفت أنهم في الطرف المقابل لنا تماما، و يبدو من خلال مكالماتهم، أنهم اكتشفوا أمرنا عن طريق مرصد (سنبل)، مما اضطرني للقيام ببعض المناورات ثم متابعة النزول .
عند الوصول إلى الوادي الذي يحتضن القرية، كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا، ومسألة النزول إلى القرية والرجوع مرة أخرى إلى هذا المكان، يستغرق زمنا طويلا، ولا يمكن القيام بذلك في ليلة واحدة، لذلك يجب تسريع وتيرة العملية، لذلك اخترت على الفور ثلاثة من أسرع العناصر، أما ما تبقى من المقاتلين، فحددت لهم مكان نصب الكمين ليكونوا بمثابة الحماية لنا .
و اتجهت على الفور أنا والمقاتلون الثلاثة، ومعنا اللغم المضاد للمدرعات والأدوات اللازمة .
و بالاقتراب من القرية، بدأنا نسمع صراخ الرعاة، وفجأة رمي أحد المقاتلين بنفسه علي واجلسني .
– ماذا جرى لك ؟ .
– اثنان من الرعاة . . ألا تراهما ؟
– أين ؟ ـ هناك وسط الحقل .
– نعم . . صحيح انهما متجهان نحونا .
– هل ترى ذلك يا بوطان ؟ .
– حتى الآن لم أرى شيئاً .
– انظر إنهما هناك .
۔ صحيح ، لقد رأيتهما .
كانت الليلة قمراء، بحيث أضاءت كل سيئ أمامنا، وكأننا في النهار، فهي ليلة الرابع عشر من ربيع الأول لعام 1417 .
انعطفت بالمقاتلين عن طريق للدخول بين الحشائش والأعشاب، وبين الفينة والأخرى، تطرق أسماعنا محادثات الرعيان وكأنهم بيننا .
و لكننا على استعداد لضرب كل شئ يعترض طريقنا .
و صلنا إلى الطريق الترابي المؤدي إلى القرية، والذي بدا في الليل على شكل شريط أبيض مطلي بالكلس .
هذه هي القرية . . ، لم يبق بيننا وبينها إلا هذا المنحدر، ولكنه أي منحدر، إن النزول من هذا المنحدر بالذات يعتبر مجازفة بكل معنى الكلمة، وأي خطأ في التنقل فوق الجرف الذي خلفته السيول والأمطار، ستكون فيه نهايتك المحتمة، لذلك عمدنا في كثير من الأماكن للتزحلق كالأطفال، لتعذر الوقوف في الانحدار، وبالاضافة إلى ذلك كله، فقد أضعنا الطريق عدة مرات، كدنا في بعضها أن نستسلم لليأس .
و بين حين وآخر يقوم حماة القرية، باطلاق عيارات نارية، بطريقة عشوائية، وكأنهم يقولون: نحن هنا، ويبدو من خلال مكالماتهم اللاسلكية، أنهم يتساءلون عما يجري من الأمور غير الطبيعية .
عقارب الساعة لا ترحم، وكأنها معنا في سباق .
يجب الاسراع في تنفيذ المهمة، ولم يعد هناك مجال للعودة .
فالعودة من هذا الطريق، وفي هذا الوقت تعني الانتخار .
و بدأت غريزياً أبحث عن مكان لاختباء المقاتلين فيه حتى الغد، ثم لكل حادثة حديث، ما هذا الهاجس الجبان . . ؟ إنه هاجس شيطاني ولا شك، فهل هناك شيطان خاص لتخريب المعنويات العسكرية ؟ . . ربما . . لا يزال القمر يتلألأ في السماء، ويشق من أمامنا الطريق، ولولا هذا القمر، لما استطعنا أن نخطو خطوة واحدة في هذا المنحدر الوعر.
نزلنا إلى القرية من الجانب الأيسر من الوادي، وعلى بعد زهاء مائتي متر، تبدو بعض البيوت وعواميد الكهرباء تضيء من حولها، ولكن نورها يكاد يتلاشى أمام ضوء القمر.
بدأنا بقطع سيل الماء المتدفق من الوادي إلى القرية، حيث وقفنا قليلاً تحت أشجار الجوز التي تؤمّها قطعان القرية في النهار .
كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل .
و كان المكان المناسب لزرع اللغم، بجوار الساقية التي تخترق طريق القرية، حيث بدأنا الحفر بالمعول الذي تكسرت يده أثناء النزول، وكنت أقوم بالحفر أنا وأحد المقاتلين الثلاثة، أما الاثنان الآخران يقومان بمراقبة الطريق من جهتيه، وإلى أن انتهينا من الحفر وزرع اللغم، كانت اسلحتنا وثيابنا قد تلطخت بالطين المتطاير أثناء الحفر، وبدت بقع الطين واضحة على وجوهنا أيضاً .
ثم قمت مع مساعدي، بالتمويه اللازم لمكان حفر اللغم، حتى يعود إلى صورته الطبيعية، ضمن مساحته من الأرض .
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل تقريباً، حين بدأنا التحرك في طريق العودة، محاولين السير قدر الإمكان من فوق الأحجار والصخور، لكي لا نترك آثاراً لمجيئنا، وطمس ما وقع من الآثار بالأغصان التي أوكلنا القيام بمهمتها إلى أحد المقاتلين، حتى تجاوزنا محيط القرية بسلام .
بدأنا الصعود، ولكن إذا كان النزول قد استغرق كل هذا الوقت، فكيف سيكون الصعود . . ؟ إن الصعود من الطريق نفسه غير ممكن، فلا بد أن الشمس ستشرق ونحن لا نزال في الطريق .
لذلك تحولنا مباشرة إلى طريق جبلي يؤدي إلى المنفذ الذي ينتظرنا فيه الآخرون .
كانت قوانا قد خارت، إلى حد يصعب معها السير في السهول، فكيف بتسلق الجبال، وماؤنا القليل لم يكن يسمح لنا باستعماله، إلا الترطيب أفواهنا والحلق عن طريق المضمضة الطويلة .
و هكذا بدأت شفاهنا تكتسي بطبقة من البياض، التي تتحول شيئا فشيئا إلى تشققات جافة على مدار الفم .
و بدأ العناصر يتبارون في قطع القمم والتسابق إليها .
و كالعادة يبدأ الإنسان بالاحتيال على نفسه، بوعدها بالوقوف عند الوصول إلى معلم من المعالم، حيث يكرر هذا الاحتيال مرة بعدة مرة، حتى يصل إلى القمة، ليقف هناك ويلتفت ببطىء وهو يعانق متعة هذا الانجاز، ويبحث عن النقطة التي انطلق في الصعود منها، وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة، والتي تبلغ به ذروة المتعة، عندما يتمكن من تنفس الصعداء .
و مع وصولنا إلى القمة، كان الماء قد نفذ تماما، وحاولت الاتصال مع المقاتلين بالمنفذ، ليحتفظوا لنا بشئ من الماء، ولكن بيننا وبينهم سلسلة من الجبال، وبدأ العطش الشديد يفتك المقاتلين، إلى درجة فقدان التعرق، وإصابة البعض بالجفاف وسبب الإسهال أيضاً، وما رافقه من آلام المعدة.
بدأ الليل بسحب أوراقه عن وجه الطبيعة، وبدأ حاجب الشمس بمغازلتها من وراء قمم (جيلو) و (سنبل) البارزة .
عندها كنا نتابع الطريق الجبلي الضيق، مقابل للقرية في السلسلة المؤدية إلى منفذ الرفاق، وبدأت ناقلات القرية تتجه صوب اللغم .
و عند الوصول إلى المنفذ، كانت الأوضاع في المنطقة طبيعية والغريب كان الآخرون مثلنا في نفاذ الماء، وتعرضهم للعطش، ولذلك سرعان ما تابعنا المسير .

30 تموز 1996
في الصباح يتعذر وجود الماءفي هذه القمم، لأن الثلوج تكف عن الذوبان في الليل، وهكذا تابعنا المسير إلى أن عثرنا على ساقية صغيرة تنحدر من الجبل، ولكن كان (داء الماء) قد أصابنا كما يقال، فكلما شربنا، كلما شعرنا بحاجة أكثر إلى الماء، ويبدو أن أعيننا أيضاً أصيبت بالعطش، فهي لاتريد أن تصرف نظرها عن الماء .
بعد ذلك تابعنا الصعود، حيث اتصلت بنا أيضاً الرفيقة (جيهان) اللاطمئنان على سير المهمة .
و لكن بسبب الآلام التي كنت أعانيها في تلك الأثناء، أجيتها بطريقة سلبية: قولي للرفاق أننا لم نقم بشئ .
عند ذلك، تدخلت الرفيقة (ميديا) بطمأنة الرفيقة (جيهان) وبأن المهمة نفذت على أكمل وجه .
في منتصف الوادي، لم تعد أقدامي قادرة على حملي، فكلما قطعت عشر خطوات، شعرت بالثقل والارتخاء والدوار والتعرق العجيب، وارتفاع الحرارة في جسمي ، بما يشبه الحمّى، وأما رأسي فصار قطعة من الجمر، ولم أعد أستطيع حتى فتح عيوني إلا بمشقة وجهد .
لذلك تخلفت في الصعود عن بقية المقاتلين، وبقي معي مقاتل امساعدتي، وهو يريد يحاول أن يحمل عني بندقيتي، ولكني رفضت ذلك، لأنه هو الآخر بدأت أعراض ما أنا فيه من تتسلل إليه .
و هكذا فالطريق الذي كان يجب أن أصعده في نصف ساعة، استغرق حوالي ثلاث ساعات .
و فور وصولي تحلق المقاتلين من حولي ليطمئنوا على حالتي .
– كيف أنت يا دوغان ؟.
– (لقد مرت علي سبع سنوات وأنا في هذه الجبال، ولم يحدث أن تعرضت لمثل هذه الحالة أبدا) .
– إنه التعب ، التعب .
– لا . . انني أشعر بحالة غريبة، أما آن لي أن أميز بين التعب والمرض ؟
وهكذا تابعت المسير، بالاعتماد على مساعدة، حتى الوصول إلى النقطة التي تركنا حقائبنا فيها .
حيث كنا نحتفظ فيها ببعض الكسرات من الخبز وقليلاً من ( رب البندورة) .
و بعد تناول هذه الوجبة اللذيذة، بدأت أشعر بالتحسن .
فالظاهر أن الحالة التي كنت فيها، نتجت من اجتماع الجوع والتعب والإسراف في شرب الماء بعد العطش القاتل .
و هنا تذكرت كلمة نابليون : ( الجيوش تمشي على بطونها) .
و لكن ليست هذه المرة الأولى التي أتعرض فيها للجوع، لقد مرت علي أيام، عانيت فيها الجوع أضعافا مضاعفة، بحيث لايليق أن أسمى ما أنا فيه الآن جوعاً، والظاهر أن جغرافية هذه المنطقة تختلف، بالاضافة إلى أننا لم ننقطع عن الصعود، منذ الساعة الواحدة ليلاً حتى وصولنا إلى النقطة في الساعة الحادية عشرة ظهرا .
فور الوصول إلى النقطة، لفت نظري جلوس الرفيق (روزهات) عند الرفيق (باهوز)، وهذا يعني أن الأمور قد هدأت نوعا ما .
و لكن بطل العجب، حين عرفت أن الرفيق (باهوز) سيترك السرية، لتحل محله الرفيقة (نوال)، والمبعوثة حديثا لهذه المهمة بالذات .
(وهي رفيقة كانت تعمل ضمن إداريات ( YAJK ) (28).. في الشتاء، ووقعت في سوء تفاهم مع القيادي (زكي – شمدين صقاق – برمقسز زكي)، مما اضطرهم إلى تغيير مهمتها فيما يبدو ) .
و لدى الوصول، قام المقاتلون مباشرة بتقديم أكواب الشاي لنا، وما أمكنهم إحضاره من الغداء .
و راح الرفيق (باهوز) يتساءل عن سبب تأخرنا، ويتأسف على أننا وضعنا (صاعق اللغم) بالعكس، ولذلك فان الناقلات تمر من فوقه وكأن شيئاً لم يكن. (كلام الرفيق باهوز جاء كالصاعقة على رأسي، هل يمكن بعد كل هذا التعب أن نكون قد أخطأنا في وضع الصاعق؟!). رجوت الرفيق (باهوز) أن يتريث في كلامه حتى نرى عما يسفر اليوم ، واعتذرت منه، بأنني بحاجة إلى النوم قليلاً، حتى أستطيع مناقشة هذا الاحتمال الوارد أيضاً.
و هكذا أويت إلى ظل صخرة، ونزعت الجعب والصدرية رغم انه خطأ، ومددت كيس النوم والتحفت بكفيتي، واستغرقت في النوم .
و عندما استيقظت، كانت الساعة تشير إلى الثالثة والربع مساءاً، بينما هناك التحضيرات لعقد اجتماع إدارة الطابور – الكتيبة، بالرغم من غياب إدارة السرية الثانية .
و كالعادة بدأ الرفيق ( باهوز ) بافتتاح الاجتماع، بقوله : كان من المفروض أن ننتظر إدراة السرية الثانية لعقد الاجتماع، ولكن ذلك سيستغرق زمناً نحن بحاجة إليه وسأبلغهم نتائج الاجتماع في طريقي، قبل عبور الحدود إلى وادي الزاب في الجنوب الكردستاني لحضور اجتماع إدارة المقر .
بعد ذلك، بدأ الحديث عن فعاليات – نشاطات – السريتين، ولاسيما سريتنا ومشاكلها المستمرة ، سواء في القاعدة أو الإدارة، وأتبع ذلك بطلب تقرير شفوي من قادة المهمات، فبدأ روزهات بقوله:
في هذه الفترة قمنا بالقبض على القروي وتسليمه رسالة إلى حماة القرى والقيام بكشف كامل لقريتهم .
أما تقريرنا حسب ما قدمته فكان على الشكل التالي :
في البداية، تم إرسال الميليشيا إلى مدينة (هكاري)، وكذاك إرسال مجموعة إلى جبل سنبل، وتمت تحضيرات عمليات الكشف والاستطلاع هناك، والقبض على أحد القرويين وتسليمه رسالة إلى حماة قريته، ومواجهة التمشيط يومين على التوالي، ونصب الكمين في اليوم التالي، الذي أسفر عن قتل أحدهم وجرح آخر، وتلغيم القمة والطرق التي يستخدمها الجنود قادماً من ثكنة القرية، وزرع اللغم المضاد للمدرعات في طريقها أيضاً . ثم شارك الرفاق بتحليلاتهم لهذه الفترة، والتوقف على أخطائها ونواقصها التي كانت روتينية بشكل عام .
1 – الفعاليات .
2 – الإدارة .
3 – العلاقة بين القاعدة والإدارة .
4 – حياة التنظيم ـ الانضباط والأمن – الرفاقية ـ التموين – الرسمية . . الخ
5 – النقد والنقد الذاتي .
6 – الآراء والمقترحات .
بدأ التحليل، ولاسيما تحليل علاقات القاعدة بالإدارة، والملفت للنظر هذه المرة هو الرفيق روزهات، حيث ركز على نقده الذاتي أكثر من اهتماماته السابقة بتوجيه الانتقاد للأخرين، مما يبشر بالخير والسير نحو الأفضل ،
الانتقادات التي وجهت إلي، فكانت تقريباً تتكرر، بالإشارة إلى الاقتراب بصورة التوازن وعدم البت الكامل في حل المشاكل .
و أما الرفيق توفيق فكالعادة، وجهت الانتقادات إليه حول حياده السلبي ،
و كذلك الرفيقة (جيهان) فلا أحد يعرف أنها موجودة أم لا، ولذلك تم تجريدها من المهام الداخلية، كالتوقف على التموين وغيره، لأنها لاتلعب دورها الصحيح في ذلك، كما انتهى الاجتماع ببعض من القرارات، وأهمها تجريد (اردل) من المهام، لسبب أوضاعه المستمرة، وكذلك الرفيق (داود)، حيث وصلت التناقضات إلى الذروة بينه وبين (روزهات).
و لـ روزهات خصوصيته المعروفة في تحطيم كل من يقف في طريقه، وبشتى الأساليب، وتم تجريد الرفيق (زانا) أيضاً من مهامه، وإعداده للالتحاق بدورة جديدة للكوادر ستبدا في المقر، وسبب ذلك، قيامه بشكل واضح بزرع التناقضات بين الإدارة وإشاعة حجب الثقة عن الرفاق المركزيين، وقد اعترف بنفسه قبل فترة، أنه لديه القدرة على تفريغ كل التعليمات التي لاتوافق هواه، وفي الواقع فإن مشكلة (زانا) تبدا من فقدانه الثقة بنفسه، وتنتهي بالفراغ الذي يحيط بشخصيته.
و لولا شهداء عائلته الأبرار، لوضع الرفاق حلاً لمشكلته منذ فترة طويلة .
و أما الرفيقة (ميديا)، فنتيجة تجريد ثلاثة من قادة المجموعات، تم تأجيل أخذ القرار بحقها والاكتفاء هذه المرة بتكليفها بكتابة تقرير توضح فيه وضعها بالتفصيل.
و أما الرفيقة (زوزان)، فقد صدر الحكم بتجريدها من السلاح وفتح تحقيق بحقها، ويأتي سبب ذلك في الدرجة الأولى، الطريقة القروية التي استقبلت بها قدوم الرفيقة (نوال). حيث أرادت تحجيم دورها من أول يوم .
و تم ترشيح ثلاثة جدد لقيادة المجموعات بدلاً من القادة المعزولين وهم :
۱ – الرفيق معصوم، فيما إذا قبل بالقيام بهذه المهمة .
٢ – الرفيق دجوار، لما بذله من الجهد والاخلاص في تنفيذ مهامه .
٣ – الرفيق (بيرو)، وعن هذا المقاتل، تم نقاش واسع بين الإدارة، حيث قال (باهوز) إن وضع هذا المقاتل مختلف -(بناءاً على معلومات اعطيته عنه منذ اليوم الاول)- وهناك أقاويل بحقه وهو من عائلة معظمها عملاء، التحق الكثيرين منهم بصفوف الكريلا ثم هربوا، وكما يقال: إنه يقوم بزرع الانشقاقات بين الإدارة أينما حل .
و تدخلت أنا أيضاً بتقديم المعلومات التي أعرفها عن هذا العنصر وانتهازيته وخصائصه التي تجعل منه أرضاً خصبة للفساد .
و مع ذلك، فقد ارتأت الإدارة اعطاءه الفرصة لإثبات مصداقيته، حيث اأنه يتظاهر بالتصرف المطلوب، وأنه يريد القيام بفعل شئ .
و تقرر أيضاً عقد اجتماع عام للسرية في اليوم التالي، لوضع القاعدة في صورة التغييرات الجديدة، حيث سيؤخذ أيضاً رأي القاعدة حول القادة الجدد .
بعد ذلك سمعت الرفيق (روزهات) يصرخ في وجه عناصر المطبخ على الشكل التالي : بالفعل لايوجد عندكم ذرة من الاحترام والشعور بالمسؤولية، ألا تعرفون أن الرفيق (باهوز) لم يأكل شيئاً منذ الصباح، ولا حتى كأس شاي .
لم يكن الكلام غريباً علي، بعدما تعرفت تماماً على أسلوب روزهات .
إنه يريد أن يسمعني بالذات، حيث سأبقى معه أنا والرفيقة (نوال) بعد انتقال الرفيق (باهوز)، وهو بهذه الكلمات يريد أن يذكرني بدوره في قيادة السرية .
و لكنني سأحاول التعاون مع الرفيقة ( نوال ) على استيعاب خصائص روزهات .

31 تموز 1996
تجاوزت الساعة الثامنة صباحا، وليست هناك تطورات جديدة بخصوص اللغم، حيث لاتزال الناقلات في ذهاب وإياب إلى القرية، وكأننا زرعاً حفنة من البصل .
و كل واحد من العناصر يحلل الأمر حسب هواه .
و لكن معظمهم يرون، أن الصاعق لم يوضع بالشكل الصحيح، بل وضع مقلوباً، فقمت بارسال مجموعة من عناصر المرصد إلى نقطة تمكنهم من رؤية سير الأحداث بطريقة أوضح، ولكنهم عادوا بخفي حنين، حتى بدأنا نفقد الأمل بانفجار هذا اللغم اللعين، بعد كل ما بذلناه من الجهد والمشقة، الذي لو بذلته في مهاجمة القرية لحطمتها، وهكذا ذهب جهدنا أدراج الرياح(29) .
بعد ذلك تجمع العناصر لحضور الاجتماع، وبدأ الرفيق (باهوز ) بالحديث على ضوء الاجتماع الذي عقدناه في أسفل قرية (ميده)، بخصوص التطورات السياسية الأخيرة .
و من ثم نتائج اجتماع إدارة الكتيبة والقرارات التي تم التوصل إليها حول الرفاق المجردين، وتكليف ثلاثة جدد بمهامهم، والتساؤل فيما إذا كان للقاعدة اقتراحات بخصوصهم؟ .
الرفيق (معصوم) رفض القيام بهذه المهمة، كما توقعت، وبعد السماع لحججه، تم التوصل إلى قرار بحقه، بتقديم تقرير إلى الإدارة يوضح فيه أسباب الرفض .
و أما (بيرو و دجوار) فوافقا على ذلك، وقاما بتأدية القسم الرسمي على القيام بمهامهم .
و تم اقتراح الرفيق (ذوكان) مكان الرفيق معصوم، حسب رأي الأكثرية، وتم أيضاً تكليف الرفيق زرادشت – وهو مارديني الأصل يزيدي – بالقيام بدور دجوار سابقا، أي مساعد قائد مجموعة .
و هكذا انتهى الاجتماع، وبدأت التحضيرات لوداع باهوز .
وحسب القرارات الأخيرة، سيذهب الرفيق (أردال) إلى السرية الأولى، وأما (زانا) فسيذهب للالتحاق بدورة تدريب الكوادر.
أما ( داود ) فسيبقى معنا .
و لكنه طلب مني أن يتحدث مع الرفيق (باهوز) أو أن أتدخل أنا، بمسألة عدم بقائه مع (روزهات) .
و بعد التشاور مع الرفيق (باهوز)، وجدنا من الأنسب أن يصطحب معه الرفيق داود.
و هكذا سارع (داود) لمرافقة (باهوز)، وقدمنا مراسيم الوداع لهم، و الآخرين لنبدأ مرحلة جديدة، بعد التنظيم الجديد في السرية .

5 آب 1996
الفراغ الذي تركه باهوز، بدا واضحاً منذ أول يوم، فقد كان مجرد وجوده في السرية، يعني استقرار الأمور، وحتى إذا غاب في بعض المهام، فقد كانت الأوضاع تجري بشكل مستتب، بمنطق استمداد القوة منه، ولكن الآن تغير كل شيئ، وهذا يتطلب أن أتخذ ذاتي منذ الآن أساسا للحاكمية .
(أخطائي القديمة كانت دائماً وراء وقوعي في الترهات والألاعيب . . لذلك يجب أن أكون أكثر حساسية في حساب الخطوات التي أخطوها . . ولا سيما في أوساط القاعدة . . . فالدخول بين القاعدة من المنظور النظري، بمثابة التحضير لتقديم رسالة التخرج .
و في الواقع العملي، فإن القاعدة لاتتقبل أحداً بسهولة، وخصوصاً من الناحية العسكرية . . . ولذلك يجب التركيز على الجانب العملي في الدرجة الأولى . . . ولا سيما بعد هذه الفترة التي تعرفت فيها على خصوصيات معظم القاعدة، ومن الناحية الأخرى، فقد تعرفت على جغرافية المنطقة ونقاط الأهداف . . . تبقى المسألة الأهم من كل ذلك، هي مسألة روزهات . . . فهل سأنجح في إقناعه بضرورة تكميل بعضنا . . . وإذا كان لم يقبل الرفيق ( باهوز)، فكيف سيقبلني ويتفاهم معي؟ .
و كيف استوعب عناده وإصراره على أسلوبه الأعمى في تسيير الأمور؟، ومعظم المقاتلين متحسسون من أسلوبه هذا، ومن الضروري في هذه الحالة، أن لا أحشر نفسي في المواجهة المباشرة لمسائل شخصية) .

نار الأنصار
تقع النقطة التي نتمركز فيها هذه الأيام، في الطرف الشرقي من قمة كري برخي، وفي أسفل النقطة يوجد نبع ماء صغير . . . وأماكن إقامة الكوجر – البدو- في الصيف واضحة المعالم . . . فهناك الحجارة المرصوفة فوق بعض، على شكل جدران صغيرة لايتجاوز ارتفاعها المتر، كانت بمثابة مستودعات للحطب . . إلا أنها ولطول غيابهم عن المنطقة، امتلأت بالأعشاب والحشائش، التي أصبحت فوق بعضها كطبقات من الاسفنج، لتكرار تراكم الجرف عليها طوال هذه السنوات .
لذلك فان المقاتلين يجتهدون في إزالتها، لاستخراج ما خلفوه من الحطب، ولكن بالاضافة إلى كل هذا التراكم، فان الحشائش والأعشاب التي ما تزال طرية، والتي ارتفعت و غطت كل شئ، بشكل كثيف ومكتظ ومتشابك، تعيق هذه العملية، ولاسيما كثرة نبتة الـ (كَزكًزوك – العضاضة).. التي ما إن تلمس المواضع العارية من الجسد، حتى يعلق وَبَرَها كالمغناطيس، وينتشر إلى كافة أنحاء الجسد بطريقة مباشرة، حيث يفور الجلد بالحساسية ويطفح بالبقع الحمراء، ويدعوك للحك والهرش بطريقة جنونية. والظاهر أن تسمية هذه النبتة بالـ ( كزكزوك) لها صلة بهذه العضات التي تعض بها على الجسد .
و أوراق هذه النبتة تشبه أوراق (القنبز)، غذاء العصافير المفضل، ولنقاء هواء الزوزان، فانك عند تركيز النظر إلى هذه النبته تشاهد عملية تنفسها بوضوح، حيث تقوم بالتقاط الأنفاس المتقطعة في الهواء البارد تماما كالانسان .
و يتابع المقاتلين، البحث عن الحطب بين تلك الأكوام من الأعشاب والكَزكَزوك، لعلهم يجدون ما يغنيهم عن استعمال الـ (الهللز) و (الكَوني)، وكما سبق وقلنا، فإن الحصول على الحطب في هذه المرتفعات كالحصول على الكنز، لذلك فان الكوجر أيضاً يقومون بدفنها في هذه المناطق كدفن الكنوز .
و عند العثور على قطعة منها، يضطرون لتظيفها من طبقة التسوس والعفونة قبل حرقه، باعتبار إحراق الحطب المتسوس والمتعفن يتسبب بتعالي الدخان مع النار. والدخان كما هو معروف، ألد أعداء الأنصار، فلا بد أن تكون نارهم بلا دخان .
و بالرغم من أن المنطقة لا يوجد فيها غيرنا، ما عدا الحيوانات الجبلية، من أمثال الدببة والماعز البري . . ألخ . فان نار الأنصار مهما كانت الظروف، يجب أن تكون بلا دخان، بل إنه كما يقول المقاتلون: الدخان هو من أكبر عملاء الـ ( ( MIT (30) التركي، وقد تسبب بالكثير من الخسائر الفادحة لوحدات قوات الغريللا .
منذ الصباح الباكر اتصل عناصر المرصد، وأخبرونا عن تحركات حماة القرى نحو قمتهم، ولم تمض ساعة على ذلك، حتى أخبرونا بأن أحد الألغام المضادة للأفراد انفجر بأحدهم، وهم متحلقون من حوله، وحسب مكالماتهم، فان ساقيه الاثنين قد بُترتا. وبالرغم من تكرار مركز هكاري طلبه معرفة اسم هذا الرجل، فان حماة القرى لم يفصحوا عن اسمه، وكانوا يكررون قولهم: عندما يصل إليكم ستعرفون، وهذا يعني بالتأكيد أنه أحد الكلاب المهمة، وهم لايريدون البوح باسمه، لكي لاتعرف بذلك .
ثم جاءت حوامة وحملته إلى هكاري، بينما بقي الحماة في أماكنهم من غير تقدم، وهم يقولون: اليوم لانستطيع المتابعة.. غدا سنتابع .
ثم قام المقاتلين باجراء مكالمة كوميدية مع حماة القرى .
– ماذا جرى .. وما هذا الازدحام؟ .
– ألا تعرفون ما فعلتم أيها الثعالب ؟ .
– وما الذي فعلنا ؟
– لماذا لا تأتون كالرجال ؟ من الذي زرع اللغم في خندقنا ؟
– ألا يفترض أن يكون جنود الأتراك من قاموا بذلك ؟ .
– إنها اساليبكم . . تفعلون ذلك معنا ، هل قتلنا أحدا منكم حتى هذا اليوم ؟
– و لكن من الذي يستنجد بالكوبرا ويدلي أمكان تواجد مقاتلينا ؟
– صحيح نحن نفعل ذلك . . ولكن لأنكم تتمركزون في جبالنا .
• و أين تريدون منا أن نتمركز . . . في المريخ أم في المشتري ؟ .
• أتركونا وشأننا لا علاقة لنا بهذه الأمور.. ارحلوا من قرانا لقد حرقتم كل شئ .
و هكذا طالت المحاورة بين الحماة و المقاتلين، وكل ذلك يجري وأنا لا أعلم، وعندما جاء أحد المقاتلين ليخبرني بذلك، سارعت إلى إيقاف ذلك المقاتل عن متابعة الكلام، وقمت بتجريده مباشرة من جهازه وحذرته، بأنني لو رأيته يحمل الجهاز مرة أخرى فسأضطر لفتح تحقيق معه .
لأن تعليمات المقر المركزي، تمنع التحدث مع الحماة، مهما كانت الأسباب .
بعد ذلك قمت بجمع إدارة السرية، وكان قد تقرر تعيين الرفيق (جيا) محل الرفيق (أردال) الشاغر .
حيث قمنا في هذا الاجتماع بتوزيع جديد للسرية، حسب التوازن في النوعية والتكنيك.
و هكذا أصبح قادة المجموعات لدي جيا ودجوار .
أما الرفيق توفيق فلديه (بيرو و ذوكان).
و تم أيضاً تغيير أسمائنا في اللاسلكي، وتوزيع المهام الجديدة على الشكل التالي:
قائدة السرية روزهات ( لَوين).
دوغان : لالش ، ضابط الأمن .
توفيق : لولان ، الشؤون الادارية.
جهان : لَهي ، التنظيم الداخلي .
نوال : نمرود ، التدريب .
بينما انشغل بعض المقاتلين بالإعداد لحفلة صغيرة بمناسبة التوزيع الجديد .
بعد الظهر تمت قراءة التوزيع الجديد، وكالعادة اهتم كل مقاتل بجمع أشيائه للانضمام إلى مجموعته الجديدة .
و نظراً لحرارة الشمس، تم تأجيل موعد الحفلة حتى الساعة الرابعة مساء، حيث تجمع المقاتلون للاحتفال، دعيت لإلقاء الكلمة الافتتاحية، حيث ركزت فيها على التوزيع الجديد والمراحل التي قطعناها حتى الآن، وتسمية هذه الحفلة بأنها بداية المرحلة الجديدة، بعد الفراغ من عمليات الاستطلاع والكشف وتحديد الأهداف . . . الخ .
و بالرغم من تواضع تحضيرات الحفلة، فقد كان لها وقع مميز على سير الأحداث، ومن المفاجآت التي تضمنتها الحفلة، اكتشاف صوت الرفيقة جيمن، التي سمع الجميع صوتها العذب لأول مرة، ومن بين الأغاني التي غنتها أغنية عن شهداء (بى كَوفا- Bê gova).. الذين استشهدوا أثناء الحملة ضد ( PDK ) في جبل متينا، بالقرب من مدينة الآمدية (العمادية).
و لم يكن أحد من المقاتلين على علم بما تمتلكه الرفيقة (جيمن) من الصوت الجميل .
كان من المفروض، أن نباشر بارسال مجموعة إلى (سنبل) بعد التوزيع على الفور، لتنفيذ العملية التي تم التحضير لها .
و لكن نظراً لأوضاع حماة القرى الجديدة بعد انفجار اللغم، اضطررنا للتريث في ذلك، حسب تحركات حماة القرى الجديدة، سيما وأن العدو كما جاءتنا الأخبار يحضر لحملة تمشيط واسعة .
و مع كل هذا، فعلى المجموعات أن تكون في جاهزيتها الكاملة مع صباح الغد الباكر، للتحرك نحو ( أورامار)، لضرب العدو من هناك، ثم الانسحاب إلى مكان آخر .
و يجب أن نتفادى الاشتباك ما أمكن، ونعتمد على أسلوب الكمائن، حيث أن جغرافية المنطقة تناسب حرب الكمائن .
ولكن من الضروري أن يتحرك الرفيق روزهات ومجموعته، منذ هذه اللحظة للسيطرة على الطريق .
و هكذا تحرك (روزهات).. ومعه مجموعة الكمين والمرصدين، بينما بقينا نحن في النقطة، بدون تطورات تذكر، ماعدا مخابرة المركز التي وضعتنا في صورة ما يجري من الأحداث، ولا سيما عمليات الرفاق في كافة انحاء الوطن .

6 آب 1996
في الصباح وبعد ارتفاع قرص الشمس، وانتشار أشعته على النقطة، وبعد تناول وجبة الإفطار بجانب بعض الصخور، تفرق الرفاق على شكل مجموعات، للتزود من حرارة الشمس في ساعات هذا الصباح، وللتخلص من البرد المتسرب إلى الأجساد، وفيما كانت الساعة قد تجاوزت السابعة بدقائق، اتصل عناصر المرصد وأفادوا بأن حماة القرى بدأوا بالتقدم .
و هكذا سارعنا إلى الانتشار وجمع المواد التموينية وحملها على البغال .
و في تلك الأثناء، حدث ما لم يكن بالحسبان ؟
لقد امتنعت الرفيقة (جيهان) عن التحرك بصورة غير لائقة، حيث كانت الأمور تجري تحت مسؤوليتي، وكان النقاش معها سيجر الأوضاع إلى التدهور، قلت لها بمنتهى البرودة: لايهم، بامكانك أن تبقي هنا بمفردك، وباشرت التحرك غير ملتفت إليها، مما جعلها تلتحق بصورة مخجلة .
مع الوصول إلى نقطة إعادة الفرز، عند المنفذ المؤدي إلى (أورامار)، بعد التوقف قليلا عند ( نبع خضركي)، قام المقاتلين بالتحضيرات اللازمة حتى يكتمل إلتحاق الأخرون.
كان الحماة قد تقدموا من جانبهم، ولكنهم فيما يبدوا شاهدوا بعض المقاتلين، توقفوا عن متابعة التقدم، وبدأوا الاستغاثة بالكوبرا وهم يقولون: هناك تماس حاد واشتباك، عند مكالماتهم يقومون باطلاق العيارات النارية، ليوهموا مركز هكاري، بنشوب الاشتباك فعلاً، بينما مركز هكاري يكيل لهم الشتائم .
– ماذا تفعلون إذا كان عددهم ستة كما تقولون وأنتم ثمانون ؟
قوموا بمحاصرتهم وسوف نرسل الكوبرا، عندما يتم تطويقهم من قبلكم .
– و هل هم خراف حتى نلاحقهم ونطوقهم ؟.
ثم دخلوا على خطوطنا، للتحدث معهم باللاسلكي مرة أخرى، بصب الشتائم والمسبات على رؤوس الغريللا مرة، و بالضرب على الوتر الحساس مرة أخرى .
و بعد الظهيرة، كان اللغم المضاد للمدرعات أيضاً قد انفجر باحدى الناقلات، ولكن الانفجار لم يكن حسب المطلوب، ويبدو أن اللغم تالف، حيث انفجر الصاعق ولم ينفجر اللغم .
و هكذا عاشوا ساعات من الهيجان والخوف، وهم ينادون قياداتهم : لغم – الغم . . . كبير . . . كبير .
و جاءت المصفحات والمدرعات إلى مكان اللغم، وهرعت القرية بكل نسائها وأطفالها وشيوخها وشبابها للتجمع هناك .
و مع غروب الشمس، بدأ الحماة بالعودة إلى قريتهم هاربين، وهم يصيحون : (اشتباك . . . اشتباك حاد) .
بينما تم التوقف أثناء ذلك على اقترابات الرفيق (جيا)، حيث كان قد تخلف عنا مع بعض المقاتلين، لشد رحال البغال والالتحاق بنا .
و لكن بينما كانوا في الطريق، عثروا على مجموعة من طيور الـ ( قجوك – زاغ ) (31) – طائر أسود يفوق في سواده سواد الغراب، واصغر حجماً منه بقليل، ويعتبر لحمه وجبة نادرة بالنسبة للمقاتلين – في فوهة بركانية عميقة كالبئر- وعند وصولهم إلى ( نبع خضركى)، حسبوا أنفسهم في نزهة، فجلسوا بالقرب من النبع وأوقدوا النار، وشووا الطيور وناموا أيضاً، ولم يصلوا إلينا حتى الثامنة صباحا .
و في التكميلات، تم التوقف على المجموعة التي ستتجه إلى سنبل، ولكن هناك انتقادات من كافة المجموعات تقريباً، على الأمور التي وقعت ضمن مجموعة الكمين والمجموعات الأخرى .
و بالأخص انتقاد الرفيق (روزهات)، لتحدثه مع حماة القرى أولاً، ولأسلوبه في الحديث ثانياً، حيث تلفظ بكلمات غير لائقة بأذني مقاتل، فكيف بقائد سرية .؟!

7 آب 1996
في الصباح وقبل البدء بالاجتماع، تباحثنا أنا وروزهات حول النقاط التي يجب التوقف عليها .
و الذي لاحظته، أنه في كل ما يقوم به يستشيرني أولاً، معبراً بذلك عن إعطاء دوري، ولكنه بعد ذلك يفعل ما يحلوله .
و نفس الشئ يفعله في الاجتماع، فبعدما يقوم باعطاء حق التحدث للآخرين، يقوم مباشرة بتوزيع المهام الجاهزة والمكتوبة على الأوراق كالتعاويذ .
و بعدما أجاب على كل الانتقادات التي وجهت إليه البارحة في التكميلات، ختم الاجتماع بالكلمة الروتينة .
و في اجتماع الادارة بعد الغداء، افتتح روزهات الكلام ونحن نشرب أكواب الشاي الساخن .
– هناك أمر لا أفهم منه شيئاً .
– ما هو هذا الأمر ؟
– بيرو .
– وما قصته هذه المرة ؟
– إنه يصر على الذهاب في مهمة (سنبل) .
– فيما مضى كان يصر على الذهاب إلى مدينة هكاري، ولكن (باهوز) رفض ذلك، وهو اليوم يصر على الذهاب إلى (سنبل) .
و الأنكى أنه يتجهز لذلك، فقد قام البارحة بحلاقة ذقنه واليوم أتبعها بحلاقة شواربه أيضاً .
– الأمر غير طبيعي فعلاً .
– الأفضل أن تتخذ التدابير – أجابت الرفيقة نوال .
– يجب عدم إرساله، مهما كانت نيته، فهو من (قارص) وله أقارب كثيرة في تلك الجهة، ولايمكن الوصول إليهم إلا من هناك .
و قد تكرر هروب أقاربه وتحولهم إلى عملاء(كونتر غريللا) (32) بنفس الطريقة، ولكي الا يقعون في يد العدو مباشرة، كانوا يقومون بحلق شواربهم ولحاهم، لأنها عادة الموظفين الأتراك، ومن عادة البوليس، أنه لايوقف حليق اللحية والشارب إلا نادراً .
– مهما كان.. يجب أن لايذهب إلى سنبل .
– ثم هل نسيتم أوضاعه القديمة واضطرار الحزب لاعتقاله في العام الماضي.. لأكثر من شهرين .
– و هناك عائلته، أغلبهم عملاء.. وقد هرب كل أقاربه وأخوته من بين صفوفنا . .
– و هو أيضاً على ما أعتقد وحسب الشبهات كان ( كونترا) أو من البوليس .
– و هل نسيتم علاقاته اللا أخلاقية في فعاليات الجبل الأبيض مع . ( . . . ) .
بعد ذلك قمنا بتحديد عشرة مقاتلين، ووقع الاختيار علي من بين الاداريين للقيام بمهمة (سنبل) .
و هكذا قمت بجمع أولئك المقاتلين، وتحدثت إليهم عن المهمة .
و كان الكل على معنويات عالية، ماعدا (بوطان)، فانه أظهر عدم رغبته في مرافقتنا لهذه المهمة، وعلى الفور قمت باستبداله .
و لكن كان يجب التوقف على اعتراضات المقاتل (بوطان)، التي تتكرر من حين لآخر، إلا أن قائد السرية نظر للأمر على انه طبيعي، مما أثار انزعاجي .
و من ثم قمت بتحضيرات المهمة من التموين وما إلى ذلك، فقمت بتكليف ثلاثة مقاتلين بالتوجه لذلك، إلى المستودع الموجود قرب (نبع خضركي)، واستخراج بعض التموين منه وانتظارنا هناك .
بينما كانت السرية بكاملها قد استعدت هي أيضاً للتحرك بدورها إلى جهة (جيلا دو كوه)، لكي يقوموا بكشف طريق (دار آفا غزالك) .
و هكذا اصطف الآخرون لوداعنا، بينما جهاز اللاسلكي الذي في جيب صدريتي، لايتوقف عن اتصالات المرصدين مع الجهات المختلفة، وبالأخص مكالمة (روزهات) مع سرية الرفيق (محمود)، حيث يطلب من (الرفيق محمود) أن يرسل إلينا بعض البطاريات والأحذية، وهو يطلب من (روزهات) بعض الألغام المضادة للمدرعات، وكذلك أخبرونا بعمليتهم الأخيرة، حيث كان الرفيق باهوز على الخط أيضا حيث استولوا على قطيع ماشية لحماة القرى(33).
وألقوا القبض على ثمانية من رعاتهم وحماتهم مع ما معهم من الأسلحة، ولكن اثنين منهم تمكنوا من الفرار، ولم يطلق الرفاق عليهم النار، لأنهم من المدنيين، والإقدام على قتل المدنيين يقلب الأوضاع رأساً على عقب .
كانت الرفيقة (ميديا) هي التي تقوم بربط الاتصالات، وحماة القرى لا هم لهم إلا الاستماع لصوتها الساحر، والتعليق عليه بالكلمات الساقطة، وبالرغم من محاولاتي المتكررة في إقناع (روزهات) بتغيير مهمتها، إلا أنه يصر على بقائها في المرصد .
إن قيام مثل هذه الرفيقة بهذه المهمة، يعطي العدو انطباعاً مغرياً بالمواجهة، ونحن بحاجة إلى الصوت الذي يمثل عسكرية المقاتل .
بل إن مثل هذا الصوت خطر حتى على المقاتلين أنفسهم .
صحيح أن للرفيقة (ميديا) ايجابياتها في أداء مهامها العسكرية، وأنها لم يكن لها دور في أن يكون صوتها ساحراً إلى هذه الدرجة، ولكن من غير الصحيح أن تقوم بأعباء هذه المهمة، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى .
و باختصار إنها ليست في مكانها المناسب، ولابد أن يكون صوتها هذا سبباً في هربها مع أحد المقاتلين، إذا لم يتدخل القدر ويكتب لها الشهادة في هذه الأيام .
و من لم يسمع صوت (ميديا)، ومن لم يرها وهي تتنمّق في عرضها لهذه الموهبة مع جمالها البارع، سيتهمني بالجور وسأغفر له ذلك، لأنه لم يسمع ذلك الصوت ولم ير آثاره .

ملحمة دشتاخانى
بدأنا التحرك بين الأعشاب والنباتات الشوكية المرتفعة، بينما أشواك شجيرات الـ (الكَوني – Gûnî) القاسية، تستمر بوخزاتها الحادة والمؤلمة، حيث تبقى هذه الأشواك مغروزة على أطراف السراويل حتى تجعلها أخيرا كجلود القنفذ .
و لابد بين الحين والآخر أن تقف لتستخرجها من السروال، وتضطر أحياناً إلى رفع السروال إلى أعلى الفخذ لنزع ما علق منها بالجلد، وهكذا تستمر على هذه الحالة، حتى تصل إلى الطريق الترابي، الذي غطته أيضاً الأعشاب، لانقطاع الناس عن هذه المنطقة منذ سنوات، مما طمس معالم الطريق، وجعلنا نضيع الاتجاه عدة مرات .
ليس في هذه المنطقة شبر من الأرض، إلا وارتوى من دماء ابناءها، كما يقول عناصر الميليشيا، الذين شهدوا كل تلك الأحداث، لكونهم من أبناء المنطقة، ولا سيما منطقة (دشتا خانى) – أي سهل خانى كما مر. وهناك ملحمة شعرية مثل ملحمة (قلعة دم دم) ما يزال القرويون يرددونها، ويحفظ هؤلاء الميليشيا قسماً منها، وقد احتفظت هذه الملحمة بالكثير من أحداث الحرب، التي نشبت بين عشائر هذه المنطقة، بعد انفصال (عيسى سوار) بجماعته واستقراره في هذه المرتفعات، وكان الكوجر في تلك الأثناء يستقرون في هذه المرابع والمصايف .
و قام الميليشيا بتعريفنا على المرتفعات التي وقعت فيها الاشتباكات مع قوات PDK ، و لاسيما أسفل المنفذ المعروف عند الرفاق بمنفذ اعادة الفرز، والمرتفع الذي حوصر فيه (عيسى سوار) نفسه، وكيف أقدم على الاستسلام، وقام ( PDK ) الحزب الديمقراطي الكردستاني – باعدامه مع كافة القوات التي انشقت معه.
و في المرتفع الذي أقمنا عليه المرصد، أيضاً كان الاشتباك الأول بين قوات (عيسى سوار) (34) و بيشمركَة ( PDK ) والذي أسفر عن مصرع العشرات من البشمركة، حتى إن أحد الميليشيا أشار بيده إلى بعض الصخور وقال: بجانب هذه الصخرة قتل اثنان منهم، وبقيا هناك إلى أن جاء القرويون ودفنوهما، وبعد أيام قامت الحيوانات بنبش قبرهما وإخراجهما.
و في نفس المرتفع الذي أعدم فيه عيسي سوار، استشهد ثلاثة من رفاقنا عام ۱۹۸۹ وانجرح الرفيق المشلول، الذي سبق الحديث عنه عند المرور بقرية ( تال) (35).
(بدأ الجو يميل نحو البرودة، والحركة مناسبة في مثل هذه الساعات، ورفوف الحجل بدأت مغادرة الوديان، متجهة نحو مراعي المرتفعات، بينما نحن نتابع المسير) .
و هنا اقترب مني الرفيق ريبر وهو يقول :
– بالتأكيد سيرسل لنا الرفاق بعض الأغنام التي استولوا عليها .
– هذا إذا كان القطيع فعلاً لحماة القرى، وأما إذا كان للناس المسالمين فسوف نضطر لتسليمه لهم .
– لقد مرت فترة طويلة لم نذق فيها طعم اللحم، منذ أن قطعنا الحدود .
– أين حياة الزوزان، لقد مرت علينا أشهر هناك، لم يكن لدينا ذرة من الطحين، وكنا نأكل اللحم فقط.. وها نحن الآن نأكل الخبز فقط .
– و هنا كما ترى.. لايوجد لا قرى ولا حماة قرى.. لنأخذ قطعانهم .
– الزوزان خيره وفير ، سقى الله أيامه . . . كنت تحتار ماذا تأكل.. الجبن أم اللبن أم اللحم ؟ أيام كانت الزوزان عامرة بخيم الكوجر.
– إنها أفعال العدو عديم الشرف .
بدأت تأثيرات الوديان على أجهزة اللاسلكي تظهر بوضوح، وبدأ الاحساس بالانقطاع عن الاخرون يساورنا بالمخاوف، وبدأت المحادثات تتخذ شكلها الكوميدي المألوف في مثل هذه الوديان، بينما لايكف المقاتلين عن تعليقاتهم وتهكماتهم بهذه الأجهزة.
و عند الوصول إلى مكان المستودع، كان (دجوار) ومعه المقاتلين الثلاثة بانتظارنا، ولم تكن تظهر سوى رؤوسهم من بين أشواك (الكَوني)، حيث يعمد المقاتلين إلى تغطية مستودعاتهم بأكوام (الكوني)، لتضمن لهم عدم وصول الدببة إليها، وأن يكون ذلك أيضاً في المنحدرات الوعرة، والتي يصعب نزول الدببة إليها، بل والتي يتهيّب الاقتراب منها جنود العدو أثناء حملات التمشيط، إلا إذا كانت هناك إخبارية من أحد أو من حماة القرى ، و تحدد لهم مكان المستودع .
و لكن الدببة في الدرجة الأولى، هي العدو الشرس لمستودعات التموين، حيث تتابع بالشم آثار أقدام الإنسان، وتهتدي إلى تلك المستودعات، لتأكل ما يطيب لها وتبدد الباقي يمينا وشمالا كأنها في بيدر، ورغم اتخاذ الكثير من التدابير، فيبدو أننا حتى الآن لم نتوصل إلى الطريقة الملائمة لتجنب اعتداء الدببة .
فحتى (زرع الألغام) للدببة أخفق معها، حيث كان الدب يأتي على مرأى من المقاتلين ويزيل اللغم وكأنه هو الذي زرعه ! .
و أخباره بين المقاتلين تكاد لاتصدق، فقد فتح أحد مستودعاتنا في (هركَول)، وأخذ علبة من علب الحلاوة والتهم كل ما فيها، ثم تغوط بها وأغلقها وأعادها إلى مكانها ! .
كانت أسراب الحجل قد تجمعت فوق (نبع خضركي)، وحين أحست بوجودنا بدأت بالهرب، بعضها يطير وبعضها يعدو، وهم أحد المقاتلين باطلاق النار عليها، ولكنني منعته من ذلك .
و هكذا أخذنا مكان الحجل، وتجمعنا في ساحته، لنأخذ قسطاً من الراحة، حيث قمنا أيضاً بحل الأحزمة وربطها من جديد، لأن ارتخاء الحزام يؤثر على وتيرة التحرك ويحرك آلام الظهر .
كل شيئ أصبح جاهزا، وعددنا بالتمام أحد عشر مقاتلا. تم استخراج كيس من الطحين، وملء الحقائب ما أمكن بمواد التموين، حتى بدت وكأنها (نفاخات) ستتفجر.
و لاشك أن هذه الحمولة ستعيق سيرنا، وتحتم السير حسب خطوات ثابتة دون اهتزاز في الجسد .
و بدأنا بشق أكوام القش التي تراكمت في الوادي، ولا سيما (الهللز)، وكأننا بذلك نخترق الثلوج، المختلف في الأمر، هو صوت تقصف الأشواك والأعشاب تحت الأقدام.
و اضطررت للتوقف قليلاً بعد فترة، فالظاهر أن أحداً ما سبقنا في شق هذا المكان، فإما أن يكون من حماة القرى وإما أن يكون الرفاق، قد مروا من هنا يوم خروج الحماة .
و بعد التأكد من سلامة الطريق، تابعنا المسير بعد استراحة قصيرة، إلى أن وصلنا إلى الوادي المؤدي إلى منفذ قرية (ميده)، وهو قريب من المنفذ المؤدي إلى قرية كعى، لذلك باعدت المسافة بين المقاتلين في االرتل، للتخفيف من صوت تكسر القش تحت الأقدام، والذي لم يبق منه إلا القليل في هذا الوادي، بينما تمر من ضفاف الحفر التي تجمع الماء فيها على شكل برك متجاورة، وبينما نحن في هذه الحساسية والأحتراس، حتى نكاد نسمع دقات قلوبنا، ونحاول التقليل من التقاط الأنفاس، فجاءة صدر صوت صفير، وكأنه إشارة من بعض حماة القرى على وجودنا .
توقفنا دقائق ونحن نراقب المنطقة من كافة جهاتها .
ثم تكرر الصفير مرة بعد مرة، وفي النهاية، علمنا أنه نوع من العصافير، يقوم باصدار صفير كصفير الإنسان .
و لم يتوقف الأمر على هذه المفاجأة فقط، حيث ما إن تابعنا المسير، حتى أضاء المكان من حولنا، وكأننا أصبحنا في النهار، مما جعلني أجزم بأنها طلقة ضوئية، بينما كان ذلك أحد الشهب الذي مر من فوق المنطقة .
و هكذا قطعنا المنفذ، وقمت بتوزيع المجموعة، وبدأنا بالنزول غير مكترثين بكل ما تصدره أقدامنا من الأصوات .
إنه النزول، وهو أصعب في هذه الحالة وأنت تحمل ما تحمل من الصعود، حيث تبدأ وخزات الروماتيزم تعصف بالركب، ولابد لكل نصير قضى فترة بين صفوف الأنصار أن يصاب بالروماتيزم، وأن يصاب بالديسك أيضا، إذا لم يحسن استعمال الحزام.
و حسب ملاحظتي، فإن (الديسك) غالباً ما يصيب المقاتلين الطوال، أما متوسطو الطول والقصار فقلما يصابون به .
لأن التحرك في الجبال، يوجب على الجسد أن يستمر في الحفاظ على توازنه، بصورة معينة، حسب كل خطوة، حيث تلتوي الأجسام الطويلة وتفقد الكثير من توازنها، و عندما يضاف إلى ذلك، حملهم الحقائب والأسلحة والجعب، فان ذلك سيؤدي إلى فقدان الاستقرار والتأرجح، حسب تأرجح الأحمال، وخاصة عندما يقع الخطأ في توزيعها على الظهر والكتفين .
أما بالنسبة المقاتلين القصار، فهم أقل عرضة لهذه الحالة وأكثر محافظة على الاستقرار والتوازن .
أما مسألة (الروماتيزم) في الركب، فلا فرق بين الطوال والقصار في ذلك، فهو مرض معظم الأنصار .
استغرق النزول وقتا طويلاً، لوعورة الطريق وتراكم الجرف عليه ـ
و لكنك وأنت في وسط هذا الظلام، لو خانتك أقدامك في خطوة واحدة، فستكون النتيجة غير المرغوب بها .
و هكذا وصلنا إلى المكان الذي توقفنا فيه، عندما نزلنا إلى هذا الوادي لأول مرة، حين نزلنا إلى فوهة البركان أثناء تحليق الكوبرا من فوقنا .
و لصعوبة المتابعة، قررنا المكوث في هذه المنطقة حتى الصباح، وهكذا أخرجت عناصر الحراسة بعدما تناولنا شيئا من (بيبسي الأنصار) .
ما إن استيقظت في يوم 8 آب 1996 الساعة الخامسة، حتى رأيت كل من حولي يغط في النوم، وبما فيهم عناصر الحراسة ! . .
و مباشرة قمت باخراج المنظار وكشف أحوال القمم والمرتفعات التي حولنا، وعندما لم أر ما يدعو للخطر، قمت مباشرة بايقاظ الحراس، حيث وقفوا والخجل والاعتراف بالذنب يلبسهم من مفرق رأسهم حتى أخمص أقدامهم .
و لم يكن هناك وقت لفتح التحقيق معهم، فأجلت ذلك حتى العودة، وتابعت النزول حتى وصلنا الى القرية .
و أخيراً وصلنا إلى (ميده)، هذه القرية التي بدأ الرفاق بتسميتها (مقر دوغان)، ويبدو أن حالها سيصبح مثل منفذ في جبل ( هركَول)، أو الباب الذي بات يعرف باسمي منذ عام ۱۹۹۰ بـ (باب دوغان)، حتى إن العدو يستعمل هذا الاسم ويقوم بتسجيله في الخرائط (باب دوغان)، وهو يحسب انه اسمه التاريخي .
8 آب 1996
مرت الفترة الصباحية بغير تطورات .
و بعد الظهر قمنا بالاستحمام وغسل الملابس وتنظيف الأسلحة وتعيير القناصات والمناظير، وقررنا قضاء الليلة في القرية، لأخذ الراحة اللازمة للطريق الشاق الذي ينتظرنا.
(التحضيرات كاملة كما يبدو، وقد تم خبز معظم كيس الطحين، مع أخذ حساب العودة، وكنا قد تركنا قسما من التموين في المرة الماضية، فوجدناه كما هو، وحتى الدببة لم تصل إليه) .
9 آب 1996
تركت المقاتلين منذ الصباح، للاستعداد من أجل التحرك .
و في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، وبالرغم من الحر الشديد، باشرنا التحرك، حيث وضع قسم من المقاتلين كفياتهم فوق رؤوسهم مثل البدو، لاتقاء ضربة الشمس. (بدأنا نسير ومرة أخرى نلتقي رفوف الحجل، لأن هذه الساعات هي موعد نزولها إلى أطراف الماء وظلال الشجر) .
و هكذا تتطاير من بين أقدامك فراخها، حيث سرت في هذا الوادي، وكلها ذعر وارتعاد، مما ينغص عليك بالك، وخاصة عند التفكير في المسائل المهمة، وما عدا ذلك فكل شيء ساكن، في هذا الوادي الذي لاتسمع فيه إلا حفيف اجنحة الحجل وزقزقة العصافير وهديل الحمام ورقرقة الماء المتغلغل بين أشجار الجوز والصفصاف، حيث التحف بأوراقها كالطفل في المهد، وقد اصطفت على طول الطريق، كروم العنب وأشجار الخوخ والتفاح، التي تشابكت أغصانها، بصورة يتعذر معها المرور في كثير من المواضع.
و بمجرد أن تهز أحد الأغصان، تتطاير عشرات الطيور والعصافير الوادعة في هذا الوادي السحيق .
و لكنها لاتبتعد كثيرا، فسرعان ما تلتف بشكل جماعي من خلفنا التستقر على شجرة أخرى، وهكذا ترافقك هذه الطيور بتلك المناورات والالتفافات إلى أن تصل إلى نهاية الوادي، وكأنها تقدم لك مراسم الوداع، حيث تعود بعد ذلك إلى مأمنها، وتتابع أنت في المسير.
بعدما قطعنا الغابة، لم يبق من أشجارها إلا بعض الشجيرات المتفرقة هنا وهناك، وكأنها قطيع من الماعز، انفرط نظامه وتبعثر جمعه .
بينما جرف السيول والانهيارات الثلجية، التي جبلت الثلج والحجارة والرمل معاً، تكاد تصبح جبلاً جديداً في مؤخرة الوادي، ولكنه جبل من الحصى الصغيرة، وكأن عشرات الكسارات قامت بتفتيته، فلو استطاع أحد أبناء هذه المنطقة شق الطريق إلى هذا الوادي، فسيكفي هذا الجبل لتعبيد كافة طرق المنطقة .
و قد غطت هذه الجروف، معظم مجاري الماء التي يحتضنها الوادي، فترى الماء يجري من تحتها، وينفذ من أطرافها، منساحاً في أطراف الوادي .
أخيراً ..ها هو جبل سنبل.

(جبل سنبل) و (مدرسة الوطنية)
هذا الجبل الذي لم يأته أحد من رفاقنا باستثناء المرور به عام ۱۹۹۲.
و بعد كل المحاولات المخفقة، ها نحن نتسلق قمم جبل سنبل تحديداً، لا المرتفعات المجاورة.
و في كثير من المواضع في تسلق هذا الجبل، تحتاج لأدوات هوات التسلق من الحبال والمثبتات، ولذلك كنا نلجأ في هذه الأحوال الاستعمال الأحزمة محل الحبال، وفي هذه الحالة، تشكل الأسلحة أكبر العوائق، فلا بد من نزعها ومناولتها للبعض، وهنا يبرز دور المقاتلين الطوال، حيث يقومون بمساعدة الآخرين ورفعهم على أكتافهم .
و تعترضك أيضاً صواعد واقفة كوقوف الأهرامات، حيث يكاد يكون من المستحيل الوقوف أثناء تسلقها .
و مع أكوام الثلج المتلبدة بالأغصان والجروفات، والتي تتدفق من خلالها مياه الذوبان، يصبح التسلق أشبه بالمغامرة .
و رائحة الثوم البري والهللز والأعشاب الأخرى، تختلط أيضاً بروائح التعرق المتصبب منك، لتشكل مع ضيق النفس أثناء الصعود، ما يشبه الخناق . . ، قد تطيب لك هذه الروائح، عندما تكون في نزهة، ولكن عندما تكون في مهمة عسكرية، لاتعرف التوقف، يختلف الأمر .
و لكن الذي يخفف وطأة هذه الظروف، كثرة وجود الماء، ولولا ذلك، فإن المشقة تتضاعف مئات المرات .
بدأت الشمس تتزاور استعداداً للغروب، ونحن مستمرون في الصعود. وبدأت الظلال تغطي شعاف هذا الجبل. إن التسلق في الليل له من سابع المستحيلات خلال هذا المنحدر.
و الألم في قدمي اليسرى استيقظ من جديد، ليذكرني بتلك الشظية التي تطايرت من قذيفة الهاون، لتصيب ساقي اليسرى، مع بداية ذوبان الثلوج في بسطا بالقرب من مدينة شرناخ عام ( ۱۹۹۰ )..اثناء اشتباك نهاري مع الحنود الاتراك ومعهم حماة القرى، .
و بالرغم من بقاء الشظية فيها حتى الآن، لم أكن أشعر بذلك طوال هذه السنوات، ولكن الألم لم يُعَةً دائرة التشنج والوخز، لذلك تابعت الصعود، فالمسألة فيما يبدو مسألة إرادة وتحمل. (إن الإرادة التي تدعوك لمواجهة العدو الغاشم بكل جبروته وطغيانه، يهون عليها تحمل هذا الألم وتسلق هذه الجبال) .
لولا الإرادة، فإن هذه الطبيعة الوعرة، قادرة بمفردها على تصفيتك، دون الحاجة إلى حملات تمشيط يقوم بها العدو. فالارادة إذاً كل شيء، وكل شيء هو الإرادة .
و صلنا أخيراً إلى القمة، وهي في الحقيقة سلسلة من القمم البارزة والمتناثرة، والتي فتتها المناخ إلى أن أصبحت رؤوسها على شكل قبب وأبراج ومنارات، تذكر بقلاع وكنائس العهود الغابرة، تغطى القمة مساحة واسعة من الثلج المبرقع بآثار الماعز البري، حيث لاشيء سوى آثار تلك الحيوانات الجبلية .
في المرة السابقة، وعندما كانت مجموعة الكشف في طريق العودة، عثرت في المرتفعات المجاورة على قطيع من الماعز الجبلي، إلا أنها لم تتمكن من اصطياد واحدة منها، حيث يفصل بين هذه القمم واد سحيق، يتجاوز قطره الكيلومتر، تحيط به تلك السلسلة من القمم، وكأنها أسوار قلعة من القلاع .
و المنفذ الوحيد المؤدي إلى هذا الوادي، هو المنفذ الذي نقف على قمته .
و في الطرف الأعلى من هذا المنفذ، انحسرت الثلوج عن بساط من الربيع الأخضر الغض، الذي أغرانا بالتمدد فوقه ونحن نعانق نشوة النصر في تسلق هذا الجبل، وكأننا أصبحنا في عالم آخر .
نعم إنه عالم آخر، يفيض بمذاق الحرية والبراءة، إنه عرش هذه المملكة الذي يفجر فيك كل معاني القوة والعنفوان، ولا أبالغ إذا قلت: أن العرق المتصبب من المقاتلين أثناء تسلقهم هذه الجبال، لو اجتمع في مجرى واحد، لكان نهراً باقياً إلى الأبد .
و تتساءل رغماً عنك، هل سيذهب كل هذا العناء هباء ؟. . ، إننا لو لم نرتبط إلا بقدسية هذا العرق، لكفانا رابطة لاتنفصم عراها، فكيف وقد امتزج بالدماء البريئة واختلط بدموع كل بيت من بيوت هذا الوطن المتصبب عرقا ودمعا ودماء، ليذكر كل رفيق، لماذا تسفك الدماء ولماذا تسفح الدموع ولماذا يتصبب هذا العرق؟ .
على ذلك البساط الناعم والذي تدلت بعض أطرافه على مشارف الوادي، جلس الرفيق (ريبر) يدندن ويردد بعض الأغاني .
و هو فتى لم يبلغ السابعة عشرة من عمره، من قرية (ودات آيدن) التابعة لديار بكر، كانت الأغنية هي (سبقت الإشارة إلى هذه الأغنية التي تصف جبل سنبل في هكاري، بأنه ملتقى تجوال الشباب والصبايا). وكان الآخرون ينفجرون ضاحكين، وهم يقولون : والله غير صحيح، لو كان البنات يستطعن التجول في هذه الجبال، لرافقتنا الرفيقات في هذه المهمة .
– لا عليكم سوف نأتي أيضاً بالرفيقات إلى هذه القمة .
بينما الرفيق (معصوم) المعروف بامكانياته الشعرية، بدأ يُحَور كلمات الأغنية على النحو التالي : (انك لن تخرج من القلب، وسوف تبقى فيه بكل صور المرارة والأسى) .
و ما إن انتهى حتى صاح أحد المقاتلين: أين أنت يا (كـاظو) – كاظو صاحب الأغنية ـ والله لم تر (سنبل) ولا في المنام، فكيف غنيت هذه الكلمات، حين ترى سنبل، ستعلن التوبة عن كلماتك، أي شباب وأية صبايا .
و هكذا هي عادة المقاتلين في إضفاء أجواء المرح في أوقات الراحة، لتمحو آثار التعب والمشقة، في تلك الأثناء كنت استمع بعض الدقائق ريثما يحين موعد نشرة الأخبار المسرحية (العيال كبرت) من صوت الكويت . . . المقاتلين الذين يفهمون العربية ، يرافقون المسرحية بالضحك والتعليق، بينما ينظر إليهم الآخرون وهم يتساءلون عن أسباب الضحك .
بعد ذلك تحولنا إلى الجهة الشمالية من القمم، حيث انفتح أمامنا عالم آخر، امتدت على طوله المرتفعات والقمم، وكأنها سرب من الضباب الأزرق، والتي تتدرج في الزرقة إلى أن تتحد أخيرا مع زرقة السماء .
و من بعيد تبدو إلى الشمال الغربي، حيث مرتفعات (فراشين و لوين و قمة هسنا) . بينما تتداخل أسفل المنحدرات والوديان السحيقة، وليست ودياناً في الحقيقة، بل هي الهاوية بعينها، حيث لاتعرف أين تنتهي، وأين يكون قاعها، بينما سلسلة سنبل المتدرجة، تطأطئ لشموخ جبل جيلو المتصل بها شرقاً، وإلى الجنوب الشرقي، يشمخ جبل جارجلا(Car Cêla) وجبل كوفند (Govend).. بطولهما الفارع. تأسرك مرتفعات الجزء الجنوبي بجمالها الأخاذ، وأينما التفت، غمرك الخشوع والاجلال لهذه الآية من الجمال، إنها جائزة التسلق الذي تنعم بها عليك آلهة الجبال، وهو شعور لايفارقك وأنت تتمتع بهذه المناظر الخلابة، التي تدعوك إلى تعديل الكثير من عوالم الخيال .
إن آلاف السواح من الأوروبين، ومن مختلف بقاع العالم، سبقونا إلى التمتع بهذا الجمال الساحر، فياله من قهر فرضه على أمتنا عدوها الغاشم، ويا لنا من خونة، عندما نرضى لأبنائنا أن ترث هذا القهر، ولكن هذه الطبيعة الوعرة وكما يبدو، سيف ذو حدين، فهي من جهة تصقل الإرادة وتعمق ارتباط الشخصية الكردية بجذورها، وهي من ناحية أخرى تلوح بالذعر للشخصيات الضعيفة، التي ترى في مثل هذه المرتفعات الوعرة عدواً آخر، يقف لها بالمرصاد بجانب العدو اللدود.
إنها الطبيعة التي لا ترحم، فإما أن تتوحد معها، وإما أن تلفظك بعيدا عن الأحداث، وهي لا تقبل المساومة، ولاتعرف خط الوسط، إنها وحدها تكفي لإبراز جوهر الشخصية، أياً كان فليكن .
(و ربما يستطيع الانسان امتهان الخداع، و لكنه يخفق في ذلك في ساحتين ، في وسط الحب وفي ساحة الحرب) .
في وسط الحب وفي ساحة الحرب، تتلاشى المشاعر الفردية، وتبرز حقيقة الإنسان، بأنها طرف في حياة الآخرين وليست حقيقة مستقلة .
و حسب خصائص جغرافية كردستان، فان هذه المسألة تلعب دوراً هاما في فرز الشخصية الوطنية . . . فقد تستطيع تخطي ذلك عن طريق الخداع، ولكن سرعان ما تسقط في جولات لاحقة، وتعترف بالخنوع، عندما يكون ارتباطك بهذا التراب ارتباطاً ساقطاً .
والسوية الوطنية التي ضعفت في صفوف شعبنا، ستستعيد مكانتها، عندما تستعيد توحدها مع هذه الجغرافية، وقد استطاع شعبنا العظيم، أن يقدم نموذجاً فذاً لهذا التوحد، من خلال حياة الأنصار التي تعيش في هذه الظروف، أسمى وأعمق أشكال الوطنية .
الوطنية تعاش و لا تدرس، وهي لا تستقى من الكتب، وإنما تتنامى باستمرار، من خلال الاحتكاك المباشر مع مختلف صفحات حياة الأنصار .
فعندما تشرف على الهلاك من الظما أثناء المسير، وتلتقي بعد ذلك بنبع ماء، ستشرب من نبع هذه البركة، وستترسخ صورته في خيالك رسوخ الجبال .
و عندما تشرف على الهلاك أيضاً، وأنت تتسلق مثل هذه المرتفعات، ستكون صورة القمة في روحك، كمثل ضفائر الحسناء على محيا الروح.
و عندما تمر بأحد القرويين، فيستقبلك وكأنك ولده الغائب، وتبتل وجنتاك بدموعه وهو يضمّك إلى صدره، سيثير ذلك في أعماقك رجفات لم تكن تحس بها من قبل، وستعرف مذاق الوطنية، كيف يكون طعمه، حيث يستمر دفق هذه الرجفات طافياً على كل أحاسيسك .
بعد عام أو عامين، تمر من ذات القرية، وتتشوف لرؤية ذلك الرجل ولكنك لاتراه، بل لا ترى غير أطلال قرية هاوية على عروشها، وآثار العدوان الوحشي الغادر، مرسوم على كل شجرة ومدرة، ويتعالى دفق تلك الرجفات، ليفيض من عيونك، عبرات غارقة بكل صور الحب والحرب والمأساة .
في تلك اللحظات، تعرف ما معنى الوطن، وتصبح جزءاً من ترابه وشجره ومائه وسمائه. هكذا عرفت الوطنية، وهكذا تعرف عليها. إنها نبتة تزرع في الروح، فتحس بها حين تزرع ثم تسقى لتنمو، فتحس بها كيف تسقى وكيف تنمو، ثم تترسخ وتمتد، فتحس بها كيف تترسخ، وكيف تمتد.. وكلما امتدت أيامك معها، كلما تعمقت جذورها في قلبك وتكشفت لك عن ثمارها وجنتها، إنها الصراط المستقيم . . . بالصبر الطويل تتعرف على حقائقه ومعانيه .
مع تدرج غروب الشمس، تبدأ البرودة بالزحف نحوك، وهي تجر جيش الظلام. بينما بدأنا نحن نغادر بساط الثلج، الذي لاتكاد تؤثر فيه الشمس، لاحتمائه بظل القمم الصخرية للجبل، ولكن المياه الذي تمر به في انحدارها إلى الوادي، جعلت منه حقلاً أشبه ما يكون بالحقول المحروثة، وكأن فلاحاً ماهراً قد مشي عليها بمحراثه وثوريه .
و هكذا تتجاوز الخطوط الناصعة البياض، والخطوط القائمة من نتيجة الغبار وانسياب الماء عليها، ليغور فيما بعد في شقوق الصخور، وليملأ أيضا الفوهات البركانية المتناثرة هنا وهناك .
و في تلك الحالة، يجب البحث عن فوهة من هذه الفوهات، لايصل إليها الماء، لنقضي فيها هذه الليلة .
دخل أحد المقاتلين واحدة من هذه الفوهات، ولكنه لم يخرج، وطال انتظارنا له، فتبعته على حذر لأستطلع الأمر، وإذا بهذه الفوهة تقوم على مغارة كبيرة ضخمة، قد امتلاً جانب منها بالثلج، و آثار الحيوانات وأماكن نومهم فيها واضحة المعالم في أرجاء المغارة .
و كان جوف المغارة أكثر برودة من الهواء الطلق، بل كنا فيها وكأننا نمشي في (براد)، لذلك سرعان ما خرجنا منها، لنجد بالقرب منها بعض الصخور المتراكمة، بحيث بدأنا نشعر بالدف بمجرد الدخول تحتها .
و هكذا قام المقاتلين بتسوية أماكن نومهم، بينما كان الرفيق شيار قد تعثر أثناء النزول وكاد يسقط في الهاوية .
و بالرغم من أن المقاتل قنديل يخوض لأول مرة مثل هذه التجربة، فقد بدت معنوياته عالية، وراح يجمع القش والأعشاب اليابسة لتحضير الطعام والشاي، فهو مسؤول التموين هذا اليوم – وهو من الجنوب – واستطاع أن يقدم لنا وجبة عشاء لاتنسي من ( التورشك – الحميضة) – عشبة من أعشاب هذه المنطقة، والسمن ورب البندورة .
و بعدما احتسينا أكواب الشاي الساخن حول نيران (الهللز)، كان الرفيق ريبر قد تبرع باعداد مكان لأنام فيه، وفرشه أيضاً بالأعشاب الطرية، كما فعل بقية المقاتلين. أصبح المكان مثل أعشاش الطيور .
و لم تكن المشمعات التي نلتحف بها ولا أكياس النوم أيضاً، تغني في مواجهة هذا البرد القارص، حيث بدأت أسناننا تصطك بصورة مستمرة، وكأننا نقوم بأداء معزوفة موسيقية إلى أن استطاع لهيب الأنفاس أن يختم جوقتها .

10 آب 1996
مرت هذه الليلة القارصة، ولم يستطع المقاتلين الخروج من تحت المشمعات للقيام بواجب الحراسة، وبقينا هكذا إلى أن أشرقت الشمس، بينما إبريق الشاي القاتم السواد قد أنزل توا من على النار، ولم نفرغ من تناول الكأس الأول، حتى كان قد فقد سخونته تماماً، وكان المقاتلين قد نسوا جلب كاسات الشاي معهم، وكنا فيما مضى نتدبر الأمر باستعمال فوارغ الـ (بيبسي)، الذي خلفها العدو وراءه بعد حملة التمشيط .
و لكن أين حملة التمشيط من هذه المنطقة، كيف يستطيع العسكري المدلل أن يتسلق مثل هذه المرتفعات ؟.. حسم المقاتل عكيد الأمر، باخراج حشو قذائف الـ ( RBC). حيث بدأنا نشرب الشاي بعلب الحشوات، على شرف أول صباح في سنبل .
كان البرد قد تغلغل في في عظامنا في الليلة الفائتة، ولم تستطع الشمس هذه المرة أن تمد يدها إليه، وبدأت أشعر بالارتخاء في مفاصل جسدي، ولاسيما الركب، وهكذا يبدو وضع أكثريتهم، ولاسيما معصوم و زرادشت. لذلك قررت مباشرة التحرك، كان المرتفع الذي نقصده يبعد مسافة ساعة أو أقل .
و عند الوصول إلى منفذ الوادي المؤدي إلى مكان العملية، بالقرب من طريق مدينة (كَه فر- Gever). رأيت آثار توقف سرية بالكامل، حيث تناثرت قشور البيض وبقايا البندورة وعلب الدخان الفارغة، ومواضع إعداد الشاي التي لاتحصى، وآثار الأقدام الأحذية العسكرية والمدنية أيضاً حول مجاري المياه . . وقبل يومين كنا نسمع صوت العيارات النارية يأتي من جهة جبل سنبل، فيبدو أنهم في نفس اليوم الذي خرج فيه حماة القرى إلى جهة كرر برخا ، خرج هؤلاء إلى هذه النقطة، ومباشرة قمت باستطلاع المنطقة والكشف عنها وتنظيم دوريات الحراسة .
لاشيء سوى ارتفاع هدير الحوامات، من حين لآخر من جهة المدينة، بينما أسراب الطيور والعصافير ولاسيما طيور (القجروج – زاغ) – التي تشبه الغربان – تحوم من فوقنا، أسراباً بعد أسراب، ومن ثم تحط على المروج الخضراء، والتي تعتبر مائدتها المفضلة، ورفوف الحجل تنتشر كالعادة، بأصواتها المتداخلة، والتي بدت هذه المرة وكأنها سمفونية، تؤديها فرقة موسيقية عملاقة. بينما نحن لا نعدو أن نكون نقطة في بحرها هذا .
في مثل هذا المكان، يشعر الإنسان وكأنه في زورق وسط البحر، وهو يبتعد به شيئاً فشيئاً عن اليابسة، وعن كل عالمه القديم، وهناك ضرب من الشعور بالعزلة، فهل هو الخوف من الابتعاد عن القطعة . . . ؟ ربما . . . لأن الابتعاد عن القطعة، يضع المقاتل وجهاً لوجه، مع الحرب بكل معانيها . . ، واشتراك السرية كلها في مهمة، ما يجعل العناصر يستمدون الجسارة والقوة من بعضهم، لذلك لابد من إجراء بعض التعديلات في أسلوب العلاقة مع المقاتلين، بما يكفل عدم وقوعهم في هذه الهواجس) .
لذلك وحيث أننا قضينا معظم الليلة الماضية في مقاومة البرد، أعطيت العناصر فرصة للراحة تحت ظلال الصخور، التي نحتمي بها على أن نتناوب الحراسة ، ولا سيما أن أمامنا طريقاً طويلاً حافلاً بالمشاق .
بعد تناول الغداء، المتكرر هذه الأيام، خبز + سمن + رب البندورة – جمعت عناصر المهمة الأساسية، بالاضافة إلى المقاتلين الذين قاموا بالاستطلاع للتحضير لتنفيذ العملية، أي (دجوار، زرادشت، معصوم و قورتاي) . تم التوصل إلى المسارعة في تنفيذ العملية، حيث لم يعد معنا من التموين ما يكفي للانتظار، وخاصة أنهم بعد الخامسة مساءً، يشددون الرقابة على المدينة، ولايسمحون لأحد بدخولها .
وهكذا باشرت بتسيير خمسة من المقاتلين. وهم (دجوار وشيار و ريبر و قورتاي وكمال)، وبقيت مع بقية العناصر لمراقبة الوضع العام، خشية وقوع طارئ ما . . ، وأخذوا جميع الأسلحة الثقيلة معهم، ( أربج – رشاش BKC )..ولم يبق معنا إلا الأسلحة الفردية، بعد ذلك أخذت الرفيق معصوم لنرافق المجموعة إلى المنفذ، بينما عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بعد الظهر .
و كنت أثناء ذلك أعاني بعض الوعكات، نتيجة البرد الذي أصبت به وكثرة الماء الذي شربناه، والذي لم يكن ليروي، لأنه ماء الثلج، خالي من المواد المعدنية و الذي لا يطفأ الظما ولا يسد رمقا .
و عند الوصول إلى المنفذ، بدت لنا مدينة هكاري بكاملها، وكأنها (ماكيت) أو مصغر من الكرتون، تم وضعه على منضدة للعرض، و يبدو منظر المدينة رائعاً وسط هذه الجبال والمرتفعات، كما يبدو أن كل صخور الزوزان الجرداء من الغابات، و ما هنالك من المرتفعات، قد ألقت بها السيول والانهيارات الثلجية في قعر هذا الوادي، وتبدو الصورة في بادئ الأمر متناقضة مع الطبيعة، التي تظهر هذه المرة، وكأنها محافظة على نضارتها وعفويتها وطابعها الأزلي، ما هذه الغابة الحجرية التي تتوسط هذه الجبال ؟ .
و ما هذه الخطوط المتعرجة والمتداخلة، التي تموج بحركات مثل تحركات النمل . . ؟ من الذي جاء بكل هذه الصخور إلى هذه البقعة من الأرض، فجعل منها مدينة من حجر، بعدما كانت تغص ببيوت الشعر وقطعان الماشية، ومروج الربيع وألعاب الأطفال وزغاريد النساء، وهذه الكتل الرمادية التي اكتسحت بساتين هكاري، وابتلعتها كما يبتلع الثعبان الضفدع، المدينة تبدو في القاع كلقمة في فم وحش عملاق، من يقيم خلف متاريسها . . ؟ هذه المدينة التي كانت فيما مضى من الدهر، أعظم وأشمخ قلاع الأكراد، أصبحت اليوم مهجعاً عسكرياً لجنود الاستعمار التركي و المرتزقة حماة القري، حيث يمارس العدو البغيض أبشع ألوان الانتقام التاريخي، ليجعل من هكاري(36) مزبلة لهم و لحماة القرى، وليجعل من عرش الأجداد نعشاً للأحفاد، وباستثناء الأبنية الجديدة المبنية على الطراز
الأوربي، كمرافق لحكومة الاستعمار، فان كل الأبنية الأخرى، علب متراكبة كأنها صفوف المدارس .
تلك هي ثكنة المدينة، تطوقها ساحة كالملعب الكبير، ومن حولها الطرق المتداخلة، حيث ترقد الناقلات العسكرية في طرف والحوامات بكل أنواعها في الطرف الآخر، ولا بد بين لحظة وأخرى، من أن تحط إحداها أو تقلع، وهي تحمل الموت والحقد والضغينة لشعب بكامله .
و التحركات، على غير العادة، فلم تبق جهة إلا وتوجهت إليها حوامة أو حوامتان في كل ساعة، بينما الناقلات والمصفحات العسكرية تتحرك كالنمل، على شكل قوافل تنتشر في كافة أرجاء المدينة، تحمل الجنود وحماة القرى إلى اتجاه، ثم تعود بهم إلى اتجاه آخر . كل شيئ يوحي بأجواء الحرب.
و لأكثر من أربع مرات، حتى الآن قامت إحدى الحوامات بالاتجاه نحو ( زاغروس) .
و لكن هذا النوع من الحوامات لايتحرك إلا في الأمور الطارئة والخطيرة جداً .
مع غروب الشمس، بدأ نوع من الضباب الذي يتخذ شكل الغبار الرمادي يكسو مدينة هكاري .
و أصوات الانفجارات تتصاعد بين دقيقة وأخرى من أطراف المدينة، فإما أنها تقوم بقصف إحدى الجهات و إما أنه التحضير والمناورة لحملات التمشيط، وفي الحقيقة فان المدينة تعيش واقعاً لانستطيع معه تسميتها بالمدينة، فهي في الواقع ثكنة تركية ومعسكر طوراني .
و المنظار الذي أحمله، هو الذي يشهد بذلك، فعلى طول أطراف المدينة تتوزع المحارس والخنادق والمتارس والثكنات، التي تحتضنها القمم المزودة أيضاً بأحدث المراصد والمحتشدة بمختلف القوات العسكرية .
ما بين هذه القمم و المدينة، هناك تدرج للخنادق والمحارس، بحيث يكون من المستحيل، خروج أو دخول أي إنسان بلا علم من أجهزة الكونترا .

معاهدة مع الشمس
حتى الساعة الخامسة تقريباً بقيت أتابع بالمنظار أوضاع المدينة بل أوضاع هذه الثكنة، كما قلت و عندما يصح أن تسمى هكاري مدينة تكون كردستان قد تحررت .
بعد ذلك تخلفت قليلاً مع الرفيق (دجوار) وعرضت عليه أن أذهب مكانه، إن لم يكن على استعداد كامل لتنفيذ المهمة، ولكنه أبدى استعداده التام لمتابعة المسير، فقلت له: حسناً ولكن يجب أن تعلم أن المكان الذي تتجهون إليه في منتهى الخطورة، وعند وقوع أي طارئ لاتلتزم بالانسحاب والرجوع إلينا، فأنتم مجموعة صغيرة تستطيعون تدبر الأمر في مثل هذه المنطقة الوعرة التي لايمكن القيام بتمشيط كامل فيها.
ثم إنك أنت المسؤول عن هرب أي مقاتل .
صحيح أن كل المقاتلين موثوق برفاقيتهم، ولكن لا تدري، فكما يقال (الانسان آكل الحليب النيىء)(37).. لذلك يجب أن تكون متيقظاً ومستعداً الوقوع أي طاريء.

و إذا رآكم أحد القرويين فلا تعطوه المجال للهرب . . . اقبضوا عليه وقيدوه إلى أن تفرغوا من تنفيذ العملية.
و أنا أخشى عليك أنت بالذات، لأنك حتى الآن لم تتخلص من ضعف المبادرة و أتمنى أن تثبت حاكميتك هذه المرة .
و تذكر هذه الكلمة الأخيرة (إياك من استعمال جهاز اللاسلكي قبل تنفيذ العملية، وبعد ذلك أيضاً، لا داعي للاتصال إلا في أحلك الظروف، ولكن يجب أن يبقى جهازك مفتوحاً على القنال الذي اتفقنا عليه، وبما أننا في شهر آب لتكن كلمة السر ( آب) .
في تلك الساعة كنا وجها لوجه مع الشمس، نحن في قمة من جهة والشمس في قمة من الجهة الأخرى وهكاري في الوسط .
هي في جهتها تقوم بإرسال خيوطها الذهبية الأخيرة على المدينة. ونحن من جهتنا نقوم بإرسال نظراتنا، حسب علم التنويم المغناطيسي .
هي وحدة من الأشعة الذهبية، ونحن وحدة من خيوط الأنصار، حيث هناك إشارة استفهام أيضاً حول هذه المدينة الراقدة على كف عفريت، بل النائمة على فوهة بركان .
نحن هنا أيتها الشمس، أما تريننا على القمة التي تقابلك .
– نعم أشاهدكم يا أبنائي وأنظر إلى كل ما تقومون به، وأعرف أنكم تريدون أن أسرع في الغروب، فرويدكم قليلاً لامتع عيني من رؤيتكم، فقد تعبت من النظر إلى هؤلاء الأوغاد، أودعكم لأرمي نفسي وراء هذه القمم..
وبودي أن أتحطم فلا أشرق مرة أخرى على وجوههم الكالحة .
و لكنني سأعود من أجلكم يا أبنائي .
اهبطوا ببطء، ومن أجلكم سأهبط ببطء، لكي لا يشعر هؤلاء بهبوطي المفاجيء هؤلاء أعداء الشمس .
لتنتشر خيوطكم يا أبنائي بين ثنايا هذا العالم .
وعندما تتعبون، انسحبوا إلى هذه القمة لترتاحوا.
سأعود أنا أيضاً لأشرق وأرسل بخيوطي وأضيء العالم من أمامكم، لكي تروا ما يضمره لكم من الشر .
لا بد أن نتقاسم العمل كل يوم . . . نصف العمل عليكم والنصف الآخر اتركوه لي .
كل الوثائق وكل المعاهدات تنتهي آخر الأمر، إلى أن تكون مجرد أوراق .
و لكن هذه الاتفاقية التي أقمتها معكم، اتفاقية خالدة، لأنني أنا الشمس .
من رداء الله أطل، وبين يديه أضع كلماتي . . لقد قمت بإجراء مثل هذه المعاهدة مع الكثيرين من أمثالكم عبر التاريخ .
و أما الآن فأنا مشغول، بأن ترتفع رايتكم، خفاقة على جبال كردستان، فلترتفع رايتكم عالية يا أبنائي
لترتفع عالية
فإنها بنت الشمس .
هكذا كان الزمن يمر ببطء وأنا على مشارف هذا الوادي المتعرج، وكأنه نفق يمتد إلى باطن الأرض، باتجاه الجنوب الغربي .
بينما كان أحد المقاتلين يتمدد على الأرض، وللتمدد في هذه الساعات دوره في تمتين الناحية المعنوية، وهو بمثابة استجماع القوى أو عملية الشحن والتحضير لما ينتظرنا من الطريق العسير .
أثناء غروب الشمس، جمعت مجموعة العملية وتحدثت إليهم :
( أيها الرفاق . . . بالطبع أنتم تعرفون الهدف من مجيئنا إلى هذه المنطقة، وتعرفون ماذا يعني نجاحنا في تنفيذ العملية، وقد تم اختياركم من بين هؤلاء الرفاق، للقيام بهذه المهمة ومستواكم جميعا بمستوى المقاتلين المجربين، وأصحاب الإنجازات السابقة. لذلك لاداعي للكثير من التفاصيل، ولاسيما حول التقيد بالقواعد وبالأخص النقطة التي ستذهبون إليها. حيث تتطلب منكم السرية الكاملة في جميع تحركاتكم .
صحيح هناك مسؤولية رسمية ولكنكم كلكم أيضاً مسؤولون وكل واحد يجب أن يتحرك بناء على هذه المسؤولية .
المكان الذي ستقضون فيه نهار الغد، يجب أن يكون مناسباً سواء للتحرك إلى تنفيذ العملية أو للانسحاب بسلام، عند حدوث أمور غير عادية والأفضل تنفيذ العملية مع غروب الشمس أو قبل ذلك، بما لايتعدى النصف ساعة. عندها العدو لن يستطيع التدخل، لأنه إما أن يتدخل بالكوبرا وهذا لن يؤثر عليكم، وإما بعملية الانزال، وهي غير واردة في مثل هذه الساعات، وعند وصولكم إلى أسفل الوادي، فان الشياطين لن تستطيع الاقتراب منكم، وأثناء رجوعكم هناك حظيرة أغنام لبعض أنصارنا من هذه المدينة، عند طرف الوادي وقد بعث إلينا بنسخة من مفتاح الحظيرة لنأخذ نعجتين للمقاتلين، فخذوا معكم المفتاح. فاذا كان بامكانكم جلب النعجتين بعد تنفيذ العملية، نكون قد ضربنا عصفورين بحجر ) .
هل هناك استفسارات؟ .
– لا .. ستجري الأمور على ما يرام .
و هكذا قمنا بتوديعهم، وبدؤوا بالنزول، مع أن الشمس لم تتم غروبها ولكن المنطقة خالية والجغرافية مناسبة للتحرك، حيث قمنا نحن أيضا بالعودة أدراجنا إلى مكان توقف الباقين .
و كان الرفاق قد اختاروا موقعاً مناسباً على قمة صخرية، مؤلفة من صخور ضخمة مهدمة، وكانها قلعة عظيمة عصف بها زلزال، وترك ما بين جدرانها فراغات على شكل مغارات وأنفاق وشقوق، بل هناك أيضا مجموعة خنادق، حفرها العدو كما يبدو، منذ مدة لاتقل عن ثلاث سنوات، حيث كانت هذه القمة هي القمة الوحيدة الخالية من فوارغ الكونسروة .
كان الهواء شديد البرودة، فسرعان ما تجمد السمن النباتي طافياً على قصعة الطعام، التي اسودت أيضاً كابريق الشاي . . ، والأكلة هي الأكلة الوحيدة هذه الأيام (نبتة التورشك + رب البندورة). بينما كان تفكيري منصرفا إلى مجموعة تنفيذ المهمة، وأحاول أن أتذكر كلماتي معهم . . . هل نسيت شيئا .. وهل أعطيتهم التعليمات بما فيه الكفاية؟ ولاسيما ألا تكون الحراسة إفرادية .
صحيح أنه في حياة الأنصار، يجب الثقة بكافة المقاتلين، ويجب تكرار وتكرار هذه الجملة، ولكن بوزن هذه الثقة، يجب أن يكون هناك تدابير عدم الثقة .
لأن الثقة العمياء تعني الاستسلام للموت، وفي مثل هذه الحالات يمكن أن يقوم أحدهم باغتيال كافة رفاقه، وقد وقعت مثل هذه المفاجآت .
و من ناحية أخرى، عندما يكون الحرس اثنين، يستمدان الجسارة من البعض، ويكون بقية العناصر في مأمن من وقوع أي طارئ .
أثناء ذلك كان أحد المقاتلين قد مهد لنا أرض الخندق بالأعشاب للمبيت فيه، بينما صفير الرياح من بين شقوق الصخور يصدح بصورة مستمرة .
فسلمت جهاز اللاسلكي لعناصر الحرس، بعدما أثبت القنال حسب الاتفاق مع مجموعة المهمة، والتحفنا للنوم بالمشمعات وأكياس النوم. ورغم ذلك فقد كنت استيقظ كبقية العناصر، من حين لآخر ثم أعود الاتابع المنام الذي أحلم به ! .

11 آب 1996
الصباح هو أحرج الساعات في حياة الأنصار وأصعبها. ومع طلوع الفجر يكون السؤال الطبيعي في مخيلة كل فدائي: عن ماذا سيسفر هذا الصباح . . . ؟ كل شيء يجب أن يكون جاهزا في ذلك الوقت. من الثالثة حتى العاشرة صباحاً – وبالأخص مع شروق الشمس، حيث أن مفاجأت العدو غالباً ما تكون في هذا الوقت ، ويجب أن تكون مستعدا لكل أشكال القتال، ولكل أنواع المخاطر، ويجب أن يكون العناصر على علم كامل، بالنقطة التي سيتم الانسحاب إليها، إذا احتيج لذلك (ولكنني قضيت هذه الليلة وأنا أتفكر في صباحين – صباحنا على هذه القمة وبين هذه الصخور، وصباح رفاق المهمة . ماذا تراهم يصنعون؟) .
هل اشتبكوا مع العدو ؟ هل رآهم أحد القرويين . . ؟ هل هرب أحد منهم ؟ هل تعرضوا في الطريق لمشكلة ؟ . . . الخ .
في الصباح الباكر، حملت بندقيتي وبدأت بتفقد أوضاع القمة، وكان المنظار الوحيد الذي بحوزتنا قد أخذه رفاق المهمة، ومع ذلك حاولت النزول والاقتراب قدر الامكان إلى مشارف الوادي الصاعد، عند النقطة التي يتشعب منها إلى فرعين. فرع صاعد من ورائنا وآخر من أمامنا، ولكن عمق الوادي سيبدو معه الإنسان في قعرة كالذبابة ولا سيما مع الظلام المعتمة التي تكتنفه .
بين حين وآخر أراقب عقارب الساعة، التي بدأت تمر وتمر ولا جديد، وبقيت في هذه الجولة التفقدية حتى السابعة تماما، حيث بدأت العودة من بين الكتل الصخرية الضخمة، والتي يتجاوز وزن الواحدة منها مئات الأطنان، حيث يستطيع أن يصطف تحت بعضها طابور من الأنصار .
و لاشيء من الآثار، سوى تناثر أوساخ الدببة ومعالم توقفها الواضحة . . ، وبالرغم مما ساورني من مشاعر الخوف من الوحدة، كنت استمد الجسارة من قبضي على معصم السلاح المعلق على كتفي، بأنه لو واجهني أي من تلك الدببة، فسوف لا أتردد في إردائه.
و عند الوصول إلى الآخرين، كان الشاي قد برد كالعادة، فقام أحد المقاتلين بتسخينه ثانية. بينما جميع العناصر يتساءلون عن أوضاع مجموعة المهمة، مرت ساعات الصباح القلقة بلا تطورات، وبدأت أشعر بشيء من الراحة النفسية، ولكن رغم محاولتي للاستلقاء قليلا لم أستطع النوم غمضة عين . . . هدير الحوامات المتقطع يأتي من الجهات المختلفة لمدينة هكاري، وبدأت الشمس بالانحاء وهي تودع الظهيرة، تاركة لنا متابعة المخطط، وفي الثالثة بعد الظهر أرسلت ثلاثة من العناصر إلى المنفذ المقابل، وكان علي أن أذهب بنفسي، ولكن البرد الذي أصبت به في الليلة الماضية، سبب ارتخاءا كاملا في مفاصلي ، ولاسيما ركبتي .
و العجيب أن الجرح الذي أصبت به عام ۱۹۹۰ في ركبتي اليسرى ، عاد للالتهاب بعد كل هذه السنوات الطوال. حيث بدأ ينتفخ محل الجرح وينزف بالدم، ويبدو أن تسلق هذه القمم الشاهقة هو السبب، وخاصة أنني كنت أشعر بتخدر في الأصابع الوسطى من قدمي اليسرى عند القيام بكل خطوة، لذلك أرسلت العناصر إلى المنفذ وبقيت مع ما تبقى من المقاتلين في القمة .
و باقتراب عقارب الساعة من السابعة مساء، كان قرص الشمس قد اختفى وراء القمم، ولكن لاتطورات أيضاً، بينما جهاز اللاسلكي الأتوماتيكي أمامي وأنا أتابع مكالمات العدو التي بدت طبيعية للغاية .
و في السابعة وعشر دقائق، صدر على الجهاز صوت بعض الطلقات، ولكن لاشيء أيضاً، فمكالمات العدو كما هي طبيعية. وهكذا بقيت انتظر وانتظر إلى أن خيم الظلام والقلق وأنا غارق في ترديد الاحتمالات مع الرفيق معصوم والآخرين .
– لماذا لم ينفذوا العملية حتى الآن ؟
– لابد أنه حدث شيء طارئ.
– ربما كانوا قد نفذوا العملية و لكن لم نسمع صوت الأسلحة لعمق الوادي ؟
– و لكن لو صح ذلك لعرفنا ذلك من مخابرات العدو .
– هل يمكن أن نخفق بعد كل هذا الجهد والعناء ؟
– أبعد ما وصلنا إلى هنا نعود بالفشل ؟
– إنها كارثة ستحل على رؤوسنا .
(و هكذا بقيت طوال الليلة وراء جهاز اللاسلكي، وكأنني قاعد على الجمر ومن حين لآخر أحرك مفتاح إضاءة الشاشة لأتكد من القنال المحدد، ولكن لا صوت ولا جديد ولا هم يحزنون ) .
12 آب 1996
قبل بزوغ حاجب الشمس من خلف القمم، كانت الطبيعة قد تجردت للعيان وأنا أراقب المنفذ الذي أرسلت إليه المقاتلين الثلاثة، حيث كانوا في طريقهم إلينا .
– ماذا حدث ألم يأت الآخرون ؟
– كلا . . . انتظرناهم حتى الآن ولا أحد .
– هل سمعتم البارحة دوي أسلحة أو انفجارات؟ .
– لا . . . وهذا يعني أنهم لم ينفذوا العملية حتى الآن .
– لا ندري ! ؟
– كان من المفترض أن يصلوا إلى المنفذ في الواحدة ليلاً على أبعد الاحتمالات، حسب ما اتفقنا عليه، وهم يعرفون أننا في المنفذ .
– ما رأيك يا رفيق معصوم؟ .
– أرى أنهم فيما يبدو اضطروا لتغيير مخطط تنفيذ العملية ولا أعتقد حدوث شيء آخر .
– إذا كان الوضع كذلك فلا يهم ولكن نرجو ألا تكون هناك مفاجآت .
مرة أخرى تفقدت الطرق المؤدية إلى المنفذ ولكن لاجديد .
بينما كانت الساعة قد تجاوزت السابعة صباحاً، فجلست لتبديل بطاريات جهاز اللاسلكي، وما إن أعدت علبة البطاريات إلى مكانها حتى سمعت النداء .
– جمعة…. جمعة . (جمعة اسم دوغان في هذه العملية)
– من ؟
– دجوار .
– دجوار . . . صباح الخير .
– صباح الخير .
وكان في صوته شيء من الهيجان الملفت للنظر .
– ماذا هناك ؟ من أين تتحدث؟ .
– هل أنتم عند الدخان المتصاعد من بين تلك الصخور ؟
– أي دخان وأي نار قل لي أين أنت ؟
– في المكان الذي تركتنا فيه .
التفت مباشرة إلى الطريق المقابل للمنفذ، بينما كان أحد رفاقنا يقوم باعداد الشاي، وبين حين وآخر ينفخ على النار، فيتصاعد الدخان من خلف الصخرة، فعدت مباشرة للحديث مع دجوار .
– نعم نعم الدخان من عندنا .
– نحن بالقرب من سيل الماء .
– نعم رأيتكم… رأيتكم .
و مباشرة قمت بارسال مقاتلين لمساعدتهم وحمل أمتعتهم، حيث بدوا لنا بمعنويات عالية وهم يلوحون باشارة النصر وأنا أصرخ من بعيد وأركض نحوهم .
– كيف الوضع يا رفيق دجوار ؟ . .
– جيّد ، جيد .
– ارجو نتيجة العملية جيدة. . . ؟
– بكل تأكيد .
و ما إن وصلت إليهم حتى قمت بمعانقتهم وتفقد أحوالهم وهم في غاية التعب والانهاك، ولا سيما الرفيق (كمال)، حيث تورمت أيضاً شفتاه واكتست بطبقة من البياض .
و كالعادة فالمشهدان البارزان عند عودتهم من أداء مهمتم، هما مشهد الاستقبال الحار الذي يقابلهم به الآخرون، والمشهد الآخر وهو الأهم، المسارعة القصوى لتأمين كافة أجواء الراحة لهم، وكأنهم ملوك عادوا إلى قصورهم، وكل مقاتل من عناصر العملية يريد أن يأخذ دوره في الحديث عن آداءهم تنفيذ العملية، فما أن ينهي الواحد منهم حديثه حتى يكون الآخر قد شرع بتحريك يديه، وتمثيل دوره الذي قام به إلى أن يفرغوا من عرض كافة مشاهد العملية. حيث يكون أثناء هذه الفرحة قد تلاشت كل آثار التعب والإرهاق بعد ذلك، وبصورة طبيعية تكون أصدقاء كل عنصر بانتظاره، ليعيد عليهم القصة بكاملها في طرف من أطراف النقطة. تكون عناصر العملية محورا لتلك التجمعات .
و ملخص أطوار العملية، أنهم عندما وصلوا إلى طرف المدينة، في الصباح تمركزوا في بعض الأحراش وأرسلوا الرفيق (كمال) لاحضار الماء .
و باقترابه من نبع الماء وجد أحد القرويين المسنين، فألقى على الرفيق التحية وسأله هل مر فلان من هنا، يظنه أحد سكان القرية ولم يتنبه إلى أنه أمام رفيق من الأنصار .
ثم صدف أن التقوا به مرة أخرى، وهو في طريق عودته يحمل على رأسه حزمة من الأغضان، وتفاجأ هذه المرة عندما رأى المقاتلين بالسلاح الكامل.
و إذ كان من قرية (طاليس)، التي تعتبر من أشد القرى وطنية وأكثرها مساعدة للرفاق، أخذ يضمهم ويعانقهم بلهفة، ثم تبين أن معظم أبنائه وأقربائه في ميليشياتنا، ونظراً لعدم سماح العدو لأحد من دخول المدينة بعد الخامسة مساءاً، وتسجيل أسماء كل الذين يغادرونها، اضطر الرفاق لتركه، بعدما قدم لهم النصائح وبيّن لهم أماكن وجود نقاط التفتيش .
كانوا أثناء ذلك على قرب زهاء نصف ساعة من الهدف وفي الساعة السابعة وعشر دقائق، وبينما كان يوم أمس هو يوم الأحد المصادف ۱۱ / آب، وباعتبار أن يوم الأحد هو العطلة الرسمية، كانت المنطقة وهي منطقة شبه سياحية تغص بالناس. حيث أن المكان أيضاً بمثابة منتزه لسكان المدينة . . يتوافد إليه الموظفون والشرطة والضباط مع عائلاتهم، بالاضافة لسكان المنطقة مع كثرة المقاهي والمطاعم فيها . . . اقترب المقاتلون من جسر هو فرع اساسي ليتشكل نهر الزاب، الذي تجاوره نقطة تفتيش للدوريات المشتركة والمدججة بالأسلحة الثقيلة بالاضافة إلى المدرعات .
و عند الوصول إلى مكانٍ قريب من النقطة، فتحوا نيران أسلحتهم. حيث سقط مباشرة أكثر من أربعة جنود حول سيارتهم العسكرية. بينما أضرمت النار بالسيارة. وتحول المنتزه إلى جبهة حرب، باعتبار أن العدو لم يكن يتوقع وجود الأنصار في مثل هذه الأماكن. ثم إنه لم يعرف من أين أطلق النار، لذلك شرع العدو بفتح نيران أسلحته إلى كافة الجهات كل واحد من مكانه ، حتى أصبحت المدينة وكأنها في حالة استنفار .

و كانوا يقولون في مكالماتهم إن العملية كبيرة، والهدف دخول المدينة، باعتبار قرب ( ١٥ / آب) ، ولكن مكالماتهم فيما يبدو كانت على أقنية لأيلتقطها جهازي .
بعد ذلك مباشرة بدأ المقاتلين بالعودة إلى المنفذ، حيث كنا حددنا فيه اللقاء، ولكن كان العناصر الذين أرسلتهم إلى المنفذ، قد ناموا بكل بساطة وعند وصول منفذي العملية إلى المنفذ في الليل، لم يجدوا أحداً، مع أنهم بالقرب منهم. مما اضطرهم لأن يناموا هم أيضاً حتى الصباح، مما أثار غيظي على عناصر المنفذ وسخطي على نفسي، لماذا اعتمدت عليهم . . .
كان منفذي العملية بعد وصولهم وتناولهم وجبة الإفطار، قد استغرقوا في النوم. بينما اصطحبت الرفيق (معصوم) ومقاتلاً آخر ااستطلاع طريق العودة، ولمحاولة الاتصال بالسرية، حيث مضت كل هذه الأيام من غير اتصالات، ولعلهم أيضا غيروا مركز التعسكر.
حاولت الاتصال من قمة الجبل، ولكن لم يعلق الخط لذلك بقيت في انتظار الآخرين حسب الاتفاق، لمتابعة الرجوع إلى النقطة ومن حين الآخر آخذ حفنة من الثلج وامتص منها الماء ولأخفف من آثار شمس الظهيرة.
و في الساعة الثانية عشرة وصل العناصر الآخرون، باستثناء الرفيق (كمال) الذي أنهكه حمل الرشاش الـ ( BKC ) .
و في تلك الأثناء، كنت قد أرسلت (معصوم و قورتاي و عكيد) لاصطياد بعض الحجل ولاعداد الخبز.
بدأنا النزول، وبدأت الآلام والوخزات الحادة تعصف بالركب والظهور والأكتاف، ومن حين لآخر، لابد أن يتزحلق أحد المقاتلين ويقع على حوضه، وهو يتزحلق إلى أن يستعيد السيطرة على توازنه، وتذكرت في تلك الأثناء موضوع النعجتين، فسألتهم هل عرفوا مكان الحظيرة؟.. فقالوا : نعم ولكنها حظيرة أبقار وهل نستطيع أن نسوق البقرة إلى مثل هذه المرتفعات؟ .
استمر النزول واستمرت وخزات (الروماتيزم) في ركبتي إلى درجة أنستني كل شيء حولي، وبين حين وآخر تضطر للوقوف لمراقبة المنطقة والكشف على الطريق يميناً ويساراً، ومحاولة التنقل قدر الإمكان من تحت الصخور وبين أكوام الأعشاب.
و لكن لامجال هنا لالقاء النظرات البعيدة، حيث الوديان السحيقة والمرتفعات الشاهقة تحولان دون ذلك. ها أنذا أودع المنفذ الذي سأتركه، وربما إلى الأبد. حيث ترتفع جدرانه السامقة وكأنها جدران قلاع مرصوفة . . ، قال أحد المقاتلين :
– في المرة الماضية وعند هذه الصخرة، التقينا بقطيع من الماعز البري، فأطلقنا عليه النار ولكن بدون نتيجة. ولكنني لم أعره أذنا صاغية، حيث كنت مهتما بمسألة التوازن في النزول . . .
(بعض الأحيان وعورة الطريق تجبرنا على الاصطفاف وراء بعض، وتمسك بعضنا ببعض أيضا، وبعض الأحيان يكون النزول كيفياً، حسب انحدار الصخور وتشابكها ) .
بعد الظهيرة ونظراً لبرودة هذه المرتفعات، تبدأ رفوف الحجل بالاتجاه إليها، بينما نحن نتابع النزول في الطريق المعاكس.
عند الخامسة مساءً وصلنا إلى النقطة القديمة التي تركنا فيها التموين، والتي اتفقنا مع (معصوم و كورتاي و عكيد) أن يسبقونا إليها لإعداد الخبز وطيور الحجل التي يفترض أنهم اصطادوها .
و هكذا استقبلتنا روائح اللحم المشوي والخبز الطازج. بينما لم يفرغوا من خبز العجين، وأكثر من نصف قطعة العجين لا تزال ملفوفة بالنايلون، وبحاجة إلى تقريص .
بينما كان الرفيق معصوم قد صنع صاجا من علبة السمن بعد أن شقها، ومدها على الحجارة، فكانت النار تتلاعب من أسفلها، وتمد بألسنتها من كافة الجهات، وكأنها تريد أن تلتهم الخبز قبلنا .
و في زاوية أخرى من هذا الصاج المتواضع، كان يشوي كورتاي قطعة من فخذ الحجل.
و كان عشاءً فريداً من نوعه، بعد كل هذه الأيام التي قضنياها على أكل ( التورشك) .
بعد ذلك حللت حزامي ومددته كالحبل بين صخرتين، لأنشر عليه الصدرية والجعب لتجف من العرق .
و بالقرب من صخرة تحت شجرة من شجر التفاح، استلقيت متوسدا يدي، وأنا أتمعن صورة الحزام وما عليه .
و شيئاً فشيئاً بدأت أركز على دور الحزام ومكانته في حياة الكريلا، فلولا هذا الحزام ، من الذي يستطيع تحمل كل هذا المسير ؟ ! .
و للحزام ميزات وخصائص لا تخطر ببال، وسأعدّ بعض هذه الميزات، كمثل على دوره في حياة الأنصار .

منافع الحزام وميزاته
1 . في الدرجة الأولى، دوره الأساسي هو شد الظهر ومقاومة ارتخاء عضلاته أثناء المسير .
2 ۔ مايمنحه للجسم من التوازن، حسب وضعيّة الصعود والهبوط ،ولا سيما عند حمل الأحمال والسير في الطرق الوعرة التي هي شيء طبيعي في حياة الأنصار .
3 – باعتبار حياة الأنصار، لا يمكن فيها انتظام مسألة وجود الطعام و افتقاده على الأغلب، فشد الحزام يمنح الجسم أيضاً الكثير من مقاومة الجوع، ويحد من أثره، وكذلك لا يعطي المجال للاسراف في الأكل .
4 – عند النوم ونظراً لاضطرار الأنصار غالباً للنوم في العراء وعلى الأرض وبدون غطاء كـ البطانيات لصعوبة حملها، فإن الحزام بلفاته الكثيرة حول الخصر، يقوم بدور الحماية من آثار البرد .
5 – عند اتساخ السلاح وعدم وجود ما تنظفه به، يمكن قطع قطعة من الحزام لذلك.
6 – في المناطق التي يندر فيها وجود الماء، إلا في الآبار، يستخدم محل الرشاء لطوله، ومهما كان البئر عميقا، يمكن تلافي ذلك بإضافة أحزمة أخرى .
7 – عند تعذر النزول في المنحدرات، يمكن استخدامه أيضاً محل الحبال .
8 – الاستعاضة به عن الغربال، لتنقية الطحين وما شابه من الشوائب .
9 – ربط الأسرى والسجناء به .
10- استخدامه كحبل لشنق الخونة وإعدامهم .
11- استخدامه كحبل من أجل جمع الحطب من الأماكن البعيدة .
12- عند تقطع سيور الأحذية، يصلح للاستعاضة به عنها .
13- باعتبار حياة الانصار، تتطلب الجاهزية المستمرة. حيث غالبا ما يكون نوم المقاتل وهو متوشح للجعب، مما يؤدي إلى الكثير من آلام الظهر، لولا دور الحزام وما يقوم به من الحيلولة دون الجعب وتأثيرها على الخصر والجلد. و هو ينظم الحركة أيضاً .
14 – استخدامه في الصيف بمثابة البراقع والكفوف على الوجوه و الأيدي لحمايتها من البراغيث والبعوض .
15 – استخدامه كأضمدة مستعجلة، عند وقوع الجرحى وعدم وجود الضمادات، حيث يربط به مكان النزف لإيقافه .
16 – ويستخدم أيضاً عوضاً عن (النقالة) في نقل المصابين والجرحى، بأن يربط على صورة ( الزكزاك ) بين خشبتين .
17- استخدامه في قطع الأنهر وبرك الماء.
18- استخدامه بدل تكة السروال عند اللزوم .
19 – استخدام قطع صغيرة منه لإشعال النار، عند تعذر وجود مواد سريعة الاشتعال .
20 – يستخدم أيضاً لشد أوتاد الخيام، عند فقد الحبال.
21 – أكثر أعضاء الجسد تأثيراً بالبرد هي الكليتين، والحزام هو الدرع الواقي لها أثناء البزد .
بشده على الظهر يشتد أيضاً الصدر ويساعد القدمين في حمل الجسد مما يزيد من تحملها أثناء المسير . . . . الخ
(في تلك الأثناء كان المقاتلين قد جمعوا كمية من التفاح ، وأحد العناصر يجيد صنع المربي ، فلذلك قام مباشرة بالاعداد لطبخ التفاح) .
و لكن مخالب الدب واضحة على أطراف ( تنكة السمن )، لقد قام بضربها فيما يبدو بيديه ورجليه .
و ها هو الرفيق (معصوم) يدنو مني وفي فمه كلام كما يبدو .
– ما عندك يا معصوم؟ .
– ألم تر أن تصرفات بيرو كانت غير عادية ؟ لماذا كان يصر على المجئ معنا ؟.
– لا أستطيع التكهن في ذلك ولكنها فعلاً تصرفات مشبوهة .
– لقد حلق ذقنه وشواربه واستعد بشكل واضح .
– لقد اعترف لي بنفسه، أنه في العام الماضي وبعد اعتقاله من قبل الحزب ، حاول الهرب، ولولا إبريق الشاي المغلي الذي سقط على قدمه لهرب فعلا .
– يا له من ثعلب . . . . . = يتابع معصوم =
يجب ألا تتعدى علاقتك معه حدود الرسمية، لأنه يخطط ليل نهار لزرع التناقضات بينك وبين روزهات .
– أعرف كل تلاعباته، ألا تذكر قوله في الاجتماع الماضي: إن اقترابات الرفاق والرفيقات غير صحيحة . . ، في الظاهر كلامه مغلف ولكنه من وراء الظهر يتحدث هنا وهناك .
(وصل العناصر الذين أرسلتهم للإستطلاع، والأوضاع كما يقولون طبيعية، ولكن هدير الطائرات الحربية يعم المنطقة .
إنها تدور فوق أورامار وصوت الانفجارات المتقطعة يأتي من جهة الجنوب الشرقي، من جهة مناطق الحدود، وها هي أيضا حوامات الكوبرا تتجه إلى هناك .
و مباشرة أرسلت الحراس إلى المرتفع المجاور للقرية، وقمت بتوزيع بقية العناصر على مجاري الماء بين الأشجار المكتظة للاستحمام.. بعد هذه المهمة المتعبة) .
(لم نتحرك في هذا اليوم، ليأخذ المقاتلين الراحة التامة بعد الاستحمام أيضا، لذلك بقينا لقضاء الليلة في القرية، بعد أخذ التدابير) .
لا يزال الرفيق (كمال) يعاني مما يشبه الحمى، لذلك لم أضع اسمه في قوائم الحرس والخدمة ). قضينا المساء في التسامر، وكانت المعنويات عالية ولكن هناك بعض الابتعاد عن روح النظام والاحترام من قبل البعض ولا أريد هنا أن أعالج هذا الموضوع، فسوف نضع النقاط على الحروف في اجتماع المهمة بعد العودة إلى النقطة .
13 آب 1996
التقويم يشير إلى الثالث عشر من آب والساعة الواحدة ظهراً .
مرت الأيام ولا اتصال بيننا وبين السرية، ولا نعرف ما هناك من التطورات، ويجب أن نصل اليوم قبل موعد إعطاء التقارير اليومية للمركز .
لذلك قمت باصطحاب مقاتلين للاسراع إلى النقطة، وأوصيت (دجوار) باللحاق بنا مع البقية .
و هكذا تحركت من الوادي الصاعد أنا والرفيقان (شيار و ريبر)، وكانت حرارة الجو مرتفعة جدا، بحيث تغلي منها الرؤوس .
لا شك أن التحرك في مثل هذه الساعات يعتبر مخاطرة، لذلك لقمت الكلاشينكوف الألماني ذا المقابض الكستنائية، وتابعنا المسير بين أسراب الحجل المستترة بين الحشائش هرباً من لهيب الشمس .
و قمت باصطياد واحد منها ليكون غداءنا هذا اليوم. والحجل يحتوي على أكثر من كيلو غرام من اللحم الصافي، و لا سيما حجل هذه المرتفعات . . ، ثم تابعنا المسير . . . . وعند كل منعطف لا بد من القيام بالكشف .
و بالرغم من حرارة آب، فإنها لا تقوى على اكتساح مخلفات الشتاء .
و من حين لآخر تجد أكوام الثلج، متجمعة في أطراف الوادي بأحجام متفاوتة .
في الطريق، وقفنا أمام جسر من الثلج، تتدفق مياه ذوبان الثلوج من تحته، وباقترابنا من الجسر، بدا أنه نفق من الثلج، يمتد زهاء عشرين متراً، وبمجرد دخوله تستلمك قشعريرة البرد .
و قد استوقفني ثعبان متجمد عند مدخل النفق، وهو فيما يبدو دخل النفق ثم تعذر عليه الخروج منه .
ها نحن مرة أخرى نعود إلى أعلى قمم ( كَرى برخا)، حيث قامت بضربنا فيها حوامات ( الكوبرا) في المرة السابقة، ولا تزال أشلاء القذائف متناثرة حول القمة .
و هذا هو المكان المناسب لاجراء الاتصال مع عناصر السرية .
و هكذا أخرجت الجهاز، وما إن وجهت التردد على القتال حتى تمكنت من الاتصال بمركز (هركَول) (38).
– هركَول ، . . . هركَول .
– نعم هركَول . . من ينادي .
– أنا جمعة .
– جمعة ! أين أنت ؟ الحمد لله على سلامتك . . . . نحن منذ أيام نحاول الاتصال بك .
– الوديان كما تعرفون عميقة إلى درجة تنعدم فيه الاتصالات .
– حسناً ، كيف أوضاعكم؟ .
– بخير والحمد لله ولكن ما هي أخباركم ؟
في تلك الأثناء دخلت الرفيقة نوال على الخط، ولما سمعت صوتي صرخت بحرارة وهيجان، الحمد لله على السلامة أين أنتم ماذا فعلتم ؟ .
– الأوضاع جيدة وكافة الرفاق بخير وأبلغكم تحياتهم وأشواقهم لرؤية الآخرين .
– الكل هنا منشغلون بكم، ومشتاقون لمعرفة أخباركم فسارعوا بالمجيء إلى النقطة ..هل نفذت المهمة كما خطط لها؟.
– كل شيء نفذ حسب الخطة وسأعطي تكميلات العملية لمركز هركول، وأنت استمعي على التفاصيل .
و هكذا أعطيت تكميل – تقرير – العملية لـ (هركَول) وهو بدوره أظهر ابتهاجه بالنتيجة . قائلا : سلمت أيديكم ، نبلغكم تحيات القيادة ولكم النصر .
ثم اتصل الرفيق (روزهات) أيضا، وأعطيته النتيجة بالكامل، وهو أيضا اطلعني على مجمل التطورات، وعلمت أن مجموعته قامت في نفس اليوم الذي نفذنا فيه العملية بالهجوم على سيارة ومصفحة للعدو، حيث أحرقت السيارة بمن فيها ، ولاذت المصفحة بالفرار وانسحب الجميع بسلام .
– هل تستطيعون الوصول هذه الليلة ؟ .
– لا أعتقد لأن الأوضاع غير مناسبة .
– لا يهم ، . . . بإمكانكم الوصول نهار الغد .
– تحياتنا للجميع .
– تحياتي واحتراماتي ولكم النصر .
كان ريبر وشيار يضحكان بصوت ملؤه الفرح بنشوة النصر، أثناء إعطائي للرفاق نتائج العملية، أضف إلى ذلك أن مجرد سماع صوت المقاتلين يعطي نوعاً من القوة المعنوية ، ويطوي مخاوف الشعور بالعزلة .
فالإنقطاع وإن كنا في منطقة واحدة، له مؤثراته السلبية على النواحي الروحية والمعنوية، بل والسوية العسكرية أيضاً، وخاصة بالنسبة المقاتلين الذين لم يكتسبوا التعمق اللازم في ايديولوجية الحزب وعدم المران على الاعتداد بالذات .
كان المقاتل ريبر أثناء المكالمة التي شاركني فيها بضحكاته العالية يقوم بنتف ريش الحجل، وكأن يديه نافورة ماء يتطاير منها ريش الحجل .
فما إن انتهت المكالمات، حتى كان قد فرغ من نتف الغزال = كما كان يسمي الحجل =
– لم أر أحداً في سرعتك على نتف الحجل يا رفيق (ريبر) .
– أنا سريع في كل شيء، إلا في قدرتي على تطوير الشخصية .
يقول ذلك وهو يحمل رأس الحجل، ويقربه إلى عينيه ويبحلق في وجه الحجل، قائلاً : انظروا إلى جمال هذا المنقار وهذه الأرجل، كأنما طليت بحمرة النساء. انظروا إلى عيونه إنها بلون الكحل القاتم .
انظروا إلى تدرج الألوان فوق منقاره، من البياض الناصع إلى الرمادي الزاهي. يا له تاجاً رائعاً .
– كل ذلك ياريبر وتقول لا أتطور . . . . . ؟ إنك شاعر كبير بهذه القصيدة .
عندما انضممت إلينا في كَارسا عام ۱۹۹۳ لم يكن عمرك يتجاوز الثامنة عشرة و أنت في هذه الجبال منذ ذلك العام، فمن أين تعرف حمرة النساء . . ؟ ! والله لو سمعت الرفيقة نوال بكلماتك فستخرب بيتك .
هنا يتدخل شيار مازحاً بقوله :
– هكذا يا ريبر لا أحد يستطيع أن يخطئ أمام (دوغان) (39).
حملنا حقائبنا ضاحكين جميعاً، لمباشرة النزول إلى النقطة التي فارقنا فيها الرفيق باهوز . . ، عند ذلك اتصل الرفيق (دجوار) وكان يستمع إلى مكالماتنا أيضا، واتفقنا على الالتقاء في الطريق الجبلي الضيق.
و صلنا إلى تلك النقطة، بينما كانت الشمس قد غابت. ولكن بقايا النهار لا تزل تجر أذيالها، و أسراب الـ (قجوك – زاغ) تتجمع في فوهات البراكين القديمة والشقوق الصخرية العميقة = والقشروك طائر كالغراب، إلا أنه يفوقه في سواده، وهو لا يكاد يوجد إلا في مرتفعات الزوزان.. و عثرنا أيضا في هذه النقطة على بقايا التموين التي تركها السرية أثناء تعسكرهم في هذه النقطة .
و هناك قررنا أن نسلق الحجل، حيث لا تزال في المطبخ أكوام القش .
و هكذا تدبرنا أمورنا بما تبقى معنا من قطع الخبز اليابس، حيث جمعناها كلها في مرقة الحجل، وبدأنا تناول العشاء اللذيذ بالأيدي والأصابع، لأنه لم تكن معنا ملاعق .
و ما إن انتهينا من تناول العشاء، حتى كان (دجوار) وبقية العناصر قد وصلوا أيضاً،
حيث توقفنا لأجلهم لأخذ الراحة اللازمة وإمضاء ما تبقى من الليلة في هذه النقطة، بينما ذهب بعض العناصر لاصطياد ما أمكن من طور (القجوك) من فوهات البراكين ، وذهب آخرون لجلب ما يكفي من التموين للغد، من بعض المستودعات السرية .
14 آب 1996
في الصباح كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة عندما استيقظت، بينما كان من المقرر أن يوقظنا الحراس في الثالثة .
تجولت في النقطة وفي أماكن الحراسة التي حددناها ، ولكن لا أحد . . . . !
مما أثار سخطي على عناصر الحرس، وسارعت مباشرة إلى دجوار وهو نائم.
و بصعوبة بالغة، استطعت أن أوقظه من النوم العميق، وكأنه لم ينم منذ سنوات، وقمنا بايقاظ الجميع. بينما عناصر الحرس لا يجرؤون على رفع عيونهم من الخجل، وأنا أوجه لهم الكلمات القاسية . . . ألم يكن من المقرر أن نتحرك في الثالثة من المسؤول عن هذا العمل االساقط . . . . أليست هذه خيانة . . ؟
نحن نسلمكم أرواحنا وأنتم تنامون عليها .
و هكذا سارعنا في التحرك، وكنت أنا المسؤول في الواقع عن تكرر وقوع عناصر الحرس في هذا الخطأ، فلو قمت أول مرة بإنزال العقوبة القاسية عليهم لما كرروا هذا الخطأ . . ، إنه ذنبي أنا في الدرجة الأولى .
في السابعة صباحاً وصلنا إلى النقطة التي يسميها الرفاق (مقر توفيق)، وهي النقطة المطلة على قرية تالى .
و فور وصولنا إلى هذه النقطة، حملت المنظار بنوع من رد الفعل وخرجت إلى مكان الحراسة وأنا أنتظر فراغهم من إعداد قائمة الحراسة .
و لكن مر أكثر من ساعة ولم يأت أحد، مما جعلني امتلئ غضباً .
و النتيجة واضحة، فالاستمرار بالتفاعل مع ردود الأفعال، سيفقدني الحاكمية والسيطرة والاحترام أيضاً، فهل الحل في أن أفقد ثقلي الشخصي ؟ .
يجب معالجة الأمور بطريقة عسكرية بحتة وهكذا كظمت غيظي . . . بل بلعته كما يبلع الريق ضاغطاً على نفسي، محاولا الحفاظ على ملامحي الطبيعية وعلم الانفعال في الحديث، ورجعت إلى مكان تجمع الرفاق – أين قائمة الحراسة يا رفيق ( زرادشت) ؟
– لقد قالوا أننا سنتحرك الآن ولا داعي لها .
بينما كان الجميع يغط في النوم ما عدا الرفيق عكيد، حيث سارع باعطائي كسرة خبز وكوبا من الشاي البارد .
– يا رفيق عكيد أيقظ الرفيق (دجوار) .
و هكذا اجتمعت مع دجوار وزرادشت، وتباحثنا في تدهور النظام وأن الاستمرار بهذه الصورة احلال للانضاط، ولا بد من عقد اجتماع المهمة في هذه الساعة .
– الآن ؟
– نعم الآن .
– ولكن الجميع نائمون وأعتقد أنه من الأفضل تأجيل ذلك حتى الساعة العاشرة، لأنهم سيفسرون الأمر بأنه رد فعل منا .
– كما ترون . . . . و لكن يجب أن نعقد اجتماع المهمة قبل الوصول إلى النقطة.
و هكذا قمنا بجمع العناصر في الساعة العاشرة تجمعوا على شكل حلقة دائرية، بعد ما تأكدنا تماماً من أمن المنطقة. بينما كان الارتخاء والكسل يسيطران على ملامح جميعهم لاستيقاظهم تواً .
وبعد التئام الجميع، أخرجت دفتري الصغير وكتبت في أعلى الورقة .
14 آب 1966
اجتماع مهمة سنبل
وافتتحت الجلسة بقولي: كما تعلمون مرت لنا أيام ونحن في هذه المهمة .
و اجتماعنا هذا هو اجتماع المهمة كاملة، منذ أن انقطعنا عن الوحدة وحتى الآن، وخلال هذه الأيام ظهرت الكثير من الاقترابات و النواقص.. فيجب التوقف عليها، ولا داعي لتحديد بنود الاجتماع، فلستم غرباء عن أسلوب التنظيم والذي يعني الدقة في النقد ضمن إطار الروح الرفاقية والابتعاد عن الرؤى والتصورات الشخصية، وقبل أن نلتحق بفعاليات السرية رأينا من المناسب أن نتوقف هنا على اجتماع المهمة، ليس فقط للاعتراف بالأخطاء وإنما لتحليلها ومعرفة أسبابها وعلى هذا الأساس نبدأ اجتماعنا هذا بالوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء.
بعد ذلك سألت مرة أخرى: هل هناك اقتراحات أو أي شيء سيضيفونه أو يودون التوقف عليه بشكل خاص ؟ .
لم تكن هناك آراء خاصة. لذلك بدأت الاجتماع بقولي: إذا هكذا نبدا الاجتماع وأترك حق التحدث لكم.
ثم توقفت منتظراء من سيطلب حق التحدث، وهنا يظهر ثقل الرسمية وتأثيرها، وليس بوسع كل واحد اختراق جدارها، لأنه سيخرج بذلك من نمط الأحاديث الاعتيادية، وهو يرى الآذان كلها صاغية له.
و هكذا بدأ بعضهم بالنظر إلى بعض، من الذي سيبدأ. بينما كانت يد الرفيق زرادشت ترتفع ببطء لتكسر طوق الصمت.
و فتحت الدفتر الأدون موجز كلامه. ككافة الاجتماعات الرسمية كلفت الرفيق كورتاي بتدوين كامل وقائع الاجتماع وكلام كل مقاتل، حيث سأقوم مرة أخرى بتدوينها في هذه اليوميات، كذلك لإعداد تقرير العملية للقيادة.

  • زرادشت
    (مر لنا أكثر من أسبوع ونحن في هذه المهمة . . . وبشكل عام يجب التوقف على النواقص التي ظهرت أثناء الذهاب، و تخلف البعض في المسير. حيث تكرر ذلك أيضاً أثناء العودة . . . كانت المعنويات عالية ولا شك ولكن وقعت ردود أفعال من البعض، وفقد البعض الانضباطية أيضاً مثل الرفيق (عكَيد) والرفيق ( كمال) .
    والرفيق (دوغان) أيضا وقع في ردود الأفعال .
    و أقدم (نقدي الذاتي) على ما بدر مني لأكثر من مرة بخصوص نومي أثناء الحراسة، وأنا مستعد لكل العقوبات اللازمة بحقي فيما يخص هذا الموضوع .

• ( عكيد )
أبدأ بنقدي الذاتي ومابدر مني من النواقص التي تمس سلامة الرفاق، حيث نمت في نوبة حراستي في اليوم الأول .
و أوجه انتقادي في الدرجة الأولى للرفيق (قورتاي) وللأساليب المزدوجة التي يتمتع بها، فهو مع القادة والإداريين بصورة ومع القاعدة بصورة أخرى، أتمنى أن يقبل مني هذه النصيحة، وأتمنى للرفيق (زرادشت) أن يخفف من عناده وللرفيق دجوار أن يلعب دوره، ولا يترك كل شيء على الرفيق دوغان وأضم رأيي إلى رأي الرفيق زرادشت بخصوص الرفيق كمال .

  • شيار
    إن المهمة قد نفذت على أحسن وجه كما تعلمون، وقد مرت الأيام بشكل جيد على العموم .
    و لكن ظهرت النواقص وبدأت تتعمق في الأيام الأخيرة والسبب حسب رأي يعود إلى عدم أخذ آراء معظم الرفاق في تحديد عناصر العملية .
    فلم يكن من المناسب إرسال خمسة عناصر فقط، فهو عدد قليل بالنسبة لحجم العملية. وأضم صوتي إلى أصوات الآخرين فيما يخص اقترابات (قورتاي)، واقترح أن يقوم الرفيق (دوغان) بتقديم نقده الذاتي حول مسألة الموعد عند المنفذ ليلة تنفيذ العملية، فكان عليه أن يتواجد هو بالذات هناك، لا أن يكلف مجموعة من المقاتلين بذلك، وفي الحقيقة لم أكن أتصور أن قائداً عسكرياً يقع في مثل هذا الخطأ .
    أما ما يخص نقدي الذاتي، فقد ظهرت مني نواقص في أسلوب الاقتراب .
    و لكن أسلوب الرفيق زرادشت هو الذي أوقعني في هذه النواقص، فهو يفعل ما يحلو له ويتحدث بما شاء .

• قورتاي
بشكل عام أضم رأيي إلى آراء الآخرين في توقفهم على المهمة باستثناء ما أدلى به شيار حول عدد منفذي العملية، فليس عدداً قليلاً كما يقول، ولم يتم انتخابهم بصورة مركزية، بل تم ذلك في اجتماع رسمي، أخذت فيه آراء الجميع، ولم يكن الوقت يسمح باستشارة كل رفيق على حدة.
و أضم صوتي أيضاً إلى أصوات الآخرين حول وضع الرفيق كمال ومزاجيته، ثم مسألة نوم الرفاق في المنفذ وهم بمثابة الحماية النا – أليست هذه جريمة ؟ ثم إذا كان الرفيق (دوغان) لم يستطع الذهاب إلى المنفذ، ألم يكن من الواجب إعطاء الجهاز اللاسلكي لهم ؟ . . الذين أرسلهم إلى المنفذ، ويجب أن أقف أيضا على افتقار الرفيق (دجوار) للمبادرة في اتخاذ القرارات .
و ما وقع بيني وبين الرفيق معصوم، هو المراد بقولهم أنني ذو وجهين، ولكي أجيبهم على ذلك أسألهم : من قائد هذه المهمة (دوغان أم معصوم) . ؟
الرسمية واضحة أيها الرفاق ولا تحتاج إلى تفسير، وأعتقد أن الرفيق عكيد يفهم كلامي . . ، وأوجه نصيحتي للرفيق (ريبر) أيضاً، بأننا في حرب ولسنا في نزهة . . إلى متى ستستمر في التصرفات الصبيانية . ؟

  • دجوار
    المهمة وحسب المعلومات التي أعطيت إلينا كانت معرضة للفشل . . . حيث قيل لنا بأن الطريق لا يتجاوز الثلاث ساعات ، بينما كان الواقع غير ذلك .
    و بالنسبة لعدم إمساك المنفذ انضم إلى أصوات الرفاق .
    و أيضاً حول وضع الرفيق (كمال) . . . يجب أن يتوقف هذا الرفيق على تطوير شخصيته أكثر وينصت بجدية إلى انتقادات الرفاق .
    و أتفاجأ بعدم الثقة التامة في تنفيذ العملية من جانب دوغان ومعصوم .
  • قنديل
    لقد توقف الرفاق على مجمل نواقص هذه الأيام، وأنا أضم صوتي إلى أصواتهم وأضيف إلى أنني كنت أقع من حين لآخر في ردود الأفعال بسبب بعض النقاشات التي أثارها الرفاق، وبسبب عدم ذهاب الرفيق (دوغان) بنفسه إلى المنفذ، حيث لم يكن السبب في إرسالنا بدلاً منه إلا الراحة الشخصية .
    ألم نكن نعاني نحن أيضاً من البرد وأسقام المسير .
    أيضاً الرفيق ( عكَيد ) وحمله لـ لسلاح الـ ( آر ب ج ) . فقد جعل من ذلك مسألة وكأن لم يقم أحد قبله بحمل هذا السلاح في المسير .
    لقد كانت أحمالنا في الذهاب أثقل من حمله عشر مرات، فلماذا لم يتذكر حمله إلا عند العودة بعدما خفت الأحمال . . ؟ لذلك أضم صوتي إلى أصوات الرفاق بخصوص الرفيق عكَيد.
    و أضم صوتي إلى صوت الرفيق قورتاي في نصيحته للرفيق (ريبر) بخصوص حركاته الاستعراضية أثناء المسير، وكأننا أطفال نلعب في الحارة .
    إذا كنت تريد أن تثبت لنا أنك لا تخاف من الموت، فقد آمنا بذلك وآمنا أيضاً بضرورة الخوف عليك .
    أما الرفيق (زرادشت) وما وقع منه من تكرر النوم أثناء الحراسة فأقترح أن تضاعف له ساعات الحراسة عقوبة له.
    و أقترح على الرفيق ( كمال) أن يقدم نقده الذاتي .

• معصوم
أريد أن أتوقف قبل كل شيء حول مسألة كشف الطريق التي أثارها الرفيق دجوار. وأكرر هنا إصراري حول ما تقدمت به من المعلومات، ولكن التحرك فيما يبدو لم يكن بالصورة التي افترضتها.
و الظاهر أن هناك شعوراً بالفوقية أصيب به رفاق تنفيذ العملية.
لا شك أنهم قامو بتنفيذ المهمة بشكل جيد، ولكن الادلال بذلك على الاخرين أسلوب قروي يدعو إلى السخرية .
و أعترف هنا بخطئي بالاستمرار في نقاش المواضيع التافهة التي يجب أن لا نلتفت إليها ، وبالرغم من ذلك، أصبحت محور الأحاديث .

• كمال
أحترم انتقادات الرفاق ولكن عندما تكون بصورة صحيحة .
(هنا تدخلت ليصحح الرفيق كمال أسلوبه قائلا: يا رفيق كمال: أنت أمام حرمة التنظيم بكل ما تعنيه من القيم المقدسة، وبالدرجة الأولى يجب أن تتذكر، أنك عندما تقوم في هذا المقام، فأنت أمام دماء الشهداء ولدماء الشهداء حرمتهما ) .
– صحيح .. أعرف ، ولكن إلى هذه الدرجة لم أعد قادراً على الاحتمال .
كل واحد يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشبة التي في عينه .
من الذي تسبب بكل النواقص . . . ؟ هل هو رفيق واحد بعينه . . ؟ أليس كل واحد منا مسؤول عما يقع من النواقص . . ؟ لقد أصبح النقد الذاتي كلمة روتينية.
بعد تنفيذ العملية وأثناء الانسحاب، كنت مصاباً بالجفاف، ولم يتقدم أحد منكم لحمل الرشاش ( BKC ) عني، مع كل ما كنت أحمله على ظهري .
و مع أنهم كانوا يسيرون بلا حقائب، لم يتوقفوا عن إلحاحهم في أن أسير مثلهم . . ، وأنا أعترف بأنه كان علي أن أتحدث عن ذلك بدون ردود أفعال، ولكن لم أتمالك نفسي بعد كل هذه الاتهامات .

  • آزاد
    ( كرر الرفيق آزاد بعض الانتقادات، ثم حاولت إنهاء الاجتماع بالسؤال عما إذا كان أحدهم يريد أن يضيف شيئاً من الاقتراحات، وإذ بالرفيق (عكَيد) يرفع يده طالباً حق التحدث ) وعرفت أنه يريد أن يجيب على انتقادات قورتاي لذلك، توجهت إليه بالحديث قائلا :
    يا رفيق عكيد إذا كنت تريد التعليق على انتقادات قورتاي، فليس بالضرورة أن تكون كلها صحيحة، ولا أن تكون معبرة عن آراء الجميع .
    كلنا يعرف كيف مرت هذه الأيام، وكيف كانت اقتراباتنا وأين كان الصح وأين كان الخطأ.
    ثم توجهت إلى الجميع وأنا ألخص لهم من خلال آرائهم صورة الحياة التي قضيناها عبر هذه الأيام قائلا :
    . . . . (أشكر الرفاق على انتقاداتهم الصريحة، وأريد أن أذكرهم بأن المهمة إلى (سنبل) في الأساس كانت تتضمن أكثر من هدف، ولكن لم تكن الظروف مواتية، حسب تقارير مجموعة الاستطلاع، فلم نستطع جلب الأبقار ولا إقامة علاقات مع بعض الأهالي ولم يكن في وسعنا تأجيل تنفيذ العملية لنفاد التموين. لذلك قمنا باختصار عملية الكشف الأخيرة ودمجها مع العملية التنفيذية، وقد تم اختيار عناصر المجموعة بناء على مدى معرفتهم بالمنطقة، ولا سيما منطقة الهدف، ولم تكن هناك فيما أعتقد ضرورة لمشاورة الجميع، وأما بخصوص عدم ذهابي إلى المنفذ فخطأ لا غبار عليه، ولو ذهبت لما حدث ما حدث ولكنني لم أكن أتوقع أن من أرسلتهم سيتهاونون بهذه الطريقة وبدلاً من اعترافهم بذنبهم يقولون: انتظرنا ولم يأت أحد، هذا الدرس يجب أن لا ننساه أيها الرفاق.
    ثم ألم يكن المخطط أن تنسحبوا مباشرة بعد تنفيذ العملية إلى النقطة التي حددناها . . ؟ أنتم أيضا بدوركم دفعتم عناصر المنفذ للوقوع في هذا الخطأ.
    ثم بعد وصولكم إلى المنفذ، نمتم على بعد عشرة أمتار منهم، فماذا يعني هذا . ؟
    (أما آن لكم أن تعرفوا أن أكثر خسائر المقاتلين تكون أثناء الانسحاب من تنفيذ العمليات وليس أثناء تنفيذها).
    لو لحق بكم العدو وتتبع آثاركم، فماذا ستكون النتيجة . ؟
    هذه المسائل التي تعتبر من أهم المسائل العسكرية، تمر هكذا من غير أن تستوقفكم. . . . أنتم ورفاق المنفذ غارقون في النوم وأنا أتقلب على الجمر وراء جهاز اللاسلكي.
    لا أريد أن أسألكم كيف نمنم، ولكن كيف تذكرتم النوم ؟
    ثم من المسؤول منكم على النوم من غير حراسة.
    هذا مرضنا نحن (الكرد) . . عند قيامنا بالأعمال الجيدة ، نرى أنه ليس من المناسب ألا يكون فيها ما يذكر بفوضويتنا .
    حتى الآن لا أستطيع أن أصدق، كيف استطعتم النوم بلا حراسة بعد تنفيذ عملية كهذه العملية ؟ .
    و لكنني أعترف بأنني المسؤول عن كل هذه الأخطاء، فلو قمت بالعقوبة اللازمة منذ أول يوم لما تكرر ذلك .
    و مع ذلك فالخطأ الأكبر الذي ارتكبته هو أنني لم أذهب بنفسي إلى المنفذ بالرغم من أنني لم أذق طوال تلك الليلة طعم النوم .
    ثم هل تطلبون مني حساب تنفيذكم المهمة ؟ وهل قمتم بذلك من أجل سواد عيوني. وأنا أوجه الكلام هنا إلى (دجوار) حصراً . . . ما الذي رآه مني ليتهمني بأنني متردد في تصديقه بتنفيذ المهمة.
    هل تريدون أن أقسم بالله العظيم أنني واثق كل الثقة من ذلك.
    إذا كان الواقع العملي لا يقنعكم ، فكل شيء من بعده لن يقنع ، . . هل تذكرون كلماتي الأخيرة التي وجهتها إليكم؟.
    أكرر هنا ما قلته لكم: إن مستواكم جميعا، بمستوى قادة مجموعات وكلكم قمتم بتنفيذ مهمات سابقة، ولو لم أكن على ثقة كاملة من إرسالكم لكنت أرتكب خيانة بحق الشعب، ولكن وكما تبين لي أنكم لم تسيروا حسب الخطة التي وضعناها، مما جعلنا نعيش في دوامة من الافتراضات والمخاوف.
    كل هذه الأخطاء حدثت. فلماذا لم يتقدم بها احد في نقده الذاتي ؟ .
    و الظاهر أنكم بحاجة إلى من يذكركم، بأن حقيقة النقد الذاتي حقيقة مجبرة، لما يترتب على نقائها من سلامة كل رفيق، وليست مساومة ولا فرصة لتربية الصداقات على حساب التنظيم.
    كنت أنظر إلى الرفيق (كمال) بكل الاعجاب والتقدير على تضحيته وتحمله، ولكنه خرب كل ذلك ببضع كلمات، وصار كالبقرة التي تضرب قدر الحليب برجلها ليراق على الأرض، بعدما رضيت أن يملاً من ضرعها . . ، أليس هذا ما فعله بعد كل ما قام به من التضحية ؟ . ولأجل مسألة بسيطة، بعثر كل شيء، كما بعثرت البقرة حليبها لأجل ذبابة سقطت على رجلها.
    هل أعلمكم كيف تحترمون أعمالكم، وكيف يجب أن تحافظوا عليها.
    وكيف يجب أن تقارنوا بين عظمتها وبين ضعف إحساسكم بها ؟ .
    الرفيق عكَيد أيضاً يجب أن يستفيد من هذه الكلمات، ويعرف ما معنى رسمية التنظيم.
    و على الآخرين أن يدققوا في الانتقادات التي وجهت إليهم، وأن يعرفوا أن كل ذلك يعود في الدرجة الأولى إلى ضمور الشعور بالمسؤولية، مع أنها كل شيء في حياة المقاتل . . ، يجب ألا نبعثر جهودنا أيها الرفاق . . ، تذكروا المعنويات العالية التي ذهبنا بها إلى تنفيذ المهمة. أليس من الأَولى أن تكون أكثر سمواً بعد نجاح المهمة ؟ .
    هل نسيتم كيف كانت فرحة رفاق المركز، حين كنت أقدم لهم نتائج العملية ؟ .
    أليس من الجور أن يستمد الرفاق منا معنوياتهم. بينما نقوم نحن بتشتيتها من أجل أخطاء عابرة ؟ .
    ثم هل نسيتم أن المهمة لم تكن فقط من أجل تنفيذ العملية وإنما من إجل إعداد تقرير كشفي كامل عن المنطقة، وسوف نسأل أيضاً عن هذه المهمة . لذلك على كل رفيق أن يقدم ملاحظاته حول الأسئلة التالية :
    ۱ – كيف يجب الاقتراب من المنطقة؟ .
    ۲ – هل يمكن البقاء فيها؟ .
    ٣ – ما هي المخاوف المترتبة على ذلك؟.
    أنتم أيها الرفاق ساعد الحزب الذي يعبر به عن خدمة الثورة .
    و كل جهودنا يجب أن تصب في هذه البوتقة . ( والنصر للثورة) .
    بعد ذلك أخذت آراءهم . . . حول ملف الاقتراح الذي سنتقدم به للقيادة فيما يخص المنطقة .
    صحيح أن المنطقة صعبة ووعرة ولكن يجب ألا نقوم بالدعاية السلبية بين المقاتلين عن المنطقة .
    (لقد انتهى ذلك الزمن الذي كنا نقول فيه لا نرى (سنبل) ولا بالمنظار، ويجب أن نكون بعمليتنا هذه قفزة نوعية في حياة الثورة ).
    الثورية أيها الرفاق هي في مواجهة الصعاب واصطياد الفرص . . .
    تذكروا صعوبات كل منطقة جديدة ندخلها . . ، ولقد اقتحمنا صعاباً أشد بكثير من صعوبات هذه المنطقة. والحقيقة فإنه بالنسبة لهذه المنطقة، تكاد تنحصر المشكلة فيها في مسألة تأمين التموين، لتعذر سير البغال فيها ).
    لذلك سيكون الاقتراح بشكل عام بامكانية الذهاب إلى المنطقة على أن تنقسم السرية إلى فصيل . . يقوم بالاستطلاع والتنفيذ وفصيل يقوم بالتحضيرات التموينية اللازمة .
    15 آب 1996
    بين أكوام الهللز
    باعدوا المسافة فيما بينكم أيها الرفاق، فنحن في مواجهة كل الأطراف، ونسير في جغرافية عارية، وبالرغم من إيجابية الكشف وإعطائه الضوء الأخضر فيجب أخذ التدابير.
    تحركنا نحو (جيلا دو كوه)، بينما أعشاب الهلليز وجاراتها قد تغيرت ألوانها إلى اللون الأصفر الضارب إلى البياض.
    و كما هو معروف فنبات الهللز ضعيف الجذور، عندما تصبح يابسة وبمجرد اشتداد الريح يطير على أكفها . . وهو خفيف إلى درجة عجيبة، بالرغم من شكله المغري وارتفاعه الفارع . . وأوراقه كأوراق التبغ، تتكسر تحت الأرجل، مرسلة غباراً خانقاً له رائحة كرائحة التبن.
    (الطريق نحو جيلا دوكوه) غير متعب، قياساً مع غيره، لأنه يمتد فوق سلسلة مرتفعات وتلال متدرجة ومترابطة. بينما المسافة بدأت تبتعد بين مقاتل وآخر كما نبهنا، حتى تجاوزت الكيلومتر ما بين كل واحد منا.
    و لكن بالرغم من سهولة الطريق، فإن حالة العناصر من الانهاك تدعو إلى الشفقة، لقد أصبحنا كالليمون الذي تم عصره.
    و عندما يتجرد المقاتل للاستحمام، ترى أثر الشمس واضحاً على الأجزاء المتعرضة للشمس من أجسامهم.
    و متعة حياة الأنصار هي هذه المسيرات الطويلة، وخاصة بعد انتظام حرارة الدم ونبضات القلب مع خطى المسير.
    و نتيجة لطول الطريق وبعد المسافة بينك وبين الآخرين، يطلق العنان للخيال، لينتقل من هنا إلى هناك، وكأنك في سيناريو لحالة معقدة من فترات الثورة. حيث يتدخل الجميع، ولكن مفتاح الأحدث في يديك، وأنت بطل كل المشاهد، والكل يصفق لك ويستقبلك بالإكبار والإعجاب وتتخيل عودتك بعد كل هذه السنوات إلى مسقط رأسك، وكيف سيكون استقبال أهلك لك وفرحتهم برجوعك.
    وبالرغم من ورود هذه التخيلات بصورة اعتيادية، فإنها تداعب روح الكفاح وتصقل مشاعر القوة .
    إنها صور لا تنتهي من البطولات، ترتسم في لوحات الخيال أثناء السير الطويل، ولكنني على مستوى حياتي الشخصية في هذه الجبال استفدت الكثير من هذه المشاهد. حيث استطعت أن أحقق الكثير من أحلامها، فلم تكن خيالية إلى الدرجة التي يتصورها هواة المطالعة.
    و كما تصدق بعض منامات الناس في أحوالهم العادية، هكذا تصدق بعض أمنيات المقاتل، ويتفاجأ مرات أنها تقع بكل تفاصيلها تماماً كأحلام الناس ورؤاهم الصادقة.
    و تقف لتقول: إن الذي يحدث ليس غريباً علي . . . (و تعود لتتذكر أين تخيليته و رأيته وأين عشته) .
    في هذا المسير، الوضع مختلف بعض الشيء . . لاسيما التعب والانهاك الذي استهلك طاقتنا، والحالة المعنوية التي سببها الاجتماع وإعطائي المجال لبعض النواقص بالظهور وما بدر من نقاط الضعف في حاكميتي وقيادتي، لذلك فالذي يشغل خيالي في هذا المسير البحث عن الأخطاء الجوهرية التي تكمن في شخصيتي . . ولو كنت أمتلك قوة في الشخصية لما تجرأ أحد على الوقوع في تلك الأخطاء. وسواء أكانت تلك الانتقادات صحيحة أم لا. فإنها ستفتح المجال لتشجيع الآخرين على أمور أخرى . . . وهكذا تدريجاً سأفقد الهيبة والوقار.
    و بدت لي حالتي كحالة من يسوق الدراجة لأول مرة، لذلك يجب على اقترابات القائد أن تسير وفق توازنات محسوبة . . . ومثل هذه الأمور هي التي تفتح المجال لتسرب الخلل إلى تلك التوازنات، لذلك يجب أن أضع الحد لكل ذلك، ولكن الأهم لماذا حصل ما حصل وكيف أعطيت المجال لوقوع؟.. وأياً كان السبب فأنا المسؤول عن تلك الجسارة .
    في الحقيقة لا شك أن ذلك راجع لأمور كنت أنظر إليها على أنها طبيعية وبسيطة ، وليس هناك ما يدعو للتدخل فيها. ولكن تراكم هذه الأمور التي تحدث بشكل يومي جعل منها مشكلة.
    ( مثال ذلك، العدد الذي معي في المهمة، ليس بحجم عدد السرية وعدم خروجي مثلهم للحراسة، سيجعل الصورة في مخيلتهم أنني فوقي ومتكبر، وسيعبرون عن ذلك باهمال الحراسة ما أمكنهم ذلك، ولعدم جرأتي على إنزال العقوبة في هذه الحالة، واضعاً في الحسبان عواقب ذلك، من خشية هرب مقاتل أو وقوع المشاكل جعل الأمر يتفاقم ضدي ) .
    و لو أنني ذهبت بنفسي مع مجموعة تنفيذ العملية، وقمت بنفسي باطلاق النار، لتغيّر مجرى الأحداث. لأن هذا الأمر أيضاً يلعب دوراً كبير في خلق الشرخ بين القائد والمقاتل .
    و المقاتل وإن هو لم يواجهك بهذه الحقيقة، إلا أنه يعيشها مقارنة حادة في ذهنه . . ومع تراكم هذه المشاعر، تتكون في نفسية المقاتل ما يمكن أن نسميه بالروح الخفية، التي تتدخل في كل تصرفاته .
    ويشتد أثر هذه الروح، عندما لايجد الفرصة للتعبير عن حالة الرفض التي يعيشها، لذلك يلجأ للهمس والبحث عمن يصغي إليه ويشاركه همومه، وهكذا تكون الأحاديث عن القائد على هذا النمط .
    ( نحن نحمل الأسلحة والأحمال في المسير، ونعود لنخرج للحراسة عشر ساعات كل يوم. بينما هو يجلس في مكانه ينام ويأكل ولايفعل غير إصدار الأوامر). ولكن هذا المقاتل لايدري كيف تم الوصول إلى تنفيذ المهام، ولا كيف تتحقق حمايته، ولا كيف يتم تأمين التموين له، والمهم أمامه ما يراه وما يقوم به هو .
    ولاشك أن ذلك يختلف باختلاف مستوى الوعي عند المقاتلين، و لكن بالنسبة للقائد، يجب أن يقنع نفسه بسوية المقاتل الأدنى، وأن يتمتع بقسط من الإدارة البيروقراطية. كنت أستطيع مثلاً أن أغطي على كل هذه المشاعر، بذهابي مع عناصر تنفيذ العملية، ولكنني لست فقط لم أذهب معهم، بل لم أذهب الانتظارهم في المنفذ أيضاً، ولو أنني حملت معهم الأثقال وخرجت في نوبات الحراسة، لكنت خففت من وطأة هذه التساؤلات. لقد كنت أقوم بأصعب من هذه الأمور، آلاف المرات، فإلى أي مدى تسببت بالإساءة لنفسي، عندما رميت بكل شخصيتي لتكون عرضة لهذه الانتقادات .
    (بذلك استطعت إن اكتشف الخطأ، أنه كان في الدرجة الأولى عدم نزولي مع عناصر تنفيذ المهمة، ولو فعلت ذلك لكان لي الحق المطلق في أن أكون صاحب هذا الجهد في عيونهم، على الأقل لأن القاعدة إذا الم تر قيادتك في الواقع العملي، فلن تمنحك الثقة الكاملة، و علي في هذه الحالة أن أقوم بعمل أمحو به إشارة الاستفهام من مخيلاتهم) .
    و كما قلت سابقا، فان هذه هي حالة مقاتلينا . . ، وانطباعهم عنك مرتبط بالخطوة الأولى، التي تعبر عن نفسك بها. فاذا استطعت أن تحظى على إعجابهم بها، فكل ما تفعله من بعد، سيجدون له التأويل والمغفرة، وإن كان العكس، فالويل لك إلى أن تستطيع أن تغير تلك الصورة التي تكاد تصبح في حكم المستحيل .
    الطريق لم يكن كما كان يبدو لأول وهلة، فها نحن الآن نصعد وننزل ثم نصعد وننزل ، ولكنها سلسلة واحدة من القمم، تلتف وتمتد على شكل هلال، وعلى طول الطريق ترى خنادق العدو وبقايا تموينهم مبعثرة من حولها – علب الكونسروة والشوكولا وزجاجات الماء وفوارغ البيبسي . . الخ .
    و الظاهر أن جنود العدو لا يأكلون إلا معلبات معينة فقط، و أما (الباربونيا) و (الباذنجان) وما إلى ذلك فيتركونها على حالتها، ولذلك على طول الطريق، أيضا يقوم العناصر بجمع هذه المعلبات المتناثرة تحت بقايا المشمعات العسكرية الممزقة وهياكل السيارات المحطمة بقذائف رفاقنا، والمكتوب عليها إما (كوماندو الجبال) أو (لواء هكاري – الوحدات الخاصة) . والذي يدعوا إلى الاستغراب .. هو كيف وصلت هذه السيارات إلى هذه القمم؟!.

الماء ماؤك ياقورتاي
بدأ قرص الشمس يقف في مواجهتنا تماماً، ولشدة حراة الشمس عمد المقاتلين لاستعمال قطع من مشمعات الجنود، كمظلات على رؤوسهم . بينما الماء كان قد نفد في الاستراحة الأولى من جميع العناصر. . ، وبين استراحة وأخرى، ربما تجاوز المسير الساعة والساعتين، لذلك بدت أثار الظمأ واضحة على الجميع .
و من حين لآخر يعرفني المقاتلين على أسماء المرتفعات والأماكن. ولاسيما الرفيق (دجوار)، فهو لايتوقف عن قوله: في العام الفلاني توقفنا هنا .. وفي عام كذا وكذا حدث هناك اشتباك . . ، ومن هنا جاء العدو، ومن هنا انسحبنا . . . الخ . ومثل هذه الأحاديث تخفف من أعباء المسير وأتعابه .
في تلك الأثناء، استغربت من حركة (قورتاي)، إنه يلتفت يميناً وشمالاً ويبحث عن مكان ليستتر فيه . . ، إلى أن دخل وراء بعض الصخور، وكانت حركاته مريبة، حيث دعتني بالفعل للإسراع التفقد أمره، وإذا به يخرج من حقيبته زجاجة ماء، وهو يشرب منها ويلتفت يمنة ويسرة.
و ما إن انتهى من شرب الماء، حتى رآني قاعداً فوق الصخرة واضعاً خدي على كفي وأنا أنظر إليه، وهو في حالة لاتوصف من الخجل والارتعاد، خاصة وأننا قبل دقائق كنا نبحث عن قطرة ماء لمقاتل تورمت شفتاه من العطش، ولكنه بطريقة قروية قام بفتح الحقيبة مرة أخرى وتقديم زجاجة الماء إلي، وهو يتلفت أيضاً يمنة ويسرة فقلت له : (الماء ماؤك يا قورتاي)، قلت ذلك والتفت مسرعاً في السير وهو يحاول اللحاق بي.
بدأت الشمس بالهبوط، حيث توقفنا في منفد، كان من الواضح توقف مقاتلين فيه، وتذكر (دجوار) وجود مخبأ للتموين في بعض الخنادق التي حفرها الجنود، وبالرغم من تمركز الجنود في هذه المنطقة عشرات المرات، أثناء حملات التمشيط في العامين الفائتين. فقد كان مخبا التموين على حاله. (ومن كان يشك أن الأنصار سيجعلون من خنادق الجنود مخبا لتموينهم) .
بين حين وآخر نقوم بالاتصال برفاق النقطة أو يقومون هم بالاتصال، لتفقد أحوالنا وأين وصلنا. بينما الحوامات وفي هذا الوقت بالذات لاتكف عن التحرك من فوقنا، وكلما تلوح لنا حوامة نضطر للتوقف بين الصخور .
و بالرغم من وصولنا إلى الوديان التي تحتفظ برقع الثلج في أحضانها. فقد كنا من الإرهاق، بحيث يصعب النزول إلى عمق فوهات البراكين هذه التي تحولت إلى ثلاجات لأحضار الثلج للمجموعة الذين أنهكهم الظمأ، سيما وأن مسافة الوصول إلى النقطة لم تعد طويلة.
و هكذا تابعنا المسير، إلى أن أصبحنا في مواجهة (جيلا دو كوه)(40). حيث قمتاه البارزتان، المتجاورتان، وفي الأسفل من الجهة الشمالية، قعر من الصخور المفتتة والمنهارة والمبعثرة، وقد تراكمت من حولها الثلوج. وبسبب بروز قمتي هذا الجبل ، سمي بذلك والجيل) في اللغة الكردية القمم البارزة . في تلك الأثناء لمح العناصر حركة ما بين القمتين .
– اتراهم؟…إنهم رفاقنا .
– أجاب دجوار: ربما لأن النقطة خلف هذه التلة التي تقابلنا وعناصر المرصد يتمركزون في القمتين .
– لعلهم أيضا يذهبون لتكميلات المساء .
(على يمين التلة كان الحرس يظهر، وكأنه جذع شجرة محروقة وهذا يعني أننا وصلنا أخيراً) .
في تلك اللحظات كان من الممكن النظر في قرص الشمس، وكأنك تنظر إليها من وراء ستار وأردية السماء المتموجة، من الأحمر والبرتقالي والوردي ثم الرمادي والأزرق. تنتشر من القرص بالذات ممتدة إلى أرجاء الأفق، بتدرج وتناسق خلاب .
بينما المرتفعات من أسفلنا ومن حولنا، هضاب وتلال متعرجة بليونه ورقة . . إنها سهوب، وماعدا قمتي (جيلا دوكوه). فإن المنطقة أرض شبه سهلية، تغطيها مرتفعات وتلال من التراب والمروج، على العكس من جبل (سنبل). ذلك الجبل المهيب، الذي حيث وقفت عليه، تشعر وكأنك إشارة خطر، لما يتهددك فيما لو عثرت قدمك مرة من المرات. فأنت فيه تسير على شعاف الموت . . . صخور بارزة . . . صواعد . . . منحدرات . . . وديان سحيقة ـ انهدامات . . . شقوق – فوهات براكين – انهيارات ثلجية . . . الخ .
أما هنا في (الزوزان) فأول ما يستقبلك هو الطمأنينة وانشراح الروح وقبلات النسيم التي تداعب خدودك، وكأنها أنامل طفل وديع، وهكذا تطلق العنان لخطواتك ، بحيث تسير وأنت مغمض العينين، وكأنك تسير على السجاد . . كتل هلامية مبسطة، لا صخور ولا أشجار ، وليس إلا مروج من بعد مروج .
أما فوهات البراكين في هذة التلال، فلا تظهر إلا عندما تقف على المكان المطل عليها بالذات، وما بين بعض تلك التلال، ترقد وديان متعرجة، ولكنها غير عميقة، وتعرجها أيضاً يكون بليونة . . . والماء يتجمع في قعرها على شكل برك واسعة. منها ما تحول إلى مستنقعات تغص بالضفادع والديدان، ومنها البرك الصافية النقية لاستمرار انحدار ذوبان الثلوج إليها .
في تلك الأثناء صاح ( ريبر) :
– يبدو أننا وصلنا في الوقت المناسب .
فأجبته : أجل لأن الشمس لم تغب بعد، فسيكون استقبال الرفاق لنا رائعاً .
– لا ، لا أقصد ذلك.. و لكن تعال وانظر .
– ما هذا ؟
– أثار أغنام على الأرض، والظاهر أن (روثها) جديد، وهذا يعني – يتابع ريبر – أن سرية الرفيق محمود أرسلوا لنا حصتنا .
۔ و ما الغريب في هذا؟ .
– الغريب أننا وصلنا في الوقت المناسب، ألا تذكر أنني كنت أسالك عن ذلك ونحن في الطريق إلى هكاري؟.
و الجميع ضاحكين.
و صلنا إلى أسفل النقطة، وبدا لنا بعض المقاتلين من وراء الدخان المتصاعد، وكأنهم يقومون بالتمرينات الرياضة .
و لكن لم يكن الأمر كذلك، فقد كان المكان هو مكان المطبخ، وكانت تلك حركات الخبازين . . . وهكذا اتجهنا نحوهم .
كانت المجموعات في الأسفل منا، خلف المنعطف الصخري، ولم نكن نراهم، حيث بدأوا بمناداتنا وقد اصطفوا وكأنهم يتأهبون لاستقبالنا .
بالفعل كان هيجان المقاتلين مؤثراً، بل كان أكثر من مؤثر . . . ولا أجد هنا ما أعبر به عن تلك اللحظات، من العناق والمحبة والرفاقية الصادقة التي يتمنى كل مقاتل لو أنها تستمر هكذا، ولكن وبالرغم من عدم استمرارها، فان مجرد تذكرها، يكفي ليقتنع الإنسان بالسوية الرفاقية التي يتمتع بها الأنصار. كان لقاؤنا وكأننا لم نلتق منذ أعوام .
و تبدأ أحلى لحظات الأنصار، حيث يتحلق المقاتلين حول بعضهم وكلهم آذان صاغية، وخاصة إذا رجعت مظفراً في إنجاز المهمة، وكل مقاتل يريد أن تتوجه بالجواب إليه، وهو يقدم إليك صحناً من (الشوربة) أو كأساً من الماء .
و كان الجميع قد توقعوا وصولنا عند الظهيرة، فقاموا بذبح بعض الأغنام لنا وطبخها، ولذلك سارعوا إلى إعادة تسخينها، ليكون عشاء الاستقبال معبراً عن حفاوتهم بنا .
و من حين لآخر تأتي الرفيقة عريفة الحرس لتقول: دقيقة واحدة ويكون العشاء جاهزاً. بينما الرفيق (شيار) يقول: (حسب ما أعرف من الشريعة الإسلامية، فإننا كدنا نخرج من الإيمان، لأن المشايخ عندنا يقولون: من لم يأكل اللحم أربعين يوماً متتابعة، خرج من الايمان) . . ؟ ! .
أجابه ريبر: و ماذا فعلت بغزال البارحة؟ – يقصد الحجل – وهكذا تتداخل الأصوات إلى أن تفقد التمييز بينها، ولا تعرف من الذي يتحدث .
بعد العشاء كان إبريق الشاي مع الكاسات النظيفة والبراقة قد وضع أمامنا، وكان إبريقاً على الطريقة العسكرية كما يقول المقاتلين وهكذا هم يسمون إبريق الشاي، عندما يكون مغليا مع السكر، وأما إذا تم غليه بلا سكر، ثم قدمت مع أكوابه قطع السكر فيقولون: إبريق على الطريقة السياسية .
هكذا اعتذرت منا الرفيقة نوال بقولها : الشاي على الطريقة العسكرية ولكن الدخان سياسي. أي ان الدخان جاهز وليس لف.
و لفت انتباهي عدم مشاركة الرفيق (توفيق) في الأحاديث، والظاهر أن معنوياته ليست في مكانها، وقد طالت لحيته على غير العادة ونظرات عينيه الزرقاوين الواسعتين، كأنها تقول أشياء كثيرة وهو يحتبي على الطرف من المجلس. بينما الرفيق (روزهات) يستند على عصي في يده، ومن حين لآخر يلوح بها يمنة ويسرة، ويعود ليحذف الحصى بها، وهو يقهقه بمعنويات عالية، ولكن واضح أنه يتصنع الضحك، ولا يستطيع أن يديم النظر في أعيني، وكأنه يعاني الندامة من إسناد هذه المهمة إلي .
و لاشك أن النجاح مسألة مهمة، ولكن الأهم في أن تحافظ عليه وتحميه من اللصوصية .
. . . ( بعد ذلك بدأ العناصر بالتوزع. بينما كانت الرفيقة نوال تصيح وجهاز اللاسلكي في يدها) .
– غير صحيح ما فعلته جيهان .
فاجابها روزهات : وماذا هناك ؟
– انظر . . . لقد ذهبت بمفردها إلى المرتفع المقابل – تدخلت هنا بقولي – ولماذا ذهبت ؟
أجابت:
– ذهبت للاتصال .
– مع من ؟
أجاب روزهات : لقد أرسلنا الرفيق ( بيرو) إلى الكشف في وادي (فالتو) .
– منذ متى ؟
– منذ يومين ولم نستطع الاتصال به، وكان يجب أن يصلوا اليوم .
في تلك الأثناء كان قد التأم اجتماع السرية، فاعتذر روزهات عن متابعة الحديث لينضم إلى الاجتماع. حيث قال وهو يلتفت إلي متوجهاً نحو الاجتماع : في الاجتماع الماضي خربنا بيوت بعض العناصر .
– لماذا وما الذي حدث ؟ هل كانت الانتقادات قاسية ؟
– أي انتقادات . . . ؟ هذه المرة ليست مثل كل المرات . . . لم يتركوا أحداً بدءاً من الإدارة ونزولاً إلى الجميع .
– و النتيجة ؟
– توصلنا إلى قرار أن تقدم الإدارة تقرير (النقد الذاتي) إلى القاعدة وخصوصاً (توفيق) و (جيهان) .
(كان شعوري إذاً في مكانه . . . وإذا تمت معالجة الأوضاع بآلية التنظيم وأسلوبه، فسيساعد ذلك على تطور السرية .
و لكن إذا حدث العكس ، فستكون الكارثة على الإدارة) .
انضم روزهات ونوال إلى التكميل المسائي، وبدأ روزهات يتحدث ولكن لم أستطع متابعة حديثه. حيث كان التعب قد بدأ يبسط سلطانه علي . . . بينما روزهات يتابع حديثه بصراخ وهو يوقف البعض ويأمر الآخرين بالجلوس . . . الخ .
(الهواء كان بارداً للغاية، لوقوع النقطة في مواجهة الغرب. حيث يصطدم الهواء القادم من تلك الوديان بالصخور المحيطة بالنقطة ) .
بينما كان عناصر المهمة، قد قاموا كل واحد برفع الأسوار من الحجارة كقبرٍ فوق الارض وتغطيتها بصفائح الصخور وفرشها بالأعشاب استعدادا للنوم .
و هكذا التحقت بهم، لأنام في جوار الرفيق شيار) وجرت بيننا محادثة قصيرة .
– الهواء قارص يا (شيار) لقد اختلفت الجغرافية مرة أخرى.
– لاتنسى أن هذه المنطقة أعلى من منطقتنا التي كنا فيها .
– ولكن بالنسبة لجبل سنبل فالجو طبيعي .
– طبيعي فقط . . ؟ ! لا أعادنا الله إلى ذلك المكان – و هو يضحك – هنا انضم إلينا الرفيق (ذوكان) .
– يا رفيق ذوكان إلى متى نستطيع البقاء في هذه الأماكن، حسب فعالياتكم في الأعوام الماضية ؟ .
– يتوقف الأمر على الوضع العام للمناخ، ولكن بشكل عام لن نستطيع الاستمرار أكثر من شهر إيلول . . ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي – أو في نهاية آب ـ لم نكن نستطيع البقاء لشدة تساقط الثلوج .
– معنى ذلك إن فعالياتنا هنا مهما طالت، فلن تطول أكثر من شهر آخر؟.
– إن استطعنا الصمود شهراً آخر . . فذلك إنجاز كبير .
– لم يحدث كما أظن أنكم عسكرتم في هذه المناطق في فصل من فصول الشتاء ؟
– إن (الكوجر) بكل استعداداتهم لم يكونوا يستطيعون ذلك. حيث تضيع هذه المرتفعات في العواصف الثلجية طوال فصل الشتاء .
– هكذا إذن ؟.
– نعم . . هكذا . ألم تعلم بما جرى في (أورامار) وحملة تمشيط الجنود؟ .
– أجل لقد سمعت منك قصة أورامار عدة مرات .
الرفيق ذوكان معروف بين المقاتلين، بخفة ظله وعذوبة طبعه، ولكن هذه المرة يبدو أنه خامل، أنه اقترب منا وفي صدره حديث يحاول أن يفضي به إلينا، لذلك سألته: كيف مرت هذه الأيام وما الذي حدث.. فالظاهر أن هناك مستجدات ؟ . .
– يا رفيق دوغان المسألة طويلة وأنتم متعبون الآن .
– لايهم يا رفيق نستطيع الاستماع إليك .
– لقد وقعت مشاكل، إذا لم تتوقفوا عليها، فلن يبقى أحد في هذه السرية . . . ، أقولها بكل وضوح وبكل صارحة .
– إلى هذه الدرجة ؟
– نعم .. وكل ذلك بسبب أسلوب الرفيق (روزهات) .. فبعد ذهابكم جئنا إلى هنا وكان الهدف نصب كمين في طريق (هكاري – تشقورجة) وعند وصولنا إلى مكان الكمين، انكشف أمرنا .
– كيف ؟
– لأننا كنا قد تمركزنا مقابل معسكر حماة القري، عند الخيم التي قمتم بالاستطلاع، وكانت الرفيقة (ماوا) تقوم بمهمة الحراسة، فرآها حماة القرى وسمعنا حديث حماة القرى عنها باللاسلكي.. بينما هي أصرت على عدم تمكن حماة القرى من رؤيتها .
و لم تمض فترة قصيرة، حتى انتشر حماة القرى، وجاءت الكوبرا والمصفحات، فسارعنا بالانسحاب والكوبرا تلاحقنا بالقصف.
و بينما كان الرفاق يجتهدون باخفاء أنفسهم، كانت (ماوا) تستعرض بطولاتها أمام الكوبرا .
– أي بطولة . . . ؟ إنها حماقة . . . لماذا لم تجردوها من السلاح .
– أي تجريد من السلاح . . . لقد كنا نرجوها أن تنضم إلى خندق الآخرين وهي ترد بكبرياء وبعجرفة : أنا لم أتعود الدخول إلى الحفر كالأرانب .
– لو كنت معكم لأمرت باعتقالها مباشرة، ولربطت أرجلها بضفائر شعرها . . . ولكن أنا أتعجب من كلامك، فقد رافقتني هذه الرفيقة في تنفيذ عدة مهام، ولم تتصرف مثل هذا التصرف بل كانت مثالاً للانضباط . . . ، والظاهر أن هذا التغير المفاجيء مرتبط باحساسها أنها المسؤولة عن مجـيء الكوبرا، و أنها ربما ستتسبب بمقتل بعض الرفاق.
(وقد علمتني التجربة أن الرفيقات يتعرضن لمثل هذه الحالات من فقدان التوازن وعدم السيطرة على أبسط القواعد العسكرية، و التعامل مع الأحداث المفاجئة بطريقة انتحارية. ربما فسرت خطا، بأنها هروب من الواقع، بينما تكون الرفيقة في تلك الأثناء تخوض أسمى حالات التعبير عن رفاقيتها وشموخها) .
– أضف إلى ذلك يا رفيق دوغان أن (روزهات) أثناء الانسحاب فقد أخلاقه تماماً، و صار يوبخ الرفاق بكلمات لايتوقع صدورها من مناضل، و وجه الكثير من الكلمات النابية للرفيق (توفيق) على مسمع من الجميع، و لم يكتف بذلك بل عاد مرة أخرى في اجتماع البارحة، وجه الكلمات النابية أيضا للرفيق (سيبان) وللرفيق (معصوم) – الصغير – و (روبار) و (توفيق) و (جيهان) وطالبهم بإعداد تقريرهم النقد الذاتي .
– و (ماوا) ؟.
– إنها مجردة من السلاح ولا أدري ماذا ستكون نهايتها .. و (نوال) و (روزهات) كل واحد منهما يجر الرفاق إلى طرف.
. . . وأنت تعلم أن الرفيقة (جيهان) لم تكن تستطيع التدخل في شيء ولكن بعد مجـيء (نوال) أصبحت تستمد القوة منها، والرفيقات بشكل عام يلتففن من حولها وكانها أمهم أو كأن الرفيقات تنظيم آخر لا علاقة له بناء .
– يجب أن تأخذوا بعين الاعتبار أن منزلة الرفيقة في الحزب لاتعلوها منزلة وفي هذه الحالة لابد من وقوع التناقضات بينها وبين القيادة ولكن لكل مشكلة حلها . . طريقتك في معالجة الأمور يا ذوكان ستزيدها تعقيداً، و لابد أن نتساعد مع روزهات لعودة المياه إلى مجاريها، لا أن نلعب لعبة شد الحبل مع الرفيقات .
بعد ذلك قام (ذوكان)، ويبدو أنه انزعج من تعليقي على الأحداث وودعنا لننام وهو يقول: (إذا استمر الوضع كذلك فلن استمر . . . ) ! رجعت إلى الحديث مع شيار وهو يقول ضارباً احدى يديه على الأخرى .
– ماذا حدث في غيابنا ؟
– لننم الآن وفي الغد نعالج الأمر .
و هكذا استلقيت للنوم وأنا أقارن بين ما وقعنا فيه من المشاكل التي لا تكاد تذكر أمام ما جرى في غيابنا، وهكذا صرت أشعر بنشوة نجاح المهمة أكثر فأكثر، حيث لولا اقترابي الليبرالي لما حدث شيء ينغص روعة المهمة، ولكن لو مارست العقوبات على أسلوب (روزهات ) ربما تغير مجرى الأحداث، وكنت الآن في قفص الاتهام .
(و هكذا فان للحياة العسكرية قوانين إضافية، ليس من السهولة بمكان تذكرها في الوقت المناسب) .
لأن اللجوء إلى العقوبة، مثلما يدل على القوة، يدل في كثير من الأحوال على ضعف الإدارة . . ، والتعليمات العسكرية تكون مجرد كلمات في الهواء، عندما لايرافقها مراقبة عامة لخصائص القاعدة، وعندما تفقد الإدارة حاكميتها على القاعدة لايبقى شيء اسمه تنظيم .
16 آب 1996
في الصباح الباكر كان عريف الحرس يوقظ المجموعات، مبتدئاً بقادتهم وقد تردد في إيقاظي كما يبدو، مع أنني كنت مستيقظا، ولم يكن تردده احتراما بقدر ما كان تحسباً وخوفاً . . !
. . . وكلمة صباح الخير، عندما تخرج من فم عريف الحرس، وأنت في نومك العميق، تأتي على مسامعك وكأنها قذيفة، لما يترتب على سماعها من الإسراع في الانضمام للإجتماع والتعرض لصباح الزوزان القارص . . . وبالنسبة للقائد تكون الحالة أشد حرجا، بما يعنيه تلكؤه من تلكؤ عناصر مجموعته وميوعتهم .
و كم تكون هذه الكلمة ممتعة، عندما لا تكون أنت المراد بها . . أي في الساعات التي يقوم بها عريف الحرس بتبديل نوبات الحرس، عند ذلك تكون هذه الكلمة فاتحة للنوم الأكثر متعة وعمقاً .
استيقظت إذاً، وعلى الفور قمت بجمع حوائجي وحزمها في الحقيبة مسارعا لتفقد أوضاع المجموعات، حيث كانت معظم الأشياء مبعثرة . . . الصحون . . . الكاسات . . بقايا الطعام . . . الخ . بينما كان مسؤول التموين قد غطى مواد التموين بخرج البغال، وهو يصدر تعليماته للطباخين . . . اذبحوا المعزة الأخيرة وخلصونا منها .
رافقت عريف الحرس لايقاظ بقية المجموعات، ثم قصدت مجموعة (رورُهات) لأبحث معه حول تكميلات الصباح، وكان برنامج اليوم يتضمن متابعة ترجمة تعليمات القائد عن الرفيقة زيلان وعمليتها البطولية .
و حسب المقرر لم ننضم إلى التدريب – أنا وباقي رفاق المهمة – لأنه وفق قانون الأنصار، فإن اليوم الذي يلي الرجوع من تنفيذ المهمة يكون يوم راحة .
و كانت لحيتي قد طالت إلى درجة تحتاج إلى العناية في تنظيفها فقررت التخلص منها، ونزلت إلى الماء لغسل ملابسي وجواربي أيضاً .
بعد الظهر جاءت الرفيقة ( نوال) إلى مجموعتنا .
– كيف أنت يا دوغان ؟
– بخير وأتمنى أن تكون أمورك على ما يرام .
– شكرا . . . ما رأيك يا دوغان أن نتحدث اليوم عن قفزة ۱۵ / آب .
– هل تصدقين أني نسيت ذلك ؟ .
– إذن ستحدثنا اليوم عن هذه الذكرى المجيدة .
– لا يا رفيقة نوال، فأنت التي ستقومين باعطاء التدريب اليوم وبالتالي فيجب أن يكون الحديث لك .
– لا .. لا.. سوف ترى أنني سأرغمك على الحديث ..وسأقدمك إلى الرفاق شئت أم أبيت.
و بالفعل قامت الرفيقة نوال بتقديمي للحديث عن قفزة ۱۵ / آب، بينما كان المقاتلين والمقاتلات قد جلسوا على بقايا حجارة مرصوصة بارتفاع حوالي متر حول خيمة من خيم الكوجر، أيام لم يكن قد فرض الممنع لمجيئهم إلى هذه القمم مع قطعان الماشية..مهدمة من جهاتها الأربع . فكان مما قلته . . . ( البارحة عندما كنا في الطريق، كنا نستمع لأخبار الـ ( BBC ) فكان الكثير من المحللين والصحفيين يتحدثون عن قفزة 15 / آب.. وهم يقولون :
في البداية لم تكترث الحكومة التركية لهذه القفزة، ولكن هذه اللامبالاة أوصلت تركيا إلى هذه النهاية الوخيمة) .
نحن نعيش هذه الأيام أيها الرفاق والرفيقات، في ذكرى جديدة لهذه القفزة، التي يستعيد شعبنا ذكراها كل عام ، ويرى فيها مناسبة للتعبير عن تجدده وتمسكه بحقه .
و لكل من شعوب العالم أعياده وأتراحه، ولكل من هذه الشعوب أيام يعلن فيها بهجته وأيام يعلن فيها الحداد .
و هاتان الظاهرتان بالرغم من اختلاف مراسيمهما، يمثلان مصدر الحياة والاستمرار بالنسبة لكل شعب.
و لأن الشعب الكردي ومنذ تاريخ طويل، لم تحتفظ ذاكرته إلا بالجانب المأساوي من حياة الشعوب، فإن هذه الذكرى تعتبر بمثابة الخلق لمكونات الأمة الكردية، فقد أصبح لها يوم مقدس . . . فرحة في القلوب . . . وأحلام في العيون . . . وسيف قاطع في أكف الشعب.
لذلك فان الحديث عن هذه الذكرى ، ليس حديثا عن ذكرى عابرة .
و صورة الرفيق القائد الميداني عكَيد(41) التي أعلنت كرمز لهذا اليوم، ليست صورة
بطل من الأبطال فحسب، وإنما هي صورة هذا العمق الثوري الذي جسدته قفزة ۱۵ / آب، وقد شهدت السنوات التي تلت هذه القفزة، أن كل عام تطويه يعتبر معلماً من معالمها، وتعبيراً جديداً على سوية ثوريتها وشموليتها. حيث بدا واضحاً في الأعوام الأخيرة، ما تنزع إليه من الإنسانية المشرفة، وأنها ليست مجرد حركة تحرير وطنية .
و بدا ( PKK ) في نهجه الإنساني المتصاعد في وجه انهيار الاشتراكية المشيدة، مستقبلا لرهان الشعوب المقهورة.
لقد خصصت الكثير من الدراسات من قبل مراكز علمية وجهات مختلفة للتدقيق والبحث في جذور هذه القفزة.
لماذا؟
لأنهم يلاحظون الانهيار في كل مكان أمام المد الرأسمالي الزائف، حيث استطاعت الرأسمالية، أن تجد لنفسها موطئ قدم في كل مكان، باستثناء ساحة هذه القفزة، التي لم تجن منها إلا الخسارة والدمار، بل لم يكن تدخلها فيها إلا تأجيجاً لتصاعد حركة الثورة وتوسعها، الذي انفجر أخيراً في صورة قفزة ۱۵ / آب بقيادة الرفيق (عكَيد) .
هذه القفزة الخالدة، صنعها فقط عشرات من المقاتلين الأنصار، ولعلكم أنتم المحتفلين في هذه الذكرى، في هذه النقطة المنسية من الأرض، عددكم أكثر بكثير من عدد المقاتلين الذين أنجزوا هذه الحملة . . . فلندع كل شيء جانبا ولنتفكر في هذه النقطة بالذات . تعالوا نقارن بين عدد مقاتلي تلك الحملة وعددنا في هذه السرية، بين أسلحتهم البدائية وأسلحتكم المتطورة . . . ، بين دورات التدريب التي تلقوها، ودورات التدريب التي تتلقونها باستمرار . . . بين موقف العالم من القضية الكردية قبل القفزة، وموقف العالم اليوم . . . بين إمكانيات الحزب في تلك الفترة وإمكانياته اليوم .
حتى المقاتل الأقل خيرة بيننا .. أيها الرفاق ..يستطيع أن يجري هذه المقارنة وأن يحكم على نفسه بناء عليها، وهذه المقارنة أيها الرفاق عندما تطلب من القروي، تختلف عنها عندما تطلب ممن يرفع رايتها ويحمل سلاحها ويردد شعاراتها.
إحياء هذه الذكرى لايكون بالقاء كلمة، وتنظيم حفلة ولا التعبير عن ذلك بتنفيذ العمليات الصغيرة كعمليات البارحة.
نعم.. تلك إحدى صور هذه الذكرى، و لكن الأهم أن يجسد كل واحد منا روح قفزة ۱۵ / آب، وبطولة الرفيق عكَيد ورفاقه الذين ضحوا بكل شيء في سبيل هذه القفزة .
في مثل هذا اليوم من كل عام، على كل مقاتل أن يراجع ذاته ويجري مقارنة عميقة ما بين أوضاعه و أوضاع أبطال القفزة . . . أن يعيد القسم والعهد والقرار للانضمام مجدداً.
إنه يوم واحد . . لكنه بالنسبة للمقاتلين، يجب أن يكون كل يوم، وليس أن ننتظر 15 / آب من العام المقبل لنعبر عن اخلاصنا .
ثم أعطيت حق التحدث للقاعدة، ليشارك المقاتلين والمقاتلات بالحديث وسرعان ما تلاشت كلماتي وتحول الاجتماع إلى حفلة وغمرتنا أجواء المرح بالتدريج، بين الأغاني والدبكات والقصائد الشعرية المتنوعة التي ألقاها المقاتلين والمقاتلات مما يطول ذكره.
و تخلل برنامج الحفلة أن يقوم كل مقاتل بدوره في الحديث عن أغرب حدث عاشه في هذه الجبال .
بعد انتهاء الحفلة وصل الرفيق روزهات من المرصد، حيث كان الضابط المناوب هذا اليوم وقال: هناك حملة تمشيط فيما يبدو، فقد أبلغنا المقر أن هناك حشودات على الحدود، ما بين تشقورجة و أرتوش، في الخط المقابل لنا تماماً، ولم يعرف حتى الآن الهدف والظاهر أنهم يقصدوننا بالذات، لأنهم قاموا باغلاق الحدود بداية من هكاري، وقاموا بالانزال في المرتفعات الاستراتيجية، وقد جاءت تعليمات الرفيق (باهوز) بأن ننسحب إلى مقر (دوغان)، قال ذلك وهو يضحك، وينظر إلى ويسألني: أين مقرك يا دوغان ؟ . . لعله يريد طرف (أورامار) .. وهكذا اتفقنا أن نقوم بالانسحاب إلى طرف (أورامار) في حال وقوع التمشيط، وهنا تدخلت الرفيقة جيهان بقولها: ولكن ماذا سنفعل الآن ؟ – لنذهب إلى نقطة الفرز حول (دشتا خانى) وعند حدوث أي شيء نكون هناك فوق (أورامار) فننزل مباشرة. أجاب توفيق: هذا ما يجب فعله . . . وأكدت ذلك أيضاً الرفيقة (نوال) . – ولكن يجب أن نقوم بتحضيرات التموين اللازمة ، من الآن .
وهكذا أرسلنا فصيل التموين لجلب المواد اللازمة على أن نجتمع في الصباح لدراسة التحرك.

17 / آب 1996
في الصباح وبعد التكميل الصباحي، التأم اجتماع أعضاء الإدارة، فأخرجت دفتري وكتبت في أعلى الصفحة .
اجتماع الإدارة 17 آب 1996
و بعد قراءة كل من الرفيق ( توفيق والرفيقة (جيهان) تقريرهما النقد الذاتي، بدأ النقاش حول تفاصيل التقريرين، وكثر الرد والجدل، وانتهى ذلك بقبولهما مجدداً في أعضاء الإدارة(42).
و بدأت الرفيقة ( نوال هذه المرة، تلف وتدور.. حيث قالت: إن الرفيق دوغان عندما ذهب إلى المهمة، أخذ الرفيق (شيار) بدون إذن قائد السرية، وكان عليه أيضاً أن يتقدم بنتائج العملية إلى قائد السرية.. لا إلى المركز مباشرة، وكررت أن الرفيق (دوغان) لايسهم بكل امكانياته في الواقع العملي .
فأجبتها بأن أخذ الرفيق (شيار) كان بدلاً من اعتراض الرفيق (بوطان) على الذهاب، وعدم تدخل قائد السرية في البت بهذا الموضوع، وأما تكميلات العملية، فقد رفعتها إلى المقر عندما تعذر الاتصال بكم، وماذا يقدم أو يؤخر أن أقوم أنا أو أنت بذلك .
و أما مسألة التدخل في واقع السرية العملي، فأنا مجبر أن أمارس الاقتراب بصورة جماعية، وأن أتجنب الممارسات الفردية قدر الإمكان. وبدت لي الرفيقة (نوال) وكأنها نادمة على توجيه هذه الانتقادات إلي وأنها لم تكن في الواقع تقول ذلك من تلقاء نفسها ، لذلك لم أتوقف كثيرا على هذا الأمر .
ثم تم التوقف على اجتماع السرية العام، الذي انعقد واتخاذ قرار بتقديم تقرير نقد ذاتي باسم الادارة، وتكليف الرفيقة (نوال) و ( توفيق ) بكتابته.
و أما نتيجة الاستطلاعات الصباحية، فقد أسفرت عن عدم وجود تطورات جديدة ولذلك اتخذ القرار بالاستعداد للتحرك وعدم المباشرة به حتى إشعار آخر .
18 آب 1996
بزغت الشمس والنفسية التي نحن فيها مع بزوغ الشمس طافحة بالتساؤلات، عن ماذا سينكشف هذا الظلام ؟ . . .
هل ستكون التحشدات من حولنا . . . هل سيكون هذا الصباح هو الصباح الأخير ؟ هل من تحركات باتجاه نقطتنا أو الطرق المؤدية إليها. هل من إنزالات على القمم المجاورة؟
و لكن نتيجة الكشف التي تقدم بها المرصدان، لم تسفر عن وجود أي شيء . . . الوضع على ما يرام .. هكذا الوضع أيضاً بالنسبة للسرية الثانية – سرية الرفيق محمود- .
(تجاوزت عقارب الساعة العاشرة صباحاً وأنا على ذروة (جيلا دوكوه). حيث أنا الضابط المناوب هذا اليوم، وقد أصبحت مسألة الوصول إلى ذروة (جيلا دو كوه) بالنسبة لي، كالوصول إلى قمة هيملايا . . . أدور من حولها و أبحث عن الطريق إلى تلك الذورة. حيث تلتقي الذروتان البارزتان، وما بينهما صخور متشققة، يستمر سقوط أجزاء منها على مر السنين.
على أعلى نقطة من أحد الذروتين، وفي أحد خنادق جنود العدو، المبنية بالحجارة، قعدت أراقب المنطقة. حيث أخذت بعين الاعتبار أن تكون المنطقة معرضة لاشعة الشمس من جهة، وحاجية لهواء الزوزان القارص في مثل تلك القمة.
و كالعادة، تنشط غريزة التشوف، عند تسلق مثل تلك القمة، حيث تلف وتدور بصورة مستمرة، والزرقة التي تلف السماء تمتزج من بعيد بخضرة المروج، التي ترتديها مرتفعات الزوزان، وجهاز اللاسلكي بصورة أوتوماتيكية، يتوقف على الأقنية التي تجري عليها المكالمات . . . وباتجاه الجنوب، بدأ يعلو دوي الانفجارات والاشتباكات، حيث قمت باستطلاع ذلك بالمنظار، متفقدا القسم الجنوبي من مرتفعات الزاب، وكانت السنة الدخان تتصاعد من جبل جكيل الأسود، ويبدو أن التمشيط نحو الحدود، ولكن هناك احتمالاً أن يكون ذلك تكتيكا أيضاً وأنهم يقومون بالتظاهر، بأنهم يتجهون نحو الحدود. بينما هم يلتفون من ورائنا .
وهكذا قضيت معظم ساعات النهار تحت الشمس الدافئة، إلى أن اتصلوا بي من النقطة لأعود، ولكن بدون حدوث أي تطورات.
و لفت نظري مباشرة، أن جعبة الرفيق ناصر لاتزال موجودة في مكان مجموعته، مع أنه ضمن مجموعة (دجوار)، التي أرسلناها في مهمة الكشف، ومباشرة اتصلت مع(دجوار) وسألته عن ذلك، فقال: إن الرفيق (ناصر) – وهو مساعد قائد المجموعة. تحجج بالمرض عن عدم حمله لجعبته، فقلت له: أي مرض هذا . . . ؟ ، إنها والله أول مرة أسمع بمثل هذه النكتة، تقول هناك احتمال وقوع تمشيطات ويذهب بلا جعبة، سوف يجرد من المهمة لمدة أسبوع فبلغه ذلك.
و في المساء أثناء مخابرة المقر، كان دوي الانفجارات وكأنها تقع بالقرب منا، و أفادنا المقر بان ذلك كان نتيجة عملية الرفاق في (تشقورجة)، حيث قاموا بنصب كمين أسفر عن تفجير أربع سيارات عسكرية، وتعطل أكثر من عشر حاملات أيضاً. حيث شبت النيران في أطرافها، وأسفر الانفجار عن مقتل ثلاثين جنديا من جنود العدو، ماعدا الجرحى. بينما جرح لنا رفيق واستشهد آخر والآخرون انسحبوا بسلام .
كانت أرتال الكوبرا، حسب نظامها الثنائي، تقوم بقصف شامل لمنطقة الكمين من كل الأطراف، مع استمرار القصف المدفعي، حتى بعد غروب الشمس، وهكذا توضحت نتيجة التحشد، وهذا يعني كسبنا للوقت، وكان الهدف من التمشيط بكل تأكيد هو الخوف، من قفزة 15 / آب، تحسباً لعمليات كبيرة على تلك الثكنات الحدودية. لذلك اتصلنا مباشرة مع ( دجوار ) ليعود بمجموعته إلى النقطة، حيث تقرر تنفيذ عملية جديدة .
19 آب 1996
حوالي العاشرة صباحا، وصلت مجموعة (دجوار)، وتجمعت الإدارة وقادة المجموعات لتوزيع المهام، حسب مخطط العملية الجديدة، ولكن أصر (روزهات) على استبعادي هذه المرة، وأن أبقى التسيير أمور النقطة، ولم يعد هناك مجال للتخمين في حسابات (روزهات) القروية وللأسف.
و قد أفصح لي بعض المقاتلين الصغار، عن نية (روزهات) قبل انعقاد الاجتماع، مما يدل أن هذه الانطباعات أسست ما يشبه ثقافة في ذهنية القاعدة، فهي تراهن على قرارات الإدارة، قبل الشروع بها وكانها تنطلق من ثوابت هابطة .
و في هذه الأجواء، تشيع مصطلحات غريبة وربما تكون بمثابة الألغاز، عندما تستحضر الرفاقية من ذلك مصطلح (أخبار باب الصاجة) وباب الصاجة، هنا هو المقاتلين المكلف باعداد الخبز . . . و لاهتمامه الزائد بالأرغفة التي يقدمها للإدارة، فانه لابد أن يتحسس الأخبار، ويسترق السمع، وبالتالي فان أخبار (باب الصاجة) تكون بمثابة تصريحات (الباب العالي في الدولة العثمانية، وهكذا عند كل صباح، وبعد عودة مناوب المهجع من تفقد المطبخ، يتحلق حوله المقاتلين قائلين – بشيء من المزاح – ما هي أخبار (باب الصاجة) . . . ؟ وهو يجيبهم على التو : فلان سيذهب إلى المنطقة الفلانية . . . فلان سيجرد من مهمته . . . وفلان سيحل محل فلان . . . الخ .
ولكن (باب الصاجة) يلعب دوره أيضاً، في مثل هذه الأوضاع بطمأنة الكثير من العناصر حول الترتيبات الجديدة .

رقصة السماح
بعد الظهر، جمع الضابط المناوب السرية، وبدأت بقراءة التوزيعات الجديدة. بينما الكل في لهفة، لمعرفة مكانه من المهمة، وقبل قراءة التوزيعات، مهدت بكلمة موجزة فقلت: (أيها الرفاق والرفيقات..تعلمون جميعاً ومسبقا أيضاً، أنه لاحاجة للمزيد من الايضاحات، فأمامنا عملية، سننفذها كرد على تمشيطات ( تشقورجة)، وبالنسبة لفرز العناصر، لاداعى كذلك للكثير من التعليق عليها، ولردود الفعل ممن لن يشارك في المهمة فكافة المهام في حياتنا هي جزء من عملية الثورة، ولا يعني عدم مشاركة البعض في هذه المهمة، أنه غير لائق للمشاركة فيها، وطبيعي أنه ليس من حق كل مقاتل أن يشارك في كافة المهام، وربما يتكرر انضمام البعض منهم إلى مهام متتالية، وربما يتكرر عكس ذلك، ولكن المهم أن نبتعد عن الحسابات القروية البسيطة، في النظر إلى هذه الحالة .
لذلك سيبقى قسم من العناصر معي هنا، وسيتحرك الآخرون، ولكن قبل قراءة الأسماء، يمكن للمرضى أو الذين لا يجدون أنفسهم على جاهزية كاملة للمشاركة، أن يرفعوا أيديهم .. ( بالطبع لم يرفع أحد يده . . ! ) هذا يعني أنكم جميعا جاهزون ؟ـ
– الجميع : نعم . . . نعم .
بدأت بقراءة أسماء المجموعات، وكالعادة، نبدأ بقراءة أسماء مجموعة الهجوم، ولكنني غيرت هذه العادة، لأبدأ بقراءة أسماء فصيل التموين ! ..ثم مجموعة الحماية، ثم مجموعة الخط الثاني، ثم مجموعة الهجوم، ورأيت من الأنسب أن أفعل ذلك، حتى لايستسلم المقاتلين للأمل البارد منذ أول لحظة .
و لتكن لك من العبقرية ماشاء لك أن تكون، فلن تستطيع تحوير ما ترسخ في نفوس الأنصار، من النظر بعين الحسد إلى مجموعة الهجوم . . . وهكذا نهضت مجموعات العملية للاصطفاف، حسب التوزيع الجديد، بينما بقي الآخرون في أماكنهم، ورؤوسهم مطرقة إلى الأرض، ومن حين لآخر يرمونني بنظرات الأسى والحزن، وكأنني أنا سبب بليتهم هذه، ناسين أنني أيضاً سأبقى معهم، وفي هذه الحالة لا تعرف بمن ستبدأ بالمواساة، مع أنك أيضاً بحاجة لمن يواسيك .
فاتجهت إلى مجموعات المهمة، ودعوتهم للقيام بالدبكة مع بقية العناصر، وهكذا تعالت الهتافات وتشابكت الأيدي وتوحدت الأكتاف وبدأت الأغاني الثورية شيئاً فشيئاً تضفي روح الرفاقية على مجموعة النقطة المقاتلين والمقاتلات، كانوا وكأنهم جسد واحد في هذه الدبكة، حيث لم يبق أحد من السرية إلا وانضم إليها، وهكذا استمر تبادل الأماكن فيها بطريقة متدرجة، منذ أول الحلقة إلى آخرها. حيث يكون المقاتل بذلك قد شد بيده على أيدي كل المقاتلين والمقاتلات . . . ومن يدري، مَن ستكون هذه الرقصة بالنسبة له رقصة الموت . . . ؟ لذلك تعتبر هذه الرقصة بمثابة إعلان أبدي للمحبة والسماح، يفرغ في حركاتها المقاتل كل ما بوسعه من التعبير، عن محبة الوطن وترابه الغالي، وهو يملاً عينه من النظر إلى وجوه رفاقه ورفيقاته، وكل واحد يفترض أن تكون تلك النظرات هي نظراته الأخيرة إلى وجوه رفاقه .
أثناء الدبكة، أخرج أحد المقاتلين آلة تصوير، ليأخذ الصور التذكارية لزملاءة قبل المهمة، وكل واحد منا يراقب من حوله، وكأننا جميعا التقينا لأول مرة ونريد أن نرسم صورة كل واحد في مخيلتنا .
و لهذه الصور وقعها العميق في صفوف الأنصار، خاصة في نفوس عناصر المجموعة بالذات . . ، وتعتبر تلك اللحظات، هي أجمل لحظات الأنصار . . . ومهما فتشت في فصول الانسانية، فلن تري لحظة توازيها في النقاء والصفاء والبراءة .. لحظات لاتتحدث فيها غير الأرواح وكأنها في جلالها.. تلك اللحظات التي تعقب ضربات القاضي بمطرقته على منصة الحكم بالنسبة للمتهم، حيث ستخرج من فم القاضي كلمات تضع النهاية، إما للحياة وإما للاعتداء عليها .
وهكذا تحتار، عند أخذ مثل تلك الصور، مع أيهما ستقف وأيهما ستكون هذه الصور بالنسبة له بمثابة الوداع .
من يدري ؟ ! . . إنها قوانين الحرب التي لاترحم، والخيط الرفيع الذي يفصل بين الحياة والموت، ومادمنا سنذهب لابادة العدو، فهو أيضا سيقوم بالعكس.. وهل سيقف مكتوف الأيدي مع ما يمتلكه من أسلحة الدمار الشامل؟! .
و قد اعتاد بعض المقاتلين أيضاً في تلك اللحظات، على كتابة الرسائل لأهليهم، أو تسجيل بعض المكالمات إن أمكن، للتنظيم وزملاءة .
بينما كانت الرفيقة جيمن تغني(43)، والرفيقة ميديا تحمل لها آلة التسجيل الصغيرة، تقربها إلى فمها، وقد لفت نظري كثرة ضحكها المتفجر من حين لآخر أثناء غنائها .. وبعد أن فرغت من أغنياتها بدأت تتحدث للرفيقة ( ميديا) على شكل إرشادات .
و من ثم ترادفت المجموعات لاستلام الذخيرة اللازمة، والحاجيات الضرورية من الرفيق ( قنديل)، الذي بدأ يوزع عليهم مخصصات التموين .
و بدأت المجموعات تتحرك، صفاً من بعد صف، وكالعادة تتعالى في تلك اللحظات الشعارات من الطرفين ( عاش آبو ) عاش ( ARGK ) عاش ( PKK ) عاشت كردستان حرة.
و هكذا وقفنا نرمقهم، حتى غابوا عن الأنظار، ومن حين لآخر، يلتفت الواحد منهم وهو يلوح لنا بكلتا يديه، ومهما كان بينك وبين الرفيق من الحزازات، فان تلك اللحظة تجعلك تشعر أنه واحد من أغلى الرفاق .
كان فصيل التموين في تلك الأثناء، يقوم باعداد الخبز.. حيث يقوم أحد المقاتلين، بالقاء أكوام القش والأعشاب الشوكية إلى النار، وأرغفة الخبز الطازج تكتظ على الصاجة) التي بدت وكأنها أرغفة فرن حقيقي، ولاسيما أن الخبازيين يقومون بدهن
القسم العلوي منها، بمزيج من الخميرة والسكر والسمن والماء، ويقومون بتعريضه أيضا للنار من حين لآخر، وسرعان ما ينتفخ ويصبح لونه وردياً. بعد ذلك قمنا بتغيير النقطة إلى الجهة الجنوبية اسفل جيلا دو كوه، فعددنا أصبح قليلاً، ويمكن التعسكر عند مصب الماء في وادي صغير متعرج، حيث تكون الحراسة هناك أفضل .

20 – 21 آب 1996
التقويم يشير إلى الواحد والعشرين من شهر آب.
و البارحة نزل المقاتلين إلى وادي فالتو (Valto)، الوادي المعروف بما له من الشهرة عند المقاتلين، حيث يسمونه وادي جهنم، وهو واد سحيق، و النزول إليه ليس فقط مشكلة، بل واحدة من أعقد المشاكل، حيث يمتد ويمتد ولوعورة الطريق فيه، أضطررنا أن تبقى مجموعة التموين وبغالهم إلى النهار، حيث سيرافقهم أيضا الرفيق الطبيب ومجموعته، وليس من الممكن سير البغال في هذه المنحدرات والطرق الجبلية الوعرة ليلا.
و هكذا وصلوا عند غروب الشمس، كما عرفنا من المقاتلين، لم يستطع أحد البغال متابعة الطريق، فجردوه من حمله وربطوه في أحد المنحدرات بجانب الطريق .
و كما عرفنا، هذه الليلة لن يبدأوا بتنفيذ العملية، لأنهم سيرسلون مجموعة الكشف مرة أخرى، هذه المرة سيشترك في الكشف قادة المجموعات والأجنحة، لكي يتعرف كل واحد على هدفه وطريقه، ويجب أن يأخذوا أماكنهم الليلة. حيث ستلتحق بهم في مساء الغد، بعد غروب الشمس بقية المقاتلين، ومن هناك ستتحرك كل مجموعة باتجاه هدفها.
صعدت إلى قمة مرتفع، يمكنني من مراقبة سلسلة جيلا دوكوه مقابل مرتفعات ساموراء، ذات الصخور الرمادية والقمم البارزة، وقمت برصد المرتفعات الاستراتيجية، التي يجب أن تتمركز فيها كحماية لانها تطل على وادي (فالتو) تماما .
في تلك الأثناء تم الاتصال مع المقر، وكان المتحدث هذه المرة (باهوز) .
– دوغان .
– تحياتي واحتراماتي .
– تحياتي واحتراماتي . .. كيف الأوضاع عندكم؟ .
– على ما يرام .
– أين روزهات ؟
– في مهمة .
– أي مهمة ؟
– مثل مهمتنا قبل أيام .
– هل أسفرت عن نتائج حتى الآن ؟ .
– كما فهمت.. يبدو النتيجة هذه المرة أكيدة.
– متى عدت من مهمتك؟ .
– قبل يومين .
– كيف كانت النتيجة ؟ . . . . وقد سمعنا بعملية أخرى في هكاري أيضاً هل أنتم منفذوها؟ .
– لا، نحن نفذنا عملية الجسر فقط .
– من هم مشاركي تنفيذ العملية ؟
– (دجوار ، شيار ، كمال ، ريبر ، قورتاي) .
– هل أوضاع السرية كما كانت على حالها أم تحسنت ؟ .
– بعد عودتي كانوا قد عقدوا اجتماعاً عاماً للسرية، وقعت فيه مشاكل كثيرة ، أسفرت عن تجريد بعض العناصر من مهامهم .
– إذن تدهورت الأمور ؟ .
– هكذا يبدو ، وهل سيطول غيابك عن السرية ؟
– لا.
سوف التحق بكم بعد أيام ، ولكن اتصل بنا بشكل مستمر .
– هل هناك أشياء أخرى ؟
– لا .
– تحياتي واحتراماتي .
– تحياتي واحتراماتي حضرة الرفيق .
و هكذا عدت مرة أخرى لمراقبة أوضاع المنطقة وهدير الحوامات يرتفع من جهة كري بدانيي ( قمة بدانه ) مع دوي الانفجارات .
ثم قعدت أتذكر ما قالته الرفيقة (نوال) قبل التحرك حيث اقتربت مني وأخذتني جانباً وقالت :
– هل عرفت لماذا أصر على المشاركة في العملية ؟ . أنا لا أذهب من أجل العملية ولكن من أجل الرفيقات .
– لماذا من أجل الرفيقات وما بالهن ؟
– يا رفيق دوغان يجب حساب كل شيء.. فالظاهر أننا لا نزال على الفطرة .
– لماذا ؟
– هل نسيت ماذا حدث عندما قرأت توزيع الرفيقات .
– ذكريني .
– ألم يستوقفك إصرار روزهات أن تكون (ميديا) ضمن مجموعته.
– نعم وقد استغربت ذلك .
– إن (ميديا) يا رفيق دوغان نستطيع أن نسميها العروس .
– لماذا العروس ؟
– ألا تتذكر كيف كانت علاقة بوطان بالرفيق روزهات؟ .
– كانت على أحسن ما يرام .
– و لكنهما اليوم يتبادلان نظرات الكراهية .
– لماذا ؟
– ألا ترى بوطان ؟ . . قد وصل إلى درجة الذهول من عشق (ميديا) .
– ما هذا يا رفيقة ؟ . . وماذا تريدين أن تقولي ؟
– الأمور واضحة، الرفيق روزهات يغار على ميديا من بوطان .
– أنت تعرفين مستوى المقاتل بوطان، إنه لا يزال في طوق المراهقة، ويجب أن ننظر إليه وفق هذا الواقع، وأنا أعتقد أنه بمجرد سماع كلمتين سيبكي، ولكن المشكلة مشكلة (روزهات) .
– نعم يا رفيق (دوغان) وأنا المسؤولة هنا عن حدوث أي مشكلة للرفيقات .
– ولكن لم يصل الأمر إلى أن يصبح مشكلة كما أرى، وهذه أمور طبيعية، ويجب الاعتراف بأنه ليست الجريمة أن ينظر مقاتل إلى مقاتلة ما بشيء من التمييز، لأن هذه الأمور خارجة عن قدرة البشر ولكن الجريمة أن يستجيب المقاتل والمقاتلة لتلك الأحاسيس ، وهم يمثلون شرف الثورة .
– نعم يا (دوغان) والرفيقة (ميديا) رفيقة بريئة أكثر مما تتصور.. وربما تكون لديك انطباعات أخرى عنها، ولكنني كمسؤولة عنها أعرف الكثير مما لا تعرفه أنت .
– كلامك أصبح متناقضاً، فالبارحة كنت تحمّسينني لأكون أكثر تعاوناً مع الرفيق (روزهات )، واليوم تقولين هذا الكلام .
– هذه مسألة وتلك مسألة أخرى .. ويجب ألا نخلط بين الأمور .
(هكذا كنت أتذكر هذا الحوار الذي دار بيني وبين نوال قبل تحركهم، ثم نهضت معتمداً على قدمي لأعود أدراجي).
هذان القدمان عبدان مطيعان، و حمّالان نشيطان.
صحيح أنهما لا يران ولا يسععان، ولكنهما مطمئنان أن هناك من يسمع بدلاً منهما، ويرى، وهما ينقلانه إلى حيث يريد، ويأتمران بكل أوامره، وكل ما يرمي على الأكتاف، وكل ما تقوم بحمله الأيدي، يعود الفضل في الدرجة الأولى إليهما .
آه أيتها القدمان المنهكتان – لو كنتما من الفولاذ لتفتتّما على هذه الصخور، ولذبتما في هذه الوديان والجبال.
مضت سبع سنوات، بل أكثر من ذلك وأنا أجوب بكما هذه المرتفعات والمنحدرات الوعرة، وما زلتما تقومان بمهامكما على أكمل وجه.
إنكما لا تستحقان المكافأة بعد كل هذه المسيرات .
بل تستحقان أن ينظر إليكما بإجلال .
كم أنا مدين لكما أيتها القدمان المنهكتان .
و صلت إلى النقطة، حيث كان العناصر كل منهم متمدد على المرج في مكان تحت دفء شمس الأصيل.
جلست مع الرفيق ( توفيق )، فبدأ يفضي إلى بهمومه، خاصة مشكلته مع الرفيقات . حيث كان قد أعلن مقاطعتهن، لأن أساس المشكلة التي سببت تجريد الرفيقة (ماوا)، أن الرفيقة ( جيهان ) كانت تظن أنها هي التي ستقوم بقيادة العملية .
و عندما اختاروا الرفيق ( توفيق )، امتنعت (جيهان) عن إعطائه جهازها اللاسلكي، ووقع بينهما سوء تفاهم. قال أثناءه الرفيق (توفيق): (والله لن آخذ معي ولا رفيقة). كان هذا في الحقيقة بمثابة المحرض لما فعلته (ماوا) .
– احتراماتي رفيق (توفيق) .
– احتراماتي وتحياتي.
– أراك مهموما يا . .
– نعم إنهن لا يعرفن حدودهن ولا يتقبلن التعليمات ويفعلن ما يحلو لهن .
– كلامك غير صحيح يا توفيق . . . فأنت تعلم أن للـ ( YAJK ) أنظمته الخاصة .
– كيف خاصة ؟ هذه أول مرة أسمع مثل هذا الكلام .
– لا شك أنهن لسنا في سوية واحدة من الرفاقية، ولكن التعامل معهن يجب أن يكون ضمن ثوابت عسكرية، وقد ارتكبت أول الأمر خطأ بالتدخل في أمورهن. ثم ترتكب الآن خطأ آخر في مقاطعتهن وهذا يعني أنك أيضاً تتصرف بمزاجية وليس برفاقية، مع أنك قيادي ولست كأي مقاتل آخر .
– و لكن يا رفيق إنهن ينظرن إلينا باستصغار وكأننا نخاف منهن .
– المسألة ليس مسألة خوف وغرور، وتصرف الرفيقة (ماوا) لا يعبر عن أي منهما . . المسألة مجرد رد فعل، بعدما تسببت بمجيء الحوامات والحمد لله الذي انتهت الأمور بهذه الصورة . .
– و لكن كل الكلمات التي وجهها لي الرفيق روزهات كانت بسببهن .
– يجب أن لا تنسى أيضاً يا رفيق (توفيق).. رد الفعل التاريخي للمرأة كإمرأة والانسان بفطرته يدافع عما يلصق به.. بالدخول بالكثير من التناقضات .
كما يقول المثل: (في الخمرة يبحث الجبان عن الشجاعة والخجول عن الجرأة والشقي عن النعيم) مع أنها قدح واحد .
هناك الكثير من خصائص الجسارة التي تتمتع بها المقاتلات، ربما لا تخطر لنا على بال.. والرسمية التي فرضها الحزب على علاقتنا بالمقاتلات، يجب الحفاظ عليها بشتى الوسائل.. وإلا فلن يبقي لا جيش ولا حزب ولا تنظيم .
ثم ألم تقرأ مقدمة لجنة التحقيق في تقرير الرفيقة (نوال) حول مكانة الرفيقات في صفوف الأنصار؟، فهن البعد الانساني للثورة.. ولولاهن لتحولنا إلى مجرد عصاة وقطاع طرق، بوجودهن في صفوفنا تتكامل أبعاد الثورة. الحزب غير مستعد للتخلي عن الوضع الاجتماعي السليم في بناء الشخصية، وعلاقات الجنسين ليست فقط ضمن إطار الغرائز.
هناك الكثير من الروابط الانسانية تتحقق بتعاون الجنسين . . . . إنهن راهبات الثورة وهذه الجبال هي أديرتهن .
في تلك الأثناء جاء أحد المقاتلين يدعونا للغداء.. الترشوك المقلي برب البندورة، بينما قرص الشمس بدأ يحتجب و العناصر حلقات غير متكافئة في العدد حسب أحجام الصحون .
22 آب 1996
الهواء يميل إلى البرودة، يوماً وراء يوم، في الصباح تتشكل طبقة بيضاء، من تجمد الندى على المروج وعلى المشمعات التي يلتحف بها المقاتلين .
و لكن مع ارتفاع دائرة الشمس سرعان ما ينشر الدفء.
اليوم يجب أن نتحرك إلى أخذ أماكننا كحماية الآخرين، لأن العملية يجب أن تنفذ الليلة .
و هكذا بدأنا التحرك بعد الظهر، ولكن البغل المريض لا يزال كما هو، مما اضطرنا لحمل أحماله فوق أحمالنا . . . ! وإنزاله إلى فوهة بركان كمأمن له، لحظنا النقطة التي نقصدها ليست بعيدة .
( و فاجأنا وجود الـ ـ ( DDT ) (44) في حمولة البغل، وكان المقاتلين يرونه في المنام، لما يفعل القمل في أجسادهم، بعد هذه المدة الطويلة هنا) .
لذلك قمت مباشرة بتوزيع بعضهاً عليهم.
و قد شاع تسمية القمل في صفوف المقاتلين بـ حماة القرى – جتى ( Çete)، لأنها أثناء الفعاليات والتحركات المتلاحقة، يقل وجودها، ولكن في أيام الشتاء والتمركز الطويل، فلولا هذا المبيد لقتلتنا نهشاً وغليانا .
و أما تأثيراتها على النواحي النفسية، فلا تكاد تطاق، فهي مزعجة ومقرفة إلى درجة تجعل المرء يكره نفسه.
هذا عدا ما تسببه من الخمول والانحطاط في الجسم إلى درجة الدوار .
(بصورة غير منتظمة بدأنا التوجه إلى الجهة الجنوبية الغربية من جيلا دوكوه، و في المنفذ المطل إلى وادي فالتو، وبين أماكن مضارب الكوجر الراحلة، قررنا التوقف حتى ساعة متأخرة من الليل) .
و لكن الليل بالقرب من مراكز العدو، لا تمر دقيقة منه بلاسماع دوي الانفجارات من مختلف الجهات .
و أردنا أن نأخذ غفوة في تلك الساعة، ولكن سرعان ما أيقظنا الحرس وهو يقول: بدأت العملية . . . بدأت العملية .
سارعنا إلى اتخاذ مواقعنا، بينما شريط الطلقات يتداخل من الطرفين، وكأنها أنجم تتصاعد على صورة حبات مسبحة، لتنطفئ بذلك الترتيب، واحدة بعد أخرى، ولا تسمع إلا صوت الانفجارات من مختلف الأسلحة الثقيلة، مع ما ترسله من ومضات الإنارات الفجائية.
من حين الأخر وكأنها بروق و رعود . . . إنه شتاء الحرب .
(و في تلك الأثناء يكثر العدو من إطلاق القنابل المضيئة، التي تستمر عدة دقائق في السماء، كأنها مصابيح معلقة تنير كل شيء حولها، بينما شريط الطلقات متواصل في تصادمه، وإن تقطع أحياناً فذلك لوجود الطلقات العادية مع الخطاطة .
كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة والنصف، وتجاوزت الساعة الواحدة والنصف، والعملية لا تزال مستمرة، ولكنها كانت في النصف ساعة الأخير من طرف العدو فقط، ثم توقف إطلاق النار بعد مدة نصف ساعة تقريباً، لتبدأ جولة جديدة وأسلحة جديدة . . . . وذلك واضح بقياس مدى الطلقات الخطاطة، فهي هذه المرة أكثر ارتفاعاً وأكبر حجماً وأشد سرعة وأبعد مدى. هذا يعني أن مركز هكاري قد انضم المواجهة قواتنا، إنها أسلحة المصفحات ورشاشاتها الثقيلة) .
حاولنا الاتصال مع الرفاق ولكن بدون جدوى، لقد أنجزت العملية كما يبدو، وبقي الجزء المهم منها وهو الانسحاب السليم. كيف سيكون صباح هذه الليلة وهل يسكت العدو عن هذه العملية ؟ .
و تحت ضغط هذه النفسية، نظمت أمور العناصر للاستفاد من الوقت، ولا بد من أن يناموا . . . . ولو ساعتين لكل واحد، ليتمكنوا من المواظبة على المسير في الغد .
و هكذا أصبحنا مثل البطاريات التي يلزمها الشحن، وإلا فقدت وظيفتها، ولا بد أيضاً من العناية بنفسية المقاتلين وهم في أكف ظلام الحرب المعتم .
إنها الحرب . . . جبال وبحار غير مكتشفة، ولا تعرف ماذا ينتظرك فيها، وغدا سيفتح النهار عينه الوحيدة لتضئ العالم، فكيف سيكون هذا النهار.. وأين سنكون من هذا العالم؟ .
هل سنكون في طوق الجنود و حماة القرى، وتحت سماء من الحواماب ؟
لم يعد في صحبتي الآن غير ثلاث مقاتلين . . . وما تبقى من المجموعات قمت بتوزيعهم على المرتفعات الأخرى .
و لكن ماهي نتيجة العملية ولماذا لم يتصلوا بنا إلى الآن ؟
هل هناك جرحي . . شهداء ؟
من تراهم ؟
و هكذا تتجلى لك صور المقاتلين والمقاتلات في مخاطبات، كانك تشاهد أحد أفلام الخيال، تتذكر كيف يمشي كل واحد منهم، كيف يتحدث، كيف يبتسم، كيف يأكل وكيف يغضب، بينما قلبك يقفز مع كل صورة جديدة .
لذلك لم نستطع أن نستفيد من هذه الساعات، ولم يغمض لنا جفن حتى الصباح .

23 آب 1996
مع انحسار جفن الشمس عن عينها الحمرة من السهر أيضاً، كان المنظار يتراوح بين أكف المقاتلين .
و كما أعرف اسمي، فكذلك أعرف أن كل العناصر في كل المواقع والنقاط، هم أيضاً في هذه اللحظات، يعيشون نفس المشاعر والأحاسيس، ويقومون بما نقوم به من استطلاع الأوضاع .
الجميع يريد أن يرى .. ماذا كان يجري خلف ستار الظلام.
ما هو فصل المسرحية الجديد، مسرحية الدم و البارود والنار .
كان الميليشيا وهو من أهالي هذه المنطقة، يعرفنا بالطرق التي يستخدمها العدو والرفيقان (توفيق) و (دجوار) وهما معي في هذه القمة، يعرفان جغرافية المنطقة أكثر مني .
و في تلك الساعة، قمت بالاتصال مع المجموعات الأخرى، التي وزعتها على المرتفعات، ولا سيما مجموعة قمة جيلا دوكوه، المطلة على كافة الجهات، وكأنها منارة جامع وسط المدينة أو برج قلعة من القلاع .
– دوغان.. دوغان .
– ماذا هناك ؟
– تعال انظر ألا ترى شيئاً؟.. هناك فوق بقعة الأرض الحمراء .
– أعطني المنظار . . . ما هذا إنها مجرد شجرة محروقة !
عقارب الساعة تسير ببطئ، وإذا لم يسفر الصبح عن شيء حتى الساعة السابعة فكل ما يحدث بعد ذلك ستسطيع مواجهته .
و هكذا اقتربت عقارب الساعة من السابعة ولا جديد، كذلك مجموعة (جيلا دو كوه) لم تأت نتيجة الكشف عندها بتطورات جديدة، وحسب مخطط العملية كان على منفذي العملية أن يتصلوا بناء، ما بين السادسة والنصف والسابعة .
و بدأت أشعر بخطورة الموقف، لأن العدو إذا صمم على ملاحقة القوات، فهو يعرف جيداً من أين سيكون انسحابها، ويعرف جيداً أين كانت مواقعها .
ثم إنهم في الوادي العميق ومهما حاولنا لن نستطيع القيام بحمايتهم بشكل كامل.
و صعودهم من أسفل الوادي إلى هذا المكان يستغرق عدة ساعات، ولست غراً لأجهل نفسية المقاتل في هذه الأوضاع .
إنه ولو حقق انجازات كبيرة في عمليته، فلا بد أن يكون قد بلغ ذروة الانهاك مع وصول الصراع أيضاً إلى ذروته، ما بين إداردة العقل وغريزة البقاء، تلك تدفعه إلى الأمام وهذه تجره إلى الخلف .
و أثناء العلمية لا يشعر المقاتل بأي شيء من التعب والإرهاق، حتى إنه يدخل في عالم آخر من الموازين والمعايير، فهو في خفة الريشة وفي صورة انتقال النسيم .
و عندما يتجاوز نفسية إطلاق الطلقة الأولى، ويشد الزناد، يدخل تلقائياً في هذه الأبعاد الجديدة .
حيث يكون المقاتل قبل إطلاق الطلقة الأولى، في حالة تشبه حالة الطفل الضائع في القصة المشهورة، في ادعاء كل من امرأتين أنها أمه، وكل واحدة تشده من طرف، وعندما يتدخل سيف القاضي بالفصل فيما بينهما، تنتهي القصة بحلول في منتهى الإثارة .
هكذا يكون سيف القاضي في صراع، بين شرف الحياة وغريزة البقاء، هو الضغط على الزناد الذي يعني نهاية هذا الصراع، بحلول في منتهى الإثارة أيضاً . .
عندما تتلكأ في الضغط على الزناد، فستكون النتيجة كمن يقع في البركة، وهو هارب ممن يحاول رشه بحفنة ماء . . . . ، وهكذا فإن الطلقة الأولى بالنسبة للمقاتل هي مفتاح لحياة جديدة، وهي تعبر عن ذلك اكثر مما تعبر عن توجيهها للعدو .
و لكن بعد الخروج من العملية والابتعاد عن وقعها، تبدأ بمراجعة فصول العملية وكأنك كنت في كوكب آخر، ثم عادت قدماك لتلامس الأرض، عندها تحس بكل أتعابك، وبكل ما تحمل من الأثقال، وشيئاً فشيئاً تكتشف الكدمات التي أصبت بها، والجراحات التي لم تكن تشعر بها .
بعد السابعة تماماً، بدأ وكأن على الجهاز مكالمة، وهكذا أخذت السماعة وأنصت، إنه روزهات ينادي : دوغان… دوغان .
– الحمد لله على السلامة . . . من روزهات ؟ .
– نعم . . . صباح الخير .
– صباح الخير . . . أين أنتم ؟ ..كيف الأحوال؟ .
– الوضع جيد ونحن في طريقنا إليكم .
– كيف كانت سير العملية ؟
– على أحسن وجه . .
– والنتيجة ؟
– إبادة القمة والظفر بالكثير من الأسلحة والذخيرة والمعدات .
– نرجو ألا تكون هناك خسائر . . ؟
– لا شيء لا شيء سنأتي وتعرفون .
لم أكن أريد من روزهات أن يتحدث عن التفاصيل بهذا الشكل العلني، ونحن على اللاسلكي، فكنت أحرك مفتاح الجهاز لأشوش على العدو، ولكن روزهات بدا غير مكترث بشيء، رغم أنه ما يزال في الوادي .
لذلك بدأت أحس بخطئي أيضاً، فكان علي ألا أتابع الحديث معه، ولكن من يوقف روزهات عن تهوره، إنه إن لم يتكلم معي فسيتكلم مع غيري بنفس الطريقة .
إنها ثقافة الحدود واقترابات رفاق زاغروس لا تزال تلعب دورها.
هكذا كانت حياة المقاتلين هناك، بمجرد وصولهم إلى الحدود، بعد تنفيذ العملية، يشعرون بالأمان .
– ماذا تسمي هذا العمل يا رفيق (توفيق) مع وجود رفاق جرحى كما يقول ؟ .
– جنون بكل معنى الكلمة في نظرك، وفي نظر روزهات جسارة وشجاعة . . . ثم تكررت اتصالات المراكز والمقرات من سرية الرفيق محمود إلى مرصد الرفيقات، إلى المقر المركزي ومتينا وزاغروس . . . الخ
الجميع يريدون سماع نتائج العملية، بينما هدير الحوامات لا يتوقف وكلما بدت حوامة، قلنا لا بد أنها هذه المرة تقصدنا، ثم تنعطف باتجاه نهر الزاب وتختفي، حيث يعلو من تلك الجهة دوي الانفجارات، من جهة (كَرا برانا – Gera Berana)، وأما من الجهة التي نحن فيها فلا شيء .
تجاوزت عقارب الساعة الثانية عشرة ظهراً، وبدأت مقدمتهم بالخروج من قرية (فالتو) المهجورة، مجموعة إثر مجموعة .
و عند الوصول إلى سفح المرتفع الذي نقف عليه، توقفوا وطلبوا منا المساعدة، مباشرة إليهم أرسلت ستة مقاتلين، وبين حين وآخر يتعالى صوت العيارات النارية، ( يا الله إنهم يصيدون الحجل في هذه الساعة ! ! ) .
بدأت الشمس بالاستعداد للغروب، وهم في طريقهم إلينا، وبقية المقاتلين معي يقومون باعداد الطعام للجميع، ليكون كل شيء جاهزًا حالة وصولهم .
و قبل غروب الشمس بقليل، وصل الرفيق روزهات ومعه (عكَيد) الصغير و رفيق آخر، والابتسامات التي يرمينا بها تبشر بالخير، ولكننا لا نزال لا نعرف النتائج بدقة، ولا سيما وجود شهداء أم لا .
و تحاول في مثل هذه اللحظات أن تستبق معرفة الأحداث، من خلال تأمل ملامح الوجوه، ولكن النظرات متوقدة والابتسامات تغمر الوجوه .
و هكذا سارعت نحو روزهات أسأله عن النتيجة .
– ما هي الأخبار ؟ .
– نريد ماء لقد جفت حلوقنا .
العرق يتصبب من وجوههم والانهاك يسيطر على كل حركاتهم .
شعور متشعثة ووجوه تعلوها طبقة من الغبار، مجبولة بالعرق الذي رسم خطوطه المتعرجة والمتعرقة على الوجوه .
– من هم الجرحى ؟ .
– ( زوزان) و (شورش) .
– و الشهداء ؟
– الرفيق ريبر و الرفيقة جيمن .
– ريبر و جيمن ؟ !
– نعم والحق كل الحق على جيمن .
– كيف ؟ .
– لولا تهور الرفيقة جيمن لما كانت هناك خسائر .
إنها كانت في مجموعة الدفاع، وعندما بدأت العملية، صعدت فوق صخرة وهي تزغرد وتطلق النار من هناك، وتتنقل بشكل مكشوف وكأنها تتحدى الموت من أمامها، فأصابتها طلقة من بعض المصفحات التي جاءت من هكاري، مع أن هذه المصفحة كانت تطلق الطلقات بصورة عشوائية.
و لما سقطت شهيدة، هناك كلفت الرفيقة زوزان والرفيق ريبر بالذهاب إليها وحملها إلى موقعنا، وبينما هما يعبران بها من فوق منحدر صعب، أفلتت منهما، وحاولا الامساك بها، فتعثرا وسقطا معها في الوادي، وأما ريبر فمات مباشرة، لوقوعه على رأسه وأما زوزان فحالتها ليست خطيرة، لوقوعها على حوضها .
و ما كنا نعلم ماذا حدث لهم، وبعد انتظارهم طويلاً، ظننا أنهما هربا، وهكذا قمنا بالبحث عنهما بعد العملية، ولولا أن الرفيق (شورش) سقط أمامنا، بالصدفة من نفس المنطقة، لما عثرنا عليهم .
و لكن عندما سقط أيضا الرفيق (شورش)، ونزل الرفاق لانقاذه وجدوا الرفاق الثلاثة بجوار البعض، والرفيقة زوزان مغمى عليها .
– يا ويلتاه . . . إذن لولا ذلك فعلا لما كانت هناك خسائر . . . هكذا نحن الكرد …إذا بنينا من طرف فلا بد أن نهدم من طرف أخر .
– هكذا.. بعد كل ما بذلناه من الجهد والمشقة، كانت خسائرنا من صنع أيدينا، كنت أنظر إلى الرفيقة (جيمن) وهي تقلد الرفيقة (ماوا) بكل حذافير القصة قبل أيام .
بعد ذلك قام المقاتلين بجرد المعدات والأسلحة التي استولوا عليها فكانت :
1 – سلاح رشاش A6.
2 – سلاح رشاش MG3 .
3 – سلاح فردي G3 عدد ( 3 ) .
4 – سلاح رشاش BKL . .
5 – سلاح أربج B7 مع حقيبته و ( 3 ) حشوات وقذيفة .
6 – منظار ليلي .
7 – آلة تصوير .
8 – مسجلة .
9 – حقيبة عسكرية .
10 ـ منظار نهاري .
11 – صواريخ C3 3 قذائف .
12 – ثلاث مخازن MG3 .
13 – صدرية عسكرية .
14 – ألبوم صور .
15 – دفاتر ومذكرات الجنود .
16 – بيدون عسكري .
وقد تحقق الرفاق من مقتل أربعة جنود .
و كانت خسائر الرفاق من المعدات .
1 – أسلحة الرفاق الذين سقطوا في الوادي وهي كلاشينكوف وجهاز لاسلكي .
2 – ثلاث سبطانات ( MG3 ).
3 – حقيبة عسكرية مع ذخيرتها .
4 – سلاح BKC .
5 – المنظار الليلي .
بعد ذلك تم الاتصال مع الرفيق (باهوز) وإعطاءه نتيجة العملية وإعلامه بكيفية استشهاد المقاتلين .
و في الحقيقة فإن مجموعة الدفاع هي المسؤولة عمّا وقع لهم، وحتى عن استشهاد الرفيقة جيمن، لأنه كان بإمكانهم وضع حد لها. كيف نقبل باستشهاد عنصر من مجموعة الدفاع، مع سلامة كافة عناصر مجموعة الهجوم .
بعد غروب الشمس، كانت المقدمة قد بدأت بالوصول إلينا أيضا ولكن الصعود يتم بشكل متقطع، ولم يكن هناك مجال لتنظيم الصعود حيث يكون صعود كل مقاتل حسب قدرته وتحمّله.
و رجعت إلى المنفذ للاتصال بالمجموعات القادمة ولاعطائهم الإشارات الصوتية، حتى لا يضيعوا الاتجاه، وكلما وصلت مجموعة، قمنا بحمل أسلحتهم وحقائبهم وتأمين الراحة اللازمة لهم، بعد إرشادهم إلى نقطة تجمع السرية، أسفل جيلا دوكوه في واد صغير، يضم عدة ينابيع متفرقة .
و هكذا استمر صعود المقاتلين، واستقبالنا لمجموعاتهم حتى الساعة العاشرة ليلا، وكلما وصلت مجموعة، قام الرفاق بتقديم الطعام لها وإرشادها إلى مكانها المخصص للنوم . . . بعد ذلك التحقت أنا أيضاً بالآخرين، ولكن لم أكد أصل إلى نقطة التجمع، حتى بدأ دوي الانفجارات والقصف من حولنا .
الظاهر أنهم اكتشفوا مكاننا بسبب كثرة الاتصالات، بينما كان أغلبية المقاتلين يغط في نوم عميق، ولا يحس بكل ما يجري .
و حسب ما كنا متفقين عليه، كان يجب أن يصلوا في الصباح، ولكنهم كما نرى وصلوا في منتصف الليل .
ثم جاءتنا مخابرة من المقر تفيد، أن هناك تمشيطاً في (كَرا برانا) حول قاشورا، وحسب الأخبار الأخيرة هناك مجموعة من الرفاق في الحصار.
و الاحتمال الكبير أنها استشهدت، حيث وضع العدو ثقله في تلك المنطقة، وكنا نحن طوال هذا النهار في مأمن لانشغالهم بغيرنا .
و لكنهم الآن وكما يبدو، تجهزوا لملاحقتنا، بعد ما حددوا مكاننا بالذات، لذلك يجب مغادرة المنطقة بأسرع ما يمكن .
و لكن ماذا نفعل بالجرحى والمجموعة التي تعتني بهم في المرصد ؟!.
و هكذا قمت بالبحث عن الرفيق روزهات وإيقاظه وإخباره بضرورة التحرك فورا، ولكنه رفض ذلك وتحمل مسؤولية كل ما سيحدث .
– يا رفيق روزهات يجب أن ننسحب مسافة ساعتين على الأقل .
– لا، لا، غدا نتدبر الأمر . . . ألا ترى المقاتلين منهكين من التعب، وهكذا لم يتحرك أحد من مكانه، وكأنهم ينامون تحت الجبال.
الحرب لا ترحم ولا تجدي معها العواطف الساذجة.
يمكن أن تتقبل مثل ذلك الموقف من مقاتل عادي، وليس من مقاتل بمستوى قائد سرية .
لا أريد بقولي، أن القائد يجب أن يتجرد من عواطفه . . . كلا . . . فالقائد عندما يفقد عاطفته، يفقد دوره كقائد، ولكن يجب أن يكون انصاته لصوت العاطفة، يختلف عن الانسان العادي، لأن في يده دفة الحياة والموت بالنسبة لمجموعته، ويجب أن يدير هذه الدفة بعواطفه حسب ظروفها الصحيحة، لا أن تدير هي عواطفه وتجره من ورائها .
هؤلاء المقاتلين مثلاً، قاموا بأجل معاني التضحية والفداء، وهم لا يستحقون فقط قليلا من الراحة، بل يستحقون أجمل ثناء من فم الحياة التي يبذلون دماءهم من أجل الدفاع عن جمالها.
و المحافظة عليهم، تعني أن لا تدعهم هكذا عرضة للموت، من أجل ساعات قليلة تقسو فيها عليهم في سبيل الحفاظ على حياتهم .
ماذا سنفعل في الصباح، فيما إذا داهمنا العدو ونحن في هذا الوادي؟ .
سوف يتحول النصر إلى هزيمة، وتنقلب الفرحة إلى فاجعة . . . والعاطفة الموضوعية، حسب هذه الظروف، أن تجبر الوحدة على التحرك، وأن تعلم أن المحافظة على المقاتلين في تلك الحالة هي محافظة على قيم الثورة .
( كانت تتداخل هذه التناقضات في رأسي، وأنا أتجول بين المقاتلين والمقاتلات، وهم متوزعون في مجموعات غير منتظمة، بين أكوام الحجارة وشقوق الصخور، وتحت الحشائش المرتفعة حتى الخصر، في وسط هذا الظلام الدامس).
(بينما النجوم المتألقة حتى التوهج، تحاور أضواء الثكنات في القمم المتناثرة على الحدود، وهي تقول: ربما الأرض أكثر ظلمة من السماء، ولكنها تتكامل مع السماء في لوحة سوداء منقطة بهذه الأنوار المختلفة، وكأنها لوحة إعلان ملفتة للنظر).
أو أنها رشات فرشاة قام بها فنان من المدرسة الانفجارية، مشت إلى اللوحة دون أن تلامس الفرشاة اللوحة .
كان تأمل هذه اللوحة، سبباً لتعثري من حين لآخر، مرة بالحجارة ومرة بأقدام المقاتلين الضائعة بين الحشائش .
لم يكن هناك أحد من العناصر مستيقظاً، سوى الرفيق (توفيق) والمقاتل السروجي الأصل ريزان، وبيده ورقة وقلم، ومن تحت الكفية التي يتغطى بها يشعل (البيل)، لكي لا يظهر ضوءه، ويقوم بإعداد قائمة الحرس، وكلما أتم ذلك وقام بتبليغ النوبة الجديدة، اعترضوا عليه، واضطر لتغيير القائمة حتى ضجر أخيراً، وألقي بالورقة وهو يقول: والله إذا كنتم لا تخافون من الموت إلى هذه الدرجة، فلست اقل منكم شجاعة .
و هكذا أيضاً فعل الرفيق ( توفيق) وهو عريف الحرس.
و بذلك لم يعد في هذا الظلام أحد غيري، يحاور صمته المهيب، ولا شيء سوى صفير الصراصير ونقيق الضفادع على أطراف النبع، وخرير المياه المتحدر منه، وحفيف الهواء النقي والقارص أيضاً.
من بعيد، يتعالى من حين لآخر دوي الانفجارات وطلقات الرشاشات الثقيلة، من أطراف مدينة تشقورجه.
و خشخشة الأعشاب، بسبب حركات البغال المتقطعة أيضاً، تذكرني بذلك البغل المسكين، الذي تركناه في الفوهة البركانية.
تجاوزت عقارب الساعة الثانية عشرة ليلاً، وإذا بصوت يأتي من اللاسلكي .
و كانت مجموعة التموين، التي أرسلناها إلى المركز قد وصلت البارحة، واليوم يريدون العودة، لأن معهم القرويين من قرى الجنوب الكبير، ومعهم بغالهم التي استئجرت منهم .
فاتصلت مباشرة بـ (سربست)، ليرسلوا الأثقال التي معهم، ويتركوا ثلاثة بغال، واتصل الرفيق (محمود) وتوقف على الوضع .
و لأنهم لا يعرفون نقطة تعسكرنا، أرسلت ثلاثة مقاتلين للمجيء بهم، لنقل الجرحى أيضاً، وإرسالهم إلى الجنوب، إلى مقر المركزي في وادي الزاب.
و لكنهم طلبوا أن يكون ذلك في الصباح، فرفضت ذلك باصرار، لأن بقاء الجرحى في أيدينا خطر علينا وعليهم .
في الواحدة بعد منتصف الليل، أيقظت (دجوار) و (ذوكان)، ومع كل واحد مجموعة صغيرة، للتمركز في قمة جيلا دوكوه، ومرتفع المنفذ، و لكن المقاتل الذي أرسلته لايقاظ دجوار، لم يتمكن من إيقاظه، وقال له: ليذهب دوغان أو توفيق.
فاضطررت لاستعمال القسوة في إيقاظه، وأنا أقول له : وهل هذا وقت الثرثرة .
بعد ذلك قام وكأنه يقوم من رقدة الموت، وهو يقول: كيف بقينا هنا ألم تقل لن نمكث هنا ؟ ! .
– لقد ناقشت ذلك مع (روزهات) أنا وتوفيق، ولكنه لم يخرج رأسه من تحت المشمع.
– ما هذا ؟ مزاجية أم قيادة .
– أنت على حق يا (دجوار) ولكن كان يجب أن يصلوا في الصباح.. فوصلوا آخر الليل ، ولا وقت الآن للنقاش حول هذا الموضوع، يجب المسارعة للامساك بمراكز القمم الاستراتيجية .
وبينما كان بعض العناصر يتلكون في الذهاب مع (دجوار) و (ذوكان)،كان بعض المقاتلين يتطوعون باقتراح اسمائهم، مما جعل روح الرفاقية تنشط بينهم.
و هكذا تحركت المجموعتان إلى المواقع التي اتفقنا عليها.
و بعد ذلك قعدت أتفكر بصباح هذه الليلة، وماذا يحمل لنا من الأخبار ؟
14 آب 1996
سواء أردنا أم لم نرد فإن الشمس أشرقت، مباشرة قمت بإيقاظ الجميع، للاستعداد للتحرك، وفي تلك الأثناء اتصل الميليشيا عبد الرزاق، وهو من أبناء هذه القرى، وأعلمنا بوصول البغال إليهم .
و ما كاد قرص الشمس يرتفع، حتى اتصل (ذوكان يخبرنا بأن جنود العدو يتعقبون آثار أقدام الرفاق في الوادي، ولا بد أنهم في طريقهم إلينا) .
و مباشرة أخبرت (روزهات) بذلك وأعطى التعليمات بسرعة وتيرة الاستعداد للتحرك.
و اتفقت مع (روزهات) أن أتحول بالسرية إلى نقطة الزيتون – وهي منطقة في طريق سنبل، سميت بذلك لعثورنا فيها على مستودع للزيتون للرفاق – وهي عبارة عن منفذ يقصده العدو إذا خرج لتمشيط الطرق حول اطراف قرية ( تالى) .
و أما ( توفيق) فينتظر تسيير أمور الرفاق الجرحى مع مجموعة من المقاتلين .
بينما سيذهب ( روزهات) إلى مرصد ذوكان لمراقبة الوضع .
و أما منطقة (دجوار) فلم يكن فيها تطورات جديدة .
و هكذا بدأت بالتحرك، وبعد أن ابتعدت قليلا صعدت إلى مرتفع مطل على ما يجاوره من المرتفعات، وكشفت القمم والطرق. بقينا في هذه القمة إلى أن وصل الجرحى و الآخرون .
ثم تابعنا الطريق، حيث عثرنا على حطام حوامة، فقال الميليشيا حسني: عام ۱۹۸۹ اشتبكت وحدة الانصار مع العدو، وكانت النتيجة أن أسقطوا هذه الحوامة، مع خسائر فادحة ألحقها الأنصار بالجنود الأتراك .
بعد ذلك توقفنا بجانب نبع بين صخور عملاقة، حيث معالم إقامة الكوجر فيها واضحة، وعاد الرفيق حسني ليقول: كان الكوجر يقيمون هنا أثناء إقامة الرفاق في تلك المنطقة، و أشار بيده إلى صخور على بعد مئات الأمتار .
و هكذا توقفنا في هذا المكان، في انتظار الآخرين، بينما عناصر العملية، كالعادة يتحدثون عن تفاصيل العملية ومجرياتها، فيبدأ أحدهم الحديث بالخطوط العريضة، ثم سرعان ما تختلط الأحداث ويدخل كل مقاتل للحديث عن دوره وتصحيح صورة المشهد .
الرفيق الفلاني كان يقذف قنبلة . . ومن بعدها يقذف عشرة أحجار على صورة قنابل، ولولا الرفيق الفلاني، لكنت أمسكت بأحدهم حيّا ولكنه هرب الكلب عديم الشرف و . . الخ .
آه لولا ما فعلته الرفيقة جيمن لكانت عملية خالدة .
و هكذا تتغير الملامح، ما بين الحديث عن الخسائر، والحديث عن النجاح، والحديث عن المواقف الكوميدية وتظهر روح الصفاء والبراءة في حياة الغريللا .
حياة منفعلة مع الأحداث، وفق كل لقطة من لقطاتها، وهي حساسة أيضاً، لأنها تتفاعل وتتداخل مع تداخل حياة الحرب، بين الكوميديا والتراجيديا في آنٍ واحد .
إنهم ليسوا ممثلين على خشبة مسرح وأمام عدسة السينما، ولكنهم ينقلون حقيقة تاريخية، عاشوها بكل مشاعرهم وأحاسيسهم .
إنهم يصنعون التاريخ ليس في صورة عابرة، وإنما في أعمق أدوار تاريخ صنع الأمة، مع أنهم يفتقدون هذا العمق في حياتهم اليومية .

أسمى روابط الحياة
بعد أن تجمع الجميع وتناولوا طعام الغداء، كان مسؤول التموين قد أعد أيضاً شراب البرتقال، وقام بتوزيعها على المقاتلين مع قطع الشوكولا التي جلبها الرفيق سربست معه.
و هكذا بقينا حتى الثالثة بعد الظهر، وكان الرفيق (روزهات) والآخرون قد لحقوا بنا، ولكنهم أضاعوا الطريق والتفوا من أسفلنا باتجاه (دشتا خانى)، فحملنا الجرحى لمتابعة المسير .
و الجرحى كما مر معنا . . . ، المقاتل (شورش) وهو من كردستان الشرقية (ايران)، ويبدو أنه مصاب ببعض الكسور مع بعض الشجات في رأسه.
و أما المقاتلة (زوزان) فتشكو من الآلام في قدميها، وشفاهها متورمة مع وجود الآلام المبرحة أيضاً في ظهرها .
بينما يقوم الرفيق عبد الرزاق الذي ندعوه (رزاق) اختصارا – هو ميليشيا مخضرم طويل الباع في مخادعة العدو ومخاتلته، بتعليل أسباب سقوط الرفيقين على رأسهما بقوله: إن الرجل عندما يسقط من مكان مرتفع، يسقط على رأسه، و أما المرأة فتسقط على حوضها، وقد تعرفت على ذلك بالتجربة، ربما لضخامة الرجل من أكتافه وثقل حوض المرأة .
و لم يفرغ رزاق من تحليله حتى انفجر الرفيق معصوم ضاحكاً من هذا التحليل الدقيق والمنطقي، بينما المقاتل (شورش) أيضاً يحاول الضحك فلا يستطيع من الألم، والرفيقة زوزان تنادي: أنزلوني.. أنزلوني.. لا أستطيع البقاء على هذا البغل.
و هكذا تجمعت السرية باستثناء روزهات ومجموعته، حيث مكثوا بانتظارنا في الطريق، ولما وصلنا إليه، كان منزعجاً بسبب نسيان عناصر السخرة أخذ الخبز إليهم، ومباشرة قمنا بتوزيع السرية إلى فصائلهم ومجموعاتهم وبدأنا التحرك .
و لكن من الواضح أن الجميع لم يعودوا بعد، إلى أوضاعهم الطبيعية من الإرهاق وأجواء العملية، وأما النواحي المعنوية فعلى العكس من ذلك، فهي في هذه الأجواء في أسمى أشكالها، حيث تربط العملية بين مشاعر المقاتلين وتجمعهم إلى درجة التلاحم، ومهما مرت السنوات، فان رفاق كل عملية لا ينسون دقائقها وتفاصيلها وكل من شارك فيها، وأما في الظروف العادية، فربما ينسي الرفاق الكثير من الأمور .
فالمجموعة أثناء تنفيذ العملية تصبح جسداً واحداً من التلاحم الروحي، وكل تصرفات المقاتل وتحركاته تمحى من الذاكرة، إلا تصرفاته وتحركاته وسط العملية، فهذه اللقطات هي التي تنطبع في الذاكرة ولا تمحى، وكلما التقيت بأحد رفاقك في تنفيذ عملية من العمليات، تراءت لك صورته أثناء تنفيذ العملية، لأنها أسطع واصدق لحظات الحياة.
(لذلك تمتاز الرفاقية المتمتعة بهذه الخصائص، بأنها رفاقية من النمط الرفيع، تشعر بها وكأنها أقوى روابط الحياة) .
أقول هذا لأنه بعد التوزيع الجديد، وأثناء المسير كانت مجموعة الهجوم في هذه العملية تتسلل من مجموعتها الجديدة بطريقة عفوية، وتنضم إلى بعضها وكأنها لا تريد أن تتفرق .
و عدة مرات اضطررنا للتوقف وإعادة كل واحد إلى مجموعته الجديدة، ولكن بدون جدوى .

نبع ( أوف ) مرة أخرى
هكذا كانت نشوة النصر مسيطرة على الجميع، ولذلك لم تستطع التعليمات أن تحد من هذه النشوة .
تابعنا المسير حتى وصلنا إلى (نبع أوف)، والكل ينادون: أوف… أوف… وكلما شرب مقاتل رشفة من النبع، رفع صوته بصورة متعمدة وهو يقول : أوووف… أووووف… أوف وتتعالى الضحكات وتتداخل كلمات أوف بصور متصاعدة .
و صلنا إلى كوزى رش و لكن الرفيق محمود اتصل بنا يخبرنا، بأنه يجب أن نتحول إلى زاويتا، ولكن بقينا في (كَوزى رش)، حيث كان الظلام بدأ يخيم على المنطقة أثناء توزع المجموعات بين أشجار الجوز، لتحضير الخبز والعشاء .
و بينما كان منظم قائمة الحراسة مشغولا بكتابة الأسماء لتحديد المجموعة التي ستذهب إلى القمة المطلة على الاطراف، أي المرصدينـ جاء أحد المقاتلين – لم أعرفه لشدة الظلمة … وقال: روزهات يريدك..
ذهبت إلى روزهات فوراً وكان منزعجا وهو يقول : ما هذا يا دوغان ؟ إن بوطان وشيار يعترضان على الذهاب للمرصد.
– وما هو السبب ؟
– لا أدري ولكن (شيار) يتعمد الفوضى . . لقد وقفت أمامهم وهم مستلقون على الأرض لم يرفعوا رؤوسهم .
– هذا خطأك . . فكيف ترضى أن تكون قائد سرية غير محترم . . . ؟
كان عليك أن تفرض العقوبة عليهما مباشرة، و لكن اترك الموضوع الآن، إلى الاجتماع العام، و ليذهب عريف الحرس لايقاظهم، و بعد ذلك لكل حادثة حديث .
25 آب 1996

في الصياح سألت عن بعض العناصر لمعالجة الموضوع، قبل أن تتعمق التناقضات و تصبح أرضية للتلاعبات، وبلغني أن ثلاثة من قادة المجموعات ذهبوا إلى المرصد مع أجهزتهم اللاسلكية الثلاثة، ولكن لايعرف السبب .
فكرت بالأمر مطولا . . . ما الذي يجري في هذه السرية .. و ما الذي حدث في هذه الفتره؟ . إنها تسير في طريق المشاكل العويصة، وعند كل المقاتلين استعداد للدخول في هذه الأجواء، لأن جسارتهم كسرت الرسمية واخترقت حاكمية الإدارة، والنتيجة تلاعب بالتنظيم وتآمر عليه .
حوالي الساعة العاشرة جاء (رزاق) و هو يريد أن يضعني في الصورة، كما يقول، فاستمعت إليه مطولاً و فهمت أنه قرر مغادرة السرية، هو والميليشيا الآخرون، بسبب اقترابات (روزهات)، وأنه يتعامل مع الآخرون وكأنه وحده الذي قام بتنفيذ العملية.
فحاولت التخفيف من حدة رد فعله، و وعده بأن أقف على هذه الأمور مع الإدارة .
في تلك الأثناء كان الرفيق روزهات يرمقنا بطرف خفي، وهو يذهب يميناً وشمالاً وملامح الاضطراب واضحة عليه، وكأنه يعرف أن الحديث يدور حوله، لذلك ما إن ذهب (رزاق) حتى اتجه نحوي وهو يقول: ماذا يريد رزاق ؟.
فصارحته مباشرة بأوضاع المقاتلين وانطباعاتهم تجاهه، وقلت له: لايصح أن تتعامل مع كافة المقاتلين باسلوب واحد، كون لكل مقاتل نفسيته ومكانته أيضاً، ويجب أخذ ذلك بعين الاعتبار .
بينما كنا منهمكين في الحديث بالقرب من المنحدر الصخري، حيث تتمركز المجموعات، استوقفتني حركة المقاتل جعفر وهو ينط بين المجموعات كالمهرج وعلى رأسه ما يشبه السماعات، تقدم مني الرفيق توفيق وهو يقول : أخلاق ۱۲ أيلول(45) .
– من أين أتى بهذه السماعة ؟.
– إنها ليست سماعة.. إنه جهاز تضخيم صوت.. استولى عليه الرفاق أثناء العملية .
– كيف ؟
– نعم و كما أقول .
– هل لك علم بهذا يا رفيق روزهات ؟.
– كلا.. و لو كان لي علم لقدمته في التقرير إلى المقر العام.
ثم انتصب قائما وهو يدعو المقاتل جعفر .
و جاء على الفور . . وهو يقفز كالأطفال ويراوح بين أقدامه، وكأنه يمارس بعض ألعاب الطفولة، وهذا المقاتل من (باطمان) اختلط منذ صغره بعناصر الوحدات الخاصة – التركيةـ وكان يتردد إلى ثكناتهم، فتشربت نفسه أخلاق ۱۲ أيلول، وبذهابه إلى أوربا مع عائلته، تعرف هناك إلى التنظيم وانضم فيما بعد إلى صفوف الأنصار، ولكن أخلاق وتصرفات ۱۲ أيلول لاتزال مستمرة في سلوكه، ولاسيما الخفة والفوضى وعدم الانضباط.
و ما إن وصل إلينا حتى سأله روزهاث: ما هذا الجهاز الذي تحمله ؟ .
– إنه من العتاد الذي تم الاستيلاء عليه في العملية .
– و أين كان حتى الآن ؟ .
– في حقيبة الرفيق عكَيد الصغير .
– و لماذا لم يخبرنا بوجوده ؟
تدخلت هنا الرفيقة جيهان بقولها:
– من الواضح أنه ظنه جهاز راديو أو آلة تسجيل.. فاحتفظ به لنفسه ليقول فيما بعد أنه له .
– بكل تأكيد… يجب أن يعاقب مباشرة . روزهات
أخذنا الجهاز من الرفيق (جعفر) للتعرف عليه.
انه كمثل تلك السماعات التي يضعها الطيارون على رؤوسهم، وكل سماعة من سماعتيه بحجم الراديو الصغير، وهو مزود بمفاتيح لتعيير البعد و التحكم بالانصات للأصوات البعيدة، و هو خاص بعناصر الحراسة الليلية، يلتقط الأصوات الخافتة على بعد عشرات الأمتار، وبالإضافة إلى ذلك مزود بمكريفون ايضاً و هو من صنع أمريكا .
في تلك الأثناء كان الرفيق محمود أيضاً قد وصل إلى السرية و معه عدة مقاتلين، ولم أكن حتى الآن أعرف من هو الرفيق محمود، حيث كنت أسمع به وأتحدث معه على اللاسلكي فقط، فذهبت لاتعرف عليه، وبينما أنا أنظر في وجوه الضيوف، رأيت رفيقاً قديماً اسمه أيضا محمود، فألقيت عليه نظرات التحية من بعيد وأنا أبحث عن محمود قائد السرية، لأتفاجأ فيما بعد أن الرفيق محمود قائد السرية هو نفسه الرفيق محمود الذي أعرفه منذ أيام بوطان في (كَارسا و بستا) وهو من شرناخ، ولكن كيف يمكن تصديق هذا . . . ؟ ! فلقد تركته منذ سنتين وهو لايعرف أن يركب كلمتين، فكيف تحوّل إلى قائد سرية بهذه المدة السريعة و أصبح بهذه الفهلوية، بحيث لم يخطر ببالي وأنا أتحدث معه طوال هذه المدة، أنه محمود الشرناخي .
و كانت روح هذه المفاجأة تخيم علينا ونحن نعانق بعضنا، بعد كل هذا الغياب، حيث جلسنا بعد ذلك نتذكر أيام (كَارسا) وجبل هركول، والمقاتلين يتحلقون من حولنا، يحاولون الانصات للحديث في جو اللقاء الصاخب.
بينما كان (عكَيد الصغير) قد سارع باحضار كيس من الخوخ والعنب والتوت، وأنواع الفاكهة البرية، و وضعه أمامنا وهو يقول: لقد حطمت الدببة كل أشجار القرية ولم تترك شجرة على حالها، لابد من أن نزرع الألغام لها .
فيجيبه مقاتل آخر: وماذا تنفع الألغام مع الدببة، لقد جربنا ذلك في زاغروس عدة مرات، فكنا نزرع الألغام لها وكانت تخرجها وتضعها في طريقنا بصورة لاتصدق . . . فيجيب عكَيد: عجبا الدببة تصنع هذا . . . . . ويضيف آخر . . . في قريتنا كان القرويون يذهبون إلى صيد الدببة في مثل هذه الأيام، ليس من أجل أكلها و إنما من أجل صناعة الصابون .
– كيف من أجل الصابون ؟
– ان شحم الدب يستخرج منه أجود أنواع الصابون .
– و هل صحيح أن الدب يقوم بخطف الإنسان ؟ ! . يسأل مقاتل من الضيوف
يجيب الرفيق توفيق:
– هكذا يقولون : إذا كانت أنثى تأخذ الرجال، وإذا كان ذكراً أخذ الفتيات .
و يعلق الرفيق محمود: لقد سمعت بذلك أيضاً .
بينما الجميع يتابعون الضحكات العالية، عند سماع كل فقرة من هذا الحديث.
بعد الظهر أرسلنا فريقاً من المقاتلين لكشف الطريق أمام الجرحى، ولاستطلاع الطريق بشكل عام. ثم جهزنا البغال وملأنا خروجهم بالقش، لتصبح ككراسي مريحة للمقاتلين الجرحى، وهكذا حاولنا حملهم عليها، بينما كانت الدموع تذرف من عيون الاثنين – شورش و زوزان – .. الدموع تذرف من عيون شورش، عندما قمنا بحمله وهو يصرخ آه ياجيمن . . أه يأجيمن . . لماذا فعلتِ ذلك . . لماذا ؟ ويتدخل الآخرون لكي يكف عن البكاء وهو يقول: لا أستطيع . . . لا أستطيع . . . كلما تذكرت جيمن سأبكي – وكما قلنا فالمقاتل شورش رقيق وعاطفي، وبالكاد تجاوز السابعة عشرة من عمره .
أما زوزان، فقد كان الضعف واضحاً في رفاقيتها واقتراباتها قبل تنفيذ العملية، ولكن بعدما رأت عناية الآخرين بها، بدأت تتفهم معنى حياة الأنصار وترفض الانقطاع من السرية .
و بعد توديع . . . الجرحى، رجعت برفقة الرفيق محمود ونحن نناقش أحوال السرية .
– إن وضع السرية كما رأيت يا رفيق محمود.. وأنت هنا المسؤول الأول، باعتبار غياب الرفيق باهوز، وقد وصل الوضع إلى درجة لا تحتمل، وقد كان مجرد وجود الرفيق باهوز يعني الاستقرار نوعا ما، و لكن منذ غيابه تدهورت الأوضاع، ومنذ عودتي من (سنبل) والأحوال تزداد سوءا، أغلبية العناصر يتذمرون من أسلوب (روزهات)، وبكل صراحة، فإن الوضع لا يمكن أن يستمر هكذا، لقد أصبح (روزهات) كالراعي، ولا ينقصه إلا العصاء.
– لقد كنت أعتقد في البداية، أن تفوق سريتكم في العمليات العسكرية قائم على متانة الحياة التنظيمية، ولكن الظاهر أن التلائم منعدم بين الناحيتين .
– هذا بالذات هو أسلوب روزهات، وهو باختصار ( نفذ العمليات العسكرية بنجاح، ثم افعل بعد ذلك ما تشاء ).. حتى أخلاقيات الحزب يمكن تجاوزها في هذه الحالة .
– و لكن هذا غير مقبول في مفاهيم التنظيم، لأن الحياة الرفاقية والعلاقات التنظيمية قبل كل شيء .
– لذلك يجب الاسراع في معالجة الأمور .
– و لكن بالنسبة لي لا أستطيع التدخل في شؤون سريتكم، فلننتظر قدوم الرفيق باهوز .
خلال الحديث مع الرفيق محمود أرسل الرفيق (روزهات) في اطلبي عدة مرات وأنا أقول لهم في كل مرة: دقائق وسآتي.. وهكذا لما ذهبت إلى روزهات لم يكن طبيعياً، ولكنه حاول كظم غيظه، وسألني عما كان يدور بيني وبين (محمود)، فأجبته بأننا كنا نتحدث عن أوضاع السرية بشكل عام، ثم تباحثنا في موضوع الانتقال من القرية أو البقاء فيها، فقررنا التحول إلى قرية (زاويتا)، لأنها قرية في طرف وازاوية بعيدة نوعا ما من ثكنات الجنود، بينما (ميده) قرية مركزية ومعروفة.
و هكذا بدأنا التحرك عند غروب الشمس، ولكن الحالة النفسية التي أنا فيها، غير طبيعية، هناك إحساساً بخطورة استمرار الوضع بهذه الصورة، فالسرية ستفقد الحاكمية، حتى تعليمات المسير، كانت تخترق بشكل مكشوف من قبل بعض المقاتلين، وخاصة بيرو، فالأرضية بالنسبة له أصبحت مناسبة للتحرك. فهو مغرم بالأجواء الضبابية ولايتذكر دوره إلا في مثل تلك الأجواء، وحتى الآن كان يعاني من الكبت، وها هو يبدأ تلاعباته من جديد .
و كالعادة، فهو يعلن عن ذلك بطريقة استعراضية، متنقلاً بالهمس من مقاتل لآخر.
أما بوطان، فقد تسلل إلى مؤخرة السرية، يراقب تحركات بيرو بعين ويجري حساباته الخاصة بعين أخرى، وكأنه يقرر الهرب، لذلك تخلفت قليلا عن المسير، لتمشي من أمامي، متتبعا أثرها على ضوء القمر .
و شيئاً فشيئاً أصبحت بازاء بوطان، وأنا أعرف أنه يحترمني إلى درجة أستطيع التحدث إليه كأخ صغير .
– كيف حالك يا بوطان ؟
– بخير حضرة الرفيق .
– و لكن أراك كأنك تعيش في عالم آخر .
– لا أدري ماذا أفعل في هذه الأوضاع .
– كيف لا تدري؟ وكيف ترضى أن يتلاعب كل واحد بك على مزاجه؟، وكأنك قارب صغير مرمي في البحر، كل ريح تقذفه إلى اجانب . . . إن مقاتلة طائشة مثل ميديا تتلاعب بك كما تهوى . . . لاتقل انها كلمة غير مناسبة بحق هذه المقاتلة . . . إنها مقاتلة فعلاً ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، ولكن هل يليق بك أن تكون مثل الريشة أمامها. بدأت الدموع تنهل من عينيه، مختلطة بما يسيل من أنفه، و هو يكرر الاستنشاق من حين لآخر، متلعثماً في الحديث بعبارات متداخلة .
– رفيق دوغان أنت تعرفني منذ الشتاء . . . إن أموري الشخصية التي لا أستطيع ذكرها لأحد كشفتها لك بكل صراحة . . . أحاول . . . أحاول و لكن لا أستطيع . . . اعترف أنها نقطة ضعف كبيرة . . . كلا إنها ليست نقطة ضعف . . إنها دمار إذا استمر وضعي هكذا.
وأكمل:
لقد ضربت رأسي بالصخر حتى خرجت منه الدماء ولم تخرج صورة ميديا منه .
– أنت مساعد قائد مجموعة يا بوطان وبدلاً من أن تفكر في تطوير إمكانياتك ، تضيعها في هذه الأمور التافهة .
– كيف .. ما هي الطريقة؟ .
– الحب ليس جريمة يا بوطان.. بل هو على العكس، إنه دليل على شفافية روحك، ولكننا في هذه الجبال نمثل شرف قضية، ونعيش حياة أخرى من همومه ومفاهيمه، وأنت تعلم أن مثل هذا الموضوع يعني في النهاية الاعتقال من قبل الحزب .
استمر الحديث بيني وبين بوطان حتى دخلنا بين أطلال القرية، التي لاتزال بعض بيوتها محافظة على سلامتها، بينما الحشائش والأعشاب المرتفعة بين البيوت والأزقة، تدل على طول هجرة أهلها لها .
القرية تفتقد التلاؤم بين البيوت المتراصة في الأقسام الأساسية منها . . . . . و البيوت المبعثرة على أطرافها .
و أما خنادق حماة القرى وثكنة الجنود، فلا تزال كما هي، وكان العدو قد اتخذ من مدرسة القرية ثكنة له، وهي مدرسة متميزة بين البيوت، بجدرانها الناصعة البياض وشكلها الهندسي المدروس .
و أما القرية، فتمتد على شكل شريط في الوادي الضيق العميق، النازل بتعرجاته ومنعطفاته بين المنحدرات الصخرية و القمم البارزة المتصلة بـ جيلا دوكوه، وقد أضعنا الطريق عدة مرات، وكذلك مجموعة المقاتلات التي تأخرت عنا في التحرك .
و على منعطف يشرف على وادي القرية قررنا التعسكر، حيث تتدفق منه المياه إلى القرية .
و تحيط بالقرية بساتين الفواكة المثمرة، من مختلف الأنواع والتي بقيت بدون إعتناء.. الفواكه الجوز، التين ، التفاح ، الخوخ ، العنب . . . الخ ) .
و مباشرة قمنا باتخاذ التدابير اللازمة لتوزع العناصر ومجموعاتهم، بينما اتفقت الإدارة على عقد اجتماع لتقيم العملية في اليوم التالي .

26 آب 1996

البعوض التي نسيناها منذ خروجنا من الزاب، عادت لتذكرنا بنفسها ليلة أمس، حيث قضينا معظم الليل في العراك معها .
الجو حار وكما يقولون ونحن في أربعينية الصيف، و آب من أشد الأشهر حرارة، لذلك تنضج فيه الفاكهة .
أما (بيرو) فقد وجد في عكيد الكبير، ما يكمل به حلقة تلاعباته، فقد بدأ أيضاً بالثرثرة بين المقاتلين، وقد تقدم بعد العملية بتقرير طلب فيه الانتقال إلى السرية الأولى، وكان أثناء حملة التمشيط الأخيرة، قد حكم عليه بالتجريد من السلاح لمدة أسبوع، لهربه أثناء تنفيذ بعض العمليات، وبعد مشاركته في مجموعة الهجوم في العملية الأخيرة، بدأ يشعر أنه طوى صفحة الماضي، وأصبح يتحدث بشيء من الفوقية، وهكذا يبدو أن النجاح في تنفيذ العمليات له سلبياته أيضاً، وهي سلبيات متنوعة، تخلق لدى المشاركين الغرور وحالة من نشوة السَكر..وتنشر الضبابية… إذا لم تسارع الإدارة لفرض حاكميتها عليها، والقاعدة أيضاً في أوضاعها العادية، لاتجد الجسارة على التدخل في أمور الإدارة، ولكن بعد تنفيذ العمليات العسكرية، يقومون بتوزيع الرتب على أنفسهم، حسب المشاركة في العملية، ويرون أنهم يقدمون تنازلات كثيرة عندما يصغون للإدارة .
و الحل الوحيد لهذه الحالة، هو اجتماع تقييم العملية، الذي يفرز بصورة قاطعة بين هذه التداخلات، للعودة بالسرية إلى حياتها الطبيعية، لذلك تجمعت الإدارة (روزهات، دوغان، توفيق، نوال، جيهان، جيا، ذوكان، دجوار، بيرو، ميديا) وناقشنا الأوضاع بشكل عام، للتحضير لعقد الاجتماع وتحديد البنود التي يجب التوقف عليها في الاجتماع، وكذلك تحديد أسماء المقاتلين الذين ستقدم لهم المكافآت، لتميز بدورهم في العملية، وهم الرفيق جيا قائد مجموعة الهجوم، والرفيق رزاق باسم الميليشيا، وما بذلوه من الجهد مع العناصر الجرحى ومهامهم الأخرى .
و الرفيق قورتاي لتميزه في خدمة الآخرين بروح التضحية، كما اقترح روزهات.. كذلك الرفيقة ميديا – كما اقترح روزهات أيضاً. ولم يكن ذلك متوقعاً، لأنها كانت على بعد كيلومترات من العملية، لذلك بدأت الرفيقة نوال ترمقني بنظرات الغمز بالرفيق روزهات، وبدا لي أن الأمر لن يمر على خير، فتدخلت: ولكن ما علاقة ميديا بالعملية؟ ونظرت للرفيقين توفيق وجيهان فأدارة كل منهما بوجهه، وكأنهما يسخران أيضاً من موضوع مكافأة ميديا .
ثم قام روزهات أيضاً بتحديد أعضاء الديوان الثلاثة لإدارة الاجتماع بنفسه، بلا استشارة أحد، وجعل نفسه واحدا منهم، وبالرغم من تدخل المجتمعين في إقناعه، بأن ذلك ليس اسلوباً سوياً، تنازل أخيراً ولكن بشرط أن يكون هو أحد أعضاء الديوان بلا نقاش، على أن تنتخب القاعدة رفيقين آخرين .
و أما مشكلة موقف (شيار و بوطان و عكَيد) من روزهات، فقد كان رد فعل روزهات واضحا، حيث قال : أنا الذي ساربيهم وسأربطهم من أرجلهم .
لقد بدا واضحاً أن التناقضات بين روزهات والرفيقة (نوال) قد بلغت ذروتها، ولابد أن الاجتماع سيسفر عن شرخ كبير في السرية .
في الساعة الثالثة بعد الظهر تجمع العناصر للبدء بالاجتماع، حيث ضم أيضاً الرفيق محمود، وبدأ الاجتماع بالتوقف دقيقة صمت على أرواح الشهداء، ومن ثم اختيار أعضاء الديوان، وبدأ ( روزهات) .
– ليختار الرفاق رفيقين لانضمامهم إلى ديوان إدارة الاجتماع .
و بما أن للرسمية نفسيتها وأجواءها الخاصة، فقد بقي الجميع صامتين، وكأنهم يدخلون إلى الصلاة، حيث يكون الخشوع إلى درجة لايدور معها اللسان، وتجد أكثر العناصر قدرة على الحديث في الحياة العادية، يتعثر بالحديث في ساعة الاجتماع، فلا يقوى على ربط جملة صحيحة .
بعد ذلك بدأت بعض الأيدي ترتفع . . . ، منهم من يقترح الأسماء، ومنهم من يعترض على أن يكون روزهات في أعضاء الديوان بلا انتخاب، لأن ذلك ليس أسلوباً صحيحاً، و لأول مرة يقدم قائد سرية على اختراق نظام الاجتماعات بهذه الصورة، ولكن روزهات أصر على ذلك، وتم انتخاب (جيا) و الرفيقة (جيهان) لينضما إلى روز هات .
و بدأ الاجتماع، وفتحت دفتري الصغير وسجلت في أعلى الصفحة .

(اجتماع تقييم عملية دزيى)
26 / 8 / 1996
تحدث أعضاء الديوان فيما بينهم بكلمات غير مسموعة، ثم أعطيت القاعدة حق التحدث، ولكن كما هي العادة ايضاً، ففي البداية يكون جو الاجتماع بارداً ولا أحد يرغب تقريباً، وكأنه ليست هناك مشاكل .
و مع النظرة الأولى، تعتقد أن هؤلاء المقاتلين يلتقون للمرة الأولى، ولكنهم في الواقع ينظرون من الذي سيكسر جدار الصمت، و هكذا يكرر الديوان .
– ألا يوجد كلام لاحد ؟
ثم لابد أن يتجاسر أحدهم . . . ويبدأ بخرق الصمت، بل يبدأ بالصعود على الحلبة، ليتسابق الآخرون .. بعد ذلك من الذي سيصعد من بعده .
و تركزت التقييمات حول الأخطاء والنواقص التي وقعت أثناء العملية ؛
1 – تقاعس بعض العناصر في تنفيذ التعليمات .
2 – تسيب شؤون المقاتلات والذي كان أحد مظاهره استشهاد الرفيقة جيمن .
3 – مسؤولية بعض المقاتلين حول العتاد المفقود أثناء العملية، وخاصة أن الرفيق (شيار) أضاع المنظار الليلي باهماله، و عدم انتباهه وكذلك إضاعته لدفتر مذكرات الضابط التركي المليئة بالصور الخلاعية .
4 – لقد شوهد الرفيق عكَيد الصغير، وهو يقذف بملزمة الـ يدك التابعة لـ ( MG3 ) ليخفف من حمله .
5 – ضعف روح التضحية في حمل العناصر الجرحى .
6 – التوقف أسفل (جيلا دوكوه) لم يكن مناسباً .
7- النقاشات الفارغة في الطريق، وخاصة (شيار و بوطان و عكَيد الكبير) و عملهم على توتير أجواء السرية .
كانت التقييمات والانتقادات تتكرر على أمور واحدة، حيث تكرر الحديث مرارا على مسائل محددة، مما جعل خيالي ينصرف إلى نقطة واحدة (إن الاجتماع فيما يبدو، بدلاً من أن يكون حلاً للمشاكل، سيقوم بتفجيرها وتصعيدها) .
و لكن لأني لم أشترك في العملية، فليس من حقي أن اشارك في تقييمها، ولكن (شيار وبوطان و عكيد) جميعهم كانوا في مجموعة الهجوم، ومعاقبتهم بالتجريد من السلاح والاعتقال بعد كل ما قاموا به من تضحية، سيكون جواً خصباً لتوتر التناقضات، وإذا أضفت إلى ذلك مكافأة ميديا مع عدم اشتراكها في العملية بشكل فعلي، فإن هذا يعني أن كارثة ستقع، وسوف تتدخل القاعدة أيضاً بالوقوف إلى جانب المقاتلين الثلاثة، وستعبر عن ذلك بأي شيء، يعني رفض قرار الإدارة بل و وجودها أيضاً.
و هكذا رفعت يدي أطلب حق الكلام، وكان المقاتل شيار قد سبقني ليقدم نقده الذاتي ويقول: ( بالفعل كنت مضطرباً وغير متوازن في بعض تصرفاتي، وأنا أخجل كثيراً من نفسي عندما أتذكر بعض الكلمات التي تفوهت بها، وأنا حاضر من أجل أي عقوبة تقترحونها . . . . ) .
و بعد ما فرغ شيار . . . من كلامه قلت: إنه لا يليق بالمقاتلين، بل إنه ليس من حقهم أن يبعثروا جهودهم بهذه الصورة، وأن يخرجوا من العملية بعد كل ما قاموا فيها من البطولة بهذا الاخفاق .
و أخص بحديثي الثلاثة (شيار و بوطان و عكيد) .. فهؤلاء الثلاثة، على الرغم من تضحيتهم وما قاموا به من تنفيذ أصعب المهام في العملية يعترضون بعد ذلك على تنفيذ أبسط المهام، كالذهاب إلى المرصد .
و بدلا من أن ينظروا إلى نجاحهم في العملية، على أنه فرصة لاثبات جدارتهم ورفاقيتهم في الحياة الانضباطية، يجعلون ذلك النجاح و سيلة للاحباط . . . ، ولكن شيار لم يتركني أتابع الحديث، وقام وهو يقول: ( ما علاقتك با دوغان بتقييم عملية كنت بعيدا عنها كيلومترات) ولم يفرغ من كلامه حتى قام الآخر عكَيد أيضاً، بكيل السخط على وهو يقول: دوغان أيها الرفاق يتهمني بالسرقة، مع أن الجهاز الذي كان مع الرفيق جعفر، وجدناه معاً في خرج البغل، فمن الذي وضعه في خرج البغل لا أدري . . . ؟ ! وهكذا لم يكن هؤلاء الثلاثة يعرفون أني أمهد في الحديث للدفاع عنهم .
و بالرغم من الكلام الموزون الذي كنت قد أعددته للمرافعة عنهم فقد ذهب من رأسي كل شيء، وكنت كمن يقع في الفخ وهو يحمل في يديه ما يخشى عليه الكسر لو تعثرت قدمه، فيقع في الحفرة ويتكسر هو ويتكسر ما يحمل ويتكسر كل شيء.
لقد قمت بسحب حلقة الأمان بيدي وعلى وجهي . . . ، وهكذا جلست أتذكر التناقضات التي وقعت في الفترة الأخيرة، والتي كنت أنا الوحيد خارج لعبتها، ولكنني الآن فهمت لماذا (نوال) من جهة وروزهات من جهة أخرى، كل واحد منهما يحاول سحبي إلى طرفه .
لقد استطاع روزهات تهميش (توفيق) و (جيهان) وبقيت أنا الورقة الأخيرة، ومن يكسبني سيكون هو المتحكم بالقاعدة، لأنهم يعرفون ثقة القاعدة بي . . . ، وهكذا بدا الاحباط في نظرات (نوال) نحوي، وهي تحاول أن تفسر الطريقة التي استطاع روزهات أن يجرني بها إلى جانبه، بل كأنها ترى ذلك في المنام .
و روزهات بدوره أيضاً ينظر إليها وكأنه يقول – مسكينة – بينما لا يستطيع النظر إلى، لأنه كان قد فقد السيطرة على تفسير الموقف . . . ، وهكذا انكسرت الجرة كما يقولون برأسي، ولكن السخرية هذه المرة أنني أنا الذي ارتكبت هذه الحماقة .
و السبب في كل ذلك هو خوفي من أن يكون رد فعل روزهات عنيفاً، فيما إذا بدأت المرافعة بالعكس، فدافعت عن . . . الثلاثة ثم بينت أخطاءهم ولكن كما يقولون : سبق السيف العذل .
و قد توضحت لي الأمور في الفرصة التي تخللت الاجتماع، وخاصة مسألة جهاز التنصت، وقصة عكيد معه، وعرفت أيضاً أن روزهات كان يعرف تماماً بوجوده في حمل البغل، ولكن تظاهر بعدم معرفته، وهو يؤنب المقاتل جعفر، لحسابات كان يجريها مع نفسه .
27 آب 1996

كيف كان الوضع الذي نمت؟… فيه لا أدري، وكيف استغرقت في النوم؟.. لا أعرف .
و لكن عندما مررت بالمطبخ ورأيت غليان السمن وفقاعات رب البندورة، تذكرت ما كنت أعيشه من الغليان، وقد حاولت أن أكل بعض اللقيمات، ولكن من دون جدوى، فلم أكن أجد في نفسي القدرة على مضغ اللقمة، ولذلك تلهيت بشرب كأس من الشاي.
و في الثامنة صباحاً، تجمعت الإدارة وكتبت في دفتري…

إجتماع الإدارة .
27 آب 1996
النقاط التي سيتوقف عليها الاجتماع .
١ – حياة السرية .
۲ – اجتماع البارحة .
و هكذا بدأ الاجتماع، ولكن دون حضور الرفيقة (نوال)، لأنها رفضت الانضمام إلى الاجتماع، وهي تقول: لن أنضم إلى ما تفعلونه، وحضرت فقط الرفيقة جيهان، وبدأ الرفيق (توفيق) بالتوقف على وضع السرية، منذ ذهاب (باهوز) ورد ذلك إلى أسباب :
أولا – أسلوب الفساد والنميمة من وراء الظهر الذي تمارسه بعض اعضاء الإدارة .
ثانياً – أسلوب الرفيقة (نوال) بانغلاقها مع المقاتلات، وكأنهن تنظيم أخر .
ثالثاً – أسلوب الرفيق دوغان في عدم تلاحمه مع الرفيق روزهات .
ثم قام الرفيق (جيا)، و رد أسباب ذلك إلى عدم وجود الروح الجماعية في الإدارة ، وتوقف على موقف الرفيق توفيق وتراجعه الملموس في الفترة الأخيرة . . . ،
ثم بدأ دجوار :
– هناك اقترابات في الإدارة غير حزبية وبالأخص، اقترابات نوال و دوغان، أنهما يريدان إيقاع الرفيق روزهات .
ثم قام بيرو :
– المشكلة الأساسية في السرية تنحصر ضمن الإدارة، و انضم إلى ما قاله الآخرون وكل عناصر السرية يعرفون، أن المسؤولية تقع في الدرجة الأولى على (دوغان)، لأنه هو الموجه السياسي، وبالرغم من كل إمكانياته، فقد وصلت السرية إلى ما وصلت إليه، ثم تأمره مع نوال على روزهات لم يعد خافياً لأحد، بل هو على ألسنة كل القاعدة . . . ، إنهم يريدون سرقة جهود روزهات، وهذه أساليب امبريالية ولصوصية.
عند ذلك تحدثت بدون إذن، عندما رفض روزهات إعطائي حق التدخل والتحدث ليصحح بيرو أسلوبه.
فقلت :
– أنا لا أقبل أن نتفوه بهذه الكلمات.
فقاطعني روزهات مباشرة بقوله: لا حق لك في التحدث . . . الكلام لـ بيرو دعه يفرغ من كلامه.
هكذا الاجتماع اختلط، وفهمت أنها إحدى حركات روزهات، وقد عرف نقطة الضعف في أن يفسح المجال لـ بيرو في مواجهتي، وهكذا أطلقوا على هذه المرحلة اسم (مؤامرة نوال و دوغان).
فقامت الرفيقة جيهان وانتقدت بيرو و قالت إن بيرو شخصية زئبقية، وحتى اليوم لم أرى ذا وجهين مثله، وهو الذي يتلاعب بالسرية، و ليس دوغان، و هو الذي يخلق المشاكل و هو سبب كل هذه التناقضات، و طوال هذه الأيام كنت أراقبه، فكان يأتي إلى الرفيقة (نوال) ويقول لها: لقد رفعت تقريراً إلى المقر بحق الرفيق روزهات، ولن أستمر في هذه السرية مادام هو موجوداً، ثم يذهب إلى روزهات ويقول بحق الرفيقة (نوال) نفس الحكاية يقولون إنه ذو وجهين، و لكنه في الحقيقة ذو عشرين وجها .
ثم قمت أنا وافتتحت حديثي بلوم الرفيقة (نوال) على عدم انضمامها للاجتماع، لأن هذا يعني تدهور السرية في عين القاعدة، ثم توجهت بكلامي إلى بيرو وقلت له: كلامك يا بيرو مردود عليك.. وأنا أعرف جيداً دوري في هذه السرية، ولا أقوم باستثمار التناقضات لصالحي، ولست مع هذا ولا ذاك .. في البداية، لست طفلاً.. وقد عشت الكثير من هذه الحالات، و أقول لك ولمن ينتظر مني هذه الكلمة، أنا لست مع اقترابات (نوال) ولا مع اقترابات (روزهات)، ولكنني أتمسك بالقواعد التنظيمية، ومن خلالها أحدد مواقفي، ولا أريد أن أرد عليك بذات طريقتك، وأنا أعرفك جيداً وأعرف من أي طينة أنت، و أضيف أنني أرفض كل مقررات اجتماع البارحة، وأعتبر ذلك تلاعباً بالتنظيم ومبادئه وأنا أطمئن القاعدة، بأن هذا الوضع غير مستمر، وسوف يأتي (باهوز) وسنضع النقاط على الحروف.
لقد توضحت لي الأمور في وقت متأخر للأسف، وخرجت الأمور من يدي، و إذا كنا نمتلك قسطاً من الشرف، فيجب أن نتعاون على حماية القاعدة ريثما يأتي الرفيق (باهوز) وأنا واثق من نفسي أنني سألتزم هذه الهدنة، إذا صح التعبير، لنعرف بعدما تتضح الأمور من هو المخادع ومن هو ذو الوجهين ومن هو الاستعماري؟ .
بعد ذلك انفض الاجتماع، ومباشرة ذهب الرفيق روزهات إلى المرتفع المقابل للنقطة هو وبعض العناصر و عرفت انه سيتصل بالرفيق (باهوز)، لذلك سارعت إلى جهاز اللاسلكي لأسمعه و هو يقول: يا رفيق إن (نوال) و (دوغان) سيخربان السرية، فإما أن تسحبوهما وإما أن تسحبونا نحن الثلاثة.
بعد الظهر انحصرت تكميلات الفصائل والمجموعات بشكل عام في انتقاد الاجتماع، وأسلوب الرفيق (روزهات)، واقترحوا ضرورة إعادة عقد الاجتماع، وأن يتم فيه محاسبة بيرو وذوكان أمام الجميع، لتصرفاتهما غير اللائقة بالحياة الرفاقية، ولا سيما (بيرو)، ويجب إعادة النظر في وضع (بوطان) خوفاً عليه من الهرب، وكان اجتماع البارحة قد أسفر عن تكليف لجنة للنظر في وضع عكَيد الكبير، فحاولت التحدث إليه ولكن كان قد فقد توازنه، و واجهني بالشتم والتهديد وهو يقول: أفاعي . . . أفاعي أنت و (روزهات) تريدان أنتم تتربعوا على جهود المقاتلين، وكان في ليلة البارحة قد حاول الانتحار كما قيل، لولا أن الحرس شاهده وهو يربط عنقه بالحزام فوق الشجرة !
حاولت استدراك الموقف في التكميلات، ولكن روزهات تمارض ولم ينضم إليها، وأما الرفيقة نوال فقد انسحبت من الحياة انسحاباً كاملاً .
فاتخذت على عاتقي معالجة الأمور والسير بها وفق رسمية التنظيم، فكنت في نهاية كل فعالية أقوم بها أناقش نتائجها مع الإدارة، ومع روزهات بالذات حتى وصول الرفيق (باهوز ) .
و بعد جولة من المباحثات، وافق روزهات و أعضاء الإدارة على عقد اجتماع آخر للسرية .

28 آب 1996
اجتمعت السرية في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، واتفقت مع روزهات على أن يقوم واحد منا بإدارة الاجتماع، ويقوم الآخر بالإنفراد بـ عكَيد لمعالجة مشكلته، فذهب هو إلى الرفيق عكَيد وقمت بإدارة الاجتماع بصورة نصف رسمية لغياب روزهات.. فقلت:
– حسب التكميلات، فإن الاجتماع الذي انعقد لم يعط النتيجة المطلوبة، وحسب اقتراح المجموعات، نجتمع الآن لإعادة الاجتماع، لذلك وقبل كل شيء يجب أن نتحدث بصراحة كاملة ولا نترك مرة أخرى الكلام ليكون مجرد تعليق على الاجتماع .
إن المشاكل التي ظهرت في صفوفنا تدعو إلى التوقف والعمق أكثر، فأنتم الذين نفذتم أصعب المهام بدون أي مشكلة، لا تستطيعون الاستمرار في الحياة العادية بلا مشاكل.
في هذه الأيام من أيام قفزة آب، ورغم كافة استعدادات العدو لذلك، قمتم بتنفيذ العملية، أليس من غير الطبيعي أن تنهار معنوياتنا، بدلا من أن نستمد منها الجسارة و السمو، أكرر هنا ما قلته سابقاً، إن جميع وحدات الحدود والمناطق الأخرى، كانوا يستمدون معنوياتهم منكم انتم بالذات، فكيف انتهينا إلى هذه النهاية.
و سبب ذلك، يعود فيما أعتقد إلى أننا في اجتماع المهمة لم نقف إلا عند السلبيات ولم نلفت النظر . . . . للايجابيات التي قاموا بها، فحتى العدو لم يكن يصدق أن تنفذ مثل هذه العملية في مثل هذه الأيام، ولكنها نفذت على أحسن وجه، وكانت برقية تجدد قفزة ۱۵ / آب . . ، ولو قارنا بين عملية السرية وعمليات السرايا الأخرى، فإنها ستكون في الدرجة الأولى من الأهمية، على الأقل في إيالة (الزاب)، من حيث عدد العمليات التي نفذتها ومن حيث نتائجها .
إذاً فلماذا كل هذه المشاكل، وما الذي تريد أن تعبر عنه هذه التصرفات ؟ ! .
إن وضعنا الأخير أيها الرفاق والرفيقات.. يصور تماماً مدى علاقة الحرب بالحياة وحاجتنا إلى الكثير من التوقف على ذلك .
و ضمن هذا الإطار، يجب أن يقوم كل مقاتل بتقييم العملية .
و قبل أن نبدأ بإعطاء حق الكلام لكم . . أأكد بأن يقوم كل واحد بالتعبير عن رأيه، بكل صراحة، و وفق الصورة الديمقراطية، ولكن بطبيعة الحال أن تكون تلك الديمقراطية في إطار أسلوب التنظيم والاحترام و الرسمية، وعلى هذا الأساس كل واحد يستطيع الكلام .

فبدأ زرادشت:
– الشيء الواضح الذي ظهر في العملية هو عدم حاكمية مجموعة الهجوم، ولا سيما قائدها، مما سبب انقطاع بعض العناصر وبقاء الرفيق (ريبر) ينزف حتى استشهد، ولم يكن يعرف أحد أين هو.
و الشيء الثاني عدم التقيد بالنظام أثناء الانسحاب، وما ترتب على ذلك من إضاعة الكثير من العتاد والتهرب من معاونة الجرحى.
ثم أسلوب روزهات غير المسؤول . . . أثناء تنفيذ العملية، مما لا يمكن أن يقبله أي مقاتل.
كذلك أنتقد الرفيق (دوغان) لعدم تدخله في حل المشاكل رغم امكانياته.
و يجب التوقف أيضاً على سلوك الرفيق (جعفر) الصبياني وتصرفاته الرامبوية .

• شيار . بدأ برد فعل وضيف . .
– الاجتماع الذي تم ونتيجته مرفوضة بالأساس، لقد تسربت تناقضات الإدارة إلى القاعدة بشكل واضح إلى درجة التحزبات، لذلك مرة أخرى لن يتحدث أحد بصراحة، وسيكون الحديث ضمن توازنات وحسابات سابقة.
إذا كانت الإدارة مفككة فكيف ستكون القاعدة ؟!.
نوال من جهة وروزهات من جهة ودوغان من جهة، هذا هو مثلث المشكلة . . . . لو قطع رأسي فلن أقبل بانتقادات البارحة
. . . . . الرفيق دوغان يتهرب من الحرب ثم يأتي ليتحدث بهذه الصورة، مع أنه كان على بعد كيلومترات من العملية.
و حتى في مهمة (سنبل) وقع دوغان في نفس الأخطاء، ولما وجهت إليه الانتقادات بدأ ينتقم بأسلوبه السياسي.
المشاكل التي وقعت ليست لها حلول إلا تدخل الحزب، و عندما يأتي الرفيق (باهوز) عندها سنتحدث، ولن أنسى الرفيق روزهات وتصرفاته، وحين يأتي الرفيق (باهوز) سنعرف من الذي ضحى ومن الذي كوفئ لاعتبارات أخرى، ومن الذي حوزي بالعقوبة على ما قام به من التضحيات .
فور جلوس شيار مباسرة تدخلت، لكيلا ينهار الاجتماع مرة أخرى وقلت: إن مجرد نفسية مقاتل من العناصر، يجب ألا نعممها على الجميع، الحالات الفردية لا تقابل أيضاً بانتقادات فردية.

ثم قام الرفيق جعفر :
– أريد التوقف على ما جرى بعد الانسحاب، وقد أوضح الآخرون المشاكل التي وقعت أثناء تنفيذ العملية، وكانت سبباً لما حدث فيما بعد، وخاصة مشكلة شيار و بوطان وعكيد الكبير، وبدلاً من أن يكون الاجتماع حلاً للمشاكل، كان تطويراً وتفجيراً لها، وكل ذلك راجع إلى أسلوب الرفيق روزهات .

ثم قامت هيلين:
– أضم رأيي إلى ما قاله الآخرون باستثناء وقوفهم مرة أخرى على السلبيات فقط، مع ما كان يفترض أن تعطيه العملية من المعنويات التي قام الاجتماع بالاجهاز عليها، وكان واضحاً أن أعضاء الديوان غير متفقين . . . ، أضف إلى ذلك اسلوب انتخابهم الروزهاتي الذي أثر على كل شيء .
يجب أن يوضح سبب اعتقال الرفيق عكيد . . فإن كان من أجل ذلك الجهاز فهو قرار باطل، وإن كانت هناك أسباب أخرى فيجب توضيحها .
و بناء على ما تقدم، فإن الإدارة تعيش حالة أزمة، ووقوف الرفيق روزهات مكتوف الأيدي، يدل على الخطأ الكبير الذي ارتكبه من أسند إليه مهمة قيادة السرية.
كانت الرفيقة نوال تقوم بتسجيل وقائع الاجتماع، لذلك طلبت أن يقوم آخر . . بهذه المهمة لتأخذ حقها في الكلام.
نوال :
– ما ذكره الآخرين بشكل عام صحيح، فالمشكلة في الأصل تكمن في الإدارة وأسلوبها غير الحزبي، اقتراباتها الفردية وتصرفاتها المزاجية، انطلاق البعض من مفاهيمم ريفية بالية . . الخ .

المقاتل بلنك :
– ما اريد إضافته هنا، أن الاجتماع لم يتم وليس فقط لم يكن كافياً لحل المشكلة، في الحقيقة لم ينعقد منذ اللحظة التي فرض الرفيق روزهات أسلوبه في انتخاب ديوان إدارة الاجتماع.
جيا:
– هناك مفاهيم غير صحيحة، ولا سيما أسلوب التقرب من المشاكل ومعالجتها.
و اتهام الرفيق روزهات بالقروية ولا أدري ماذا ، أيضا لا يليق أصلاً من مقاتل مناضل فكيف يليق هذا القول بقائد سرية ، قضى أكثر من ثماني سنوات ضمن صفوف الغريللا.
علينا أن لا ننسى أن القاعدة ايضا تتحمل قسطا من المسؤولية، عندما تخترق التعليمات والاحترام ، كل ذلك في النتيجة إساءة لحياتنا التنظيمية .

كمال :
– بدأت المشكلة كما اعتقد من أعضاء الديوان، كان تناقضهم واضحا، ولا سيما أسلوب الرفيق (روزهات) الذي عبر به عن سخطه على (شيار)، وكذلك في الطريق إلى (كوزى رش)، كان واضحاً طريقة ردود الأفعال بينهما .
و أنا أيضاً أضم صوتي إلى الآخرين، في الغرابة من أن يكون مثل روزهات قائد سرية . . إنه غير لائق أن يكون قائد حتى فصيل، و اقترح على الحزب أن يتم تجريده من المهمة وينقله إلى ماكن آخر . . وكذلك اقترح أن نقوم بالتحضير لحفلة لكي نتجاوز فيها هذه الحالة.

الرفيق روبار:
– من الواضح أن نقطة الضعف في صفوفنا هي الحياة الروتينية اليومية . . . فعندما ذهبنا إلى العملية كنا بمعنويات عالية، والعودة إلى هذة الصورة، هي عودة نقطة الضعف، فماذا يعني هذا ؟ . . . . بصراحة، هذا يدل أن الإدارة هي نقطة الضعف . . ، لقد أثرت هذه الأمور على معنوياتي شخصياً، و أقترح أن تشارك القاعدة كلها الاصغاء لهذة الانتقادات.

الرفيقة (آيصال) :
– لا أعتقد أن اسلوب الرفيق روزهات وحده هو سبب كل هذه المشاكل ، . . . يجب التوقف على المشاكل اليومية التي ساهمت أيضاً في ذلك .
أما مسألة انتظار القيادة لتتدخل بحل مشاكلنا، مسألة تدعو للأسف .
فإذا كان كل هذا العدد من المقاتلين لا يستطيعون أن يحلوا مشاكلهم، وهم على إطلاع بكل تفاصيلها، فما الفائدة منهم ؟ ! .
أن تجميد الذات، تحت اسم انتظار قرار الحزب، أكبر إساءة للحياة الرفاقية ، . . . يجب أن نمتلك قدرة المبادرة على التفريق، ما بين حل المشاكل والمحافظة على الانضمام الأخلاقي في حياة السرية .
أما مسألة عكَيد، فليست المسألة مسألة الجهاز، لأن الكل بات يعرف اقتراباته، وأنه يستحق العقوبة، أرى أن لجنة التحقيق معه لم تقم بواجبها، أقترح تشكيل لجنة ثانية، واطالب بتوضيح وضع الرفيق (بوطان) كذلك بصورة مفصلة .

آزاد:
– هناك سبب واحد لكل المشاكل، هو افتقاد الإدارة لحاكميتها على الأمور، وخاصة أسلوب الرفيق دوغان، فبالرغم من قدرته على حل المشاكل، بدا واضحاً أنه لا يريد أن يضع حلاً لها ولكن لماذا . . ؟ لا أدري، والرفيق توفيق أيضاً يعتمد نفس الأسلوب، وهذا انطباع القاعدة عموماً نحو الادارة .

الرفيق شير:
– علينا أن نعالج الأمور من كافة الجوانب، فالتقييمات أحادية الجانب تزيد الطين بلة .
إن المشكلة ليست في الإدارة فقط، ويجب أن يلعب كل واحد منا دوره في التوقف على هذه النقطة .

( بيرو ):
انضم إلى تقييمات الأخرين و أعتقد بهذه الصورة تكون المشاكل محلولة .
بعد ذلك اقترحت . . . . على أن نأخذ استراحة للجولة الثانية .
و أثناء الاستراحة وعلى الفور اقترب مني بيرو وهو يقول: لماذا الم تفعل ذلك منذ البداية؟ .. لقد وضعت يدك على الجرح، لكنه يقول ذلك بمكر وخداع أيضاً، ونظرات عينيه البوليسيتين تنم عن كل ما فيها من العمالة، ولكن لم أرد عليه، ومع ذلك فقد كانت ملامح وجهي تعبر عن كل ما أحمله بداخلي من الهموم .
و شعرت مباشرة بتحسن معنويات العناصر، عندما توزعوا يلفون السجائر ويتبادلون الأحاديث، وقد عادت الابتسامة إلى الوجوه، و يبدو من خلال النظرات أن المعنويات متوقدة، باستثناء الرفيق روزهات، حيث بدت معالم الإحباط واضحة على وجهه وابتسامته .
و في الجولة الثانية، ابتدأت الحديث: لقد عبر الرفاق بشكل عام عن آرائهم وتقييماتهم وأنا أبدأ بتوجيه الانتقادات إلى نفسي .
فعند مجيئي إلى السرية وقبل كل شيء، كان الهدف الذي وضعته نصب عيني، أن يكون انضمامي إلى القاعدة عن طريق الفعاليات العملية لا النظرية، لاسيما أن الرفيق (باهوز) كان يقف على الأمور المتعلقة بالحياة التنظيمية والتدريب، بعد ذهاب الرفيق (باهوز) جاءت الرفيقة (نوال)، ولكن لم أقض معها غير بضعة أيام، حيث ذهبت إلى المهمة، ثم ما إن عدت من المهمة حتى كانت العملية التي نحن بصددها .
لقد مرت السنوات وأنا ضمن حياة الحرب، ولكن أقول وبكل وضوح، أنني لم أفكر في يوم من الأيام أنني سأكون قائداً عسكرياً . . ، كنت أرى نفسي مجرد فنان، ولم يكن هدفي من الحياة يتعدى ذلك.
و شيئاً فشيئاً حاولت الاقتراب من حياة الحرب وخصائصها ومشاكلها أيضاً .
و كانت خلاصة تجربتي التي خضتها، أن على كل مقاتل أن يدرس أين تكمن مشكلة الحرب بالنسبة له .
إن أي قروي يستطيع الشد على الزناد وتسديد فوهة البندقية وإطلاق النار، ولكن ليس كل قروي يستطيع أن يميز بين الجريمة والنضال، وهذا يعني أن مشكلة الحرب تبدأ من الحياة .
و عندما يجد القروي نفسه أمام المسؤولية عن الحرب بكل أبعادها، يفقد القدرة على الخروج من المعارك إلى الحياة بأسلوب متزن .
و في الحقيقة، تبرز المشاكل في أسلوب الاندماج التدريجي بالحياة بعد المعركة .
‏ ربما هي المرة الأولى أتحدث أمام الرفاق بهذه الصراحة، وسبب ذلك يعود إلى الفترة القصيرة التي تواجدت فيها بينكم، فهذه الفترة التي لم تتجاوز الشهرين، والتي قضيت معظمها في التعرف على جغرافية المنطقة، والقيام بالمهام الكشفية. تنفيذ عملية هكاري جعلت شخصيتي شبه مغلقة أو غير مفهومة، وهذا سبب رئيسي من جهة أخرى، جعلني بعيداً ايضاً عن فهم حقيقة ما يجري في هذه السرية .
و قد كان احتكاكي المباشر بالرفيق روزهات، منذ أول يوم قد أعطاني انطباعاً عاماً عن خصوصياته، و أسلوبه البعيد كل البعد عن مفاهيم الحزب، وعرفت منذ أول يوم ان تكويننا وبيئتنا، وكل شيء نمت إليه بصلة، يختلف إلى درجة التناقض .
و لكن هذا لا يعني أن تكون السرية ساحة لابراز هذا التناقض، ولذلك حتى الآن لم نصطدم، على الرغم من اختلاف أسلوبنا .
و لكن الرفيق توفيق لم يستطع أن يستوعب هذه الحالة، وفي كل مرة يتدخل فيها لمعالجة المشاكل، تزداد تعقداً .
و أما الرفيقة (جيهان)، فقد كانت طوال هذه الفترة بمثابة المتفرج، ولكنها في اللحظات الأخيرة بدأت تبحث عن مكان .
كل هذه الأمور تتعلق بمشاكل الإدارة، لذلك لا أريد أن أتوقف عليها كثيرا، فالنقطة الأساسية هي حياة القاعدة، ويجب أن نقدم لها التفسير الصحيح لكل المشاكل . . . ، فنبدأ بمسألة المكافآت .
كان على الإدارة أن تقدم توضيداً كاملاً حول المكافآت التي تمت فعلاً بطريقة حزبية ، ولكن لعبت بعض الأوضاع على تفسيرها تفسيراً خاطئاً .
ثم مسألة معاقبة الرفاق (بوطان – شيار – عكَيد)، لا علاقة لها بالعملية، ولسنا حمقى إلى هذه الدرجة . . . . لقد ضحى هؤلاء الرفاق بكل مالديهم لنجاح العملية، ولكنهم بعد الانسحاب وقعوا في تجاوزات لا تليق بالروح الرفاقية .
أضيف إلى ذلك أن المكافأة التي قدمت إلى الرفيق (جيا)، قدمت له باسم مجموعة الهجوم وليس له وحده، كانت عبارة عن مسدس الرفيق الشهيد (ريبر) ومكافأة الرفيق (رزاق)، هي باسم مجموعة الميليشيا .
و كذلك الرفيق (كورتاي) . . في تاريخ الحزب كله، ليست هناك مكافآت فردية .
أما وضع الرفيق (عكَيد الكبير) . . . . . فكلكم تعرفون وضعه و تلاعبه بالإخلال بإنضباط حياة السرية .
و ما الذي بيني وبينه من الأمور الشخصية، حتى يكون لي رد فعل معه، وحتى يوجه لي مثل تلك الكلمات.
و أما الرفيق (بوطان)، فلم يبق أحد من الإدارة إلا وتحدث إليه، وبالرغم من كل المساعدات التي قدمت له، وبالرغم من تدخلي شخصياً في عدم صدور القرار بحقه عدة مرات، فقد وقف هذا الموقف .
و أريد التركيز أيضاً على نقطة متداولة بين العناصر، وبالأخص هذه الأيام، لا سيما من قبل المشتركين في العملية، الذين يحسبون أن المسألة مسألة ربح نقاط .
فهل يستطيع أي واحد منهم بمفرده أن ينفذ العملية، بلا دراسة ولا سلاح ولا توجيه من الحزب؟ . . . إنهانتاج العقلية الفردية والطراز الرامبوي(46).
فمن منكم كان يمتلك الشجاعة للنزول إلى وادي (فالتو)، لولا الاستطلاعات المكثفة للمنطقة، وتمركز مجموعات الحماية في القمم المجاورة .
العملية ليست في سحب حلقة الأمان والضغط على الزناد .
من أنا بمفردي ومن أنت بمفردك . ؟ ! !
المناضل الثوري برفاقه وبتنظيمه . . بوطنه وبشعبه .
و إن الغياب عن هذه الأمور لا يعبر إلا عن البساطة والسذاجة .
إن مجرد الذهاب إلى القمة بلا توجيهات الإدارة وتعليمات القيادة، سيكون ضرب من الجنون .
إن انتظار القيادة لتحل مشاكلنا، هو لا يعني إلا شيئاً واحداً، هو فقدان الثقة بكل شيء، بالإدارة والقاعدة معاً .
سنقف على اقتراحاتكم . . . . . ولكن كما سمعتم، فإن بعضها لا تدخل في إطار حدود مسؤوليتنا، وقد دونت هذه الاقتراحات وستقدم الرفيق باهوز عندما يصل .
و أما اقتراح القيام بحفلة، فأرى أنه اقتراح في محله ولنكلف لجنة بالتحضيرات لذلك.
(و هكذا كلفنا بذلك الثلاثة قنديل و روبار و دجوار) ولتكن الحفلة في الغد.
بعد ذلك توزع العناصر إلى أماكنهم بمعنويات عالية، و أكثر حرارة مما توقعت، ومباشرة تلاشت التكتلات والأحاديث غير الرسمية .
و لكن معنويات الرفيق ( شيار) ليست في مكانها .
تحدثت مع الرفيق (بوطان) عن أوضاعه الأخيرة، وهو أيضاً تغير، وبدا يندمج مع الحياة بروح معنوية عالية .
و جمعت لجنة التحقيق وتحدثت إليهم عن ظهور بعض الاقترابات، ولا سيما محاولات (بيرو الإنفراد بالحديث مع عكَيد، مع أن التعليمات صدرت بمنع الأحاديث الثنائية، ولكن بيرو بدا وكأنه يتعمد خرق هذا القرار.
ليس فقط يتحدث مع مقاتل حر، وإنما مع عنصر معتقل، ويقدم له أيضاً قلماً وورقة ليكتب تقريراً عن الادارة .
و بدأ ينحصر رد فعل عكَيد وحقده في شخصيتي .
و عرفت أن الخطأ الذي ارتكبته، أنني تركت روزهات بمفرده يتحدث مع عكيد، ومن الواضح أنه بأسلوب ما، أقنعه بأنني سبب اعتقاله .
ثم تحدثت مع (شيار) ووعدته بأن الأمور ستحسم بمجيء الرفيق (باهوز)، وأن الأوضاع كانت تفرض علي أن أتحدث بهذه الصورة أمام كافة العناصر، لأنهم ليسوا على مستوى واحد من الفهم والارتباط .
و لكنه أصر على اتخاذ موقف سلبي مني، وهو يقول: لقد حطمتني حطمتني لا ، لا يمكن أن أنسى قول روزهات: (سأربطه من يديه ورجليه). أعترف أن لي نواقص وأنني وقعت في بعض الأخطاء، ولكن على الأقل كان يجب أن تحترموا ما قمنا به، لا أن نعامل وكأننا خونة .
لقد قال لي عدة مقاتلين ونحن في الطريق: انتبه يا (شيار) فالأنظار موجهة ضدك.
وهكذا تكررت نفس الأمور التي وقعت لي مع الرفاق أثناء مواجهة PDK ..( في الحرب نكون في المقدمة وفي الحياة العادية ترجع إلى المؤخرة . . . بل تصبح ذرة من رماد).
في تلك الأثناء، كان روزهات مستلقياً تحت ظلال شجر الجوز، والرفيق (عكَيد الصغير) كالخادم بين يديه .
و رغم التعليمات المتكررة التي وجهت إليه، ألا يخرج إلى المجموعات الأخرى، فإنه لا ينام ولا يجلس إلا مع مجموعة ( بيرو) .
في تلك الحقائق، وصلت مجموعة من السرية الأولى، وعلى رأسها الرفيقة ( سوزدار)، قائدة فصيل الرفيقات. وهي من ماردين – وفور وصولها اتجهت إلى (روزهات)، وجلست بجانب رأسه، فسارعت لاستقبالها، وبعد التحية والاطمئنان عن حالها، قالت لي :
– يا رفيق (دوغان) أعتقد أننا التقينا من قبل .
– عذرا لا أتذكر . . . أين ؟
– في اليوم الأول من كونفرانس المرأة .
۔ صحيح . . . تذكرت .
هكذا تعارفنا ، ثم قمت للالتحاق بالاجتماع .
و بعد الاجتماع همس أحد المقاتلين بأذني وهو يقول: هذه هي سوزدار ألا تعرفها ؟ عندما كنا في زاغروس ، كانت مع روزهات مثل مم وزين، اثناءها اعتقل روزهات بسبب ذلك .
– كلا يا رفيق إنهم جاءوا فقط ليأخذوا قذائف ( B7 ) فأمامهم عملية .
بعد ذلك ذهبت إلى إحدى مجموعاتنا، وحاولت الاستغراق في النوم، وبالرغم من التعب فقد كنت أشعر بالنشوة، لأن الأمور بدأت تسير بصورة جيدة نحو الحياة الطبيعية .
و في حوالي التاسعة ليلاً، قمت مع الرفيق دجوار لاعطاء القذائف للرفيقة سوزدار .
و لم يكن عندنا ما يكفي للرقم المطلوب، مما اضطرنا لتكليف الرفيق (حسني) أن يقوم بجلب ذلك من بعض المستودعات القريبة.
بعد ذلك اتجهت إلى مكان فصيل الرفيقات، فكان الجميع نياماً ما عدا (نوال) و (جيهان)، فسألت عن ( سوزدار )، فقالتا أنها نائمة أيضاً .
و كان الشاي جاهزاً، فأصرت الرفيقة (جيهان) على أن أشرب كأساً، وبدأت ألف سيجارة لأشربها مع الشاي، بينما الرفيقة ( نوال) تقول :
– يارفيق دوغان يجب أن تلعب دورك أكثر .
– ماذا افعل . . . ؟
– لو كنت رجلاً لأريتك ماذا يجب أن تفعل . . . !
– كيف ؟
– إنك تبذل الكثير من الجهد ومع ذلك بدون جدوى .
۔ بجدوى أو بدون جدوى ، فالمهم ألا نترك القاعدة تسير هكذا .
– أنا لا أتهمك في محاولاتك، ولكنه – روزهات – مجنون، وهذه هي الكلمة المناسبة . . . ، تدخلت هنا الرفيقة جيهان بقولها: آخ من (بيرو) ومن مكره وخداعه، إنه سبب كل هذه المشاكل .
– يا رفيقات إن عدم انضمام الرفيقة (نوال) لم يكن صحيحاً، و عليك أن تنضمي لمعالجة الأمور من منطلق المسؤولية، على الأقل أمام هذه التناقضات .
– أية تناقضات يا دوغان قلها بصراحة، أمام عروسنا ميديا، فهي سبب كل بلاوي روزهات وثرثرته ومزاجيته وفرديته .
– لقد كان واضحا أنه مع بيرو، كانا يديران دفة الأحداث .
– و دجوار أيضاً .
– نعم صحيح .
ما يهمني من كل ذلك، أن لا يحدث هروب أحد المقاتلين ريثما ياتي الرفيق (باهوز).
بعد ذلك جاء دجوار، وسلمنا القذائف للرفيقة (نوال)، وذهبت للتأكد من قائمة الحراسة والمرصد، وبعد ذلك عدت لأنام، بعدما تأكدت من انضباط الأمور .

29 آب 1996

  • يبدو أنني نمت نوماً ثقيلاً.. أليس كذلك يا رفيق ( توفيق) ؟
  • الشاي جاهز والطعام جاهز، وقد أحضرنا أيضاً شيئاً من الفاكهة .
    لم انتبه للرفيق (رزاق)، إلا عندما تدخل في الحديث. حيث كان مستلقياً بالقرب مني على أوراق شجرة الصفاف التي فرشها تحته فوق الحجارة المصقولة، بالقرب من مجرى الماء.
  • هل تعرف يا رفيق دوغان: شيئاً عن هذه القرية ، وهذا الوادي بالذات . . ؟
  • و كيف لي أن أعرف . . . هذه أول مرة آتي إلى هنا .
  • في عام 1985 في هذه النقطة بالذات، قام القرويون أصحاب هذه القرية زابيتا، بتسليم ثلاثة رفاق إلى العدو .
  • و هل اسم القرية زاويتا أم زانيتا ؟
  • إنها زابيتا . . . كان في تلك الفترة مجموعات الكوادر تعتبر مجموعات بناء علاقات بالسكان والكشف أي الاستطلاع، يرسمون خرائط وأسماء القرى والعشائر، وكان اسم أحدهم روبار وهو يرتدي النظارات فأخطأ في نقل اسمها .
  • أي ( روبار) ؟
    أجاب توفيق :
  • روبار الذي كان لفترة في أولدره . . تذكرت أعرفه . . . أهنا سلموهم ؟.
  • تماماً في هذا الوادي، حيث رآهم احد القرويين، فطلبوا منه شيئاً من الطعام، فذهب و بدل ذلك جاء بالجنود وحماة القرى وقبضوا عليهم .
  • بهذه السهولة ؟.
  • في تلك السنين لم يكن الرفاق يبتعدون كثيراً من القرى.. و لم يكونوا يملكون مثل هذه الأسلحة الأوتوماتيكية.
  • انك تعرف تاريخ المنطقة جيداً يا رفيق ( رزاق).
  • كما تعلم أنا ابن المنطقة..أما قريتنا، لقد كانت مركزاً للبشمركة، منذ أيام (الملا مصطفى البارزاني) و جلال الطالباني وسامي عبد الرحمن. أيام القيادة المؤقتة، وحتى في السنوات الأخيرة، كان لدي جهاز إرسال – راديو – عائدلهم، مع الكثير من الأسلحة والذخيرة، فيما بعد سلمتها للرفاق.
    بعد ذلك الحديث، جاء الرفيق روزهات وبيرو، ونزلنا إلى بيوت القرية للاستحمام فيها. بينما بعض الرفيقات، كن منهمكات باعداد الحلويات، لتقديمها في الحفلة للعناصر، وبعض المقاتلين أيضاً يقومون بجمع مختلف الفاكهة لهذه المناسبة .
    و عند الظهيرة، كانت الرفيقات قد فرغن من إعداد ( اليبرق) كغداء السرية .
    بينما الأخريات منهمكات بتحضير الحلويات، التي نراها لأول مرة في صفوف الأنصار، وقد كان تلك تحت إشراف الرفيقة (آيصال)، وهي تعلم الرفيقات طريقة إعداد قطايف الجوز والتفاح .
    عند ذلك عاد الميليشيا (رزاق) والميليشيا (حسني) من طرف القرية ومعهما بندقية أثرية، نوع (برنو) مع حقيبة جعب صدرية وطلقاتها وزجاجة كبيرة مليئة بزيت التنظيف.
  • ما هذا يا رفيق (رزاق) ؟
  • لقد بحثا عنها البارحة، فلم نعثر عليها. انها بندقية لأحد حماة القرى، وأنا أعرف أنها غير مرخصة، وسيضطر لتخبئتها، وهكذا في العام الماضي أيضاً استولينا على الكثير من أسلحة حماة القرى التي تركوها في بيوتهم .
  • هات لأراها . . . . كأنها الآن خرجت من مصنعها . . . يبدو أن صاحبها كان يعتني بها جيدا، وسرعان ما فاحت رائحة الزيت المحروق عند إطلاق أول طلقة منها، نتيجة كثرة تزييتها .
  • هذا النوع من السلاح من أفضل أنواع الأسلحة على الاطلاق في التسديد . . . هي بمثابة القناص. قبل أعوام كان بيد الرفاق الكثير منها .
    و ضعنا قطعة من الورق بحجم السيجارة و بدأنا . . . بالتسديد عليها، فلم يصبها أحد عدا (رزاق) .
  • لماذا انفردت بالإصابة يا (رزاق) ؟ .
  • إنه سلاحي المفضل، عند استعماله يجب أن تضع رأس الفوهة على مسند من الصخر أو أي شيء لكي لا تهتز، ولا داعي . . . لأن ترفع رأسك مثل الكلاشينكوف، لذلك فهو من أنسب الأسلحة للخنادق.
    و بينما كنا منشغلين في الحديث عن البندقية، أطلقت صفارة الاجتماع، إيذاناً ببدء الحفلة، وكانت الساعة تشير إلى الثانية والربع ظهراً، حين توقفنا دقيقة صمت على أرواح الشهداء، ومن ثم الحديث عن الرفيقين (جيمن و ريبر).
    ثم بدأ برنامج الحفلة ببعض الأغاني ومقاطع من المسرحيات الكوميدية، وتبع ذلك تقديم الحلويات. بعد ذلك سرعان ما تشابكت الأيدي وبدأت الدبكات الفولكلورية، والذي جعلها أكثر غنى بمشاركة رفاق الميليشيا، فكل واحد منهم مدرسة فولكلورية، هم من عشائر هذه المنطقة، وفولكلورهم في الدبكات تختلف عن إيالة بوطان، بل وعن كافة مناطق كردستان الأخرى، فهم يدورون في دبكاتهم على العكس من كافة المناطق. حيث المعروف أن يكون الدوران في الدبكة مع دوران الأرض، ولكن أهالي هذه المنطقة يدورون بالعكس، ويمارسون دبكات خاصة لم أرها طوال حياتي .
    و كان الميليشيا (حسني) يردد أثناء ذلك، أبياتاً من ملحمة شعرية تحكي قصة قتال العشائر في (دشتا خانى)، وهي لا تقل روعة عن ملحمة قلعة دم دم. مؤلفة من حوالي سبعمائة بيت، كما قال .
    مر اليوم بصورة طبيعية، ولم يكن هناك ما يدعو للتوقف، سوى تصرفات بيرو المخلة بالنظام كالعادة .
    و لم ينضم الرفيق (روزهات) إلى الحفلة، لأنه كان قد تعرض لنوبة من نوبات الصرع التي تعتريه من حين لآخر، وهذه النوبات تعتري في الأغلب المقاتلين القادمين من أوساط قروية، كما لاحظت ذلك، ولا أدري فيما إذا كان للكبت الاجتماعي علاقة بذلك أم إنها مجرد عوارض لحالات عصبية أو عدم القدرة العقلية لتحمل المسئولية وظروف الحرب.
    تجاوزت الساعة الثامنة مساءً، بينما كان الجميع جالسين على شكل نصف حلقة، وبدأ الظلام يخيّم تدريجياً، وكأنه لوجود مصباح، تخفت ضوءه بالتدريج، حتى يصبح من غير الممكن أن نرى ملامح بعضنا، سوى الشكل العام .
    و بعد انضمام روزهات، وقت لالقاء كلمة عن المرحلة وقلت:
    (في الحقيقة هناك أمور تدعو لأن نخجل من أنفسنا، وخاصة في هذه الأيام التي مرت، ونحن في غمرة الانشغال بتلك الأمور البسيطة، إلى درجة غير لائقة بهذه الأيام التي نعيشها، ومدى قدسية الفترة التي نمر بها .
    انظروا أيها الرفاق والرفيقات، من منا يشعر بذلك، ومن منا يتذكر حملة 15 / آب ، ليتذكر كل واحد. أين كان في العام الماضي وفي مثل هذه الأيام ؟ .
    فيما مضى وفي هذه الأيام بالذات، كنا نعد الثواني والدقائق لنبدأ مرحلة جديدة من قفزة 15 / آب .
    وقد كانت حملة 15 / آب الأولى ضد العدو الخارجي، والثانية ضد العدو الداخلي .
    بينما كان هنالك من يعقدون اجتماعاتهم في دبلن، في القمة التي استهدفت حركة التحرر وقيادة الثورة في الوطن، ولكن هذه القمة كانت سبباً لتلك الصفعة التي وجهتها لهم حملة 15 / آب .
    الحملة الأولى نفذها مجموعة من المقاتلين على شكل عمليتين .
    أما الحملة الثانية فقد تضمنت العشرات من العمليات، فجاءت زلزالاً لاولئك في تاريخ كردستان .
    منذ خيانة ادريس البدليسى لم يتلقى هذا التيار مثل هذا الدرس.. بل كان انتشارها كمثل الطاعون، فكانت هذه الحملة نهاية لمرحلة . . . . . . وبداية لعهد جديد، لا يجد فيه الخونة موضع قدم .
    كانت (قمة دبلن) والتي تمت تحت حماية ومخططات الأمبريالية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، جبهة موحدة للقضاء على المد الثوري المتصاعد في كردستان .
    و بإنطلاق الحملة التي لم يكونوا يتوقعونها، أحبطت مخططاتهم، وجاءت النتيجة على العكس مما توقعوا، فتصاعدت الحركة الثورية، واتسعت لتأخذ بعداً أكثر شمولية، و أظهرت للعالم أجمع، مدي القوة التي بلغها ( PKK ) .
    في هذا الإطار، إذا نظرنا إلى حقيقتنا، نلاحظ وبعد كل هذا السمو، أننا نقوم بتفريغ هذه الأيام من قدسيتها، ومع أننا استطعنا في الواقع العملي للسرية، أن نكون امتداداً لتلك الحملتين، إلا أننا في الحياة الرفاقية، لم نستطع أن نعطي جواباً يتناسب مع المرحلة، لأننا لم نرتبط بعد بعمق مع الواقع الحقيقي لقيم الثورة، إذا لم أقل ببعض التصرفات قمنا بتنكيسها.
    في هذه المناسبة، على كل واحد منا أن يمرر حقيقته أمام الأعين من جديد، ويستعيد تقرباته ويحللها مع هذه الحقائق، ويعطي قراره من جديد، بعد ذلك يحق لنا أن نقول:
    عاشت حملة 15 / آب . .
    عاشت الأسلحة الثلاثة في يد شعبنا ( الحزب – الجبهة الشعبية – القوة العسكرية)
    عاش الكرد وكردستان ) .
    انتهت الكلمة بالتصفيق الحار من كافة المقاتلين، وأحدث انفضاض الاجتماع ضجة، كضجة خروج الطلبة من قاعات الجامعة، وتحلق بعضهم حولي، كما يتحلق الطلبة حول أساتذتهم، ومن الواضح أن الكلمات أثرت في معنوياتهم، حتى روزهات. حيث أمسك بيدي وهو يضحك ضحكات لم أعهدها منه منذ مجيئي إلى السرية، وهو يقول: هيا لنشرب الشاي والرفيقة نوال أيضاً تقول : لم أكن أعرف إن لك كل هذه الامكانيات .
  • أي أمكانيات يا رفيقة نوال .
  • الأسلوب الخطابي المتين والقدرة على ربط الأحداث . . ، معظم الكوادر من غربي كردستان يمتلكون هذة الامكانيات(47) . . ، تروتسكي ، تروتسكي . بعد ذلك تمددت كما يقول الشعراء ملتحفا بالنجوم. بينما كان السكون قد بسط سلطته على الأرض، وهي أقوى سلطة للكون، هيبة وخوفاً .
    عالم لا تعرف ماذا ينتظرك فيه، ولا سيما وسط الظلمة والحرب، وخاصة عندما تقدم الأعين استقالتها، وتحل محلها الآذان .
    و سواء عليك، حين تستلقي في هذا الظلام، أغمضت عينيك أم تركتهما مفتوحتين. فقد اتحدت كل المخاوف في هذه المنطقة، كما تتحد أعتى الامبراطوريات في امبراطورية واحدة . . . امبراطورية الظلام .
    و لا يشق هذا الصمت، إلا نقيق الضفادع وأصوات الصراصير، وبين حين وآخر ينعب البوم الجبلي، وكأنه يقول: ( علو .. علو… ولا بد هنا من ذكر ما يتناقله أهالي بوطان عن هذا النعيب. فقد زعموا أن هذا البوم، كان في الحقيقة انساناً، ولكنه مسخ بصورة بوم، وكان سبب ذلك، أن اثنين من الرعاة، وكان اسم أحدهما (علو)، ذهبا إلى الرعي مع قطعانهما في الجبل، وفي الليل داهمهما قطيع من الذئاب، مما جعل القطيع يتشتت في الشعاب والوديان، ومن خوف (علو) وصاحبه من أصحاب القطيع، استمرا في البحث عن القطيع وتجميعه . . . . ولطول المدة التي قضوها في الجبال، شيئاً فشيئاً تحولا إلى بومتين، وهما حتى الآن يبحثان عن القطيع و يصرخان ( علو ، علو.. هل رأيت شيئاً ) .
    و هكذا تنسج الناس معاناتها في أساطير، وكما لا يزال (علو) يبحث عن قطيعه، فنحن أيضا لا نزال نبحث عن الحرية .
    لقد استقرت أوضاع السرية، و بدأت أشعر بنوع من الارتياح، فقد اقترب موعد وصول الرفيق ( باهوز )، و لكن بيرو لا يزال كما خلقه الله، لا تزال نظراته تفيض بالمكر
    و الخديعة، وأشعر أنه لا يزال مصمماً على التلاعب باعصابي ومعنوياتي وسط هذه التطورات، وبينما عبر كافة العناصر عن ارتياحهم، لإخراج السرية من هذه الأزمة، تراه ينظر إلى ذلك بامتعاض .
    إنه يريد أن يدخل أصبعه في الجرح، بدلاً من وضع الضماد، مع أنه من أعضاء الإدارة، وكان أول المستهدفين، فيما إذا أخفقت الإدارة في تجاوز الأزمة، ولكنه نبات سيئ.
    ما هذه النظرات التي ينظر بها إلي وكأنني قاتل أبيه . . .
    لقد طالت سنواته في صفوف الغريللا وتكررت تنقلاته، وفي كل مرة يكون ذلك بسبب المشاكل التي أحدثها والتخريبات التي قام بها.
    و أنا أعرف تماماً، أن كل ما وقع للسرية كان بسببه .
    و لكن روزهات تحت تاثيره، ويكاد لا يخرج من مجموعته، ومن المحقق أنني لو حذرته منه فسوف يخبره بذلك، وليس من مخولاتي أن أتدخل في هذه الأمور، وإلا كنت اعتقلته منذ مدة طويلة، ولم أتركه حتى أعرف حقيقته، فلا بد أنه مرتبط ببعض الجهات.
    و لكنني كثيراً ما انتقد نفسي و أفسر انطباعاتي عنه، ربما ردود أفعال لمواقفه القديمة . . . . إنها أحقادي أنا وليست خياناته .
    و لكن عندما استرسل في تذكر اقتراباته، تكون النتيجة كلا وألف كلا، وخاصة عندما أتذكره في جبل (جياي سبي) وجبل (بى خير) وها هو الآن يكرر نفس الألاعيب والأساليب.
    و هو الآن في لجنة التحقيق مع الرفيق (عكَيد)، ولكنه يريد أن يميع التحقيق، والهدف من كل ذلك، أن تتطور الأزمة من جديد، والهدف البعيد هو أنا، روزهات مضمون بالنسبة له، و (نوال) تم التشهير بها، وتوفيق وجوده وعدمه سيان، وجيهان مثل توفيق، فلم يبق غير دوغان، خاصة وهو يرى دوري في إعادة النظام والوئام للسرية، وهذا يعني أن حاكميتي على السرية ستزداد . . . لذلك يضعني في رأس القائمة، ولكن كيف ؟
    لقد استخدم روزهات في ذلك فأخفق، واستغل كل الفرص التي سنحت له فضيعها ولم تبق إلا فرصة واحدة . . . العمل في الظلام بتأليب القاعدة، وهو يقول لكل واحد يخلو به: لماذا إلى الآن لم يتدخل دوغان . . . ؟ ألا تعرفون لماذا ؟ انه انتظر حتى أقنع الجميع بعدم قدرة روزهات على ضبط أمور السرية، ثم تدخل بعد ذلك ليثبت أنه الأحق بقيادة السرية .
    لقد تأكدت من ذلك، عندما رأيت الرفيق (شيار) يخرج من اجتماعه مع روزهات بمعنويات عالية، مع كل ما كان بينهما، ولما سألته عما جرى بينهما، نظر إلي بإرتياب وهو يقول: الآن فهمت.. حرب الكراسي .
  • أي كراسي يا شيار ؟ . .
  • لا شيء . . . لاشيء .
    و تبيّن لي أن روزهات غير راضٍ عن استتباب أمور السرية، لأن ذلك كان بالمساعي التي بذلتها .
    و هو يفضل أن تتدهور الأمور بالكامل، وينتهي ذلك بإعتقاله واعتقالي معه، على أن يقال إن دوغان من أصلح الأمور .

30 آب 1996

في الصباح اجتمعت الإدارة لوضع البرنامج اليومي .
– ماذا نفعل اليوم ؟ . يبدو أن مجيئ باهوز آردال غير معروف .
روزهات :
– عندما قرأ الرفيق توفيق تعليمات القائد الأخيرة، لم يكن جميع العناصر موجودين، لذلك أرى إعادة قراءتها .
توفيق :
– صحيح فأكثر العناصر لم يسمعوها .
جيهان :
– ولكن ترجمة التعليمات أفضل .
روزهات :
– إذا ليستعد الرفيق بيرو لترجمتها .
بيرو :
– في أي ساعة سنبدأ التدريب .
روزهات :
– في التاسعة .
(بعد الفطور كان معظم المقاتلين منتشرين في حالة استلقاء في ظلال أشجار الجوز والفاكهة، وهم متلثمون بكفياتهم لاتقاء البراغيث والذباب التي تكثر في هذه البساتين، سيما وقت نضوج الفاكهة، ثم إن الجو هنا يختلف عن جو المرتفعات التي كنا فيها، فهنا الصيف، صيف بكل معنى الكلمة. خاصة بعد تعودنا على هواء تلك المرتفعات القارص ليلاً، و انتقالنا مباشرة إلى هذه الحرارة التي لا تطاق، والتي تسبب ما يشبه الخناق وتنشر الكسل في أنحاء الجسم) .
الجميع انضم إلى الاجتماع ماعدا اثنين من عناصر الميليشيا، لانشغالهم منذ يومين بجمع بعض الجوز وتكسيره ونشره للاحتفاظ به، ليأخذوها معهم لعائلاتهم في معسكر مغمور(48).
بدأ المقاتلين ينامون، لضعف الترجمة المباشرة من التركية إلى الكردية التي قام بها بيرو . . . جمل مفككة وعبارات فارغة من المعاني، ومواضيع مختلطة، لذلك أعطيتهم فرصة وقلت لـ بيرو : يبدو أنك لم تحضر نفسك للترجمة وتلاقي صعوبة في ترجمتها، فلذلك تعاون مع الرفيقة (نوال) على إعادة الترجمة وصياغتها من جديد .
بدأت (نوال) تعيد الترجمة، وبدأت علائم السخط تلوح على وجه بيرو، وكأنه رأى في ذلك إهانة له .
و فور انتهاء التدريب، اقترحت على روزهات أن نغيّر موقع نقطة التعسكر. واتخذنا القرار بالتحول إلى قرية (بيرا) الواقعة في نهاية الغابة تماما، وبداية الطريق إلى (الزوزان) . حيث تنتهي في أعلاها صخور ومنحدرات الزوزان، ويبدأ من أسفلها امتداد الغابة .
فهي ذات مناخ وهواء لطيفين و اعتدال عجيب، وبالإضافة إلى ذلك نقترب أكثر من مركز التموين .
قبل غروب الشمس بدأنا بالتحرك، وبعد أن قطعنا قرية زاوبيتا، كانت بعض البيوتات المتفرقة والتابعة لـ قرية كوزه رش. حيث توقفنا بعد نصف ساعة من المسير بين بساتين الأشجار المثمرة، وقام المقاتلين بجمع الكثير من العنب والتين، حتى أطلق على هذه الاستراحة استراحة الفاكهة .
بعد ذلك تابعنا المسير في طريق السيارات الواصل ما بين هكاري – تشقورجة ، وهو الآن غير صالح لعبور السيارات، لتراكم الانهيارات و الجروفات الصخرية على مواضع كثيرة منه.
‏ أما قرية (بيرا- Pîra) كما قيل فتعود ملكيتها لعائلة واحدة، وتعتبر القرية الوحيدة التي كانت لا تزال تحافظ على ديانتها اليزيدية في المنطقة.
و لم يبق من البيوت إلا أطلالها، حيث تحولت إلى مجموعة خرائب، باستثناء بناء على ارتفاع حوالي المترين وبشكل مكعب، لا يزال محتفظاً بشكله الكامل، ويعتبر مركز القرية، ثم عرفنا من الميليشيا، أنه معبد أهالي هذه القرية، ويطلق عليه اسم (حج بيرا)، وهو اسم أطلقه المسلمون على هذا المزار، بينما أهالي القرية يسمونه (بيرا) وتطلق هذه الكلمة على مرتبة من شيوخ الديانة اليزيدية .
بالرغم من ضوء القمر، فلم تتح لي عتمة الليل أن أرى القرية بصورة واضحة، فقمنا بتوزيع المجموعات بين أشجار الجوز وفسحات القرية، وبقايا البيوت التي لا تزال تحافظ على ما يذكر بها أنها بيوت .
و تمتد القرية في واد عميق، تحيط به المرتفعات والمنحدرات الصخرية قاتمة اللون، وتخترقه المياه المتحدرة من المرتفعات، لتصب أخيراً في نهر الزاب .
و على طول مجرى المياه، اكتظت مختلف الأشجار، الأكثر شجر الصفصاف، وما يلفت النظر، أكوام الحجارة المتجمعة وسط البساتين، وعلى تخومها على شكل جدران مهدمة، قد التفت بالاعشاب المختلفة، مما تعطى لوحة متكاملة لقرية مهجورة .
‏ 31 آب 1996
ما إن أشرقت الشمس، حتى سارعوا العناصر لتفقد ولمعرفة مزار بيرا. هو مزار مبني بحجارة ضخمة، أول ما يفكر به ناظرها، كيف استطاع أولئك الناس أن يرفعوا مثل هذه الحجارة؟ فكل واحدة منها تزن الأطنان .
و أما هيكل البناء، فهو ينقسم إلى قسمين، صحن وحرم . . ، ولكل منهما باب . . ، تدخل من الباب الأول الذي لا يتجاوز ارتفاعه المتر، لتجد فسحة تقودك إلى باب آخر يماثله في الضيق والارتفاع، فتلج منه إلى حجرة مظلمة، يستقبلك فيها قبر طويل، يتجاوز الثلاثة أمتار، مغطى بستار أخضر قد علته طبقة من الغبار .
بعد لحظات، سمعت الميليشيا يصرخ على المقاتلين الذين حاولوا نزع الستار من على الضريح، وهو يقول : حرام . . . حرام . . . مما دفع الرفيق قنديل (مسؤول التموين). أن يحمل الستار، بدافع احترام مقدسات الناس، ويقوم بغسله في النهر ونشره على الأغصان، ليعيده إلى مكانه حين يجف .
لم أتمكن من معرفة تاريخ بناء المزار، ولكن اسلوب البناء يدل على أنه يعود إلى تاريخ بعيد .
و قد عثرت في المزار على باب خشبي، كان يستعمل فيما يبدو للمزار، وهو من خشب الجوز، قد نقشت عليه مختلف المقدسات اليزيدية، ولا تزال واضحة المعالم، رغم اهتراء بعض أطراف الباب .
في تلك الأثناء، سمعت صوت الرفيق (حسني) الميليشيا، وهو ينادي من فوق الحواف الصخرية التي يسير عليها، في طريقه لتفقد مستودع القديم للرفاق في هذه القرية:
– لقد أفسدت الدببة المستودع، الطحين مبعثر هنا وهناك..
وذهب عناصر لتفقده أيضاً . . . فوجدوا أن الدببة قد بعثرت نصف المواد التموينية تقريباً .
التفت إلى الرفيق جعفر وهو يقوم بتركيب حلق حزام أمان السيارات لجعبته .
– ماذا تفعل يا جعفر ؟ . .
– كما ترى . . . وجدت هذا الحزام في الطريق وأحاول أن أستبدل به قشاط الجعبة ، فهو أريح من جهة وسيكون خلع الجعبة أيضا بطريقة أوتوماتيكية انظر . . ، وقد استطاع فعلا أن يطور مسألة تقلد الجعبة وخلعها . . .
و هكذا كان المقاتلين متفرقين . . . البعض يقوم بكسر الجوز والتسلي به، وآخرون يقومون بتحضير الطعام، والبعض يقومون بحراسة المقاتل عكَيد ، الذي ما يزال معتقلاً، وآخرون متحلقون حول ابريق الشاي وهو على النار المتقدة، وهم يتندرون في الأحاديث. حيث قال أحدهم وهو يشير إلى أحد المقاتلين: إنه مثل ابريق الشاي، جذاب رغم سواده القاتم.. وعندما يحضر يتجمع الأخرون من حوله . . . . أما عناصر الميليشيا، فلا يزالون منهمكين في العناية بالجوز، وقد جمعوا عشرات الكيلو غرامات منه، وقاموا بنشرها على الكفيات وتعريضها للشمس .
و بدأ المليس(49) (رزاق) يدلنا على نوع من شجر الجوز يتميز عن بقية الشجر، بثمرة ذات قشور مثل الفستق السوداني – أو فستق العبيد كما تسمى في سوريا.
مساءاً تجمعت الادارة من أجل التكميلات اليومية، ولكن (روزهات) لم يعد يحضر التكميلات، وكأنه سحب يده من كل شيء، فاضطررت لإدارتها عوضاً عنه، واتفقنا في النهاية أن يكون التدريب بعد العشاء .
و بعد الانتهاء من الفترة التدريبية، عاد المقاتلين المكلفين بجلب التموين، وقد جلبوا معهم أيضا الكثير من الفواكه، وقاموا بتوزيعها على المجموعات. قمت أيضاً لأخذ حصتي كما يقول البدو العرب ( إذا حضر أثناء الأكل فشارك الأكل.. وإذا حضرت وهناك القتال فقاتل ) .
1 ايلول 1996
بعد الاستيقاظ، جلست على كيس النوم الذي كنت التحفت به، متكئاً على حقيبتي، مسندا رأسي إلى جذع شجرة الجوز التي نشرت أغصانها، لتشكل مظلة عملاقة، و أنا أصغي للضجيج الصادر من المجموعات .
و قد صار لي كالعادة، ألا أنام بين العناصر إلا في ليالي الشتاء الباردة. حيث نضطر للنوم تحت الشوادر.
و هكذا جلست أتفكر في الواقع الذي صرنا إليه، بينما أنظاري إلى تلك الجبال من حولي، إنها آلهة من الرخام . . . هامدة، ترقد في الصمت مثل العجوز، وتلك تجاعيد وجهها تتحدث عن الماضي العريق .
و هي تجرك إلى عمق ماضيها، لتشهد أنها آلهة كتلك الآلهة التي نسمع عنها الكثير والكثير .
أليست كل الألهة صامتة أيضاً كهذا الصمت، و الذين يتحدثون بالنيابة عنها، هم من نسميهم بالأنبياء . . . . ولكل إله نبي ؟.
لماذا ضيعت هذه الآلهة أنبياءها . . . .؟
أم لم يكن لها أنبياء ؟ !
هل يعقل أن تكون هناك آلهة بلا أنبياء ؟ . .
فما أعرفه.. أنه هنالك أنبياء بلا آلهة .
ربما هذه تكون المرة الأولى، التي أقف فيها أمام آلهة بلا أنبياء .
أين زرادشت الذي اعتكف في كهوفها.. و النبي نوح ؟..وتشبث سفينته بها وانقاذه الحياة من بين طوفان الشر. وما أدراني أن تكون آلهة مهجورة، كهذه القرى التي هجرتها أصحابها لتبتلعها الأرض. كما هجرها النبي ابراهيم بلا عودة .
تجاوزت الساعة الثامنة، بينما (روزهات) على غير العادة، يتنقل بين المجموعات ويختار بعض العناصر ويأمرهم بالاستعداد لمهمة جديدة فيما يبدو.
و بالفعل تحركت مجموعة من المقاتلين، ومن بعدهم مجموعة أخرى مع البغال ، بينما تقدم مني الرفيق توفيق وهو يقول :
– هل أخبرك روزهات عن مهمة الكشف ؟ .
– أي كشف ؟
– المجموعة التي ذهبت .
– و هل ذهبت للكشف ؟
– نعم . . . لقد أرسلهم إلى أطراف قرية كعى.. لكشف تحركات حماة القرى .
– و هل أخبرك بذلك ؟
– كلا و لكن عرفت ذلك منهم .
– ما هذه المزاجية والفردية.. إنه تصرف غير مسؤول ؟
– و هل عرفت أنه منذ الصباح يقوم بحفر مستودع جديد بنفسه؟ .
– متى ؟
– اليوم.
طبيعي . . . لم يبق أمامه إلا التظاهر بالتضحية لكسب القاعدة . ما رأيك أن نذهب إلى شجرة الجوز التي دلنا عليها الرفيق (رزاق) ؟ إن قشرتها تهمش بالأيدي كقشور فستق العبيد .
– ليذهب معنا الرفيق معصوم أيضاً .
– و هو كذلك.
و هكذا اصطحبنا الرفيق معصوم وقصدنا تلك الشجرة. تسلقتها والعصا في يدي، أضرب بها على الأغصان ، فتتساقط حبات الجوز .
– يا رفيق معصوم هل تعرف لماذا سميت الجوز بهذا الاسم ؟ .
– و ما أدراني . . . جوز ، يعني جوز .
– فيما يبدو أن التسمية عربية الأصل، وهو تحريف زوج فلا تجد حبة بمفردها، فإما أن تكون حبتين أو أكثر.
– و لكن في الكردية نقول كَوز وفي التركية جويز و (كَوز) في اللغة التركية تعني العين فأيهما نعتمد؟ .
– اللغة التركية كما تعلم معظم مفرداتها مسروقة من لغات شعوب المنطقة .
– صحيح و التطور الذي أحدثوه في لغتهم هو استبعاد الكلمات الشرقية خاصة واستبدالها باللاتينية .
– لنعد إلى اسم الجوز هل هو كردي أم عربي ؟ .
– لست باحث لغوي . . لنترك لهم الأمر و لنبقى في تنقي الأطيب .
يتدخل هنا توفيق بقوله: كما أرى الاسم (كَوز- Goz) كردي.. فهل هو في العربية قريب من هذا الاسم .
– نعم يا رفيق توفيق إنه في العربية (جوز) .
بعد ذلك قمنا بجمع ما تساقط من اأغصان في ساقية الماء الصغيرة، ثم جلسنا في ظل الشجرة بالذات وأمامنا حباتها التي لا تزال بقشورها الخضراء الطرية، ولكنها سرعان ما تنزلق وتخرج الحبة، وبطرف رأس السكين تستطيع فتح قشرتها الخشبية من نقطة تلاحمها مع الشجرة .
– رفيق معصوم.. هذه أول مرة في حياتي آكل هذا القدر من الجوز .
– كلنا كذلك يا دوغان ومن كان يستطيع أن يأكل كل هذا القدر .
يتدخل توفيق ويكمل
– بل قل من كان يستطيع أن يشتري هذا القدر . . . في متروبولات تركيا لا يستطيع أحد شراء بعض الغرامات، فثمن الكيلو الواحد يتجاوز المليون ليرة تركية .
– هل تعرف أن الجوز من أكبر مصادر الاقتصاد التركي، مع أن معظمه من أراضي كردستان .
– أتذكر في عام 1993 في بوطان – (كَارسا) بالذات، استولى فصيل من رفاقنا على ثلاثة شاحنات كبيرة، جمعت حمولتها من برواري ومتجهة نحو مدينة سرت، وحمولتها كانت فقط الجوز والعسل، كلها سرقة من خيرات كردستان . . وحرمان أهلها منها .
بعد ذلك عدنا إلى نقطة تعسكر السرية، كان العناصر قد تناولوا الغداء وانتشروا معظمهم تحت الأشجار، هروباً من حرارة الشمس .
و رغم إكثارنا من أكل الجوز، فقد أصر المقاتل المكلف اليوم في الطبخ أن يقدم لنا صحن من شوربة العدس .
فتغدينا غداءً خفيفاً ثم انضممنا أيضاً إلى ظلال الأشجار .
و ما إن قعدت على الأرض حتى جاء أحد المقاتلين، ممن يقوم بحراسة المقاتل عكَيد، ليقول لي: إن الرفيق عكَيد يريد التحدث معك .
– ماذا يريد ؟
– لا أدري ولكن معظم العناصر الذين يقومون بحراسته يتحدثون معه .
– ألم نقل ألف مرة يجب عدم الحديث معه .
– هل ستأتي إليه ؟ .
– نعم سوف آتي .
ذهبت إليه . . من الواضح أنه يحاول من خلال حديثه أن يكفر عن تصرفاته .
– يا رفيق دوغان إن انضمامي إلى صفوف الانصار كان برغبة عائلتي وأنت تعرف ذلك .
= دعوت الرفيق كورتاي لينضم إلينا، حيث هو من لجنة التحقيق معه، للتوقف على كلامه، فهناك نقاط غامضة حول عائلته بالذات، ولا سيما أن له أخاً يتعامل مع العدو =
و استمر بحديثه :
– إن والدي كان بمثابة ميليشيا وكان يقدم الكثير من المساعدات للرفاق وفي استانبول تعرفت على التنظيم، ثم قررت الالتحاق بالجبل، فارسلني والدي مع إصرار والدتي على رفض ذلك، وأما أخي فليست لنا أي علاقة به، ثم إنه موظف ولا أعرف ماذا تقصد بكونه متعامل مع العدو .
هنا تدخل قورتاي بقوله: ماذا تقصد في الدفتر الذي تكتب فيه مذكرات، بأمثال قولك . . . كلاب . . . كلاب تنبح. . . أفاعي من حولي؟..
– بصراحة المقصود بذلك (روزهات) و تقرباته، وقد كتبت ذلك بردود فعل، بعد مضايقات كثيرة . .
سألته : كيف ترى وضعك الآن ؟ .
– أقول الحق يا رفيق (دوغان): إن نواقصي وتضايقي وضعاني في هذه المواقف .
– أنا أعرفك منذ أيام (كَارسا) في ايالة بوطان عام (۱۹۹۳). لا أشك في نيتك، ولكن بين حين وآخر تعرض نفسك لمثل هذه المواقف، وقد استغربت أن تقول في تقريرك، أنك لا تعرف الحزب جيدا، وقد مرت عليك سنوات وأنت ضمن صفوف الغريللا وأنت لا تعترض مهما كانت المهمام، بل تقوم بتنفيذ أصعبها . . . . وربما لا يقدر الآخرون جهودك كما تستحق، ولكن أنت كذلك تبدد كل شيء يبضع كلمات، إن لسانك بلاء عليك . . . وكم مرة نبهتك ألا تتحدث خارج الرسمية، وأن تدع نقل الأحاديث بين المقاتلين، ولكن كأني أنصح هذا الحجر .
– حاولت كثيراً أن أتجنب هذه النواقص، ولكن لا أرى نفسي إلا وقد وقعت فيها .
– لابأس سنعطيك قائمة من الأسئلة لتجيب عليها .
ثم كلفت (قورتاي) بذلك، بعد أن رجعت إلى مكاني، وهناك بدأ قورتاي بحذر يتحدث عن أمور انتقلت إليه، حول المهمة التي زرعنا فيها اللغم اسفل قرية كعى، و هو يقول: هل صحيح أنك قلت أثناء ذلك: أنا متخوف من قورتاي .
– من قال لك هذا يا قورتاي . . إنه يريد أن يتلاعب بنا . . . انا أعرفك منذ الشتاء، ولو كنت أحمل عنك هذا الانطباع لواجهتك به، ولاشك أن الذي قال لك هذا يتلاعب بالثورة، وليس بنا أنا وأنت .
– أنا في الحقيقة لم أصدق . . . ولكن الإنسان إنسان ، ويمكن أن يقول كل شيء .
– لا . . . هناك حدود للكلام . . . فنحن ضمن تنظيم له قواعده وأخلاقه، فكيف نستطيع قول كل شيء .
– الظاهر أن هناك من يدير كل هذه التلاعبات بمعرفة تامة .
– من تقصد ؟
– انك تعرف من أقصد وعندما يأتي الرفيق (باهوز) لكل حادث حديث .
( من الواضح أن بيرو مستمر في تلاعباته، فقد كان البارحة مع غروب الشمس يتمشى مع قورتاي، مثل الطلبة في الجامعة، وهما مستغرقان في الأحاديث، والتفاتاتهما المتكررة كانت تدل على نوعية تلك الأحاديث، ولابد أن حديث قورتاي معي جزء من آثار تلاعبات بيرو، وقد استطاع أن يجد في قورتاي الشخصية المناسبة لتلاعباته، فهو يمتاز بحبه للدخول في الأجواء الضبابية، و هوايته التفتيش عن المشاكل وتحليلها، مع ما يتمتع به من المراوغة والازدواجية، التظاهر بالعبودية أمام من هو أعلى منه، وإشعار من اقل مرتبة أن له دورا في مراقبة أوضاع السرية، بتكليف من جهات عليا، وأكثر خصوصياته بروزاً الانتهازية، فكل همه هو المنصب، بأي وسيلة كانت، ومثل هذه الشخصيات، لاسيما في مثل هذه الأوضاع تكون في ذروة نشاطها .
و بيرو يستثمر هذه النقاط في شخصية قورتاي، فمرة ينفخ على النار ومرة على الدخان، لتزداد الأحداث ضبابية وسخونة .
لقد وجد بيرو في قورتاي (قنبلة دخانية) لتنفيذ عمليته، بعدما انتهى من جعل (روزهات) ألعوبة في يده .
– أما الرفيق ( توفيق) فهو لا يعرف ماذا يجري، بل هو ضائع بكل معنى الكلمة .
الرفيقة (جيهان) بالرغم مما لها من المواقف الصحيحة والثابتة، فهي تحت تأثيرات (نوال)، التي لاتزال تمثل الجبهة المعارضة .
و هنا أتساءل.. هل أستطيع بمفردي أن أكون الحل لكل هذه العقد وسط هذه الأجواء الضبابية ؟ . .
أن تكون الحلول على نمط حلول رجال الدين، بتوزيع العسل يميناً وشمالاً. يعني الإجهاز على المفهوم الثوري للحزب .
و سياسة سد الثقوب، لكي لا تتسرب الرائحة أيضاً سياسة فاشلة .
و قد كانت هذه هي سياسة الرفيق (باهوز)، ولكنه ما إن ترك السرية حتى تطايرت السدادات من هنا وهناك .
الحل الصحيح، هو الفرز.. والفرز وحده ما بين القمح والزيوان .
و بغير ذلك لا يمكن الاستمرار، ولابد أن يجرد البعض من مهامهم بالأخص ضمن الإدارة، فالإدارة لم تعد قادرة على التصديق أنها إدارة، فهي بؤرة الجبهات والتكتلات، وليس فيها ما يذكر بصورة الإدارة المتماسكة، التي يكمل بعضها بعضاً . . . لم يعد فيها أحد يقبل الآخر، وكل واحد يقترب من الأخر بنية الإيقاع به .
و هذه النقطة، هي ثمرة تلاعبات (بيرو الطويلة، والتي زرعها في الإدارة بخبرة واقتدار، بالاستفادة من نقاط ضعف الجميع، حتى أصبحنا كما يقول المثل الكردي ( مثل حبات الحمص المبعثرة فوق الصخر) .
فهل أستطيع حل كل هذه العقد . . . حتى لو كنت أستطيع ذلك، فليست في يدي الصلاحية للتدخل، وكل ما يمكنني فعله ألا أكون سبباً في تدهور الأمور نحو الأسوأ، ريثما يتم تدخل من القيادة .
صحيح أنني نجحت أن أعود بالأمور إلى حالتها الطبيعية، ولكن ذلك لا يعني أن يقف الآخرون مكتوفي الأيدي أمام ضياع الفرصة من يدهم. وكما يقال : ما تبنيه في سنوات يمكن هدمه بثواني .
لذلك ذهبت كل جهودي هباء، وليس ذلك فقط وإنما انقلب السحر على الساحر كما يقولون، وأصبحت مركز التلاعبات وهدفها، وكما يقال في المثل العربي: (اتسع الخرق على الراقع) .
ماذا أفعل ؟.. هل أحطم رأسي بهذا القدر . . . و هل كل شيء مطلوب مني فقط.. وهل أنا الحزبي والثوري الوحيد بين هؤلاء ؟ . .
و ما الذي تمكنني من فعله بصلاحياتي المتواضعة ؟ .
هكذا وصلت بي التناقضات إلى ذروتها، وبدأت أشعر بأن داخلي يتاكل، حتى فقدت التوازن في أبسط الأمور، وبدأت أتجنب الاختلاط بالعناصر والميل إلى الانزواء، و الانفراد أكثر فأكثر، والرغبة في النوم العميق للهروب من هذا الواقع .
( في مثل هذه الحالات، يتعرض المقاتل لإنقطاع روحي ومعنوي من هذه الحياة، ويبدأ بالحنين إلى حياته القديمة، إلى ذكريات الماضي ودفء العائلة و أيام الدراسة . . . الفن . . غرفتي المزينة بلوحاتي أيام الدراسة . . التجول في شوارع مدينة حلب مع زملائي الطلبة وزميلاتي . . . . . . . . . . أختي أخواتي الذين كنا معاً ننقطع من العائلة، لنذهب إلى القرية ثم نعود إلى المدينة لمتابعة الدراسة . ذكريات وذكريات تنبش الجروح، و تجدد الاشواق، حتى تحس بنبض عروقي كيف تغيرت حركته، وبين لحظة وأخرى يقشعر جلدك، وتحس بكل شعرة على يديك، و كأنها تتنفس الصعداء. ويتكرر السؤال . . . ماذا فعلت . . ماذا . . . . . ؟ أين كان مسار حياتي و أين هو الان ؟ .
لقد مرت ثماني سنوات وأنا في هذه الجبال. منذ أن وطأت قدماي هذه الجبال، ومنذ نزولنا من سيارة الشحن على ضفة نهر دجلة، لم أرى مدينة إلا بالمنظار، ولنترك المدن يمر سنة وسنتين و سنوات لا نزور حتى قرية .
ذوت وردة حياتي، وذهب شبابي كالرماد على جوانب هذه الطرقات . . ما هي النتيجة بعد كل هذه التضحيات ؟ .
هل كان ينقصني شيء في عائلتي . . . ؟
لا، فقد كنت أحصل على كل ما أرغب، وكانت مرتبطة بي إلى درجة، وحتى إنني طوال عمري لم أرى والدي تدمع عيناه، ولكنني تفاجأت، حين أتى لزيارتي بعد عودتي من اكاديمية معصوم قورقماز وتأكده من قرار التحاقي بالجبال، الذي لم يعد فيه عودة، انه قد انفرد لانتظاري في غرفة، ولما دنوت من الغرفة سمعته يبكي، بصوت يسمعه كل من مر هناك . . . ولم أعرف كيف سأدخل عليه وهو في تلك الحالة، وهو الذي كان يتظاهر أمامنا وكأنه دكتاتور) .
ذهب الذي ذهب و احترق الذي احترق، ولكن يبقى السؤال الذي لا يفارق مخيلتي والذي يذكرني على الدوام بكلمة (هملت) وهو على الأسوار ( أكون أو لا أكون تلك هي المسألة) ـ في مسرحية شكسبير العظيمة . .
بعد كل هذا الجهد الذي بذلته وصعوبات هذه الحياة التي عشتها، لابد أن أتساءل أيضاً.. ( أكون أم لا أكون) .
و هل سيقدر لحشرة من الحشرات أن تلتهم كل شيء ؟!.
نعم لكل زهرة حشرتها .
و ضعت كفي على راسي وكأنه قد يغلي، ولكن ماهي الطبخة التي ينم طبخها لي . . . هل ستكون لائقة بهذا الجوع الطويل أم ستكون النهاية؟.
هل أقر بالهزيمة ..و أعود للبحث عن الطريق من جديد، بعدما قطعت السفينة كل هذه المحيطات؟.. بكل ما فيها من الليالي الحالكة . . . وهكذا تذكرت كلمة طارق بن زياد (البحر من ورائكم والعدو من أمامكم) .
لقد عبرت المضيق ونزلت الشاطيء، ولكن سفينتي لاتزال، مع أني أضرمت النار فيها، ولكن بين حين وآخر أشعر بوخزات الندم وهيجان العاطفة، وأنا أنظر إليها وهي تحترق.
تارة أنظر إلى أمامي وتارة إلى ورائي، وأخطو بعض الخطوات أحيانا خطوتين إلى الوراء، وخطوة إلى الأمام، وخطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الوراء، ثم أتسمّر في مكاني ودخان السفينة شيئاً فشيئاً يخيّم على المضيق، ويمد سواده على زرقة البحر و السماء . .. بينما أجزاء السفينة تتساقط في البحر، لينطفيء نارها، وتطفو على أمواجه الصاخبة وكأنها أحد قوارب الهندوس، التي يحرقون عليها جثث عظمائهم .
إنها عذابات لابد منها، ولكنني عندما أقدمت على حرق السفينة، كنت أعلم ماذا يعني بقاؤها من الأحلام الكاذية .
فلتحرق… فقد أردت لها أن تُحرق .
و لتمت، فإنها تستحق أن تموت، هي وكل عالمها القديم .
فأنا اليوم أمام عالمي الجديد، كعالم طارق بن زياد، ويجب علي المسارعة بوضع أسلوب جديد للحياة .
إنها مسألة فلسفية: الخطأ في ممارسة الحياة وسط الحرب يعني الموت .
لذلك يجب أن أتوقف على الخطأ في شخصيتي .
لكل واحد من هؤلاء المقاتلين، بيئته ومحيطه وطبقته المختلفة، والتي شئت أم أبيت، لها دور في أسلوب حياته ومستوى قناعاته .
الأمر بمنتهى الطبيعة، وأما غير الطبيعي فهو أنا .
فبعد كل هذه السنوات، كان يجب أن أكون صاحب شخصية متمكنة وقادرة على تجاوز مثل هذه التناقضات، بل كان علي أن أكون قوة حل لمشاكل إيالة وليس سرية.
ألست أقدم من الكثيرين . . كيف ينجحون في قيادة قطاع أو إيالة ؟ وأن يكونوا قوة الحل أينما كان.
المشكلة مشكلتي مشكلتي فقط، فالثوري الحقيقي لا يعرف العوائق، و وجوده يعني عدم وجود العوائق، ولكن ها أنذا تكبلني العوائق البسيطة، وأنتظر مداخلة الغير .
(كل دقيقة تمر يزداد الغليان في رأسي، وأشعر بالرغبة العارمة للنوم، والعبدان المطيعان – وأقصد قدمي هاتين – لم يعودا قادرتين على حملي، بل إنهما يبحثان عمن يحملهما . . . وبوادر العصيان والتمرد ظاهرة في حركتهما، فأنا في مكان وهما في مكان وجسدي في مكان ورأسي في مكان .
هل يستطيع النوم أن يجمع كل هذا الشتات ؟
حاولت أن أسدل جفني على العالم .
أيتها الستارتان المتعبتان، لا أريد أن أرى شيئاً .
ألقيا بالأشرعة على زورقيكما، واتركاهما للبحر في الظلام .
كفى عذاباً في اغترابا… كفى كفى ) .
استلقيت لأنام، وكان الهيجان في مشاعري، كأنني استقل سيارة هاوية في منحدر سحيق، بل كأنني شظايا قذيفة تتناثر هنا وهناك، و كلما قلت.. ها أنا أستطيع تناسي الأحداث، كلما انفجرت مجتمعة بصورة واحدة، ولا أعرف أنني نمت إلا عندما يقوم أحد العناصر بايقاظي، لأرى نفسي مازلت في هذا العالم، وعندما يقترب مني أحد المقاتلين ويريد أن أشاركه في الحديث، لا أستطيع أن أشاركه إلا بترديد النظر إليه، وهو مستغرق في الحديث، بينما أعيش في مكان آخر . . . يقول لي: هل هذا صحيح ؟ ، فلا أعرف بماذا أجيبه وكلي انتظار إلى تلك الكلمة التي تعني انصرافه ورجوعي إلى عزلتي.
و مع ذلك لا أرى نفسي إلا وأنا أتجه نحو مجموعة من المجموعات لأروح عن نفسي ، وأنسى ما أنا فيه، وأحاول بشتى الوسائل أن أشاركهم حديثهم، ولكن سرعان ما يظهر أنني لست ممثلاً ماهراً، ولست سياسيا أيضاً، بل لا أمتلك شيئاً من خصائص السياسي، بل أنا مجرد إنسان عاطفي، لا قدرة له على الاحتفاظ بما في نفسه لنفسه، وكل ما يجري فيها يفيض على ملامح وجهه .
( أخرجت دفتر الرسم، أتأمل بعض لوحاتي التعبيرية، ولا سيما لوحات الكاريكاتير . . . أقلبها واحدة تلو الأخرى واتفحصها بعمق، مما يشعرني بالاطمئنان والارتياح، كمن يشرب كأساً من الماء القراح بعد الظمأ الشديد) .
لا شيء يخرجني مما أنا فيه، إلا أن أغرق في أمواج هذه اللوحات، وكل الأعمال التي قمت بها في حياتي الأنصارية، تمر على شريط الخيال، فلا يستوقفني منها شيء، بعد مرور ثماني سنوات وانا بين صفوف الغريللا، فلم أقم حتى الآن بالمستوى الذي اطمح أن أقوم به .
لذلك لن أتخلى عن القلم، و إن لم تكن لوحاتي بمستوى إبداع فنان محترف أو أديب كبير .
و بينما كنت منهمكاً برسم لوحة جديدة، قد وصل الرفيق معصوم .
– الله …. الله يا (دوغان) عدت إلى الفن ثانية . . . منذ فترة طويلة لم اراك ترسم ؟.
– أهلاً رفيق معصوم . . . تفضل بالجلوس .
– ماذا ترسم هذه المرة ؟ .
– كما ترى أحاول أن أنسى واقعي بالرسم .
– و لكن أليس الفن صدى الواقع ؟ . .
– كما يقولون يا رفيق معصوم ( الفن نَفس الروح) …و كما تتنفس ما بداخلك بكتابة الشعر، فهكذا أنا مع الرسم .
– ماذا ترسم ؟ . . أعطني لأرى .
– كاريكاتير عن وضع جنوب كردستان .
أخذ معصوم اللوحة وأخذ يتمعن اللوحة والابتسامة العريضة ترتسم على وجهه.. ثم توسعت حتى انفجر ضاحكاً.
و كانت اللوحة تجسد المعارك الأخيرة بين حزب الديمقراطي الكردستاني PDK و الاتحاد الوطني الكردستاني YNK، و في الوسط يقف شخص وعلى رأسه قبعة أمريكية وهو يمد يده، و على سبابته التي بدت وكأنها عمود طويل، عمود آخر جلس على طرفيه مسعود البرازاني وجلال الطالباني، كلعبة الأطفال المعروفة (القبان)، يرتفع أحدهم فيهبط الأخر، في عملية مستمرة، تصور حالة الجنوب الكردساني – اقليم كردستان (شمال العراق) وتلاعب القوى الدولية بهم .
– لماذا لا ترسل هذه اللوحات إلى المجلات يا رفيق (دوغان) ؟
– لقد قمت بإرسال بعض اللوحات ولكن كما يقال (ضعها في الخرج) من الذي يهتم برسومي وقصائدك .
– هذه حقيقة.. ليس في صفوفنا تقدير لهذه الأمور .
۔ صحيح وكما تعرف.. فقد خربت بيتنا.. ألم أعتقل لمدة شهر من قبل الحزب، وهل كان هناك سبب لذلك إلا الفن وهذه اللوحات المشؤومة .
– ورغم ذلك تعود إليها ؟ !
– سيأتي يوم ويوجد من يقدر ذلك .
– هذا إذا لم تأكلها الفيران في المستودعات .
– لقد ذكرتني بالكثير من مذكراتي ولوحاتي، التي ضاعت أثناء التنقلات، والتي التهمت الأمطار الكثير منها . . أضف إلى ذلك نظرات الاستصغار الشائعة في صفوف الأنصار، إلى الثقافة والمثقف، حتى على مستوى المركز والمقر العام .
– المهم أن تكتب للتاريخ كما يقولون .
– بكل صراحة يارفيق معصوم لو أصبحت بين الغريللا بمثابة نابليون أو الإسكندر، فستبقى الدرجة الأولى والأرفع في حياتي هي الفن. و لو خيرت بين أن أكون نابليون أو الفنان دوغان، لاخترت الثانية بدون تردد . (فالجمال أسمى مطالب الحياة والفن طريقة الوحيد) . . . ألا ترى الوضع إلى أي حالة وصل بنا .
– أمر طبيعي يا (دوغان) ، ومنذ البداية نبهتك على بعض الأمور ولكنك لم تعرها شيئاً من الأهمية، وبقيت مصراً على أن الصراحة هي الحل، فانظر إلى أي نهاية انتهت بك الصراحة .
– ولكننا (إدارة)، وكيف نكون (إدارة) إذا لم نستطع تحليل القاعدة .
– ما هذا الكلام الفارغ .
– ماذا تراني أستطيع أن أفعل إذا كان باهوز آردال رغم كل ما يتمتع به من الصلاحيات وقف مكتوف الأيدي .
– وهل تظن أن (باهوز) سيسأل عنك، المهم بالنسبة له أن يحافظ على سمعته، مهما كان الثمن، ومصلحته فوق كل اعتبار، وهو بحاجة إلى شخصية مثل روزهات أكثر من حاجته إلى شخصية من نوع دوغان .
– للأسف وأتذكر كلمة لأحد الكوادر يقول ساخراً: (عندما يقترب الشتاء فأنا كادر حزبي، وعندما يأتي الربيع فأنا كونترا). إنها معادلة تتضمن الكثير من المفاهيم التي تسيّر ردود الأفعال، مع أنها غير صحيحة حسب مفهوم الحزب والقيادة . . . . .
(في الشتاء تسند المهام للكوادر المثقفة، للحاجة إليهم أثناء فترة الدورات التدريبية، وفي الربيع تبدأ عملية تجريدهم من المهام) وتسند المهام للمقاتلين ذو الخصوصيات الريفية و أخرى .
– تحليل صحيح وهكذا تسير الأمور .
– أليست هذه هي حالتنا يا صديقي معصوم ؟ . . فخلال هذه السنوات تعرضنا عشرات المرات للصعود والهبوط. . نتسلم المهام وتجريدنا منها، فما هذا ؟
– لا أعرف ولا أدري ماذا سيكون موقف القيادة هذة المره؟! .
– لا شك أنه سيجرد الكثيرين من مهامهم وسأكون أنا في رأس القائمة .
– لا تستسلم للهموم فالمسألة طبيعية .
۔ بل أكثر من طبيعية وأنا مستعد لكل قرار سيتخذ بحقي .
– أتمنى أن أذهب معك أيضا، لأنك إذا تركتني بهذه الحالة فلن أستطيع الاستمرار، فهم ينظرون إلي وكأنني دوغان .
– لا عليك يا معصوم، فإذا سحبت إلى الزاب سأتحدث بالتفصيل عن وضعك .
– و لكن لماذا تتعجل الحكم على نفسك بهذه الصورة ؟ .
– الأمور واضحة يا (معصوم)، اترك الآن هذا الحديث المزعج وأسمعني قصيدتك العظيمة ( كادر الزاب)، إنها قصيدة من روائع الشعر .
– أي عظيمة وأي عظمة فيها .
– فعلا قصيدة عظيمة وقد أعجبتني كثيراً . . . بالله عليك أن تقرأها علي مرة أخرى . . .
و هكذا بقيت أصر عليه، حتى بدأ يمد يده إلى جيب صدريته والابتسامة العريضة تمتد على وجهه الأسمر، ذي الشاربين الغليظين، على الرغم من محاولته تقصيرهما المرة بعد الأخرى، وعندما يتكلم، فأنت تستغرب لاسلوبه العلمي وتحليلاته الفلسفية مع كل هذه الملامح الكردية الجبلية الخشنة، وبالرغم من نشأته في بيئة إقطاعية، حيث كان يقضي معظم العطل المدرسية في العمل حمالاً مع أخوته وأبناء عمومته في الحقول والأسواق .
و بالفعل فجسمه مناسب و معبر عن مثل تلك الأعمال الشاقة، ولكن ذلك كله لم يؤثر على حساسيته المرهفة، ولم تمنع أن يكون شاعراً رقيقاً يفيض شعره بالعذوبة والخيال .
و الأجمل شعره النقدي الساخر. وهكذا بدأ بمداخلة كوميدية وهو يخرج دفتر الشعر من جيب صدريته، ويتهياً للشروع في قراءتها بشيء من السخرية، التي عبّر عنها بحركات من تقليب عينيه وهز رأسه و التربع ببطء وبدأ بقراءة عنوان القصيدة . . . ( كادر الزاب)(50).
إنها ليست قصيدة فقط، بل تقرير عن حقيقة ما جرى في الزاب، من المفاهيم والتلاعبات، بصورة شعرية تجمع بين التحليل الجدي والساخر .
– ألم تكتب قصائد جديدة يا رفيق معصوم ؟
– أنا أيضاً أعطيت إجازة للكتابة .
– أرجو ألا تكون طويلة .
– ربما إجازة مفتوحة .
– اكتب يا معصوم، اكتب فأنت في هذه الأيام بدون مهمة وهذا يعني أن حملك خفيف ولا يشغلك شيء آخر .
– كيف أستطيع الكتابة مع كل هذه الفوضى .
– أرى أنك أيضاً تحمّل الأمور أكثر من اللازم .
مهما كانت الاقترابات غير صحيحة فأنت أمام الحزب .
– و هنا تكمن المشكلة، فكل من يأتي إليك يقول: أنا هو الحزب .
– و لكن يا رفيق معصوم المبدأ هو الرفيق الحقيقي أولاً ثم أنت ثانياً .
في تلك الأثناء كان الإداريون قد تجمعوا تحت شجرة جوز منفردة وسط ساحة القرية تماما، كما يتجمع القرويون، وربما كانت تلك الشجرة تقوم بهذه المهمة فعلا.
و هل نحن أفضل منهم بهذه الحالة التي نحن فيها ؟ ! .
كان الجميع يستمعون إلى التكميلات (التقارير اليومية)، ولسان كل واحد يقول: وما جدوى التكميلات ؟
و هل وضعنا يناسب القيام بالتكميلات ؟ . كل واحد مطرق رأسه يتلهى، إما بعود في يده ينكث به الأرض أو بغصن يجرده من اوراقه وفروعه الصغيرة . . . الخ .
انتهت التكميلات وتوزع قادة المجموعات، ثم بدأنا النقاش أنا و روزهات ونوال وتوفيق، حول ما يجب فعله بعد العشاء، وتمت الموافقة على اجتماع السرية، بشرط أن يكون موضوع الاجتماع بعيداً عن مشاكلنا اليومية، وشد الانتباه إلى أمور أخرى. ثم اتفقنا أن يكون الموضوع حول التطورات السياسية الأخيرة على الساحة الدولية والشرق أوسطية والوضع العام في كردستان .
بدأت الشمس تنحني نحو المغيب، بينما فصيل التموين في طريق عودته إلى السرية، ومعهم البغال، مدرعات الجبال، وكانت الرفيقة هيلين هي مسؤولة التموين هذا اليوم، فسألتها عما تعده لنا اليوم فأجابت: (الطبخة الوطنية) كما يسمي المقاتلين الجنوبيون (الأرز) وهو أكلتهم الرئيسية .
– ما رأيك برغيف من على الصاج ؟ .
– أكون لك من الشاكرين .
و هكذا سارعت باعطائي رغيفاً، وهي تقلبه من يد الأخرى، لكيلا تحترق أصابعها .
– يبدو أنكم أكثرتم من الخميرة في العجين .
– الجو حار، وقليل من الخميرة في مثل هذا الجو تخمر العجين .
– و لكن وجه الرغيف محمر بصورة غير عادية .
– العناصر يمزجون قليلا من السمن والسكر والخميرة في الماء ويدهنون بها أوجه الأرغفة، بعد أن يتماسك الرغيف على الصاجة ويعرضونه للجمر، فيصبح هكذا .
تابعت السير باتجاه المجموعات، وكان الرغيف قد برد قليلاً وبدأت أقضم القطع المقمرة منه، حتى وصلت إلى المجموعة .
– رفيق جيا، عددكم قليل، كم مقاتل بقي في مجموعتك ؟
– ثلاثة مقاتلين .
– والباقون . . . ؟
– اثنان ذهبا للكشف، و واحد مع فصيل التموين، و مقاتل يساعد الخبازين و أخر في نوبة الحرس .
– ماشاء الله توزيع جميل .
تدخل هنا مقاتل وهو يقول: عجيب أمر الرفاق، كل شيء يضيفون إليه رب البندورة . . . انظر حتى الأرز . . . انظر كيف أصبح شكله؟ .
لم أنتظر العادة التي أصبحت روتينية، ولا سيما في مثل هذه الظروف الهادئة، من انتظار شرب الشاي بعد الطعام، فلم يعد هناك متسع من الوقت و الظلمة بدأت تخيم على المنطقة، ولابد من تثبيت المرصدين .
و عندما وصلت إلى مجموعة الرفيق (ذوكان)، كان هناك نقاش حاد بين بيرو و روزهات، حيث كان بيرو يرفض الذهاب في مهمة المرصد، وعندما شاهدني بدأ يرفع من صوته ليسمعني وهو يقول: لن نقبل بكل هذه الاقترابات، وهو بالتالي يريد تأليب العناصر للاعتراض على التعليمات ورفضها، ولا هدف له من وراء ذلك إلا تعكير المياه.
و لكن روزهات أصر على أن يذهب إلى المرصد، ولم يتراجع عن ذلك، حتى ذهب هو وستة من المقاتلين .
لم تكن الظلمة قد أبقت على شيء من النور، حيث القمر يظهر في ساعات متأخرة من الليل، ووسط هذه الظمة تجمع العناصر واخذت التفقد وبدأت بالمحاضرة، وكانت بشكل عام حسب أخبار الإذاعات المختلفة و التناقضات الدولية، حول النظام العالمي الجديد، ومن ثم الوضع في الشرق الأوسط ومكانةتقارب إسرائيل وتركيا، ودورهما في المنطقة، والتوقف على الهدف من انعقاد (قمة شرم الشيخ) والتطرق إلى كردستان، ولاسيما ما يجري في الجنوب الكبير، وكيف كان (لبنان) قلب أحداث وتناقضات الشرق الأوسط وكيف انتقل ذلك إلى كردستان الجنوبية، وما تهدف له الإمبريالية من هذا التحول، وكيف تنظر إلى ذلك حركة التحرر الوطني بقيادة حزب العمال الكردستان ( PKK) .
و من ثم أعطيت حق التحدث إلى العناصر واستمر النقاش أكثر من ساعة ونصف .
2 ايلول 1996

كانت الساعة قد تجاوزت السادسة والنصف، عندما أيقظني الرفيق سيبان، القادم من أكراد الاتحاد السوفيتي المنهار، وبيده مذياع يستمع إلى أخبار موسكو باللغة الروسية وهو يقول :
– لقد نمت جيداً اليوم يا رفيق دوغان .
– منذ فترة طويلة لم أستغرق بهذا الثقل في النوم، ولم أعرف كيف نمت ولم أستيقظ طوال الليلة أبداً .
– جو هذه القرية منعش و عجيب، سرعان ما يخدر الأعصاب .
– ماذا تقول الأخبار.. وما هي أوضاع روسيا الأخيرة ؟ .
– لا تزال تعيش غمرة الصراع في الانتخابات .
– و ما هو الجناح المسيطر برأيك ؟
– حتى الآن لم تتضح الأمور، ولكن الشيوعيين في الأرياف بشكل عام وخارج موسكو هم المسيطرون .
– هل يعقل أن يسيطروا من جديد على الانتخابات ؟ .
– يا رفيق أنت تعلم أن الثقل السياسي كله بيد المافيا .
– صحيح أنها عصابات، ولكنها منظمة من قبل الأنظمة الرأسمالية .
– طبيعي.
و بعدما أغلق مذياعه كان الرفيق (روبار) قد أحضر الشاي، فجلسنا نرتشف الشاي. حيث الهواء المنعش، الذي يداعب الوجوه بنسيمه العليل .
– رفيق سيبان أعطني المذياع فهذا وقت أغاني فيروز .
أعطاني المذياع وفتحت على إذاعة دمشق، حيث كان صوت فيروز الملائكي يصدح، وكأنك وأنت تسمعه في هذه الأيكة الغناء، تذوب مع تغريدات البلابل والعنادب، التي تصدح أيضا في هذه الساعة، وكأنها على موعد مع فيروز، ومع مداخلة قرقرة الحجل، التي تأتي من جهات مختلفة، تتألف سمفونية واقعية، يقوم فيها كل عازف بالدور المكلف به، و تتمنى أن يستمر هذا الوقت وهذا الصوت وهذا النسيم في سمفونية الصباح .
– اكاد لا أعرف رفيقاً يجيد العربية إلا وهو يعشق صوت فيروز ؟ ! .
۔ صحيح لأنها تغني للحياة و للفن الأصيل وللمعاني الملائكية، وبالإضافة إلى تكامل اللحن و الصوت و الكلمة، لابد في كل أغنية من الإبداع في مواضيعها التي لا تخطر على بال، والتي تأسر الخيال وتفجر الحنين وتغمر الروح بجمال الطبيعة والحياة .
بعد ذلك وكالعادة لابد من السؤال عن برنامج اليوم. فتوجهت إلى شجرة الجوز المنفردة، حيث كانت مجموعة الميليشيا متحلقة حول الجمر، وكأنهم أوقدوا نار الشتاء.
– ما هذا يا رفيق (رزاق) هل تشعرون بالبرد ؟
– لا يا رفيق دوغان ولكن كما يقولون (النار صبر) .
أجاب الرفيق الميليشيا عبد الله: في حياة الأنصار صبر وأجمل شيء في حياة الغريللا هو النار.
جلست معهم برهة من الزمن، ثم اتجهت إلى مكان روزهات القريب منا، و هو ينظر إلي . .
– ماذا نفعل اليوم يا رفيق روزهات ؟ . . كررت السؤال أكثر من مرة ولكنه لم يرد علي، و حتى لم يلتفت، و تظاهر بأنه لايسمعني. لقد وصل الأمر إلى هذه الدرجة من ردود الفعل، لذلك اكتفيت بصمته وقمت لأسأل الرفيق توفيق والرفيقة نوال للمسارعة في وضع البرنامج و عدم ترك العناصر للفراغ والتجمعات غير الرسمية.
فقررنا أن نبدأ التدريب بكلمة من تحليلات القائد، ثم يتم توزيع المقاتلين إلى المهام المختلفة .
بعد الظهر وبعد الانتهاء من التكميلات اليومية، رأيت جهاز روزهات اللاسلكي بيد الرفيق عكيد الصغير، فجاءت الرفيقة (نوال) وأخذته منه، وشرعت تدقق في أقنيته، وهي تقول: إنه نفس القتال . . هل تعرف لماذا أخذت جهاز روزهات يا رفيق دوغان ؟ .
– لماذا ؟
– لأن الرفيقة جيهان لم تعد تحمل جهازها منذ ذلك الاجتماع حتى اليوم، كرد فعل لما حدث، ومنذ ذلك اليوم و الجهاز بيد (ميديا) .
– و ما يعني هذا ؟
– يعني أنه يتبادل معها أحاديث الغرام، وقد لاحظت أنها تتحدث في الليل أكثر من مرة، وتفحصت جهازها، فاذا هو على نفس رقم لقنال مشترك جهاز روزهات.
– رفيقة نوال بامكانك أن تتحققي من الموضوع، فهو من خصوصياتك، ولا أريد أن أحشر نفسي في هذه المواضيع .
بعد ذلك ذهبت إلى المكان الذي أنام فيه، حيث كان عكَيد المعتقل لم ينم وهو جالس وحارسه أمامه، فأومأت إليه بالتحية وسألته .
– لماذا لم تنم يا عكَيد حتى الآن ؟
– لا أستطيع يا رفيق (دوغان) .
– وماذا هناك ؟
– لقد أردت اليوم أن أتحدث إليك .
– عن أي شيء ؟
– هل قرأت قائمة الأسئلة التي أعطاني إياها ( قورتاي) ؟
– كلا وماذا فيها ؟
– أنها انتقام يا رفيق دوغان انتقام وتحطيم. ( بدأت عيناه تدمعان)
– أعطني إياها . . قرأت قائمة الأسئلة، فكانت بالفعل كما يقول
۱ . كم مؤامرة قمت بها ضد الرفاق؟ .
۲ ـ كم مرة تعمدت الكذب في تنفيذ المهام؟ .
٣ – ما هي علاقاتك بالعدو؟ .
تابعت قراءة القائمة على ضوء (البيل) بتركيتي المتقطعة، مما أثار سخطي، فاتجهت للرفيق عكَيد وقلت له: يا رفيق عكَيد، رغم أنه لايحق أن أدعوك بكلمة رفيق، لأنك معتقل.
أجب على الأسئلة التي تخصك، والتي لاتقبلها، فأجب عليها بكلمة واحدة، و لا تهتم كثيراً، فسوف أتابع هذا الأمر .
– شكرا رفيق دوغان .
تمدد هو لينام، وقمت أنا أيضاً ومددت كيس النوم، وما إن تمددت عليه، حتى سمعت صوت أقدام تقترب مني، وإذا ببعض الرفيقات .
– هل أنت نائم يا رفيق دوغان ؟
– كلا ياجيهان لست نائماً .
و كان معها (نوال) ورفيقة أخرى، فتحدثت نوال بصوت منخفض .
– ميديا ، ميديا با دوغان .
– ماذا حصل لها ؟
– منذ ساعتين ولا نعرف أين هي .
– أين ستذهب.. لعلها نائمة بين الأشجار حولكم ؟
أجابت الرفيقة التي مع نوال: ذهبنا معا للحراسة، وفي طريق العودة غابت عن أنظارنا، وحتى الآن لم نعرف أين هي.. بعد نصف ساعة جاءت رفيقة مسرعة وهي تقول : لقد عادت، لقد عادت.
و بعد التحقيق الذي أجرته معها الرفيقة (نوال)، أثبتت أنها كانت تغسل بعض ملابسها .

3 ايلول 1996

استيقظت على صوت المجموعة التي ذهبت إلى الكشف، والأمور تسير بصورة طبيعية، ولكن حتى الآن لا نعرف متى سيأتي الرفيق (باهوز) وأما الإدارة، فقد أصبحت إدارة شكليه، لا أثر لها في الحياة .
في الثامنة، وأثناء التفقد، تبين أن بيرو ودجوار غير حاضرين، فأرسلت عكَيد الصغير ليأتي بهما، ولكن عاد وهو يقول: يقول بيرو أنه لن ينضم إلى تدريب نوال ودوغان، فذهبت إليهما بنفسي، وكانا جالسين تحت شجرة، وبيد بيرو دفتر وقلم، وبجانبه دجوار.
– مرحباً .
– مرحباً .
– لماذا لم تنضموا إلى التدريب ؟
– لقد أخذنا الأذن من روزهات، لأننا نكتب تقريراً .
– يجب أن تأخذوا الأذن ممن يقوم باعطاء التدريب .
– نحن لا نأخذ الأذن من أحد .
– يا رفيق بيرو إنك تتلاعب كثيراً بأمور السرية، إلى متى ستبقى بهذه الإقترابات ؟
– أراك تقول: رفيق، أي رفيق يا دوغان؟!
– الحزب يرغمنا أن نقول هذه الكلمة حتى للكثيرين من الذين بالاساس لايستحقونها .
– برأيك .
– برأيي أم بغير رأيي، هناك رسمية التنظيم ويجب الانضمام للتدريب .
– وإذا لم ننضم ماذا ستفعل ؟
– رفيق دجوار قم الآن وستكتب تقريرك فيما بعد .
– والله أنا أريد أن أكتبه الآن .
و يعود بيرو للتدخل: بدلاً من أن تقول تدريب، لماذا لاتقول غسيل دماغ ؟ ما علاقتي بالاشتراكية والكلام الفارغ .
– تحليلات القائد يا بيرو ليست غسيل دماغ ولا كلاماً فارغاً .
– تدريب أو غير تدريب، المهم لا نريد الانضمام .
كان هذا التصرف من بيرو أمراً طبيعياً، ولكن كيف استطاع أن يتلاعب بـ دجوار، لقد كنت أنا السبب في إعطاء هذه الجرثومة المجال للعمل على هواها، حتى وصلت الأمور إلى درجة المواجهة بالرفض، ولولا الظروف الاخرى، لأمرت بتجريده من السلاح واعتقاله.
لم يكن هدف بيرو في الحقيقة إلا تفريغ تأثيري على السرية.
لم أستطع الاستمرار معهما في الحديث، و أنا اتقطع من الغيظ، فتركتهما وعدت و جلست بين العناصر استمع للتدريب.
و في الفرصة وكان معظم حديث المقاتلين يدور حول عدم انضمام بيرو ودجوار وهم يقولون: إذا كان قادة المجموعات لاينضمون إلى التدريب فلماذا نحن ننضم؟ .
و هكذا قررت أن أسحب يدي من كل المداخلات و انتظار مجيئ الرفيق (باهوز).
بعد الظهر، و بينما نحن جالسون تحت شجرة الجوز المنفردة، نتحدث عن أوضاع هذه القرى، قال الرفيق روزهات : يبدو أننا سنذهب معا يا رفيق رزاق .
فأجابه :
– حسب الموعد كان يجب أن يأتي فصيل الميليشيا الآخرين من أتروش، بدلاً منا و لكنهم تأخروا .
– من المحقق أنهم ينتظرون أنتهاء اجتماع المركز، و ربما سيأتون مع الرفيق (باهوز) .
– ربما.. و لكن الوقت متأخر، فلن تستطيع السرية البقاء في هذه الأطراف أكثر من عشرين يوماً أو لنقل شهراً آخر. فبعد انتهاء شهر آب لا أحد يستطيع النوم ليلاً، حول كَرى برخا أو جيلا دوكوه.
فتدخلت قائلا: لا أعتقد أن تذهبوا أنتم، ما دام الأمر هكذا، ولكن محقق يا رفيق روزهات، أننا سنكون معاً في الذهاب، وسيسحبوننا نحن الاثنين ، بكل تأكيد .
– أصلاً انتهى وقت الفعاليات العملية، ولابد أن نعود للزاب، ولنرى ماذا هناك من التطورات.
في تلك الأثناء، جاء الصوت من اللاسلكي، وإذا رفاق المرصد يعطوننا تقريراً مختصراً، بوجوب استعداد السرية لتعود إلى النقطة التي جاءت منها.
و فهمنا أن الرفيق (باهوز) وصل، ويبدو أنه جاء من الطريق القصير، ما بين ثكنة إريش و تشقورجة .
و هكذا باشرنا بالاستعداد للتحرك، وفي الثالثة بعد الظهر بدأنا الرجوع، وبعدما قطعنا بيوت القرية، ودخلنا بساتينها، وقف المقاتلين، ككل مرة لجمع ما أمكن من أنواع الفواكة والثمار، بينما أحد المقاتلين يقول لهم مشيرا بيده إلى شجرة الجوز:
– انظروا إلى شجرة الجوز، وظلها القاتم، العجيب لايسمح لأي قسط من النور أن يتسرب منها .
– لذلك في القرى لا يجلسون في ظلال الجوز .
– لماذا ؟
– هناك سبب ن، ولكن لا أعرف مدى صحته .
يقولون: إن الإنسان إذا نام في ظلها، لابد أن يصاب ببعض الأمراض، ويتناقلون فيما بينهم حكاية عن عاشقين، كانا قد التجئا إلى ظل شجرة الجوز، فذحفت أفعى نحوهما و هي تريد لدغهما، فنصحتها شجرة الجوز قائلة: لا داعي لذلك لقد لدغتهما قبلك .
– وعلى ما يبدو يصاب الإنسان بالارتخاء الشديد في ظلها .
– إن هذا الوادي ليس بستانا للجوز، بل غابة من غابات الجوز، ولذلك أطلق على القرية اسم ( كَوزه رش) ، أي الجوز المظلم .
هكذا كانت تدور أحاديث العناصر وهم يخترقون غابة الجوز، وقبل أن تغيب الشمس، كنا على الطرف المقابل لـ زابيتا، حيث كانت أصوات السرية الأولى، القادمة أيضاً مع الرفيق (باهوز) تصل إلينا.
عندما وصلنا إلى الحقل الواسع الذي توقفنا فيه لاستقبال السرية الأولى، كان الظلام قد بدأ يخيم ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تجتمع فيها السريتان في مكان واحد.
و كان من المفروض أن يقوم، إما روزهات وإما أنا بمراسيم تقديم تحية الاستقبال للسرية، ولكن لما رأيت روزهات يتقاعس عن ذلك، تقاعست أكثر منه، وتم لقاء السريتين بلا مراسيم، وتداخلت الصفوف بالعناق والتحية وسط الظلمة، حيث لا أحد يرى وجه الأخر، ولا تعرف المقاتل إلا من صوته هذا إذا كنت تعرفه. ولكن أين الرفيق (باهوز) ؟ . . بحثت بين عناصر السرية الأولى، فاذا برفيق قديم، كان معي أثناء فعاليات الزاب في المقر المركزي، وكان في سريتي أثناء تدريب الكوادر، وهو الرفيق حسن والمشهور باسم قفرجك حسن أي حسن الأجعد الشعر، فتعانقنا وسألته عن أخباره، وانفردنا على جانب من المقاتلين نتابع الحديث .
– رفيق حسن أين الرفيق (باهوز) ؟
– لقد ذهب إلى جبل متينا، جاء الرفيق باور بدلاً منه.
– ومن باور هذا ؟
– إنه رفيق قديم، لم يكن في هذه الإيالات، كان في فعاليات (ديرسم) وقبل الاجتماع المركزي، كان في ساحة القائد (سوريا)، ومن هناك أتى إلينا .
– و أنت بدل من أتيت ؟
– بدل روزهات .
– ومن سيذهب غيره ؟
– أنت وروزهات ونوال .
– نحن الثلاثة . . . ؟ ! إنها عدالة .
– و هناك أيضاً مقاتل مريض، ستصطحبونه معكم .
– ومن هو … هل الرفيق ناصر ؟.
– نعم إنه ناصر، و أنا أعرفه جيدا فأين هو ؟ . قيل لي أنه مصاب ببعض الجروح . .
إنه رفيق مثالي (ينمتمي إلى عائلة كببرة وهي من العائلات الوطنية، وقد استشهد منها أثنا عشر مقاتلاً ومقاتلة، منهم ستة أخوة وأخوات في عملية واحدة ) .
• من جاء بدلا مني ؟
• الرفيق حسني.
بعد ذلك انضمت إلينا مجموعة من عناصر السرية الأولى، ومعهم الرفيقية (نوال) والرفيق (محمود). جلسنا متحلقين، وجرى الحديث عن اجتماع المركز والتغيرات الأخيرة في الإيالة، وإيالة الزاب بالذات .
و حاول بعض المقاتلين أن يعد لهم ابريقاً من الشاي، إلا أنهم لم يسمحوا بايقاد النار. وهكذا طالت الأحاديث إلى وقت متأخر من الليل، حيث توزعنا إلى أماكن متفرقة واستغرقنا في النوم .

4 ايلول 1996

عند الاستيقاظ في الصباح، كانت الغيوم المغبرة تكسو السماء بتلبدها، بينما دوي الرعود وإنارات البروق، كأنما قنابل الدنيا كلها تنفجر في لحظة واحدة . .
و مع اشراق الشمس، بدت الغيوم صفراء مائلة إلى الحمرة، لكثرة ما تحمل من غبار الأعاصير .
و يبدو أن موسم الفعاليات في الزوزان انتهى أو شارف على النهاية، بعد ذلك بدأ القادمون الجدد، بالتعرف على عناصر السرية، بينما انفردت مع الرفيق (حسني)، الذي سيحل محلي لأضعه في الصورة حول أوضاع السرية، و أوضاع المنطقة وجغرافيتها بشكل عام، ثم سلمته الشيفرة وجهاز اللاسلكي، وأسماء السرية وثلاثمائة دولار كانت بحوزتي للطوارئ .
و هكذا لم يبق شيء من السرية معي.
ثم تدخلت بالحديث مع قائد الكتيبة الجديد الرفيق (باور)، ليحل مشكلة الرفيق (عكيد الكبير)، فدعاه إليه وتوضح وضعه تماماً، وأخذ منه الوعد على الانضمام الصحيح، و أصدر القرار لينضم إلى حياة السرية ويتسلم سلاحه من جديد .
بعد الظهر هدأت الرعوده وعادت الشمس الحارقة، فاصطحبت الرفيق معصوم بعد الغداء إلى البساتين، حيث تسلينا بجمع أنواع الفاكهة الخوخ، التين، الجانرك، التفاح، العنب، الجوز . . الخ . ثم تجولنا في بعض المنازل، واستوقفني أسلوب وتخطيط العمارة، ذات البيوت المتداخلة بعضها على شكل مغارات، وبعضها بيوت ذات طابقين، يشتمل البعض على أكثر من عشرين غرفة، ماعدا الصالونات والأماكن السرية والسراديب التي يقوم عليها الطابق الأرضي. ودمى الأطفال وألعابها متناثرة هنا وهناك مع الأثاث القديم، الذي آثر أصحابه أن يستغنوا عنه، بالاضافة إلى أدوات الفلاحة و غيرها، التي جمعوها في بعض الغرف على أمل العودة .
و نذكر هنا، أن هذه القرية من أشرس حماة القرى تآمراً على الغريللا، و من أطولها باعاً في الخيانة وخدمة العدو، لذله ما إن سمعوا بوجود الغريلا في منطقتهم، حتى تركوا قريتهم وهربوا إلى هكاري وتشقورجة .
بقيت انتقل بين سراديب البيوت وملاجئها وأماكنها السرية حتى أضعت الرفيق معصوم، وكل واحد منا عاد إلى النقطة بمفرده .
و في الساعة الثانية ظهراً وبضع دقائق، اجتمعت الكتيبة بالكامل حيث بدأ الاجتماع كالعادة، بالتوقف دقيقة صمت على أرواح الشهداء .
و بدأ الاجتماع بإدارة الرفيق (باور) فقط، حيث تحدث أولاً عن اجتماع المركز والتطورات مع التغيرات الأخيرة، ثم بين أن اجتماعنا هذا ينعقد وفق التطورات والتعليمات الأخيرة من قيادة الحزب، ومن ثم أعطى العناصر حق التحدث .
و بعد صمت دام عدة دقائق، بدأت بعض الأيدي ترتفع .
و تركزت الانتقادات على أسلوب روزهات الفردي، وعلى أسلوبي أنا في عدم لعب دوري الكامل، وعلى مشاكل الرفيقة نوال التي أوقعت بها السرية .
(و اتهمني الرفيق دجوار، بأنني كنت أقوم بزرع التناقضات بين الرفاق، و تلفيق الشبه لهم، ومثلا لماذا كان دوغان يشككنا برفاقية بيرو؟.. وأنه حلق ذقنه وشواربه من أجل الهرب ، وأنه يصر للذهاب في مهمة (سنبل) للخيانة .
ثم إن ( دوغان ) كان طوال هذه المدة حريصاً على إيقاع الرفيق (روزهات) .
و اقترح رفاق آخرون أن يتم تجريدنا نحن الثلاثة. أنا و روزهات و نوال – وتسليمنا إلى المقر لفتح التحقيق معنا.
ثم قامت الرفيقة نوال وتحدثت عن الأوضاع ولاسيما وضع روزهات .
ثم قمت أنا وقلت: بالمختصر المفيد، ما دامت المشاكل قد ظهرت بيننا، فالإدارة بدون شك هي المسؤولة عن ذلك، كل واحد على حجم مسؤوليته ودوره أيضاً في تلك المشاكل، ومنذ اليوم الأول لدخولي إلى السرية عرفت أن السرية تعيش حالة مستمرة من المشاكل، حتى إن الرفيق روزهات لم يكن يتقبل أسلوب الرفيق باهوز، ولكن حاكمية الرفيق باهوز كانت تخفف من ثقل تلك التناقضات.
و منذ غياب الرفيق باهوز، لم أتواجد ضمن السرية بصورة تمكنني من السيطرة على المشاكل وفرض حاكميتي.
و لكن لابد من كلمة، قبل أن أترك السرية : ( الذي كان يتلاعب بالسرية ليس روزهات ولا نوال ولا أنا، بل إنه المستفيد من كل ذلك واعتقد أن الكثيرين يعرفون أنني أقصد بيرو.
و هو أيضا، كان السبب قبل ذلك في تجريد قادة المجموعات الثلاثة . . . لابد أننا سنذهب الآن، لأنه قرار الحزب، ولكن المشاكل ستستمر في هذه السرية، ما بقي فيها بيرو.
سنذهب إلى المقر، وسأفتح الملف بكل صراحة ووضوح، عن كل ما جرى ويجري ضمن هذه السرية.
و أنا شخصياً مستعد لتقديم الحساب للحزب، كيفما كان فليكن، فلم استطع السيطرة والحاكمية كما كان يتطلب، ولكن إذا كان الرفيق باهوز بكل صلاحياته لم يستطع ذلك، فكيف أستطيع ذلك أنا. وإذا كان روزهات لايقبل رفيقاً مركزياً فكيف يقبلني أنا ؟!. هذا ما أردت قوله وشكرا ) .
ثم قام روزهات وتحدث برد فعل على نوال، واتهمها بأنها كانت وراء كل التلاعبات، و أما دوغان فلا يحق له أن يتحدث، فليس له أي جهد ولم يفعل شيئاً، ولا أريد أن أتحدث عنه أيضاً، ويكفي أن أقول إن ( نوال ) مكوك الفساد.
(هكذا انتهى الاجتماع واختلطت الأمور، وأخذ كل واحد يتحدث حسب مزاجه، بل حسب الطريقة التي شحن بها، مما جعل التناقضات تتناقل من الواحد إلى الآخر، كالكرة في الملعب، باستثناء بعض العناصر اللذين حافظوا في تداخلاتهم على الأسلوب الحزبي الصحيح ) .
و بعد انتهاء الاجتماع، كان الظلام قد خيّم تماماً، ولم يعد الأحد القدرة على تمييز ملامح الآخر، فتفرقت الكتيبة، والأحاديث ترتفع بينهم هنا وهناك .
ثم جاء إلي الرفيق معصوم ومعه بعض المقاتلين ومنهم الرفيق كمال، الذي ما إن ألقى علي التحية حتى قال: أقسم بشرفي إنهم يكذبون ، وليس فيهم شيء من الشرف .
– لا يهم يا رفيق كمال، الأمر طبيعي ففي مثل هذه اللحظات، لا يعرف البعض ماذا يخرج من فمه، فالمهم بالنسبة له، ألا يكون السبب في أي مشكلة .
– ألا تعرف يا رفيق دوغان المثل الكردي القائل : ( إذا وقع الثور كثرت سكاكينه) .
– لقد انتهت المسرحية، وغداً سنعود من حيث أتينا، وستكون نهاية هذا المسير ضمن المسير الكبير .
(صحيح أن رأسي يكاد ينفجر، ولكن الشعور المباشر الذي يتملكني هو أنني لا أعرف هذه السرية، ولم أعاشرها الوقت الكافي) .
و هكذا توقفت بجانب إحدى المجموعات، كمن أصبح حراً طليقاً .
نعم إنني الان حر طليق، ولم يعد لها أي أثر، تلك الكلمات التي كانت تأتي على سمعي كالقذائف، وها أنذا لا أشعر بأي حمل على كتفي.
و منذ صباح هذا اليوم، وأنا أتجول بين البساتين، دون أن يُطلب شيء مني . . . أشعر براحة عجيبة، رغم تأثير نهاية المسير، ولاسيما بعد كل هذا التعب والجهد، الذي ذهب أدراج الرياح، لأتجرد من المهمة مرة أخرى .
و يتراءى لي، أنني لن أقبل بتسلم المهام مرة أخرى، ولكن ذلك مجرد رد فعل كما يبدو، فسرعان ما أتقبل ذلك بكل رحابة صدر، عندما أخرج من هذه الأجواء، ولكن كلما تذكرت بيرو وكلماته وعيوبه، أشعر بالتقزز والامتعاض .

5 ايلول 1996
مرت الفترة الصباحية بشكل طبيعي، في التنقل بين العناصر، الذين أعرفهم من قبل، وبعد الغداء كانوا . . . . قد أعدوا برنامج حفلة التوديعنا .
و هكذا تجمعت الكتيبةـ السريتانـ في الساعة الواحدة، افتتح الرفيق (محمود) برنامج الحفلة بكلمة مختصرة، بعد الوقوف دقيقة صمت على أرواح الشهداء، ومن ثم بدأ برنامج الحفلة كالمعتاد بالأغاني والأناشيد الثورية، ثم قامت عدة سكتشات. منها سكتش باسم (مرتوخة إربيل). حيث يذهب فيه الرئيس مسعود البرازاني في طلب المساعدة من صدام، وجلال طالباني في الجهة الأخرى يلتقي بقادة إيران، يطلب بدوره منهم المساعدة، ثم اسفرت تلك المساعدات عن مجموعة اشتباكات بين الطرفين .
و تلا ذلك سكيتش عن اقترابات بعض العناصر من البساتين، قام فيه مقاتلين بارتداء أغصان الجوز والتفاح، ووقفوا وكأنهما شجرتا جوز وتفاح وتقدم منهما مقاتل ومقاتلة، يعبثان بهما كما يحلو لهما، ويحطمان الأغصان بصورة وحشية وينصرفان، ثم يأتي بعدهما أحد الدببة، فترتعد الشجرتان وهما تصرخان : إذا كان الغريللا فعلوا بنا هذا، فماذا سيفعل بنا هذا الدب ؟ ولكن الدب يأتي ليتجول حول الشجرتين، بكل لطف، ويمد يده إلى ثمارها بكل رفق ونعومة، ثم يخرج من بين البساتين. بينما الشجرتان غارقتان في الدهشة و العجب، وهما يقارنان بين اقتراب الدب واقترابات المقاتلين.
و بعد ذلك قدمت مجموعة سكيتشا عن (اللغم) الذي زرعته، وكيف انفجر بأحد حماة القرى، وتوقف الأخرون يرتعدون خوفاً من الاقتراب منه، لانقاذه بحركات كوميدية.
ثم صعد الرفيق معصوم، وقرأ مجموعة من قصائده، منها قصيدة (الحمار و التعلب)، يقوم فيها الحمار بدور القروي الإداري، و الثعلب بدور البرجوازية الصغيرة. حيث يترافقان في بعض الأسفار، فيقوم الحمار بالتباهي بعضلاته المفتولة وقدراته على تحمل الصعاب، بينما يتباهي الثعلب بذكائه، الذي يغنيه عن تلك العضلات والميزات الجسدية.
ثم تلا ذلك مجموعة أغاني، باللغات المختلفة الكردي والتركي والفارسي والعربي والروسي .
و ختمت الحفلة بـ (سكيتش) يمثل حياة ما بعد الثورة، حيث يظهر فيه أحد المقاتلين القدماء، وهو مستلق على الفراش، وقد طالت لحيته حتى بلغت صدره، وهو يتحدث إلى أحفاده عن العمليات التي خاضها أثناء الثورة، بينما أحفاده يعلقون على كلماته بقولهم اضرب . . اضرب.. وكأنهم يستمعون إلى حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة ، فيضطر إلى تغيير لهجته معهم، ويعلمهم كيف يميزون بين التاريخ والاسطورة وكيف يحافظون على منجزات الثورة.
(بالفعل كانت حفلة غنية بالشعر والأغاني والفلكلور والسكيتشات والذكريات الجميلة ، واستمرت إلى حوالي الساعة الرابعة) .
و بعد انتهاء الحفلة مباشرة، حملوا أسلحتهم واصطفوا لتوديعنا ، بينما اقترب منا الرفيق (شيار)، يقدم اعتذاره للرفيق روزهات، بتملق تجاوز الحد، مما جعلني أزدريه، لأنه يخشى أن يقدر له مرة أخرى أن يكون في سرية يقودها روزهات .
و بينما كانت الكتيبة منهمكة في مراسيم الوداع، تسلل روزهات فتبعته أيضاً، لنعود من نفس الطريق الذي قطعنا منه الحدود، دون أن نودع أحداً .
فلحقنا بعض العناصر وهم ينادون: الرفاق يستعدون لوداعكم وأنتم تتصرفون هكذا، و الرفيق (باور) يقول لكم : إن هناك حملة تمشيط ويجب العودة فوراً.
فعاد روزهات، ولكن بقيت أنا بحجة قضاء الحاجة، أنتظرهم حتى فرغوا من مراسيم الوداع، حيث نزلت إلى أسفل القرية، ولحقت بهم دون توديع احد، ولما انضممت إليهم، قالت الرفيقة نوال .
– لماذا لم تأت لتوديع الرفاق ؟
– لم اعتد أن أودع أحداً في مثل هذه الحالات .
– ولكن كان عليك المشاركة ولو من أجل الرفيق (باور) فقط .
– يكفي أنكم قمتم بذلك عوضاً عني .
و هكذا بدأنا مسير العودة من الطريق الترابي للسيارات، ثم تحولنا إلى الطريق الذي يقود إلى تشقورجة، عبر مجموعة قرى، كان روزهات يسميها لنا، كلما وصلنا إلى واحدة منها، ثم مررنا بقريته بلاطة، مخترقين بعد ذلك قرى أخرى، وصولاً إلى وادي تيران المشهور بسمكه الكثير، حيث تنظر إلى النهر الصغير، الذي يقل ارتفاع ماءه عن المتر، فتراه مليئا بالسمك، وترى ذلك بصورة واضحة وأنت على بعد أمتار منه .
و عند وصولنا إلى المنفذ المقابل لمدينة (تشقورجة)، كانت هناك قطعان الخنازير، تسرح وتمرح، وكان العالم كله عالمها، وكل واحد في حجم الثور، إذا بالغنا قليلاً .
كان عددنا تسعة، أنا و روزهات ونوال واثنان من الميليشياء الذين جاؤوا مع الرفيق (باور) و المراسل و الدليل ومقاتلان جديدان .
روزهات يعرف جغرافية المنطقة أكثر من الكل .
و من على ظهر مرتفع، كان كما يبدو موقعاً لثكنة عسكرية، بدأنا الصعود، و قبل الوصول إلى القمة، كان هناك نبع تحتضنه ساقية متدرجة، تتوزع إلى برك مستطيلة من الأسمنت، فأخذنا قسطاً من الراحة حتى مغيب الشمس.
رغم غروب الشمس لم تتوقف في المنفذ تجنباً للمناظر الليلية و الليزر المركب على الدبابات و المراصد، التي عادة تكون هكذا ممرات تحت مراقبتها المباشرة، حيث ان المنفذ مقابل المدينة تماما.
قطعنا المنفذ واحدًا وارء الأخر بأقصى سرعة .

ثم انحرفنا إلى الغابات المحروقة، أو التي نفذ فيها حكم الاعدام بطريقة جماعية إذا صح التعبير، وتابعنا السير في أحراشها السوداء إلى أسفل القمة المطلة على الجهة الشرقية من مدينة تشقورجة، وهي قمة تغص بالبنجكتورات القوية، والتي تنير المنطقة بالكامل، وتمتد كحبات المسبحة مشكلة حلقة حول المدينة، وعلى كل القمم المطلة على المدينة أيضاً، مثل هذه الحلقات كحماية للمدينة .
و تبدو المدينة كبيرة، وربما كانت أضواؤها الباهرة تصورها كذلك، ولكن أكثر من نصف المدينة، عبارة عن مقرات وثكنات عسكرية متجاورة، كحالة بقية المدن الكردستانية، التي تحولت شيئاً فشيئاً إلى مدن عسكرية، بل إلى معسكرات بكل معنى الكلمة .
المقاتلان الجديدان اللذان انضما إلينا قبل أيام، لا يزالان في لباسهما المدني .
تمر الساعات وكأننا كنا منذ سنوات في قاع بئر أو مغارة مظلمة . . . ويتكرر اصطدام بعضنا ببعض في عتمة الليل، مما اضطرنا لتباعد المسافة فيما بيننا، بينما (نوال) و (روزهات) لا يتحدثان مع بعض، وكل واحد يتحدث إلى عن أخطاء الآخر .
و في أسفل القمة، كانت هناك قرية مهجورة، مهدمة. ترتفع فيها روائح الاحتراق من كل مكان، وفي أقصى القرية استوقفنا وجود نار تشتد ألسنتها حينا ثم توشك على الخمود، ولما تحققنا منها وجدنا أنها جذع شجرة محروقة، لا تزال النيران تلعب به حتى هذه الساعة، وكلما انطفأت النار جاءت الرياح فأشعلتها .
و بجانب النبع الذي عثرنا عليه أسفل القرية، قعدنا قليلا حيث قام الرفيق ناصر بتوزيع بعض ارغفة الخبز علينا .
ثم بدأنا النزول في وديان ومنحدرات عميقة، ولوعورة المنحدرات أضعنا الطريق، وكاد بعض المقاتلين أن يسقطوا في الهاوية، لولا أنهم تمسكوا ببعض أغصان الشجر.
و استغرق تضييعنا للطريق مدة ساعتين، كان يجب أن نصل بها إلى الحدود .
و بعدما ملأنا حقائبنا من التفاح المتساقط حول النبع، تحولنا إلى طريق السيارات الترابي، الذاهب إلى ثكنة أرتوش .
ثم تابعنا الصعود، إلى أن وصلنا إلى أرض مستوية، تقع بين ثلاثة مرتفعات، وهي مكشوفة تماماء لبنجكتورات المراصد، ذي الإضاءة القوية المتمركزة على تلك المرتفعات.
مما جعل الطريق يطول علينا، باختراق هذه الأرض من أطرافها المحتفظة بسلسلة من الأحراش، ومن مجرى الساقية التي تخترق الأرض إلى أن قطعنا الطريق، إلى الطرف الثاني، حيث كان أيضاً هناك نبع من ينابيع الزوزان القارصة، وكان لا بد من أخذ شيء من الراحة بعد هذا المسير المتعب .
كان الليل مظلماً للغاية، لذلك لم أشعر بعد ما جلسنا إلا ويدي تصطدم بحبات التفاح المتناثرة على الأرض في جوار النبع، مما جعلنا كيفما مددنا أيديناء تقع على التفاح، من غير أن ترى شيئاً، فملأنا حقائبنا مرة أخرى منها، ليكون طعامنا طوال اليوم الخبز والتفاح .
و بدأنا الصعود في مرتفعات الزوزان الجرداء، التي لا تكاد تصل أعشابها إلى الركب، مما يحتم علينا المسارعة في اختراقها، بينما اقدامنا لم تعد قادرة على تحمل المزيد من المسير. وصلنا إلى منطقة سارع المقاتل الميليشيا إلى تنبيهنا من أنها حقل ألغام، قام الرفاق بزرعه، ومنذ أيام انفجر بعضها بمجموعة من العدو، وقد قام المقر بإرساله معنا لمعرفته بذلك، مما جعلنا نلتزم تعليماته ونتبع خطاه، حتى تجاوزنا حرم الحقل، إلى الجنوب كردستان ( اقليم كردستان) .
كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة ليلا، عندما انتهينا من قطع الحدود ووصلنا إلى المنطقة الواقعة تحت سيطرة رفاقنا، كما يقول الدليل .
نفد كل ما معنا من الماء، فقال الدليل، يوجد نبع في هذه المنطقة، وبدأنا بالبحث عنه، بينما روزهات استلقي على الأرض غارقاً في النوم، وبعد العثور على الماء، حاول الدليل الميليشيا – وهو متقدم في السن نوعاً ما – أن يوقظ روزهات، ولكن محاولاته باءت بالفشل، وعاد وهو يقول: الظاهر أنه لا يرد إلا على دوغان، وهكذا ذهبت لإيقاظه، حيث استطعت إيقاظه بصعوبة، لما كان فيه من التعب والإرهاق، وأما المقاتلان الجديدان، فقد كانت علائم الإرهاق واضحة عليهما تماماً، وهما يسألان من حين لآخر، هل شارفنا على الوصول ؟ متى نصل يا رفيق دوغان ؟ . . الخ ، فيجيب الدليل، لم يبق إلا زهاء نصف ساعة، فليس أمامنا إلا مرتفع واحد، خلف هذا المرتفع، وبعدها نصل . . . . ولكن تمر الساعات والمرتفعات ولا نصل إلى شيء . . . بعد ذلك صعد الدليل مع مقاتل آخر، للاتصال بـ (سرية دجوار)، المتمركزة بالقرب منا، للتعرف على مكانها وإعلامهم بأننا في الطريق إليهم .
و هكذا بدأنا النزول هذه المرة، إلى أن وصلنا إلى نبعة ماء، يتدلى منها خرطوم، يستعمله عناصر السرية، سرية الرفيق دجوار .
نظرت إلى الساعة، عندما وصلنا إلى هذه السرية، فاذا بها قد تجاوزت الثالثة صباحا، و النقطة مغطاة بغابة من أشجار البلوط و السنديان، وكان الجميع يغط في النوم بين الصخور، ما عدا الحراس. وكان الضابط المناوب، مساعد قائد السرية الرفيق ايهان، فاستقبلنا وهو يقول :
– عدت أخيراً يا دوغان .
– هيا يا رفيق إيهان استعد، فمعاً خرجنا من المقر ولنعد أيضاً معاً .
– أنا جاهز يا دوغان .
بعد الترحيب والتحية والسؤال عن بعض الأخبار، كان التعب والإرهاق لا يسمحان لي بالمزيد من الثرثرة، فأسرعت بجمع بعض الأعشاب وأوراق الشجر، وحللت حزامي ليضرب الهواء ملابسي الداخلية، ولتجف من العرق، وفتحت أيضاً أزرار السترة مدة من الوقت، ثم شددت الحزام والجعب واستلقيت على فراشي حيث الأوراق والأغصان، وتلحفت بكفيتي مستسلماً للنوم .

6 أيلول 1996
عندما استيقظت، كان الجميع من حولي مستيقظين، وقرص الشمس في قمة السماء، مباشرة قمت بالتسليم على العناصر، الذين أعرفهم والذين لا أعرفهم، وكانوا قد تركوا لي نصيبي من طعام الإفطار .
و بعد تناول طعام الإفطار، جلست مع الرفيق هارون قائد كتيبة الحدود، وكان في زيارة تفقدية لسرية الرفيق دجوار، أثناء حديثه مع الرفيق دجوار قائد السرية .

ثم تطرق إلى موضوع التقارير المقدمة إلى لجنة التحقيق، بخصوص وضع الرفاق زكي(51)، فؤاد ، كاظم )، ولماذا تأخرت الرفيقة (نوال) في إرسال تقريرها، باعتباره واحداً من لجنة التحقيق ؟ .
و بينما أنا ودجوار وهارون في الحديث، إذ جاء أحد المقاتلين وقال :
– يا رفيق دوغان الرفيق دجوار يريدك .
– أي دجوار.. هل هناك دجوار آخر هنا ؟
– دجوار كوباني صديقك .
– وهل هو موجود هنا ؟
– نعم وصل البارحة لينضم إلى السرية .
– وما هي مهمته ؟ .
۔ قائد الفصيل الثالث في السرية .
و هكذا قمت واتجهت إليه، بينما ابتسامته العريضة تملأ وجهه في استقبالي، وأنا أقول له .
– يخرب بيتك، ذاتاً خربت بيتك .
و بدأنا بالاطمئنان على أوضاع بعضنا، وكان هذا الرفيق معي في سرية واحدة عام ۱۹۹۰ في كَارسا، التابعة لـ بوطان، وقبل مدة عندما ذهبت إلى هكاري، كان لا يزال معتقلاً وقيد التحقيق في المقر .
– كم بقيت في المعتقل ؟
– زهاء ستة أشهر .
– والنتيجة؟
– محاكمة صورية، التحقت بعدها بدورة تدريب الكوادر، و الآن أنا هنا كما ترى، يبدو رد فعله واضحاً في اسلوب حديثه . . . ورغبته الضائعة في أن يصل إلى ساحة القائد، ولو مرة واحدة، فهو منذ دخوله إلى ساحة الحرب عام ۱۹۸۸ يتنقل في فعاليات بوطان، وغرزان (بدليس) ، وهذه الإيالة.
– لا تحزن يا دجوار أعطني بعض الكؤوس وشيئاً من الماء لأشربك شراب البرتقال .
– و من أين لك شراب البرتقال في هذه الجبال ؟
– لا عليك، فقد كنا أغنياء يا رفيق، لا عليك .
فطلب من أحد المقاتلين أن يحضر لنا الماء والكؤوس، وأخرجت بيدون الشراب، وانضم إلينا إيهان ومقاتل آخر.
قضينا بعض الساعات، ثم أهديته بعض مخازن الكلاشينكوف التي أحملها. فقال لي: ما دمتم أغنياء إلى هذه الدرجة فهل معكم ( DDT ) ؟ـ
– عندي ( ( DDT أبيض مثل الثلج. ولكن مفعوله كبير، فلا ترش منه على ملابسك الداخلية، وإلا احترق جلدك، و خاصة بين فخذيك . . .
– هاته… هاته يا رفيق فقد امتلأت ثيابنا بالقمل .
– و هل يعقل وجود مقاتل بلا قمل ؟ ! . .
– لا .. هذا الكلام لا ينطبق علي، أنا لم أعرف القمل إلا بعد أن دخلت السجن هذا العام، وطوال السنوات التي قضيتها في بوطان لم أعرف حتى شكل القمل .
في الثالثة بعد الظهر، بينما كان الجو حاراً نوعاً ما، مررنا بالخبازين و أخذنا لكل رفيق رغيفا، وبدأنا بالنزول نحو وادي الزاب، باتجاه الجسر الحديدي المقطوع من أحد جوانبه، حيث كان الرفاق قد قاموا بتفجيره في العام الماضي، اثناء الاشتباك مع بيشمركة الديمقراطي الكردستاني .
نزلنا و معنا الخبز إلى أسفل القرية المهجورة، حيث كانت مجموعة من رفاقنا المقاتلين، كما قيل لنا، انهم يصطادون السمك ويشوونه هناك .
و لما وصلنا كانوا قد تركوا لنا نصيبناً من السمك المشوي، وقاموا أيضاً بجمع الكثير من الفواكه لنا ( الرمان، التين، العنب . . . الخ ) .
فودعناهم وتابعنا المسير، ولم نتوقف إلى أن وصلنا إلى (التلفريك ) الذي يصل ما بين ضفتي نهر الزاب، و الذي يسير بجلجلة عظيمة .
و مع أن مياه النهر تبدو صافية زرقاء في بعض الأماكن، إلا أنه لا أحد يشرب منها، لأن مجاري هكاري وجقورجة، و أغلب الثكنات العسكرية على ضفافها تصب فيه.
قطعنا النهر بالركوب بالتلفريك، للانتقال إلى الطرف الآخر، بينما كانت الشمس قد غابت، وعلى بعد مئات الأمتار ترتفع رائحة المياه الكبريتية الخانقة، التي تصل فيها أعشاب القاميش، المتبعثرة في مياهها إلى المترين وأكثر، ولا بد من أن نخترق هذه الغابة المنتنة، التي ما إن خرجنا منها حتى بدأنا نبحث عن الماء لغسل أرجلنا وأحذيتنا من مائها الآسن .
و بدأت قطعان الخنازير بالعودة إليها، حيث كانت غادرتها بمجرد دخولنا فيها، فلا ترى إلا اهتزاز الأعشاب الطويلة على مد النظر، لاضطراب حركات الخنازير المسرعة فيها .
ثم صعدنا بعد ذلك مباشرة إلى نقطة تدريب الكوادر في الشتاء الماضي، وهي مغارة كبيرة، وبالأعلى منها مغارة أصغر، حيث توقفنا هناك، وكان بجانب الفرن المهجور لا يزال علب السكر والشاي والسمن والطحين، ومباشرة عجنا قليلاً من الطحين، وبدأنا نقلي الأرغفة مع السمن ونأكله مع شرب الشاي .
ثم استغرقنا في النوم، و الصباح رباح كما يقال .
7 أيلول 1996
في الصباح، كان خبزنا المقلي يكفي الفطور، وأحضر الرفيق (ناصر) علبة سمن فارغة وغسلها وأخرج من حقيبته بعض أكياس شوربة الـ ماجي، وقام بتحضيرها وصبها بعد ذلك في علب البيبسي الفارغة التي كنا نشرب بها الشاي، وهكذا شربنا الشوربة كما يشرب السحلب في حلب .
بعد ذلك سأل روزهات :
– هل من أحدكم يجيد الحلاقة ؟
– لماذا ؟
– كيف ندخل إلى المقر بهذا الشكل، وخاصة أمام الرفيق عباس ماذا سيقول عنا ؟ ! – ماذا نفعل ؟
– على الأقل يجب أن نحلق ذقوننا .
فقامت الرفيقة نوال وهي تقول :
– أما أنا فسوف أسبقكم إلى الأمام وسأنتظركم في الطريق .
و هكذا قمت بجلب الماء، من أقرب نبع استطعت العثور عليه لتسخينه وللاستحمام وحلاقة الذقن .
بينما كان روزهات، قد ارتدي قطعة من الشادر وسلم رأسه للدليل، ليتعلم به الحلاقة .
و بعدما قام الأخرون كذلك، بالاستحمام والحلاقة والاستعداد اللازم، تابعنا الطريق إلى المقر، بينما كانت (نوال) قد سبقتنا إليه ولم تنتظرنا .
و بدأ العرق يتصبب من كافة أنحاء أجسادنا، حتى نكاد نختنق، فالحرارة عالية جداً، ونحن منذ فترة قد اعتدنا على أجواء الزوزان الباردة .
و حتى قطعان الماشية التي تعيش في مرتفعات الزوزان، عندما يعود بها أصحابها إلى هذه المنطقة، قبل برودة الوديان والسهل، سرعان ما تنفق الكثير منها، لارتفاع درجة الحرارة وللجو الخانق .
و لكثرة التعرق، بدأ العرق يترسب إلى أعيني، فاضطررت لقطع قطعة من الحزام، لأجفف بها العراقي، لتصبح وكأنها مغموسة في الماء و لأحملها بأطراف أصابعي، لكي يجففها الهواء.
و لكن كل ذلك لم يكن يخفف من التعرق، ولكثرة المرات التي مررت بها المنديل على جبهتي، بعد تيبس العرق عليه، بدأت أشعر وكان جبهتي مجروحة أو محروقة.
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً، فكيف ستكون الحالة في ساعات الظهيرة.
وصلنا أخير إلى مكان معسكر المقر، حيث كان مقر معسكر الرفيقات في أسفل المقر، في المكان الذي تحدث معي فيه الرفيق (جمال) قبل هذا المسير.
وتابعنا المسير لنصل بعد قليل إلى مجموعة أكواخ صغيرة، مبنية من أغصان الأشجار، وفي الجهة المقابلة لها منحدر صخري كالجدار العالي، وبجانبه مغارة صغيرة، تتقدمها باحة تتسع لمجموعة واحدة، حيث كان هناك بعض المقاتلين، ومن بينهم الرفيق عباس (دوران قالقان)، وصوته على اللاسلكي يرتفع وهو يبلغ المقر العام بوصولنا .
(وصلنا أخيراً، ويبقى السؤال.. كيف ستكون نظرنهم إلينا وما هي طبيعة التقارير التي قدمت بحقنا… وهل سنجرد من السلاح فقط أم أننا سنعتقل من جديد إلى أن ينتهي التحقيق . . . كيف ستتم الأمور وكيف سيكون الاقتراب منا ؟
هل سيقدمون على تجريدنا مباشرة بمجرد الوصول… دون أن يردوا التحية ونقاد من بعدها مباشرة إلى السجن ؟ .
أم أنهم سيقدرون مشقة الطريق الطويل الذي قطعناه، وسيتركون مسألة إعتقالنا إلى الغد ؟
و هل ستضيع كل فعالياتنا و عملياتنا وتذهب مع الريح ؟..).
و مع الوصول إلى نقطة المقر، كانت هناك الوجوه التي نعرفها والتي لا نعرفها . . . ، فها هو الرفيق (شاهين) الذي كان قائد فصيل في سريتي، ذهب إلى قاشورا بمهمة قائد سرية، و هو هنا الآن مجرد من المهمة .
وها هو الرفيق ( آزاد ) – من بستا – بوطان – كذلك كان قائد سرية و هو هنا كذلك مجرد من المهمة .
و الرفيق كاظم في التحقيق… ينتظر دوره .
و سنان الأحمر، الرفيق القديم، سحب أيضا من جبل كابار التابع لـ شرناخ، و هو هنا كغيره مجرد من المهمة ، . . . وغيرهم من الرفاق، وجميعهم قادة تم تجريدهم من المهام .
‏ و بعد الترحاب والسؤال عن الأحوال، أبدى معظمهم الاستغراب من قدومنا المفاجئ، وعندما شرحنا لهم سبب مجيئنا.. قالوا :
– لا عليكم ، لا عليكم ، لن يحدث شيء .
– كيف لن يحدث شيء ؟
– الحزب في هذه الفترة يعتمد الرفق في معاملته مع الكوادر .
– يعني لن نعتقل برأيكم ؟
قال الرفيق كاظم : كلا ، ولكن ربما يطلب منكم تقارير . . . تقارير ولا شيء آخر.
سألت الرفيق سنان عن وضعه، فأجاب: بالنسبة لي فأنا سأذهب إلى أتروش إلى فعاليات الجبهة ( التنظيمة). فلم أستطع أن أقدم شيئاً في المجال العسكري .
– و متى ستذهب ؟
– على ما أعتقد غدا .
و كان هناك كوخ مخصص للضيوف، يقوم بالواجب فيه الرفيق – المسن – فخري، فتغدينا وتمددنا قليلاً لأخذ الراحة، حتى جاء الرفيق أردال ليرحب بنا، وله مكانة فيما يبدو في إدارة المقر .
– ما هذا يا دوغان عدتم بسرعة ؟ .
– ألم تكن تشتاق لنا ؟ .
– بلى و الله أهلا وسهلا .
و بعد الترحيب والأسئلة المعتادة قعدنا في الانتظار، حتى جاء الرفيق ماهر، و هو رفيق من غرب كردستان – عفرين ، كان متطوعا في الجيش السوري، كان من الأوائل الذين التحقوا بصفوف الغريلا .
لم تكن تفارقه ضحكته العالية، و هو يقف أمامنا بطولة الفارع و شعره الذي تقاسمه الشيب والصلع وحتى شواربه، فقد غزاها الشيب أيضاً، وعندما يضحك تبدو أسنانه المحطمة، التي تشعرك بعراكه الطويل مع السنين، وكأن فمه مقلع صخور، وقد تقوس ظهره قليلاً، وخاصة في أسفل الرقبة، وهو يقول :
– ها قد عدت أيها الرفيق القائد دوغان، قوميتان(52) دوغان لقد عدت، عدت أخيراً .
– كيف الأحوال يا رفيق ماهر ؟
– أحوالي كما أنا، انظر، أنا لست مثلكم .. حملتم جهازاً لاسلكياً في جيوبكم فأنساكم السلام علينا . . . انظر إلي ، انظر ، أنا دائماً هكذا .
– كيف ننساكم يا رفيق ماهر، سامحك الله .
– أي مسامحة، نسيتمونا .. نسيتمونا.. هكذا أنتم .
و هكذا بمزاح ومداعبة قال لي: بالله عليك ما الذي حصل بينكم… ولماذا عدت ؟
– ألا تعرف ؟
– أعرف ، أعرف ، ولكنني أسألك .
– حصل الذي حصل.. وسوف أشرح لك ذلك بالتفصيل .
لم يطل الحديث بيننا، حيث كان هناك بعض المقاتلين السجناء، يتم التحقيق معهم، وصعدت نحو الأعلى، حيث على جوانب الطريق مجموعات على شكل ورشات عمل، يعمل فيها الميليشيا، يحفرون الأنفاق والمغارات، كأنهم الخلدان والأرانب، يحفرون من الداخل ويقذفون بالأتربة من فوهات الأنفاق خارجاً، حتى تكدست أكوام من الرمال والحجارة الرطبة .
و بين حين وآخ ، كان يرتفع دوي انفجار من أحد الأنفاق، بانفجارات مكبوتة،
والميليشيا القادمون من ( أتروش)، البعض منهم في المرتفعات يحفرون الخنادق، وفي بعض المغارات الطبيعية يجعلونها كالبيوت، ويقومون بتسوية أرضيتها بالاسمنت وبناء الجدران في المقدمة أمام الأبواب . . . الخ .
و باختصار فقد انقلب الوضع في هذا الوادي رأساً على عقب، وحصلت تغييرات واضحة منذ ذهابنا .
و كان من بين الميليشيا واحد من أبناء قرية حج بيرا وهو يسأل.. عن أوضاع قريته . . . الوضع يبدو غير طبيعي في الذهاب والإياب والتحركات .
و بعد غروب الشمس توضحت الأمور، فنزلت إلى مقر القوات التي في تدريب الكوادر، وتجمعنا جميعا حول التلفزيون، لم يكن هناك ( MED TV )، لأن السلطات هناك اقتحمت المبنى وألقت القبض على العاملين في المحطة، ووضعت يدها على الاستديو، تحت ذريعة أنه مكان يستخدم للدعارة وتجارة المخدرات .
لذلك استمعنا إلى أخبار بعض أقنية تركيا، فكان بعض زعمائهم يتحدثون، ولا سيما تانسو تشلر وبعض القادة العسكريين عن التحضيرات لإقامة حزام أمني في الجنوب (اقليم كردستان-عراق). كذلك الوضع في الآونة الأخيرة مع ( PDK ) غير طبيعي، ولا سيما هناك تحشدات على الحدود في ماكن مختلفة .
في اليوم الذي وصلناه فيه إلى سرية (دجوار) على الحدود، كان عناصر المرصد يتحدثون عن تحركاتهم . . . ذهاب وإياب . . . أكثر من قافلة من السيارات العسكرية، بعضها تذهب فارغة وتعود محملة بالجنود أو العكس، لم يعرفوا ما الذي يحدث بالضبط . . . . حتى اذاعة ( BBC ) كذلك تحدثت عن تلك التحشدات، فهناك بلبلة إعلامية غير طبيعية .
و كان الرفيق (عباس – دوران قالقان) قد تحدث اليوم مع القائد (عبدالله أوجلان)، فجاءت التعليمات في إطار اتخاذ التدابير على طول الحدود، وتغيير نقاط التعسكر القديمة، وإخراج القوات الثقيلة، والرفاق المرضى، والمقاتلين الجدد. السجناء والأشياء الأخرى، لإخبائها في أماكن آمنة، استعداداً لأي حملة تمشيط .
و بعد العاشرة مباشرة، أحضر بعض البغال، وجمعت الأمتعة والأجهزة والملازم الأخرى، وذهبت عناصر تدريب الكوادر إلى مكان باتجاه ( كورى جعرو) .
و نحن كذلك ذهبنا لقطع نهر الزاب، من (التلفريك) القريب المؤدي إلى طرف جبل (كَورى جعرو – Kurê Caro)، الذاهب باتجاه (درالوك) .
وصلنا إلى (التلرفيك) و إذا بالوضع مختلط، وقد تحول إلى مثل سوق . . . أكثر من مئة رفيق ورفيقة هناك متجمعون، ينتظرون المرور اثنين، اثنين فقط . . . الصرخات، الأحاديث المختلفة . . . أحدهم يستمع إلى آلة تسجيل . . . هنا حقائب مبعثرة . . . وهناك أحمال البغال . . . ومع البغال أكياس مليئة بحاجيات العناصر .
هذا ينادي لذاك، و آخر لا أدري ينادي مَن .
بدا أن الأمر سيطول، لذلك خرجت من بين الزحمة إلى موضع بين صخرتين، ومهدت أرضه بأقدامي كالماعز، ولم أخلع حقيبتي من ظهري و تمددت مسنداً إليها ظهري ورأسي ، محتضنا بندقيتي الكلاشينكوف، ملتحفا بكفيتي – على الطريقة الانصارية – و استغرقت في النوم . . . إلى أن استيقظت ونظرت حولي، فلم يكن قد تبقى غير مقاتلين أو مقاتلة، فركبت مع أحدهم إلى الضفة الأخرى، وكان الآخرون يقفون هناك في تلك المغارات، فوق بعض البيوت التي بناها المقاتلين في العام الماضي، و بالأسفل منها بعض الحقول الصغيرة وبعض الأكواخ من الأغصان .
وتوقفنا على شكل مجموعتين، و كان في مجموعتي مقاتلان يعملان في الإعلام والنشر، إضافة إلى الرفيق (حاملي يلدم – كاظم) وهو كذلك مجرد من المهمة، ولا يزال يكتب تقريره للجنة التحقيق.
و في الكوخ المجاور للمجموعة وقعت عيني على الرفيق (أولاش) الرفيق التركي الأصلع ذو القامة القصيرة، والمعروف في أغلب أوساط المقاتلين. وكان منهمكاً بإعداد الطعام، وقد اصطفت حول النار صحون البصل المفروم والبندورة والباذنجان والفليفلة والخيار . . . الخ .
سألته بالتركية: ما هذا يا رفيق أولاش ؟
– كما ترى .
– من أين كل هذه الخضروات ؟
– من عند التلرفيك .
– هل زرعها الرفاق ؟
– كلا يا رفيق دوغان ألا تعرف ؟ .
– لا ـ
– الرفاق متفقون مع القرويين في درالوك . . . كل يوم يحملون خضراواتهم ويأتون ويفرغونها عند التلفريك، وحسب الأحمال هناك عناصر النظامية(53) في الأسفل يحاسبونهم . . . و من عند التلفريك تأتي الوحدات ويأخذون مخصصاتهم منها .
۔ اتفاق جيد . . . ولا أحسن منه .
كانت بالقرب منا أيضا مجموعة تقف في مغارة، وهي مجموعة الطبيب .
وإلى الأعلى مغارة خصصت للسجناء، و كان بعضهم يخبزون في الفرن الواقع أسفل التبع، عند مجرى النهر،فرأيت بينهم المقاتل الذي حاول الهرب من عندنا (مظلوم)، يبدو ما يزال سجيناً، معهم أيضاً القياديين (شمدين صقاق – برمقسز ذكي) و (علي حيدر قايتان – فؤاد) .

وكان الرفيق زكي في حالة لم أتوقعها أبداً، وهو جالس على جذع شجرة كالدراويش، مسند رأسه على راحة يده، وهو غارق في التفكير، كأنه تمثال رودون المشهور بالمفكر، ولحيته طالت بعض الشيء .
لم ألق التحية عليه، لأنني كنت أنظر اليه من بعيد، وتظاهرت بأنني لم أره، وإذ بأحد حراسه يأتي إلى الرفيق ماهر ورضا آلتون وهو يقول: زكي يطلب كتاباً من تحليلات القائد، وقد طلب ذلك منذ البارحة، وهو يقول: اذا لم ترسلوا بالكتاب فلاترسلوا الأكل أيضاً.
(قضينا اليوم بدون تطورات، سوى إرسال بعض المقاتلين الجدد وعناصر المستشفى والسجناء ومعهم أردال، تحت مسؤولية الرفيق ماهر إلى جبل ( كَارا) ليلاً .
الأحد 8 / إيلول / 1996
في الصباح كان الأمر على العكس من البارحة، فالأوضاع كانت هادئة.
وسرية الحدود أرسلت مجموعة في طلب سلاح الراجمة، ذات الفوهتين مع القذائف . . . ومجموعات من المقاتلات في ذهاب وإياب، ولكن لا أحد يتوقف هنا .
بعد العاشرة صباحاً ولعدم وجود أعمال، حملت حقيبتي إلى الوادي الواقع خلف المقر، حيث مكان استحمام .
و أثناء استحمامي، سمعت بعض الصرخات، ولكن لم أتبين من المقصود بها، إلى أن عدت في الظهيرة، وكانوا يبحثون عني .
حيث كان الرفيق عباس قد اصطحب معه العناصر الذين جاؤوا معي الى قمة (كَورى جعرو ) .
لذلك طلبني الرفيق رضا آلتون ليسألني أين كنت؟… وهو يقول: كيف تذهب هكذا بلا إذن ولا إخبار أحد ؟ .
– ولكن أخبرت العناصر أنني استحم في الوادي .
– أين في الوادي لقد بحثوا عنك في كل الوادي ؟
استعد للذهاب مع المجموعة الأخرى إلى ( كَورى جعرو) .
و كان من المقرر أن نتحرك ليلا، ولكن أجل الأمر حتى الصباح .
الاثنين 9 / إيلول / 96
وقبل شروق الشمس، بدأنا الصعود إلى أن وصلنا الى قرية مهجورة، حيث توقفنا عند نبع القرية، وكان هناك فصيل من الميليشيا في طريقهم إلى أورامار في استراحة على النبع، وكان ابريق الشاي أمامهم يغلى على النار، فدعونا للمشاركة، وأخرج أحدهم لفافة قماش وحلها، فإذا بها مملوءة بالجبن الجاف الممزوج بالثوم الجبلي .
و أرشدنا بعض المقاتلين إلى مكان قريب، يتواجد أدوات مطبخ كاملة مع الكثير من المواد الأولية، وهكذا تبادلنا المواقع، فذهبوا هم في طريقهم وتوقفنا محلهم للاستراحة.
بدأت حرارة الجو مرة أخرى تذكر بأنني لست في سهوب الزوزان، ولاسيما أن التحرك في هذا الجو يعتبر بمثابة العقوبة .
و هكذا اعتمرت بعمرة عسكرية، من عمرات الكومندو التابعة لوحدات جنود الـ هكاري، لانتقاء أشعة الشمس، ولكن دون فائدة تذكر .
بعد ذلك وصلنا إلى منطقة صخرية، على شكل وديان صغيرة تغطيها الأشجار، حيث هناك سرية للرفيقات وأخرى للرفاق .
و قد كان الرفيق عباس قد جاء إليهم، للتوقف على توزيعهم وتنظيمهم على هذه القمم .
و بعد أن فرغ من توزيع قوة تدريب الكوادر ودمجها مع تلك السرايا والمهام الأخرى، بدأنا النزول إلى الوادي في مكان تدريب المقاتلين الجدد .
و من حين لآخر يقف الرفيق عباس وهو مشمر عن ساعديه، كأنه شاب في ربيع عمره، على العكس مما كان يقال عنه، فيسأل العناصر الملمين بجغرافية المنطقة وكيفية اتخاذ التدابير .
و اغتنمت الفرصة فاقتربت من الرفيق روزهات أسأله :
– ماذا قال لك الرفيق عباس . . هل تحدث إليك ؟ .
– نعم ناداني وتحدث إلي، ليس كما قال الآخرون عندما وصلنا .
– كيف ؟ .
– قال لي: اكتب تقريرك . . وسأذهب الآن أيضاً الى سرية في طرف ( كاني ماسي) .
و هكذا ودعته وذهب . . . وتابعنا في النزول إلى أن وصلنا إلى مجموعة . . . ومعهم المواد التموينية والأجهزة والمعدات الأخرى وهم ينتظروننا .
و مباشرة قام الرفيق عباس بتوزيع العناصر بنفسه إلى مجموعات، فكنت في مجموعة الحماية التي سترافقه، والمؤلفة من ثلاثة عناصر أنا والرفيق أديب الذي وصل مؤخرا من ( كَارا) وهو يشكو من مرض في ظهره – وأنا أعرفه منذ مدة طويلة، حيث كان كذلك أيضاً ضمن الوحدة التي عبرنا نهر دجلة، بقيادة بوطان (نظام الدين تاش) إلى ساحة الشمال خريف عام 1989- و مقاتل آخر وصل من جبل متينا، من فعاليات التنظيمية بين المدنيين من أهالي المنطقة مع أديب .
الضجة الاعلامية التركية تنعكس على الاعلام العالمي حول الحزام الأمني الحدودي، بعد الأخبار التركية والعربية لـ ( BBC ) و (مونت كارلو)، كان قد خيم الظلام، فاستلقيت على الأرض وأنا متأثر من هذه الأخبار، بينما المقاتل القادم من متينا يقول: لا أحد يسأل عنا .
و فجأة وقف أحدهم أمامنا ولم نعرف انه الرفيق عباس الا عندما تحدث :
– مرحباً ماذا هناك ؟… ماذا تفعلون ؟
و مباشرة قمنا واقفين استعداداً و احتراماً إلى أن جلس، وهو بكل تواضع يكرر قوله: اجلسوا . . . اجلسوا . .
ثم بدأ السؤال عن أحوالنا وبدأ بالحديث مع أديب، فسال عن أحواله وعن سبب قدومه، ثم مع الرفيق الذي جاء من (متينا)، ثم التفت إلي و هو يقول : هل أنت الرفيق دوغان ؟
– نعم رفيق ، أنا هو .
– ما الذي حصل في تلك السرية، لم أفهم الموضوع تماماً.. ويبدو أن الأمور مختلطة ، بدلا من أن تفكروا بتطوير الحرب، تضيعون أوقات السرية في مثل تلك التفاهات .
– حضرة الرفيق لقد وقعت تناقضات، بدأت أولاً ضمن الإدارة ثم تسريت الى القاعدة.
– و لماذا كانت التناقضات وأين يكمن السبب برأيك وحسب تحليلك للأمور ؟
– بكل صراحة في الأساس لاتوجد مشاكل جدية بتلك الدرجة، وأنا أتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية، لم تكن لي الحاكمية المطلوبة في تسيير أمور الإدارة، ووضع السرية فعلاً أمر عجيب . . ففي المهام العسكرية و العملية تراهم مثل الأسود ولكن بمجرد العودة الى النقطة كل واحد يريد أن يفرض مزاجيته وكيفيته .
– هكذا إذن تربية زاغروس .
– ثم الوضع أصلا بدأ منذ اليوم الأول حين قام الرفيق روزهات بإلقاء جهاز اللاسلكي وبندقيته بوجه الرفيق (باهوز) ومرة كان يتمارض، ومرة بكل لامبالاة يرفض تنفيذ مهامه، و في فترة ذهابي الى المهمة فيجبل سنبل، كانت التناقضات قد نشبت أيضاً بين روزهات والرفيقة (نوال)، ولم أستطع التدخل بينهما بأسلوب صح ”
ولكن هناك أيضا مسألة أخرى . . فصحيح أن حاكميتنا لم تكن على المستوى المطلوب وكانت تفتقد للتجربة والعمق ولكن المشكلة لم تقف عند هذا .
و لم تكن المشكلة وجود نقاط ضعف في كل من شخصيتي وشخصية روزهات ونوال، و لكن المشكلة وجود من يمزج بين هذه النقاط ليجعل منها مستنقعا تغرق فيه السرية من بعد.
– وكيف ؟ ومن كان يقوم بهذه التخريبات ؟
– رغم كافة المداخلات والتوقفات على المشاكل.. ومحاولة استدراك الموقف قبل أن ينفجر، كانت جهودنا تبوء بالفشل بما كان يفعله (بيرو) .
– و من بيرو هذا ؟
– في العام الماضي ونتيجة أعمال تخريبية بين الرفاق في جبل (جيايي سبي) و جبل (بي خير) ارسل الى هنا. ـ إلى المقر .. وتم اعتقاله واعترف في التحقيق حسب ما ذكر الرفاق، بأنه كان من نشكيلات قوات الشرطة التركية، ثم عائلته أغلبهم عملاء .
– صحيح تذكرت في العام الماضي جاء أليس كذلك ، وهو من (سرحد – قارص) أليس هو؟
– نعم حضرة الرفيق ولايزال مستمرا في تخريباته وزرع التناقضات بين العناصر وتفتيت السرية إلى جبهات متخاصمة .
– هل له مهمة في السرية ؟ .
– نعم في الفترة الأخيرة أعطيناه مهمة قائد مجموعة، مساعد قائد فصيل .
– عجباً وكيف تم اطلاق سراحه، إذا كان قد اعترف بأنه كان في سلك الشرطة ؟ .
– حضرة الرفيق عندما جاء الرفيق فؤاد إلى المقر المركزي، أثناء حملة ( PDK ) على الزاب، أطلق سراح معظم المعتقلين بدون محاكمة، وكذلك تغيرت لجان التحقيق، و هكذا ضاع كل شيء بين بعضه البعض .
– ممكن . . ممكن .
– ما العمل؟.. إنه يقوم بالفساد والتحريض وخلق المشاكل.. ثم يتظاهر بأنه حلال المشاكل، ويدفع بالعناصر بعد تحريضهم لكتابة التقارير .
– فهمت ، فهمت لا تهتم با دوغان .
ثم تحدث إلينا عن الأوضاع والتطورات الأخيرة، ولاسيما ما يقوم به الاعلام التركي وهو يسألنا واحداً واحداً عن تحليل الوضع .
و بعدما تحدث أديب سألني فقلت :
– حضرة الرفيق لقد جئنا من حول هكاري وأعتقد أن ذلك مجرد بلبلة إعلامية لا أكثر، لا أعتقد سيكون هنالك عمليات تمشيط .
– عجباً وكيف تحلل الوضع ؟
– في هذه الفترة، أسفرت المناوشات بين ( PDK ) و ( YNK ) عن فراغ سياسي وعسكري في مناطف الحدود والاقليم عامة، وهم بهذه الضجة الاعلامية يريدون أن يلهونا، لنكون في حالة انتشار دائم، كيلا نستفيد من الفراغ، وهذا واضح من خلال عدم وجود أي تحركات لهم حول ( هكاري ) وهي المركز .
– ولكن هناك قافلات تذهب و تعود الى ثكنات الحدود .
– لم يكن ذلك إلا استعراضاً، وقد تأكدنا أن معظم السيارات التي كانت تنتقل بين الحدود وهكاري كانت فارغة .
– ممكن، ولكن مع ذلك يجب أن تتخذ التدابير، اليس كذلك ؟
– التدابير مطلوبة ولكن وحسب رأيي من الأفضل أن لا تقوم الآن بتوزيع السرايا إلى فصائل ومجموعات متفرقة .
– وماذا نفعل إذا ؟
– أرى أن تبقى كافة السرايا في أماكنها وأن تقوم بالانتشار و الرجوع الى مراكزها عدة مرات متتالية .
– رأي جيد وإذا لم تحدث تطورات جديدة حتى الغد فسنطبق هذه الخطة .
. . . هل هناك مقترحات تريدون التقدم بها ؟
۔ حضرة الرفيق اقترح كتدريب لنا أن يتم تجميع العناصر الموجودين في المقر: واعطاؤهم التطورات اليومية حسب تقارير الإيالات والنقاش حولها .
– حسناً ، سنكلف رفيقاً . . . . . . . بذلك . تصبحون على خير .
10 / إيلول / 96
بعد يومين من الانتظار . . كنت في النهار اقرأ بعض الكتب التي حصلت عليها مثل رواية (مسيرة الحرية في كردستان) ورواية (البعث) لتولستوي، ومن ثم بدأت بقراءة (الوجيز في الحرب) لـ كلاوزفيتز ) ولكنني لم أتمه .
و في هذه الأيام تهتم مجموعة من الفنانين و ادباء عراقيين عرب، جاءوا للتعرف على الحزب وقوات الكريلا، وهم يطلبون اللقاء مع القائد، ويمثل ( PKK ) بالنسبة لهم كما قالوا : التيار الأيديولوجي الثوري في الشرق الأوسط بقيادة قائده الاشتراكي و منظر حركة البروليتاريا عبدالله اوجلان APO .
– رفيق دوغان الرفيق أيهان يسأل عنك ؟
– الرفيق آيهان ماذا يفعل هنا ؟
– ألا تعلم ؟
– كلا ـ
– الرفيق آيهان في المستشفى عند الدكتور صادق.
فذهبت اليه بعد أن جمعت له كيساً من التين، فرايته وهو معصوب الرأس والساعدين بالشاش، حيث تعرض للإصابة بعدما تركناهم في عملية تشقورجة .
بعد ذلك جاء ايضا الرفيق عباس قبل أن نذهب إلى متابعة برامج ( MED , TV ) ، التي بدأت البث مجددا، فتحدث عن التطورات الأخيرة وتطرق إلى أوضاع بعض العناصر.
ثم نظر إلى وهو يقول: رفيق دوغان القائد العسكري لايتحدث كثيراً وكلمته كلمة، وبسبب أحاديثك الكثيرة والطويلة حصل ما حصل في سريتكم .
(و هكذا على ما يبدو قرأ التقارير) .
و من ثم قال: لابأس اكتب تقريرك بشكل مفصل مع تحليل فعالياتكم و أوضاعكم والنقد الذاتي.
و هكذا منذ الصباح شرعت في كتابة التقرير وطلبت من الرفيق (أولاش) ليترجمة الى التركية .

هنا تنتهي يوميات الرفيق دوغان التي أطلق عليها اسم ( مسير ضد المسير )

  • قبل أن انتهى من كتابة تقريري ، وإذ جاء تقرير لاسلكي من السرية، تخبر القيادة، بأن المدعو ( بيرو) قد هرب و سلم نفسه لثكنة جنود الأتراك .

صورة لصفحة من الدفتر الصغير بخط يد الكاتب

أضف تعليق