خيالٌ عن وطنٍ مغاير، هدى توفيق، مختارات قصصية

38434131_218926782296994_8344057365095514112_n

لتحميل الكتاب:
https://www.4shared.com/web/preview/pdf/IYDEYf8kda
أو :

لقراءة الكتاب: تابع للأسفل

اسم العمل : “خيالٌ عن وطنٍ مغاير

اسم المؤلفة :هدى توفيق

نوع العمل :مختارات قصصية

رقم التسلسل :53

الطبعة: الطبعة الالكترونية الأولى24آب – 2018م

تصميم وتنسيق ومراجعة : ريبر هبون
الناشر: دار تجمع المعرفيين الأحرارالالكتروني

جميع الحقوق محفوظةللمؤلفة

حقوق نشر الكتاب محفوظة للمؤلفة والنسخة الالكترونية ملك لدار تجمع المعرفيين الأحرار الالكتروني

https://reberhebun.wordpress.com/

لنشر أعمالكم يرجى الاتصال بـ :

reber.hebun@gmail.com

 

 

 

 

 

2

 

 

هدى توفيق

 

 

 

خيالٌ عن وطنٍ مغاير

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مختارات قصصية

 

 

 

3

 

شهوة القلم الجديد

 

 

عندما أردت أن أكتب …. أخذتُ قلمي المعدني إلى أكثر السنَّانين حدة ….

وذهبت إلى أكثر الحدَّادين نارية …. حيث قام قلمي على أَلته آلنارية الشرارية

حتى أصبح أكثر بريقاً ….. أكثر تعبيرًا…..

عندما أردت أن أكتب

إن ذلك يجهدني قليلًا ….

لكني بعد هذا أستطيع أن أجلس لأكتب ….

هناك على قمم الجبال الصنمية العالية …. حيث يصبح العالم بعيدًا ….. صغيرًا

أضع الورقة أمامي مباشرة …. استللت قلمي كما لو أني أستل خنجري ….

أقربه من الورقة البيضاء ………. فترتعش راغبة في ملامسته ،تشتد رغبتها

فترتجف ، إن ذلك يثير قلمي كثيرًا يلمسها ،ينقض عليها يفضُ بكارتها

في الحال .

أنظر إلى قلمي البرَّاق ، فأراه محتضنًا الورقة ، والدماء تملأ المكان …. يرتجف

عقلي …. أغمض عيناي سريعًا رعبًا .

 

 

 

 

 

 

 

4

أنَّا تصير رجلاً

إهداء إلى الإكتشاف المتجدد فى الحضور والغياب

جاء حاملاً فى يدة كوباً من النسكافيه، وفى يده الأخرى أقراص الحموضة التي يدمنها، وضعها جميعها فوق مكتبه وأخذ يتأملها بإعزاز ، ثم زاغ بصره وبدا سراً عظيماً يشغله، تسمَّر فى نظراته أطل برقبته الزرافية النحيلة وقال :

  • هل كان الله يعلم أن روحى ستتلف هكذا ؟ بينما القرن الذى خُيرت أن أعيش فيه قد حملني بالمزيد أن قرناً قادماً آخر كنت أتصوره يحتضنني ويدعوني أجلس فى وسط مائدته العامرة، وإن كان الله يعلم فهل ضلّت ملائكته الطريق إليَّ ؟

بماذا يفيدني أن أغرق فى العبوس والتذمر – لقد ظننت أن تقية مسممة لعينة لن تلتفت لناحيتي – أنا – الآن قرن بأكمله يمضي، وقد تدحرج بسلام وكاد أن يلامس سريره العتيق .

لم أكن أعبأ كثيراً بتفسيرك الدرامي لذاتك، لكن ما شغلني هو أن أفقد رؤية إبتسامة نادرة فوق عيون تشع حناناً غير محدود، وقد تبدَّلت دهشتها البريئة فيما مضى حزناً ، لا أراها إلَّا فى وجهك وقد تضاعفت تجاعيد الجزء الأسفل التي كانت إبتسامتك الحاضرة تزيدها حتى لتشعر أنك امام أمرئ أنهكته عقيدة روحية وغاب عنه نور الشمس فانمحى الضوء قبل أن يذهب القرن كما تتصور ….أنت .

تريد أن تخاصم الحياة ، تعانق أجواء الموت ترقد فوق فراشه الوثير، نظراتك الشقية القديمة غير محددة الاتجاه، صورتك أشبه بضمادة ملت البلل على جبين مُشتعل السخونة هانج من الحمى اللاسعة ، تتألم ألم الشكوى البائسة ، لا تطلب الحب الشفقة التعاطف ، تريد أن تغوص فى حقن المخدر المنوِّمة ، تلتقط أنفاس الطيور هسهسات أوراق الشجر وهمهمات الحزانى والجوعى والمجذُوبين والمرضى.

تقول وتفرط فى صوتك المكسور المبحوح من ثقل الكلمات عليك ، تلمع الأفكار ، التفاصيل ترعى داخل رأسك كأغنيات بلهاء تصم تجاويف أذنيك جيدة الإنصات ، يتنقل عمى يفتك بنور عينيك السوداوين تنعتق منها رموشك كتعريشة تسدل ستائر مظلمة ينطفئ بها عقلك وبريق عينيك الوهاج بكلمات امتزجت بأفعال وأسماء وظروف وصفات وصوتان يتهدجان بداخلك كأمواج صبيانية تعترف بأنه لم يعد هناك حدود تنصاع لها بصبر وشجاعة ، يقول عقلك أن ما حدث إثم مستحيل تخطيه إلَّا بدماء تشملك تغوص فيها غرقاً، يقول قلبك: إن شرارات نبضك تدور دوراناً عنيفاً يحمل تكهنات باتجاه آخر تضبط به إيقاع خطواتك عن مدى حاجتك فى أن تفجر السلاسل الحديدية داخل شجن عقلك الذي لا يتكيف أبداً مع أصوات العشق، تتسرب إلى مسامعك، تتحول إلى فراشات مُبهجة على جناحيها شقاوة يبتسم قلبك الدامي كرحيق زهرة جائعة لإلتهام فراشة أمسكت بالأمل كاملاً ، تسقط صريعاً كالفراشة وتبقى الزهرة القنَّاصة، حينئذ يتملكك خوف مرعب .

5

أنت سلة مليئة بالرغبات والأحلام المزعجة ، والهواجس المخيفة وعرق الرغبات المشتهى ودموع كثيفة ، يؤرقك يقظة أحشائك التي بها رجل وامرأة يتعانقان ، يتحابان يتباغضان يكافحان تستراً لإتمام قُبلة العام الجديد ، تجلس ، تحاول أن تكون قادراً على هز رأسك البليد ، تنظر بتؤدة ترسل بالتحيات غير الودودة لكل الأشياء ، تتقيا توتراً ، أنفاساً خائنة .

المعاناه تشتد داخلك لا تحمل سوى نار مُستعرة تكافح لينتصب الحيوان الذى بداخلك؛ داخل رأسك الرخو ككرة مطاطية حبيبي ……..حدِّق فىَّ احزن من أجلي، من أجل النساء اللاتي لم تطرق أبواب مخالبهن الفاتنة، من أجل الخراب الذى يبدو كسور تُجلله وريقات سلام هزيلة ، واصل العدو لتنقذنا جميعاً ، أوقد المصباح الذى يضىء وجوهنا ، فإذا انطفأ زحمت الشوارع بأضرحة تنعق من فوقها الغربان والبوم.

حدِّق أيضاً فى عرض وطول السرير الساكن ، تأتيك زوبعة همجية تُبعثر بها الوسادات ، الملاءة بكل خجل تلقي بالمرتبة لأقرب ناحية تكتمل حالة صرعك تشق الواح السرير كلاهما نصفين، الدهشة الحزينة فى عينيك تدرك أنهما محض امرأة ورجل لم يعودا يلتحما كما كانا من قبل، أهذا يكفي أن تنفصل عن الحدث وتكون عاجزاً عن نفيه ؟!

كل ما يهمك أن حبيبتك لم تعد تقبع فى قلبك الترابي ، إنما صارت أشباحاً ، أفكاراً وأحاسيس تحدد مشيئتك وسلوكك الجديد، الصراخ لا يصدر عن حاستك الثرثارة ، إنما من أشلائك التي تُحاول أن تفلح في أن تحيا ( الظاهر والمسكوته عنه ) من رجولتك المفتوك بها، ظلك على الأرض تحت وهج الشمس يفصح عن رجل آخر مفعماً شباباً وحيوية وابتسامة هفهافة كالنسيم تخدش حياء الشمس ، أنت بدون الظل المتبعثر كتلات من القش الهش عليل مهمل .

أنت لست حراً …. جموع من التفاصيل تقبض على قدميك وتتحرك بها كالربوت مدوناً فيه ماضيك ، وحاضرك ومستقبلك هى فقط من نفت حسابات الأزمان الثلاثة تقول أنت .

إن جسدى رخيص ، جسدك ثمين لا يُمنح إلَّا لي .

تقول هى :

أنا دون جوان مثلك .

أقول لك :

انظر بصمت ستجد أن أمامك امرأة شرهة مشربة بحنكة مستترة، وأنت مروضها النمري تريد مخالبك أن تنهش فى لحمها الوافر .

أنت سجين فى منفى بلا عودة أشبه بجزيرة القردة ، تسير فيها رجلاً بدائياً عاري الجسد، ساتراً عضوك بورقة شجر تتسلق الأشجار لتأكل الثمار العفنة ، تُرافق أبناء سلالتك تركض مثلهم ، وتحت كهوف الظلمة ينفتح قبرين امرأتك ورجلها الشهي ، يتلعثم الغضب يرغى ويزيد عبر فمك دماء تسكبها كؤوساً تنهض داعيا رفقائك أن يشربوا نخبك ،

6

يصيحوا فرحين بأصوات وتزعق ساخراً عليهم .

لا تتركوا عظمي وحيداً .

وها أنت تَدَّعِى أنك لم تتقن، بل ربما لم تستطع أن تضاجع امرأة أخرى، فقد أحببتهن جميعاً فى واحدة ، الأحادي حطم حياتك، بل تقسم أنك لم تتمكن من مضاجعة النساء اللاتي رغبنك، ودون قسم أقول : يكفي أن تشعر بهن يتدافعن أمام عتبة قلبك فيكتمل انتصابك المفقود ، إنهن جميعاً يريدن أن ينسجن خيوط قلبك مرة أخرى لا تحزن من أجلهن لأنك لا تحبهن ، اجلس ساهراً على مائدة العضلة الأخيرة لقلبك ، ثم اختر وكن متواضعاً ، متهجماً ، ربما يعود وميض وجهك المعتم بابتسامة جديدة لحيوان كاسر ، كشِّر عن أنيابك وكن صاخبا بإيقاع رغبة وفكرة وحزن جديد أتياً من عمق جذور القبور .

نهر الأحداث يجرى وينفُذ إليك كسهم عَرف طريق قلبك .

حين تسمع صدى خوفك ، وأنت جالس على مكتبك فجأة انصت جيداً واعلم أنه صدى يتمتع به الأسوياء. لا يعنيك الأمر برمته ، لا يحط من قيمتك، حينئذ قم بعمل شجاع وهب روحك من جديد للحياة، اصرخ باستبسال وتوتر تقاوم به دوائر الخوف المتناثرة على جدران حجرتك وقل زاعقاً :

  • أنا لست حبيباً – أنا لست عاشقاً – أنا لست جسداً ضعيفاً بائساً – وأن عواطفى وأفكارى مازالت تقيم خلف قِناعي المتحرك منذ آلاف السنين .
  • أنت جرو صغير ملئ وفرغ، ثم ملئ ولم يفرغ بعد – أنت جرذ صغير باهت اللون يقرض بأسنانه، أنت وهم أحببته أنت اسم أطلقه عليك وانتعش ضحكاً أنت ( … )

حبيبى انظر ، اسمعني ، التفت إلي :

هيا قبلنى قبلة دخانية نملأ بها جوفنا باختلاف أنواع السجائر لحديثنا الممتد .

لقد تحوَّلت إلى حصان طائش ، ترتجل فى خطواتك تتسلق للصعود على جسد آخر ، أرجلك عاجزة عن الِّلحاق بانهيارات ذاتك هناك قوة أعلى منك تمر قاطعة يديك ، تسقط على الأرض – تتطقطق فقرات ظهرك من الألم المبرح ، ثم يناديك الخطر والعبث من كل الإتجاهات .

هل تعرفني – أنا إلهك – تتجاوزني لكى تخرج ! لكى تنفصل عن جسدك ! لكي تتبخر مني ! لا تسل ….،لا تحاول حتى عليك فقط أن تنتظر عفوي عنك أنت قدرتى ومعجزتى .

 

7

كلانا يبحث عن الحقيقة دوماً، مَن الخائن ؟ مَن المخون ؟ ساعتك الحاضرة غير التى مضت فى عمر كل البشر ، ساعة

ملتبسة يحدث فيها الطهر ، العهر ، الموت ، الحياة ، كلهم ينتهوا فى مساء واحد ثم يتلاقوا فى صباح واحد، أين الحقيقة ؟ فحينما أحببت الزيتونة السوداء، ثم نظرت للخضراء عشقتها أكثر ، وانتميت إليها بإخلاص مكلف لم تكن لتتصوره .

زوجتك تنظر إليك باستعطاف ورجاء ،، تنظر أنت إلى ابنتكما رفيق الخطيئة الأولى ، قررت بثبات أن تسير إلى الأمام ، تشعر بارتباك فرفيق الخطيئة يلتصق بك بشدة ويأمرك أن تدخل مدفوعاً إلى الإغتسال فى مياه المشقة الجاثمة بقوة هائلة ومرعبة .

  • ماهو مرادك؟

أن تجتث الجذر أم الفرع، سواء فعلت أو لم تفعل هل ستتحرك؟ هل ستتجدد ؟ هل ستتنفس الصعداء وأنت تحفر للبذرة الجديدة، ولكن لحظة كيف ستمهد الأرض والصفاء لروحك مرة ثانية ، هل هى ثمرة شِّريرة أخرى أم طيبة ؟ عقيمة أم خصيبة ؟

  • لا عليك لا تعتد بكلام بلهاء مثلي.
  • ماهى السعادة ياسيدى ؟
  • هو أن تعيش ماتجتره الآن كنازحين الوحل بإسترخاء حكيم وأنت تحتسي مشروبك المفضل فى كل مساءاتك المريرة .
  • مامعنى الرجولة ياسيدى الفاضل ؟
  • أنت نصف المجتمع ، والنصف الآخر امرأة تبحث عنك فى دهاليزها لتدخل آتون مغامرتك استحوزها ، اقفز على الدقائق لتلتهمها بعنف شديد ، يبهجها لذروة لا تُطاق ، حقِّق التحام تفتق به ذاكرتك المشحونة وتعاساتك الضئيلة حالات عشقك المفرد الذى أرضعه عقلك اطحنه كحبوب القمح والذرة استمتع بقشعريرة فكي الماكينة المفترسة لألتك

حبيبي ما رأيك فى حل آخر ؟

مَرِّن عينيك على مشاهدة العنف، الدمار ، الجنس ، القتل ، افترض نفسك شخصاً يابانياً عائداً إلى منزله يستقبل شمس القنبلة الذرية والمباغتة مازالت تبسط شظاياها المتفجرة ، أو كُن أكثر غروراً ، قائداً دفعها بقبضة قوية من

8

يده مبتهجاً ابتهاج إله شيطاني، ألا يروقك فيلماً جنسياً ؟!

حبيبي فى كل الحالات ستجد أن كل شىء يُباع ويُوهب ويُخرب دون معادل موضوعي، إذٍ فلنتصارع فى العطاء والإبتذال حتى نحصل على الراحة .

استغرق فى المشاهدة بصبر وحب دون أدنى اشمئزاز، اشحن قلبك بكل أنواع الرعب، أعد تراكيب التفاصيل فعليك أن تقفل الدائرة المفتوحة فى عقلك؛ دائرة لا تشبه دائرتي الغير القابلة للإغلاق حتى تتنفس العالم بأسره بداخلك شيئاً فشيئاً، أنجز خُلودا لوجودك الغامض بأن تمجد ضروراتك اليومية البسيطة، اختطف لحظات نشوتك كصياد ماهر، التقط البق من خلف رقبتك وامضغه بشراسة، اسعد بمذاق لنوم جديد وملمس جديد . افتح حصون عقلك الصغير الملىء بالتساؤلات والحيرة ، سر طاووساً وكن محارباً على الدوام .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

9

 

نخب الدائرة المستديرة

 

كم هو قاس عشقنا لمن نحبهم ويدعوا حبنا ونحن نجلس حول المائدة هى نفس الجلسة نعاقر ترياق الجنون ، الخبل ، الهبل ، نُقسِّم الأدوار بالتساوي كأنها أرغفة خبز ملحمة الجوعى – نستنشق مشاعر الشفقة ، أحاسيس الجراح الآثمة ، نتجاذب أطراف الحديث شاحبين ، مبهوتين ، عنيدين ، متلصصين بمآقي صقرية تزدحم أنفسنا بحسابات دنيئة مصرين على الإفصاح البشع ، معبئين كبراميل القطران والزفت مرصوفة بحالات عالية من الكراهية وجراح العشق ورغبة الإنتقام .

أهمس فى أذنك المتآكلة ……… في زمن مضى ياحبيبي مارست روح الإله أحببت كل المخاطر ، راهنت بحياة بشر آخرين معاقين من وجهة نظرك لهوت بمشاعر من أحببنك تآمرت على هذه ، وتلك اقتسمت اللذة مع أصدقائك ، صاحبت وحوش الدخان الأسود ، كان يطلق عليك الرجل الذى لا يتألم فى نهاية الأكلشيه المُزيف ( عاشقة وحيدة ) أنا أسطورة الإستهتار أنا ، أنا من لا يعلم من أنا ولا تدرى تماماًأنك مجرد صرصار ينظر إليه بعد ولو بأطراف العيون من أخرك؟ تلك العيون التي تبغضك.

نرصد صاحب الدور الآتي، يدلف سريعاً إلى جوفنا المتحمس ، على مضض نمرره كدواء مر لابد منه ، نرتب الأحكام ، ننمق الكلام باستعارات وكتابات تشاركها حركات أيادينا العاجزة ، قسمات وجوهنا المثخنة بنتوءات الهلاك تسعى إلى البغض تلفه ، مثل ورق سلوفان ذى ألوان براقة زائفة تبرق كلمعان عيون قطة أفزعتك ظهورها فى عتمة الليل تظل تنجذب بانبهار مأخوذ ولا تُدرك أنك على شفى الهاوية وصمود أجسادنا وعقولنا الخبيثة يطرح فقط من يخرج بأقل خسارة .

كفاك زهواً كفاك تباهياً لا تنكر فسقك . لا تكررعلينا أقوال مثاليتك الكاذبة، ليست كائنات الحياه مفردات لعادات تمارسها وتحطمها كما تشاء . ليست ألعاباً سحرية لست حاوياً يتعفف كما يشاء أنظر إلى المرآة وقل أنا لست المثالى الكامل ، أنا برئ إذا الكل مُدان …. من الأفضل ياحبيبى أن تلوذ بصمت حقيقى دون زيف دون البحث عن أن تحظى باحترام أحد .

مقلتى عيناك المتقاعسة تهذي .

  • أنا اليأس وأنت كمن تنادين فى الجبال على العدم .

أنظر إليك بحب دفين وأقول:

  • عليك أن تعيش هذه الهوة بعمق .
  • 10

 

تقول :

  • لم يبق الكثير من دمى بدون أن يصله سم زعاف .
  • حبيبي نحن لانرى لا نسمع ، لا نلمس ، لا نشم ، لانفكر ، لا نحب ولا نكره كما كُنا هكذا تتعدد لغة الرحمة ، فكرة التسامح ، عبث عالمنا ،يجعلنا نحصد مذاقاً جديداً لمغامرات عذراء .

عسكرت التفاصيل عند تلافيف عقلك امتزجت تحولت لنسيج هلامي متفرع بأياد وأرجل كالأخطبوط .

أنت مُحتاج لقارب نجاة فضائي ، تتلآلآ فيه عيناك المنطفئة بوهج البرق ترقص طارداً دوامة عشقك لوصلك الباخوسي – حينئذ يغدو تعبيرك المآسوي أكثر سكوناً .

………. أنت عابر ……… عابر ………..عابر .

انتظر ……… هل فاتتك رؤية المسيح بالأمس وهو معلق كجثة واهنة مساقة للصلب ومن جواره اللصان الشهيران !!!

كان المشهد غريباً ولإن شئت صاعقاً ، لكنه ما عاد ليدهشنا أكثر من لحظة وبعدها يمضى …….. ويعبر ……………يعبر….

 

حصاد العبور إليك فمازال العالم ، يحتشد بك

إهداء إلى جندى مجهول

 

أصورة هى لك ؟ …. معلقة على الحائط القديم ، يزيد رونقها ، وسام أخذته لشجاعتك المرافقة مرتدياً زيك ترفع بشارة التحية العسكرية المرغوبة ، وفى الصورة اللامعة أنت هو من تنظر بروح ابتسامتك الشجية ، واكتمال نصاعة الحيوية فى وجهك ، أهو أنت من فعل فعلته الانتحارية لتتحول إلى صورة مرسومة بريشة فاحمة السواد ، بجوار صورة زوجتك التي سبقتك إلى الموت ؟! لتذهب إلى العالم وحيداً مع صوتك وأصواتنا .. برأس تشغله ملكاته القديمة وحدها .

لابُد أنك وريث أمك ، التى كان يأخذك حضنها بهالة من الأحجبة ومبخرة نحاسية عتيقة بزمان الجدة السالفة تجول البيت صباح كل يوم ، لتطرد العين الحاسدة ، لا شك لديها قوة السحر والعين وقدرتها على صنع المعجزات .

فأنت فى كل لحظة سيئة ترصد أخطاءك بأنك أحياناً ما تنسى تعويذتك تحت الوسادة ، أو ترتدى فانلتك من غير أن تشبك الحجاب بدبوس فى ملبسك الجديد بعد استحمامك ، تؤمن بغضب الله ، الذى أحاطك دون ذنب .. فى الحرب رأيت أحد أصدقائك وهو يموت ببطء ، عذبك إحساس البطء المميت ، تكاسل الزمن عن أن يعفيك من إسترسال الدم أمامك إلى أن

11

أطلقت الرصاصة الأخيرة المميتة ، كأنك تقتل عن عمد مهراً جريحاً عزيزاً عليك ، يستجدي رحمتك بعد أن رأيت تباشير

عذاب الموت البطىء فى عينيه المغرورقتين بدموع الإنتهاء .

تهرع إلى غير رأسك باحثاً عن خلاصات أخرى ، لتدور ماكينة العقل الحياتية ، هرعت إلى أمك راكباً القطار ، وأنت تسأل نفسك مرارًا وتكرارًا كيف هجرتها ؟، تحمل وحشة وحزن طاغ ، اكتشفت للحظة ـ أنك تحبها جداً ، تحتاجها الآن ، إنها هناك ، ثم للحظة أخرى تذكرت تلك الليلة التى كنت فيها معها حيث انتهى كل شئ .

كانت عيناها تقول حكايا قديمة ، لكن حينها لم تستطع أن تنبس بأى كلمة ، كانت عيناها حزينتين ، كقمر يقهره حزنه ، وأنت كنت هزيلاً هزيلاً جداً ، لم تستطيع الحراك كما لو كنت طفلاً يحتاج إلى من يخطو به داخل البيت وهو يتشبث بجلباب أمه، و للمرة الثانية تعاني إحساس الموت البطىء الأليم ، وقد تحقق رجائها الأخير برؤيتك كمن كان ينتظر تنفيذ حكم الإعدام ، فأحكمت أنت مشنقة القدر حول عنق أمك .

ماتت زوجتك دون سابق إنذار ، فقدت بعض ممتلكاتك ، بطيبة قلبك الذى عانى من فكرة الحرب والدمار ، كرهت العنف ، ولكن حياتنا أيضاً أيها الرجل عنف لا يخمد أبداً

لقد ماتت من أنت ذاهب إليها .

أثناء هذا ستكتشف أيضاً أنك ترغب في كوب الشاى الذى كانت تصنعه لك ، وستكتشف للمرة الألف أنك ترغب فى تقبيلها على ملأ من الناس ، بل تقبيل قدميها ، وستحزن لأنك لم تفعل ذلك من قبل .

تنظر حولك فتجد آلافاً من البشر الممتلئين ، عندئذٍ ستنزوي وحيداً بجانب باب القطار ، خارج العربة ، لتدخن سيجارة ، وبينما أنت مغرق فى التفكير ، إذا بوجه ليس بوجه أمك يبتسم لك ترتعب محدقاً النظر إليه وجوفك يصرخ :

  • ليس هذا وجه أمى .

يملؤك الغم بكثافة ، تتغير ملامحك ، تنظر إلى القضبان رائياً نفسك فيها كأنها مرآة أبانت لك عن وابل من السُخام يملأ وجهك وقلبك المهترئ بالإكتشاف المفجع بأن أمك ماتت .

تتالى فكرة صنع اللحظة الانتحارية ، فكرة أن اسمك أصبح فى سجل القُدامى ، لا يتذكره أحد كقاذورات الطعام التى تغوص فى مياه المجارى العفنة ، تعلن أنك قديم قديم …. قديم .

نظرة الزمن .. رؤساؤك والناس المعتقلون بصراع الحياة يهتفون بوجوب وضعك على الرف يا صديقي مضت الحرب .. مات ناس ، وعاش ناس .

اذهب بعيداً ، لست فى الصورة الجديدة الملونة بغنائم الحرب ، عيناك الَّلتان لم تمل قط فيما مضى ، التحديق فى عيني ! هل تستطع أن تجب على سؤالي الحائر

كنجمة فى سماء معتمة تبحث عن رفيق للأسى الذى يحتويني :

كيف فعلت هذا ؟

هل علمتك قسوة الحرب أن الجسد لا قيمة له ، عندما تنزع منه الروح ؟

ينهمر المشهد أمامى كدلة ماء بارد يسقط على رأسى بغتة ، وأنا فى ليل شتائي عصيب أبحث فيه لأطراف يداي وقدماي

 

12

المعذبتين بصواريخ تعلو وتهبط من برودة لا تهمد أبداً ، عن دفء تنسكب خلاله الراحة السريعة ، وعندما أُدقق النظر يهتز

المشهد أمامى ، وأكاد أصرخ جزعا وأنا أراك تلقي بجسدك تحت لعنة القطار ، التي فصلتك عن أي زمان كان لك فى هذا العالم ، وأى مكان عشت فيه مع من تحب وتكره ، انتصر القطار عليك وكنت منتشياً بذلك ، كأنك مازلت تدور بإطارات الدبابة القديمة ، التي تقتل صاحبها فى حرب داخلية مع نفسك الممزقة تماماً .

آلا تتذكر يا حبيبي أننى عندما أحببتك أحببت جسدك ، إن له حقاً وديناً فى عنقي ، في ذاكرتي الزمنية ، ومكان كنت أضع فيه رأسي وقلبي وكل جسدي .

أنت فى ذاكرتي بقعة مضاءة تملأني بالبهجة اللذيذة .

أنت فى قبرك بقعة معتمة تملأني بالرثاء الحزين .

أنت بهذا وذاك تصنع لي ما أريده فى الكمال المتوَّحد .

لكنك اغتصبت حقي أن أجلس بجانب جسدك الذي استحوذ عليه الدود الآن، ولن أستطيع أن أمنعه ، ولوبسحقه من كل المقابر ، أنظر ببلاهة إلى القبر الملئ بالأوهام الخالي منك ، فجأة يعمل عقلي بنشاط ، يتراجع عن فكرته المجنونة ، إنه من المستحيل أن أقدر على فعل هذا ، لما لا ؟ ! أظل قابعة بجانب لحمك المنهوش ، أظل أفكر ، ينسال تفكيري بهدوء إلى حقيقة بعد اعتراك شديد ، سيترك لي الدود العظم ، حاقداً فى دخيلته على ما تركه لي ، أما أنا الإنسان العاقل ، الحيوان الكبير ، سأكتفي بأن أقضم بأسناني العظم ، فيسري داخلي دواء يفتت ألاماً فى صدري ، يبصق بصقاً ضاراً من فمي ، يشبع نفسي المحترقة بلهيب الفرقة، وأن ما برز بعد انتحارك جمجمة مهمشة ليست لها ملامح ، تنطق : إنه أنت من فى الصورة المعلقة على الحائط القديم .

إذن أيها الدود أنت صديقي ، ولكن عليك أن تكف عن شراسة أفواهك النَّهمة ، عذابات أشياءك الصماء ، تلبسني روحك فأسير بإحساسها العظيم الثابت ، إنك حي ، مازلت بعيداً عن سجلات الموتى …… كان كل شىء يبدو معادياً وقريباً جداً إليك في نفس اللحظات ، تعلمت كيف يموت الناس بسهولة ، أحببت الموت ولكن دافعاً خفياً يقول لك إنك تحب الحياة كما يحبها القديس والعاهر كم هو صعب أن تترك كل شىء مهما قلت لك .!

تنظر فتجده المساء …. تتحدث عنه دوما حتى عندما يحل الصباح ، ذلك لكي تقنع نفسك بأن الليل سيأتي حاملاً الراحة ، قد تكون ولت سنواتك الجميلة ، عندما كنت لا تزال هناك تعيش مع زوجتك الوفية ، تعالج مصائب الحياة اليومية بقليل من الغضب ، كانت لا تزال هناك فرصة للسعادة ، لكنك ما عدت تريدها ، لم يبق لك ما تقوله ، فكل ما عليك أن تقوله قد قيل ، ولا تدري كم مرة الواضح شىء واحد فقط ، أن اللحم يعج ويتعفن بفعل الديدان ، وبحساب الزمن القاسي يحمل الفناء التام .

أحضر راديو صغيراً كنت تحتضنه فى ليلك الجاف ، منزوياً بجانب الحائط ، على حافة السرير حتى يبدو للناظرين أنك تكاد تلتصق بالحائط المجاور لفراشك ، تتشابك أعضاء جسدك داخل بعضها كأنك توجه الجسد والحائط والراديو والغطاء الذي اعتدت أن تغطي به نفسك كاملاً حتى في أيام الصيف الحارة كذبابة التصقت بالضوء حائرة ، ماذا تفعل وقد فاتها ضوء النهار؟ ، فتركها أصدقاؤها تعبث بفكرة البقاء ، فتكتشف الليل المضاد لحركتها العادية منتظرة الفرجة الصباحية ، لتلتقي بالأحباب وتدخل الصباح الآمن ، تعاند به خوف الليل الذى يملؤك سكونه المُريع .

أمامك رفوف مكتبة خشبية صغيرة بها بعض الكتب ، فوق الرف الأول والأخير ، يتوسطها رف زجاجى ، به أشياؤك الضئيلة ، كأنها قطع من الماس تعبر بها عنك ، ولاعة فضية على شكل قنبلة ، تستعملها دائماً فى إشعال سجائرك

 

13

 

البورسعيدية ذات النكهة النعناعية ، وتعتز جداً أنك من القلة التى تدخنها ، حصان خشبى صغير عندما يرحل عن جفنك

النوم تنظر إليه تعتليه ممتطياً خلفك فتاتك العاشقة ، تطير بها بعيداً إلى حيث ينتشر اللون الأخضر في مساحات واسعة ، وشلالات المياه الرقراقة تنزلق كإنزلاق رغبات جوفك الباحث عن السفينة ذات القلوع البيضاء ، لتجد فى نهاية المطاف نفسك الحقيقة الوحيدة العاقلة . كحقيقة أن شمساً لا تزول تنظر لمعان القمر الحبيب صاحب العشق الخفي .

يقولون باتهام أن لوثة أصابتك من تكرار العذابات فى حياتك الخاصة . لم يعوا أنك محتاج فى الحقيقة لأن تسكن رأساً ما .. وأن هذه اللفائف الجهنمية التي تعج بها جمجمتك قد هشمت وتناثرت كزجاج مكسور استحال إلتئامه مرة أخرى ، هكذا كنت تمضي فى الضياء المخيف متلفعاً بإهابك العتيق مشدوداً إلى اليمين واليسار ، فكرك يلهث وراء هذا وذاك ثم تندفع دائماً إلى حيث لا تجد شيئاً بهذا ستصبح محايداً خامداً وسوف يكون ذلك هينا بالنسبة إليك ….. ستموت فاتراً دون حماس .

إليَّ برموزك …. تخلد وتبقى داخل قبرك المدَّعى فى عقلي .

هل كان لابد أن أذهب إلى حوش مقبرتك الذي دفنت فيه أجساد أحباءك وغير أحباءك ، يندفع الدمع وأنا وسط مكانك أحاول أن أؤنسك فى ليالي وحدتك هنا .

أضع الراديو وولاعتك القنبلة ذات اللون الفضي اللامع وحصانك الخائب وعلبة السجائر التي لن تفز بملمس شفتيك ، وأتذكرعبق النعناع الذي كان يملأ حواسك ، أرفع رأسي إلى السماء ، تملأ أنفي رائحة الياسمين والريحان المفروشة على جنبات الحوض الكبير ، أبتسم بارتياح ، أقرر أن أدفن أشياءك مائلة على أصيص نبتة مازال وليداً يبذر رائحة ذكية النكهة ، أسير خطوات ، يستقر هنا جسدك وأهم بكل حماس أشمر أكمام قميصي الطويل ، وأثني أذيال بنطالى وأحضر الفأس يتسللني شلل يؤخز يداي …. تسقط الفأس من يدي ، وإن كان ثقلها غير المعتاد عليَّ قد تزامن مع عجزي الوليد فانهار سقوطا ساترة بيداي وجهي …. متشنجة ببكاء مفعم .

فجأة تسقط خيرات السماء المعجزة تهمس لي :

  • عليك أن تنتهي من مهمتك أولاً

أشعر بالخوف ، أرفع يدى ، أنظر فأجد رجلاً يرتدي جلباباً بنياً محروقاً يغرق عيناي فتغمرني سطوة اللون ..

من أنت ؟

قبل أن يجيب وبعد أن ملأ عيناي بملامحه الطيبة التي تسلمك بهدوء واطمئنان إليه ، كأنه طائر حكيم يلتقط الخير من القلوب ببساطة ، نازعاً أي شراً ما بداخلك .

  • هل أنت صديقه ؟

ينظر إليَّ وهو مازال واقفاً ، وأنا مازلت أتفحصه بدهشة وطيبة إخترقتني بلطف ، فقربتني من صوته ذي النغمة الطيبة ، جلس بهدوء من يريد أن يروي حكمة ما .
قائد كتيبتي فى الحرب ، كنت أهابه وأحبه ، كان يرى فيَّ ما لم أكن أعلم بمقدرتي عليه ، إلَّا عندما عصيت أوامره للمرة الأولى ، ذهبت بمفردى عابراً للزورق بعد أن أرهقه تشنج أحد الجنود ، امتلأ برعب العبور المؤدي إلى الموت ، وبريق المعجزة أن ننتصر …. بل ونحيا وعندما رأيت نظراته العسكرية الآمرة تتحول إلى فرح ، والكتيبة كلها بمن فيها الجندى المرتعب تُهلل : الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر .. يتدفقون كالنمور المفترسة يطأون أراضينا المغتصبة ، مُهللين بالفرح الذى عزَّ دهراً ، أجبته بإعجاب أثير : لابد أنك نازعت قائدك فى وسام الشجاعة .

14

أجاب بفتور : نعم لكن من يذهب للحرب ، لا يبالي بالتحيات المزخرفة المنسية مهما تكن .

تذكرتُ فجأة الحقيقة الثابتة : هل تعرف أنه مات منتحراً روحاً قبل جسدًا ؟

قال بفخر : أعرف أنه عَبر على كل دروب حياته الوَّعِرة ، الحرب …… النصر ….. السلام …. الموت ، وعندما قابلته قبل موته عانفته عِناق الفِراق ، دون أن أدري سألني : ماذا وجدت لتعيش ؟

قلت : أعمل ساعي بريد لأقتات العيش لزوجتي وأطفالي تجاه مصاعب الحياة .

عانقني مرة أخرى وسأل بلهفة : كيف تسير الأمور يا أخي بطل الحرب ؟

تمر كالقطارات تنقل الغادين والرائحين .

هبطت مستسلمة فوق الأرض ، مستندة على الحائط ، دمعى يجف رويداروحى تهدأ ، وكان هو قد أخذ جلسته المحببة ، وإن كانت غريبة عليَّ ، جلسة الصعايدة الحكائين ، أبناء الليل والحرب ، وبراد الشاي المُر الذى لا يتوقف .

عاجلت بطلبي : لماذا لا تبقى لندفن أشياءه ؟ ربما تأتي رحمة ونوراً عليه .

دون تردد رفع جلبابه رابطاً وسطة بحوافها ، منتزعاً حذاءه المعفر القديم مستعداً …. أخذ الفأس وبدأ يرفع التراب أحسست أنه سرق برهافة رغبتى القديمة ، فى دفن أشيائه بيداي مشيتُ بزهو ، أبحث عن فأس أخرى .. وجدتها ، وقفت برهة واضعة رأسها الحديدية على الأرض ، ساندة بيدي على الساق الخشبية .

نظرتُ إلى أسفل وسألت بخجل : هل مازلت تحبها ؟

قال دون أن يرفع النظر :

  • ما هذا السؤال وهل نملك أن ننتزع من عَشِقَ ترابها ؟

تظاهرت بالثبات لأمنع دموعاً برقت فى عيني : لماذا جئت هنا ؟

فقال غير عابىء : بينما يُحفر التراب ، لقد مَرَّ عليَّ قبل أن يسافر سريعاً …. ودون أن يُعانقني …. طلب أن أقوم برعاية الحوش براتب شهري ، وحين يموت أكون لحاده فى القبر ثم إنه قائدي وصديقي .

صمتت نفسي تماماً ، وقف مثل وقفتي واضعاً يديه على الساق الخشبية قائلاً : رفقاً بحالي وحاله .

_ لم لا تتركين دموعك قليلاً لنجفف الدمع بالغناء ؟

فقال مؤدياً : ” صباح الخير على الورد اللى فتح فى جناين مصر ، صباح العندليب يشجي بألحان السبوع يا مصر

شعرتُ برغبة تحرضني على الإبتسام بقوة ، دفعنى دون أن يطلب لأن أرفع الفأس مثله منشغلاً عني بالغناء والحفر ، دخلت عالمة أرفع التراب ، فى المرة الأولى ، الثانية ، الثالثة عندما يرفع التراب أكون أنا ألقيت ما رفعته ، صممتُ على أن ينسجم الإيقاع وكان لنا ، فصرنا كجنود ببذلة خضراء ، بقلب واحد نشد أطراف العلم ليبقى شامخاً راقصاً فى الهواء الحر، نزداد حماسة ورغبة ، كلما انزاح التراب توغلنا عمقاً فى الحفرة أراه صاعداً يقوم من رقدته مرتدياً بزته العسكرية المخضبة بخضار ورق الزيتون البهي مهرولاً إلى أمه ، يحمل رشاشته المزهوة بوسام أخذته لشجاعتك فى صورة معلقة هناك .

 

15

تنشد بأنفاسك وتغني ..

ورجعت بلدنا على الترعة وبتغسل شعرها

قلت ألاحقه جاها نهار قدر يكفي مهرها

أروقة الجستابو

ما سمعتش يا غايب

حدوته حتتنا

عن قلب كان هايب

من حلوة حتتنا

صلاح جاهين

أربعون عاما من الأمل الزائف ، تتلصَّصين مثل القطط تلحسين جسدك بلسانك يوميا؛ لتنظفي بقايا الغبار والأحلام والآمال التي كانت ولا تزال تنخر في عظامك ، مثل السوس في الخشب ، محفورة في قلبك الشجي ، لينطبق عليك طابع الشجن ، والحزن في غنائياتك الشعرية ، وتُعللين هذا بأنه طبيعة الشعب المصري البكاء وسط أعظم فرحة ، أم أنه أنت من صنعت لنفسها شجناً اختيارياً على بابه شكل غريب لوجه حمار ملصوق على لوحة خشبية ، مقسَّمة ومنحوتة على قياس هذا الوجه الجلدي لذاك الحمار ، ما القصة يا صديقتي ؟ هلَّا قمت بذبح أو قتل حمار من قبل واحتفظت برأسه على باب شقتك المتواضعة هل هو فأل حسن أم ماذا ؟ أم هو سخرية قاتلة مسمومة أن يكون الحمار شعارك .

بأي مشاعر أشعر، وأنا آكل نفسي كالنيران ، أبحث عن خبايا طفولتي الرعناء ، عن عراك لحياتي المنبعث منه ألم ، ظلمة ، يأس ثم مرة أخرى ألم ، أمل ضائع، وحلم تائه . أين صباي ؟ أين ما كان وراح ؟ هل تعود الأشياء كسابق عهدها ، لابد أن هناك خلاصاً يجعل من الأمور أشياء مستساغة ومقبولة في حينها ، ثم تتلون وتتبلور ، عليَّ أن أحسم حياتي الآن ما هو الشعر ؟ الحب ؟ الإخلاص ؟ تناول كل الأشياء. أدعو ربي على الدوام أن يُلهمني صبراً مستحيلاً ، لا يمل ولا يكل من رحمته المضيئة في قلبي كلمعان اللؤلؤ والياقوت .

هل كان لابد أن يحدث ما حدث ؟ هل تأخرت كعادتي ؟ أم جئت في غير الوقت المناسب أنا مخزون من الأفكار والأشعار ، أين أنا ؟ أم أنه أنت فقط ما يطرحه عقلي الذي يعاند التوبة منك أيها الحبيب ويجنح إلي يأس قائم غائر في عمق روحي كالوتدالحائر، لأنه بدونك ، عندما تمر أحزاني فوق عباءتي، أشعر أنني امرأة هَرِمة فتك بها الحب الأوحدي السري .

عندما يأتي الخريف ، تعصفني رماله وعواصفه ورياحه المدمرة ، يؤكد قانون الزمن أنني امرأة هَرِمة ، أتمتع بحواسي الخمس وحاستي السادسة الشعر وأرى العالم دائرة بلورية زجاجية، أتلمّس من خلالها ملامح الفرسان الثلاثة؛ الشعر، الأمل ، الحب، وأسخر من فكرتي وأصرخ داخلي لكنه ليس فيلماً بوليسيا أو هنديا .صدقوني يا أصدقائي

كنا نعيش الأحزان ، ولا نجرؤ أن نقول إنها ستذهب هباء أو لن تحل بنا أو تفتك بجوارحنا الخاصة ولكنها باتت وظهرت ، وشاخت بداخلنا بعمق . يتعلق في مخيلتي وجه عروسة ثابتاً فوق الماء لحظة ويتلاشي كبخار يتبدد، ثم أرى أمامي كل سواء ، هل من أحد يبكي على اللبن المسكوب .؟

16

يعتصرها الدمع ويسحقها النحيب ، وتردد اسمه مصحوباً بأصوات تعرفها ، وهذه الأصوات تحمل رنيناً ليس له صدى ، طالعتُ مناظر لم تكن تحسبها باقية في نفسها، رغبت في الضحك برهة ورغبت عنه في أعقابها وهي تلمح بين فرجات الحسرة والذهول مساحات دائرية ناعمة تقترب منها كظلال الضباب وقد مضت في سرعة لتصعد درجاً ملتفاً ، خافت الأضواء ، حتى تعبر دهليزا يشتد فيه الضوء ، كلما سارت قُدِماً ، متهيأ بقلب مختلج وبصر ندي ، للقاء حقيقي خاطف معه لم يخذل مخيلتها .

منذ عشرين عاماً ساقتني الأقدار وبراءة العمر وكنت أمارس إحدى هوايات ذلك العمر الرومانتيكية في بداية توظيفي مدرسة لغة عربية للمرحلة الإبتدائية بعد دبلوم المعلمات الذي بجهدي وتفوقي الدراسى حصلت بعده على بكالوريوس دار العلوم بتفوق ، كنت أعمل في ( مدرسة باروط الابتدائية )التي تتبع مركز باروط التابع لمحافظة (بني سويف) كان أطفالها الفلاحون والفلاحات أغلبهم حُفاةً وأحياناً عُراةً ومتسخي الكفوف والأقدام .أمام هذا العبث الذي عصف بكل جوارحي ومشاعري الجياشة في ذلك الوقت ، كنت أول معلمة تحضر وأتعمد أن آخذ الحصة الأولي وربما الثانية وأقضيها في تنظيف الأطفال وغسلهم بالمياه وتمشيط شعورهم أو شعورهن، بل وحياكة ملابس لهم أنا وأستاذة حمديه مدرسة التدبير المنزلي لما لها من مزايا امتلاكها ماكينة خياطة سنجر وغرفة التدبير المنزلي الأشبه بساحة منزلية لمطبخ كامل . والأستاذة العظيمة حمديه تقوم بتجميع المرايل الصفراء القديمة ونقوم سوياً بعمل بعض الإصلاحات اللازمة سواء تضييق أو توسيع حسب سن ووزن كل طفل .

من هذا اليوم من عشرين عاماً حصلت على لقب المعلمة المثالية على مدارس مركز باروط كاملا ، ثم في مراكز كثيرة من تنقلاتي المستمرة إلى أن صار اللقب على مستوى محافظتي الكبيرة [ أمل الفتاة والمعلمة المثالية إلى الأبد ] أربعون عاماً من الهزائم المتكررة داخل أروقة الجستابو ، جستابو قلبك داخل منزل الحبيب الكبير ، الذي كان فيه فيض غامر من نشوة ساحقة ، عندما تتبدد السُحب داخل الزرقة اللازوردية بين أمل وحبيب في هذا المنزل الأشبه إلى أروقة الجستابو الذي ينفيه البلدوزر الآن من أي وجود كان له. أيها البلدوزر المطيع لسيدك الإنسان يالك من عملاق مفترس

هذا المنزل الجستابوي به الحب الميت ، الفرح الميت ، الزمن الميت ، كل تلك الكنوز المطمورة في الردم الآن ، تتلامس برنات ، كالأجراس الصغيرة ، تلعب حولها الربح حيث الموت ،إلى أن تستيقظ بهدوء …. بهدوء تسحب أنفاسها ، لتحرك أجفانها المغلقة .

أتحسس خُصلات رأسك المتعبة ، تسقط متراقصة منها ضحكة عذبة ليهفهف صوت الحبيب فى أذنك، ثم يهوى كزهرة الزيزفون على قبره، وتلخصين كل هذا والآهة تتمطى في صدرك قائلة بحسرة :

كل ما أعدي من هنا ، أحس إن أنا اللي اتهديت وضاع عُمري مش البيت اللي اتهد .

تقفين في مكانه الذي أصبح خراباً كالحجر ، لا تبرحيه كقناص الظلمة وسط الفراغ الكبير ، الذي لا يسمح بميلاد بصيص أمل ، وسط السراب تتخيله أمام عينيها وهو يستند إلى سياج البيت ويداه مسدلتان ، مطرق الطرف ، بيتاً ورثه عن أبيه وجده ، أسطحه وأرضيته مُغطاة بالألواح الحشبية ، أطرافها وجوانبها يكسوها اللون الأبيض .

عبس وجهها ، حتى ظهرت التجاعيد طويلة على جبينها وتملكها شعور ، رهيب ، لم تستطع أن تتخلص منه وقد تحوَّل إلى حقد أعمى على كل البيوت المجاورة له . فتلك البيوت لا تكن لها سِوى الكراهية وهي تراها تقف سامقة عالية هكذا ، ودت لو تهدها جميعاً. ساد صمت يبعث على الحيرة ، نظرت حولها كمن يبحث عن شخص تنتظره لكن أحداً لم يأت .

ساد صمت قائل في غرفتها، حجرة لا تراها الشمس على مدار اليوم ، ليس بها سِوى عتمة خرساء تشبه الهواء المتجمد يملؤها بكاء طفل ، وغناء صوتها الداعي للتصالح دون حائل بدونه ، الذي يصدر كصوت آت من القبور ، لغيابه

17

العبثي والمميت الذي كان بإمكانه أن يغير حياتها كلياً ويمررها من هذا البرزج الخانق بنجاح.

كنتُ حمقاء لتصديق كثير من الأمور.

نحن مخلوقات العالم السفلي.

لا يمكننا تحمل ثمن الحب.

من داخلي قلبي يتمزق لمواصلة العرض

وأتخيل نفسي المحظية الهندوسية

وعلي أن أختار المهراجا

هو يحبني وهذا يساوي كل شئ

هو لم يحبني وهذا لا يساوي لي أي شئ

شكرا أيها البطل الورقي الذي صنعه خيالي الشعري شكراً لأنك أنقذتني من هوسي السحيق بالحب .

عند مفترق الطرق ، حدث ما حدث ، وكانت الأحداث السابقة المؤلمة، ثم عم وهج الصباح فقلت:

ـ يا دي النور ، يادي النور …. ربنا يجعله خير

عليَّ أن اخاطب الورق ، فهو أفضل لي في هذه الحالة ، داخلتني أشياء لا يُراد بها إلَّا الإمتعاض لكارثة لا أريدها ولا أرجوها ، الأشياء تجتمع لتفترق مالها من هدف أو غاية ، الوحدة تخلق أموراً لابد منها بين البشر ، الإغتراب ، ثم هذا ما يقال عليه دورة الزمن اللعين بمعنى الإنهماك مع الحياة ، كيف أبتعد عن بعضهم كيف ؟ فهم يحاصروني من كل الاتجاهات .

عمر أفندي

كنت أرى أصدقائي ينجحون ويتحققون في هذه الحياة المدنَّسة ، ولا أهتم أصمت وكأن شيئاً لم يحدث ، كنت أرى أني لن أسافر وأصمت مرة أخرى كأن شيئاً لن يحدث .

كان السفر هو كل ما يسيطر على خيالاتي في الليل والنهار كلما أتذكره تزداد رغبتي في الحياة ، ويزداد إحساسي بالتعاسة في آن واحد لإعتقادي أن ذلك لن يحدث أبداً حتى سمعت أنَّ عمر أفندى قد بيع ، فقلت بغضب :

ـ هذا لن يحدث أبداً .

كلما مررت على شارع أو قابلتُ أحداً حتى لو كان شخصًا عاديًا ليس لي به أي علاقة قال :

ـ الحقي عمر أفندي اتباع وعاملين جرد ، والتخفيض 50% على كل حاجة الحقي هاتي اللي انت عايزاه دي فرصة .

علقت وقلت بسخف كعادتي :

ـ هكذا هي الحياة تمضي ، وتدوس على أعظم المعاني وأهم الحاجات ،تعمدت ألا أركب
[
السرفيس ] المؤدي مباشرة إلى المديرية أي: عمر أفندي ، سرتُ في شارع البحر المعروف بازدحامه لكثرة المحلات والمنازل والبشر به ،عند منتهاه يوجد مبني مديرية أمن محافظة (بني سويف ) الذي يختص لنفسة بنصف الشارع

18

بوضع حواجز حديدية على شكل مربعات أحمر في أبيض أو أسود في أبيض فتذكرت لعبة الرصيف التي كنت أمارسها مع

صديقاتي حتي يمر الوقت ، نحدد رصيفاً ما به هذه الكتل الأسمنتية الملونة مرة بالأبيض ومرة بالأسود ونتسابق معًا ، من عنده القدرة أن يسير على حافة الرصيف دون أن يقع، بل وعد الأحجار البيضاء والسوداء ، فيكون هو الفائز كنا نسميها لعبة ( فناء الوقت )

المهم أمام مبنى المديرية الهائل المساحة ، توجد حديقة فقيرة بها قليل من الحشائش والأشجار وكثير من الدكك الخشبية المرفوعة على قوائم حديدية، بعد الحديقة مباشرة يوجد مبني عمر أفندى الضخم الذي يأخذ ناصيتين بمساحة الشارع ، حتى لاحظت يافطة قماشية طويلة خصم 50% على كل المنتجات والأدوات المنزلية والملابس( حريمي، رجالي ،أطفال) ـ. انتهز الفرصة قبل عمل الجرد السنوي خصم 50% لماذا لم يقولوا الحقيقة قبل تسليمه للمستثمر الجديد ، هل في هذا خطأ ؟ ومن يعطينا الجواب، ما هو الصحيح المفيد وما هو الخطأ الفادح ؟ لكن هل الخِراف تعرف غير المواء في بلدنا الرائع . شعرت بيأس وإحباط منقطعي النظير ، لم أعرف ماذا أفعل ؟ أكاد أختنق من الغيظ ولا وسيلة لمقابلة أحد بسرعة ومحاولة إقناعه أن يُقدم لي رسالة مختلفة عن تلك الكليشيهات الشائعة والمعروضة أمامي دون توضيح أو معرفة تستوعب حيرتى وجهلي بتلك الأمور، كانت أغلب الفاترينات التي تغلف مبنى عمر أفندى المكون تقريبًا من ثلاثة طوابق مغلقة بهذا الصاج الحديدى .

دخلت من الباب الرئيسي وكالعادة يقابلك في أول الردهة الطويلة قسم الروائح فوجدتها خالية إلَّا من علم مصر ، فاندهشت وتسمرت في مكاني فقال البائع ، وكان رجلاً كبير السن يرتدي بدلة قماشية بنية اللون بأزرار كبيرة وجيب صغير في أعلى جاكت البدلة على الصدر من الناحية اليسرى فمازال الرجل محتفظاً بأناقة هذه البدل التي مَرَّ عليها الزمن ودفنها أمام انتشار موجات من الموضة ثم قال بمرح به مرارة المقولة :

ـ تشتري علم مصر يا أبلة

ـ نعم

ـ دا أرخص حاجة نزل ثمنه من 50 جنية إلى عشره جنيه بس

سكت، والمفاجأة تطل عليَّ كأن صاعقة أصابتني بالخرس أراد الرجل أن يكمل ،لكن الخوف تملكه وابتلع ريقه، ساد صمت باهت بيننا يوحي بصمت السجون والمساجين الذين يمضون عقوبة السجن المؤبد ، كانت الإجابة الجاهزة كالوجبات الجاهزة ، حين تُسأل عن أي منتج ما

يكون رد البائعين والبائعات الحاسم:

ـ مافيش خلص ، اتباع ، مافيش المقاس دا .

كثير من الزبائن يدخلون ويخرجون مباشرة ، يبدو أن قانون انتهاز الفرص

واقتناص معظم المنتجات وخاصة الأدوات الكهربائية والمنزلية لأكثرية العاملين به ولأقاربهم ، ومعارفهم كانت من امتيازات بيع عمر افندي لهؤلاء إلَّا أنني لاحظت كلاماً وحديثاً في الدور الثاني فصعدت متتبعة آثار هذا اللغط ، كان قسم الملابس الشتوية والملابس الحريمي ـ ـ ـ كان الطابق كله يعج بالنساء كأنني أرى جمهوراً لعرض مسرحي ، كثير من الفتيات والسيدات بعضهن داخل المكان المخصص للبيع من خلال الحاجز الخشبي المغلف بالزجاج وبه البضاعة المتبقية ، وعجبًا لما يحدث ، لمحت إحدى صديقات البائعات تحضر لها عدداً من السوتيانات المصنوعه من التيل، أي: مصنوع من القطن المصري الخالص وقد نزل ثمنه إلي عشرة جنيهات، أي: نصف ثمنه الحقيقي وقد اختارت واحداً

19

وخبأته سريعًا في صدرها تحت (الخمار) وهي تقول وتذهب بسرعة :

  • أجبيلك الفلوس في البيت ما تقلقيش .

الأخريات منتشرات هنا وهناك في الردهة بالصدفة، كنت واقفة بجانب موديل لطفل يرتدي بيجامه كستور بخطوط مقلمة أزرق في أبيض لفتت نظري وإعجابي ، فلم أرَ هذه البيجامات من وقت طويل فتذكرت الكساء الشعبي وسألت :

ـ هي دي بيجامه كستور؟

ردت البائعة بلباقة غير معتادة من البائعات الأخريات اللواتي كن يزعقن وكأن عمر أفندي شيئاً خاصاً بهن فقط لا يحق لآخرين أن يشتروا شيئاً إلَّا بعد إذن هؤلاء الموظفين والموظفات

ـ في منها كل المقاسات لو حضرتك عايزة .. وهي نازلة من 26 إلي 16 جنية بس دي فرصة

قلت :

أريد واحدة مقاس خمس سنوات

قالت باستغراب :

ـ واحدة بس

كادت أن تستفسر وتعلق حتى جاءت أخرى وأنقذتني تسأل:

ـ في قماش بيكا اسأل عليه فين هنا ولا تحت .

دون أن أرد عليها ذهبت إلى ( الكاشير ) في آخر الردهة لأدفع النقود .

كنت أسير ، وأنا يحتوينى شعور بائس، أرى به كل شئ أمامي كقطع حجارة ضخمة أو أكوام من عظام عملاقة ، وجماجم كل منها بحجم وحش لا أحتمل رؤيته .

أخيراً ذهبت إلى عم أمين الذي كنت أعرفه فهو يسكن في نفس الحي الذي أسكن به وهو الذي أصر أن أحضر إلى عمر أفندى

ـ إزيك يا عم أمين

ـ هو ده بس اللي اشتريتيه

ـ هاتفضل في عمر أفندى يا عم أمين ولا إيه ها يحصل ، إنحني كالأوز ، جحظت عيناه الرمادية في وجهه الشاحب ، وارتسمت داخلها اشارات الخوف ، ربما لهذا السبب كانت خطواته طويلة بطيئة يجر قدمية كالقطة الخائفة ، ليعطي انطباعًا بأنه يبحث بإمعان عن شئ غامض ضاع منه ولا يستطيع العثور عليه ، كان يحب عمله بنفس القوة التي يحب بها عمر أفندي ، رغم أنه لم يتحدث عن هذا أمام أحد ، إلَّا أنه كان واضحًا .

أخرجت الفاتورة المكتوب عليها شركة عمر أفندي ، واحتفظت بها في محفظتي الخاصة حتي لا تضيع

 

20

قالت نفسى بحزن :

من المؤكد أن شكل الفاتورة الجديدة سيتغير .

مضيت عن عمر أفندي ، وأنا أرى عمر أفندي أشبه بدب الهيمالايا الفاتك الأسود يتحول إلى مسخرة ، لكنها مسخرة موجعة للقلب عندما يمعن الإنسان في دقائقها.

 

 

على الحدود

 

شيري العانس ، بعد أنْ تجاوزتْ الثماني والأربعين عاماً الآن ، فأخذتْ هذا اللقب والصفة على الفور، تعارفنا على بعض في الجامعة، جامعة القاهرة، كلانا كان في كلية الآداب لكن هي قسم اللغة العربية، وأنا قسم اللغة الإنجليزية، أحبت شخصًا معتوهًا من وجهة نظري لمدة تسع سنوات، وفي النهاية لا هو تزوج ولا هي تزوجت.

تزوجت أنا لمدة خمسة عشر عامًا، وأنجبت طفلتان، وطلقت، وعمري خمس وأربعون عاما وأخذت مثل شيري لقب ولكن بمسمى آخر، مطلقة، وظللنا أصدقاء العمر مهما حدث لنا من مصائب وأهوال، بعد أن حصلنا على تلك الألقاب، قررنا بالميثاق والعهد الذي لا يسقطه إلّا الموت، ألا نتزوج أبدًا، هي تكتفي بعملها في وزارة التربية والتعليم التي تُدر عليها دخلًا ثابتــًا ومستقرًا تؤمِن به الحاجة لأحد، وبعد يأس الأم من زواج ابنتها شيري، أهدتها شقة مكونة من ثلاث حجرات ومطبخ وحمام سوبر لوكس في الدور الثالث من منزلها.. المكون من خمس طوابق، حتى تؤمِن حياتها ولا تتعرض لعراك الميراث بعد موتها، فتصبح شيري في مأمن من أي طامعين بحكم أنها بنت وحيدة مع أربعة صبيان، وخاصة أن الأب تُوفي من فترة ولابد أن الأم أيضًا ستموت، سُـنة الحياة..

كلانا من محافظة الفيوم ذات نفسها أي المدينة، لم نعش في قرى الفلاحين مطلقا، منذ أن ولدنا بعد أن تزوجت عشت في القاهرة، حيث عَمِل زوجي السابق، بعد الطلاق عُدت إلى منزل أمي، وفعلت أمى فعلة أم شيري، أعطتني أيضا شقة مستقلة مكونة من حجرتين ومطبخ وحمام سوبر لوكس، لأعيش بها مع طفلتي ، وأيضا وظيفتي في وزارة التربية والتعليم تُحقق لي ثبات مادي مستقر، بعد أن حصل كلانا على الحرية الثمينة وقرار عدم الزواج، بدأنا نعيد أيام الصداقة القوية القديمة التي فترت في بعض الأوقات لظروف الحياة، وقهر الأيام، والحب والألم والفراق والزواج والطلاق، والإنتقال من مكان إلى آخر حتى العودة إلى نقطة البداية ،وكأن كل ما مر علينا ما هو إلا مجرد غبار ريح عاتية غمرتنا.. ثم أفقنا ورفعنا كل الأتربة العالقة فبانت الرؤية ، وكشفت الحقيقة المرة وعدنا إلى أمهاتنا، كما ولدتنا نطفة بريئة.

شيري ليس هذا اسمها الحقيقي.. وإنما اسمها هناء كما صمّم الوالد أن يكتبه في شهادة الميلاد ، أما الأم فكانت تريد تسميها شيرين ، فأطلقت عليها عنادا ومكرا في تسمية الأب هناء، شيري، وانتشر وجال وصال بين العائلتين والشارع ، والمدرسة حتى أحيانا عندما نقل هناء، يستغرب الآخرين، من هناء هذه؟ آه تقصد شيري وبإضافة أخري ابتدعها معدومي الذوق، والإحساس آه شيري العانس

شيرى مغرمة بمشاهدة الأفلام الهندية والجنسية واحتساء البيرة استيلا، التي تبدل فوارغها من عم رجب الشهير بالخمرة المضروبة واحتساء زجاجات البيرة استيلا الخضراء دون الكانزفهي الأفضل لديها، ويتم هذا في اللقاء الأسبوعي فقط بيننا فى شقتها ، وليس مع أي أحد آخر بتاتا يتبعه بعض التدخين.. ولا أحد من أسرتها يعلم كما تظن هي بينما الأم

21

 

والأخوة الأربعة يعلمون ولا يبالون.. ويقولون بحزن مسكينة : أهه بتحط همها في أي حاجة ولا عيل ولا تيل هاتعمل إيه

يا ناس، تتمنى شيرى أمنيات غريبة بعض الشيء، فأخبرتني مرة أنها تحلم أن تكون زعيمة ثورة ، ويرفعوها على أكتافهم مثل الزعماء البارزين ، وتظل تصرخ وتزعق في الشوارع والميادين وتشتم في الحكومة، ومرة أخرى متناقضة تمامًا للأولى، أنها ترقص رقصات الفالس الشهيرة وتدور في حنايا الأروقة وهي تراقص فارسها بكل حب ورومانسية وتستمع إلى موسيقى باخ، وتغوص في عوالم سحرية أخرى.

كان بيننا لقاء أسبوعي لا يتغير موعده يوم الخميس ، إلّا حسب الظروف الطارئة، أما المعتاد هو لقاء الخميس بيننا إما أن تأتي وتبيت عندي أو العكس.. فالأمهات يعلمن بمدى العلاقة القوية التي بيننا ولا يعترضن.. بالعكس يتألمن لحالنا، ويقلن بحزن أيضًا :

_مساكين آهم بيسلوا بعض يبقى لا راجل ولا ضل حيطة يأويهم

قبل الذهاب لشقة شيري لنقضي وقتنا بين التسامر والحديث واحتساء البيرة الاستيلا الباردة بأكواب مشبرة بفعل البرودة، التي تضعها شيري في الثلاجة لتزيد مذاقها لذة ومتعة البرودة دون مكعبات الثلج ، أمر على الأم التي تودني وتحبني كشيري بالضبط ، وتقابلني بالترحاب والأحضان والقبلات وتبدأ الحديث وتنهيه كما تريد ، أخبرتني في مرة من المرات عن أزمة تؤرِّقها مع الفراخ التي تربيها أنه أصابتهم خرخريرة، أي: أ صواتهم مخرخرة، ويعطسوا ولا يشتهون الغذاء ، أحضرت لهم دواء من الطبيب البيطري، بعشرين جنيه ولا فائدة، والسقف يقطر ماءً عليهم، لا يرون الشمس العفية، زهقت وتأثرت لحالهم وتعبهم.. فوضعت لهم ماء بفنيك حتى يموتوا ويرتاحوا. وتصعبت من فراقهم وكادت أن تبكي ، وواسيتها برفق وعللت أنها أنفلونزا الطيور المنتشرة الآن ، وما عليها إلّا أن تنتظر بعض الوقت ، وتشتري غيرهم وتربيهم وإن شاء الله لن يموتوا.

عادت على الفور لروحها الطيبة والمرحة وقالت ببهجة :

يا ختي دا إنتي دخلتك حلوهأميرة ومحترمة عمرك ما غلطتي في حد وكلامك كله شهد مكررربنا يحميك ويكملك بعقلك اللي يوزن دهب..

شيري تحاول في بعض الأحيان، تتقمص دور التاجرة الشاطرة ، عرضت عليَّ بيع تليفزيون 14بوصة، وموبايل، وصلنا بعد الفصال الطويل إلي 650جنيه، ثم تذكرتُ أنني لا حاجة لي للإثنين ، وتركنا الموضوع رغم المعاناة التي بذلتها معي لإقناعي بالشراء ، ضحكت وسبتني وذهبت إلى المطبخ لتعمل لي قهوتي المظبوطة من بن تركي، تشتريه مخصوصا من القاهرة، عن طريق أخيها الذي يدرس هناك وجلسنا على السرير نحتسي القهوة التركية اللذيذة.. وفجأة قالت بمزاح أكثره جد : تعرفي نفسي في سرير مراتبه كاوتش جواها ميه وفيها مبرد،وكمان سخان للميه .. قلت وأنا أضحك سخريةً على تصورها الخيالى للسرير:

ويا ريت واحد راجل معاه بالمرة وضحكنا وطرقنا على أيدينا ثم قالت متأوهة:

الحكومة وخدانا لفين.

أيوه شفتي الأسعار غليت قوي.. دا جنان رسمي.

يلا.. مش الناس ساكتة.. خليها تاخد فوق راسها.

بس بردو .. الحكومة واخدانا لفين؟

ثم قامت بإحضار مروحة صغيرة لونها لبني فاتح جميل غريبة الشكل واللون، ووضعتها بجانب ترابيزة التليفزيون

22

المواجهة للسرير وسلطت المروحة في وضع قائم على جلستنا بالضبط على السرير.

مروحة شكلها ظريف قوي بس مش بتلف دي ثابتة.

أي نعم .

طيب ما تصلحيها.

صلحتها ب‍70جنيه ومفيش فايدة.. واستطردت إذا كان عاجبك أقفلها ونقعد في الحر يعني.

لأ مش عاجبني، كنت اشتريتي مروحة جديدة أحسن

تعرفي إمبارح كان يوم إيه 7/7/2010

أيوه امبارح كان عيد ميلادي، إحنا من أكتر من عشرين سنة أصحاب وكل شهر تسأليني إنتي عيد ميلادك امتى، ويوم ما ييجي عيد ميلادي تقولي والله كان امبارح.. ولكزتني بالوسادة مشيرة بسخرية:

وهيّ دي طقم الملاية الوحيدة، اللي باقية من ريحة الهدية اللي جبتيها يجي من عشر سنين.. ممكن تخرسي خالص.. إنت آخرك لمبة تنور بالجاز.. إنت إيه عرَّفك بأي حاجه

طيب . شكرًا صديقتي الغالية.. إيه رأيك في الوحدة، قصدي الفراغ.

قالت بكبرياء وشموخ:

ماعنديش فراغ خالص بخرج، براعي أمي، بدي دروس خصوصية على بسيط ، ودلوقتي بتعلم تفصيل علشان أخيط هدومي بنفسي.

ماتتجوزي عصام.

ما تتجوزيه إنت وتحولت إلى نمرة تنقض عليَّ.. ولا بتديني فضلتك علشان عارفة إنــه ح يموت عليكي إنت.

اخص عليكي.. ليه بتقولي كدا..

أمال قصدك إيه علشان بقيت عانس، ومش لاقيه فرصة كويسة وإنت مطلقة، وحلوة وخلفتي.. ومدرسة Eقد الدنيا.

تفتكري دا بنسميه إيه شيري..

قالت بفذلكة:

دا بقى يا حبيبتي اللي بيسموه المحك، كلنا قبل المحك كنا حاجه، وبعد المحك بقينا حاجات كتير متلخبطة وصعبة علينا قوي إن إحنا نفهمها.

ما سألتنيش عن هدية عيد ميلادك.

إنت لسة فاكرة يا مجنونة..

بسرعة أخرجتُ اسطوانتين، وأشرتُ لها بالأولى تحتفظ بها لتشاهدها مع نفسها براحتها؛ اسطوانة الحصان الأسود

23

 

مجازًا لأفلام السكس المشهورة والذائعة الصيت. والثانية وضعتها في اللاب توب حتي نستمع إليها.. أغنيتها المفضلة

كانت تبحث عنها للإحتفاظ بها أغنية على الحدود لفرقة الأصدقاء بقيادة الملحن العظيم عمار الشريعي، وغناء حنان ماضي، علاء عبد الخالق ، منى عبد الغني، قامت تقفز على السرير وتصرخ من الفرحة قائلة :

_علي الحدود .. ياربي بحبها جدا جدا..

ذهبتْ تحيي سهرتها بأكواب البيرة الفارغة المشبره، استعدادًا للإحتفال بعيد ميلادها الذي لا يتذكره أحد غير أمها وتكتفي بالتهنئة اللفظية، وفي ثناياه حسرة على عمرها الذي انقضي دون معنى أو جدوى من غير زواج أو طفل أوطفلة تخلد وتحيي سيرتها الزائلة لابد، وأن هذه المرة من المرات النادرة.. لمرات عديدة لم أحضر لها شيئـًا كما ذكرت شيري.. من قبل ما يقرب من عشر سنين لا أذكر عيد ميلادها إلا بعد فوات الأوان.

وأنصتنا إلى الأغنية، باستمتاع وتفاعلنا معها وتقمصنا دور الكورال (الغناء الجماعي)

واحنا ما شيين علي الحدود

مستمرين في الصعود

ابتدى النيل والريح وأول عمرنا

وابتدى شيء ينجرح جوه الوجود

وابتدينا أسئلة مالهاش حدود

نمنا على الشباك ؟؟ نخبى دمعة فرت مننا

…… …… …… ….

شيري الفاتنة تـُحركين داخلي مفردات كثيرة، وأنا أختبر مشاعرك المتناقضة بين السخط والفرح التي هي في أصلها داخل كل واحد منا، وأنا وأنت نتغافل عنها أغلب الوقت من أجل أن تستمر الحياة بكل ما فيها من ابتذال ومهانة.. لكني أعشق صدقك، وصراحتك وحالتك كلها أمامي حقيقية.. وأنا أعرف ذلك جيدا يا صديقة عمري، كيف تحبين؟، وكيف تشعرين بي وبغيرى؟ والأهم كيف تشعرين بنفسك..؟ أنا والله لفخورة وممتنة بك.. إنتِ يا من تخطئين في الحديث ، ولا تعرفي ما هو المخ؟ ولم تسمعي عن النظام العالمي الجديد وتسمي الراديو رادوي وتلبسين أحيانا ملابس غريبة، وتجرين في الشوارع ولا ترين الناس إلا بالنظارة لأنهم أقزام.. يا من تنسين قفل سوسته الجيب والبنطال أحيانا كثيرة ولا تعرفين أسماء الشوارع، وتحتفظي بأعقاب السجائر.. وتموتي من السكر.. وتقولي لم يحدث شيء.. أنت غنية.. أنت غنية..

شيري معك عشت أجمل لحظات حياتي وأتعسها، أحبك حتى بعد أن أموت.

***

 

24

 

 

المسافر الأخير يموت ببطء

عندما وصلت إلى موقف السيارات ( الميكروباصات ) لأسافر كان ذلك فى مساء متأخر جدًا .. ليل آخر ملعون وسماء سوداء أخرى ، وهج النار ينبعث من الخشب المحروق حيث يحتمي الجميع من ضربات الشتاء الناخرة ، كان المكان على قدر ظلمته وكآبته تلفه ضوضاء بطيئة تُشعرنى بخدر فى رأسى ، سرعان ماتعودت عليه وأحببته ، التفت إلى السائق فرأيته جالسًا فى غرزة مكشوفة يُنادي على من يسافر إنه لا يشعر بالزهق مثلي ، فرغبته فى السفر تتحقق عندما تمتلئ العربة وهو ينشط فقط حينما يبدو له زبون فى الأفق .

رغم قلة المسافرين ونُدرتهم بسبب تأخر الوقت وقساوة الليل الشتائي ، فقد انكشفت الأرض فجأة عن عائلتين من المسافرين ذوى الأعمار المتنوعة ، فاحتفظت لنفسى على الفور بمكان جيد داخل العربة بجانب الباب الأمامي، وعندما كان السائق يوزعهم على الكراسي داخل العربة اطمأننت أن ذلك لن يؤثر على مكانى الذى اخترته .. بعدها بدقيقة واحدة على الأكثر جاء اثنان آخران صديقان مكانهما فى الكرسى (الكنبة ) الأخيرة للعربة ، حدث هذا فى وقت قصير جدًا

والآن ننتظر المسافر الأخير .

رأيت لحظتها وهج النار يملأ السماء وانكشفت الأشياء .. قلت فى نفسى لا علىّ لا أحد يراها غيري ومن غيري ” .

( 1 )

إن من أتى لتوه رفض المكان الخلفي الضيق مفضلاً أن يركب عربة فارغة ، كان رجلاً لا يعر اهتمامًا للوقت .. كان راغبًا فى تضييعه ، كنت متعجلا ، ولم يكن لذلك سبب ، أستشعر الملل والموت ؛ لذا عرضت عليه أن يركب فى مكاني الفاخر الذي كلفني وقتًا رهيبًا .. فأنا أول من هبط على هذه العربة ، التفت إليه مستعدًا للنهوض ، أعرفه .. أعرفه جيدًا ، كانت بيننا صداقة قديمة ، ولكن ثمرتها لم تطرح إلّا الكراهية .. تعبت من أفعاله الضيقة التى كان فيها مُضحيًا بي لينال مُتعًا رخيصة زائلة .. لا علىّ إنه عداء إنساني منتشر بين الناس ، وحتى أبتعد عن تركيزى فى ذلك انتبهت وتراجعت وقلت : لا .. لن أتنازل عن مكاني وطوقته بعيني بسرعة أدهشته .

الآن ذهب صديقى القديم الذى أعرفه جيدًا وأكرهه ليركب عربة أخرى .

فليكن .. قلت : لا علىّ .

طيلة الوقت ولزمن بعيد كنت أتخيل الموت شخصا وحيدا ممتطيًا دراجته البخارية المتهالكة .. مع ذلك يسير بسرعة.. برشاقة يعبر العالم ويتخطى الوجوه .. روح سوداء تطيروتطير لتقتنص الأرواح البريئة والشريرة ، أو أحسه طائر سماوي مُبهِر وملعون حط على هذه الأرض البعيدة ذوأنف حادة ووجه هادئ متكبر .

أيها المفترس نفسه فى غيظه ، هل لأجلك تُخلى الأرض أو يُزحزح الصخر من مكانه ” .

( 2 )

قال السائق متحمسًا :

  • مسافر يابيه .. إنت .. اركب خلاص هنمشي .
  • 25

قلت لنفسي متعجلاً : من الصعب أن يكون عدوّا آخر فى ليلة واحدة .

سلمت للمسافر الأخير بحب ورضا مكاني وجلست أسيرًا فى مؤخرة العربة بجانب الصديقين .

من اللحظات الأولى فى الطريق أعرف انتماءات السائقين .. إنه رجل هادئ فيما عدا نوبات الكحة المستمرة ، لا تجذبه مناقشات الراكبين ورغباتهم في التحدث معه .. إنه الشيطان الذى يغري الأرواح المستهترة بالحياة وسط المقامرة .. إنها مقامرة لا يُستهان بها رغم كل شئ .. ومن يستهين ؟

يبدو أن السائق لا محالة قد قَبِلَ المقامرة .. إنه يسرع .. إنه يأكل الطريق أكلاً ، وليكن فليسرع وليزداد وهج العرض .

لقد كنت صغيرًا جدّا على أن تريني هذا ” .

توقفت نظرنا .. تجمدا ونحن نرى العربة الضخمة تهجم علينا بسرعة .. صرخات وتمتمات لكلام غير واضح ، أصوات عظام الآخرين تطقطق والدماء المتناثرة من عملية الذبح الفجائية ، جثث طازجة تلسعك سخونة دمائها .. القتل فجأة ودون تردد .. الأفعال الروتينية للآلهة .

لماذا تحجب وجهك عني وتحسبني عدوّا لك ” .

المسافر الأخير تحملقت عيناه وتلاشت .. نظرات السخرية الأخيرة والعتاب .

 

( 3 )

الذى لا ينتهي .. كان وجهه يرتطم جيئة وذهابًا ضاربًا فى هيكل العربة الحديدي ، الدم النبيل يتطاير على الوجه الساخر المتكبر ببطء ، ثقيل بلونه الأحمر الملتهب يغطي وجهه مطلقًا ابتسامته الحرة الأخيرة .

هل لك حياة أخرى ؟!!

عندما هدأت أصوات الإصطدام قليلاً ، كانت جثث رفقائي من حولي تحتضنني برفق واستسلام ، كان الخروج من العربة شيئًا صعبًا لي فالمشهد من حولي ملئ بالتفاصيل التي يصعب الخروج منها .. لقد أُصبت بلعنة وهى الآن تأكلني ببطء .

لكني فى آخر الأمر سأُرجح فكرة الخروج مهما تكلف الأمر مني .

كان وجه السائق الميت لتوه متدليًا أمامي على ناصية المسند صامتًا ومتذمرًا .. لا ينظر إلىّ .. لا ينظر لأحد ، كان فى غمرة المقامرة وهو الآن خاسر وميت ، كنتُ أشاهده وأراقب خسارته .. سرعته عجلت من خسارته .

جثث العائلتين والصديقين كانت مازالت تتكلم وتقاوم الموت بإنهاك وعجز .. لقد انحشروا جميعًا فى قاع العربة ومصابين بشدة لم تُفلت أرواحهم ولن يموتوا ، سيعيشون يؤدون أدوارهم الباقية وتمر الأيام وكل منهم يتكيف مع عجزه المُقدَّر له ، لقد انكسرت أرجلهم وتهشمت عظامهم وسيضطرون بعد ذلك أن يظلوا راقدين متصلبين على فراشهم المعدني لا يُبارحونه .

لن يكون ذلك هينًا .. سيكونون عيونًا للعمى وأرجلاً للعرج .

( 4 )

خرجت من العربة الغارقة فى الدماء ، أتشمم الهواء الساخن المنبعث من الاحتراق ..أحسست بسخونة شديدة

 

26

ورأيت السماء وقد تحوَّل مزاجها والقمر يلمع ببريقه الفضي القوي .. رغم الليل الشتائي الطويل .. مشيت لا أفكر في

شئ ، أرى وهج عيون العربات أمامي ولا شئ آخر .. تجاوزت العربة بمن فيها وحولها وفى كل خطوة أخطوها أشعر بأن شيئًا ورائي يتعقبني ويسعى إلىّ وأنه سيهاجمني من خلفي يلهث وراء عيوني أينما ذهبت .. لا أستطيع الفِكاك منه .. أقاوم رغبتي فى أن أنظر خلفي ، تسري قشعريرة فى جسدي تمنعني من المقاومة .

لقد وقفت أخيرًا رغمًا عني ونظرت فجأة .. كان وجهه صامتًا – المسافر الأخير – ينظر إلىَّ ولا يتحرك ، جسده ملئ بالجروح وجهه يُشبهنى قليلاً .

لقد كان علىَّ أن أذهب – أنا – إلى الموت لأراه دون شئ آخر ، كما تصورته دائمًا يحضر إلى الطرق الطويلة يهاجم المسافرين المنحشرين داخل العربات الصغيرة حالمين بالعودة إلى أماكنهم الأولى، بينما تجري الحياة أمامهم وخلفهم بغزارة ، لقد ذهبت إلى الموت لأراه ولكني كنت الناجى الوحيد ولم يمس التراب ملابسى ، شاهدته ببطء ولهذا قصة أخرى سأحكيها فى أحد الأيام سأبثها فى رؤوسكم بثّا بدايتها

عن وجودى الثقيل الوطأة فى أى مكان أذهب إليه يستحضر إلىَّ قبضات الموت اللعينة .

مَن منكم يزيح بأظافره المعدنية الحادة وجودى الثقيل ؟

 

النملة و آثار ( فتافيت) الرجل البدين

تبدأ حكاية هذه القصة عندما تصعد نملة

إلى مائدة يأكل عليها رجل رجل القصة

 

كان رجل بدين يجلس فى غرفته الواسعة وسط بيته القديم الكبير الهادئ متدلياً منه فخذاه الكبيران وصدر بارز مترهل كالنساء المنتفخات ، وحيداً مرتدياً ملابسه الداخلية قابضاً بجسده على تليفزيون يقوم بإصلاحه، بينما جيش من أجهزة التليفزيون يتراص حوله فى فوضى …. إن كبر حجمة وطبيعة عمله لا تسمحان له بالتحرك كثيراً داخل بيته الكبير هذا ، فحياته يقضيها وسط الأجهزة تلك ، يستقبل زبائنه وأصدقائه ليلاً ،وهو الوقت الذي يعمل فيه ، لا يكف عن الكلام أثناء عبثه بأجهزة التليفزيون ، فلديه قدر من التعليم يبرز تحذلقه وسط زائريه ، فتجده تاركاً مافي يده ، ومقلباً فى جريدة أمامه مركزاً إنتباهه على إعلانات أجنبية منتشرة فى الصفخات ، يحاول أن يترجم بعض كلماتها أو يفهم حتى ما تعنيه ، يقرأ أخبار الطقس ، وأسعار العملات والذهب وبرامج التليفزيون المتنوعة والدوائر الكهربائية والأرقام والموديلات القديمة والفرق بينها وبين الأجهزة الحالية ، يتكلم عن الأدوية ويحفظ أسماءها بدقه ويصف علاجاً لنفسه ولأصدقائه محدداً لهم الجرعات ، يصف لك البرامج الغذائية وكيف تفشل فى النهاية فى ضبط وزنك ، يقول اذهب لفلان ولا تذهب لفلان موضحاً عيوبه التى لا يعرفها أحد غيره ….. يفعل ذلك ويشعرك أنك إن لم تستمع إليه فذلك خطأك ، لقد حذرك وأفهمك ما يجب أن تفعله وأنت آخرالأمر حر فيما تختار ـ يرى فى نفسه دائماً العارف لكل الأمور ويشعر باليأس من هذا .

يعيش وحيداً بعد أن يغادره زبائنه وأصدقاؤه الذين خُلقوا من أجله

 

 

27

(2)

 

فى غرفه نومه المجاورة يبدو سريره ضئيلاً قاتم اللون بالكاد يسعه ، والغرفة خاليه إلّا من الجرائد القديمة وعلب السجائر الفارغة وطفايات ، وطعام متناثر فى كل الأنحاء ، النمل يعيش معه فى نفس البيت ، وقد صعدت نملة وحيدة إلى مائدته ، ومن هنا بدأت حكاية القصة …..

كانت النملة فى صعودها لا تفكر أبداً بأنها تمشي على مائدة الرجل البدين ، ولكنها كانت تمشي – فقط – ومع ذلك فقد اقتربت من صحنه ، هى لا تعرفه ولا تفكر فى التعرف عليه ، إنها تمشي سعياً وراء طعامها ، لايعنيها ما تأكل أو ماذا تأكل ؟

حبات السكر والملح والإنسان والورق فتافيت الأشياء جميعها .

تمشي برشاقة وخفة تجتاز تداوير الصحن كأنها تمشي على جليد ناعم ، وما أن اقتربت حافته العلوية حتى بدأ الرجل البدين بالتحرك بملعقته صوب الصحن يرتشف الشوربة مرة تلو الأخرى ، فى انتظام بطىء ، وقد أحس فجأه بأن الملعقة لا تحمل من الشوربة إلّا القليل فضايقه ذلك مستنكراً نفسه وهازئاً بها .. لِما لَمْ يفكر من البداية فى تجرع صحن الشوربة بفمه ، وما هذه الملعقة التي يمسك بها ؟؟ إن تفكيره فى ذلك الأمر جعله يرتبك فعاجل نفسه آخذ اً الصحن بيديه كمن يقبض على عقلة الأصبع بيديه العملاقتين ، كانت النملة فى هذه اللحظة واقفة عند حافتة تشعر بقلق وبقرب حدوث شىء – لكن ليس إلى درجة التفكير في النزول – ومع قبضات الرجل البدين تماسكت محاولةً ألا تسقط وسط اهتزازات يصعد فيها الصحن ويهبط بين فمه العميق ، يصطدم فمه بالشوربة كمهاجمة أمواج بحر عاتية لطفل يجهل العوم .

لم يكن صعباً على الرجل البدين أن يجهز على الصحن الصينى الصغير ، ولكن النملة يا لها من محظوظة ، فقد سقطت منه إثر دفعة قوية من البدين له .

سقطت على مفرش بنى قاتم اللون طائرة فى الهواء ومبتعدة عن مكانها الذى صعدت إليه بمشقة ، وقت طويل يلزمها لتصعد مرةً أخرى ، لقد فضلت الإنسحاب بعيداً عن هذا الإضطراب متجهةً إلى نهاية حافة المائدة ومارة بتعاريج والتواءات حتى عبرت ناحية أحد الأرجل الأربعة ، كان مشوار طويل أمام هذه النملة الدءوبة إلى أن وصلت إلى أرضية الحجرة ، وهى تمضي بثقة العارف بالطريق وقد مرت عليه عشرات المرات ، حتى توقفت تستريح فوجدت فتافيت متناثرة من بقايا طعام الرجل البدين وتهطيله فشجعها ذلك على قطع الاستراحة ، وقد جريت يميناً ويساراً تمضي على الفتافيت وتلحسها ، تتحسس كثرتها وتحتار بماذا تبدأ ؟ ففكرت بأنها ستمشي حتى تعرف بداية آثار الفتافيت وقد مشيت بالفعل مسافةً قصيرةً إلا أنها التقت بشىء كبير ….. مدبب وعالٍ قليلاً .. طرى .. أحمر ، تمشى أكثر صاعدةً إلى التفافات قدم البدين ووصلت إلى فتافيت الرجل البدين .

شعرت النملة أخيراً برضا كبير عن رحلتها وأحبت فضولها ، إنها الآن فى وضع مميز تجلس على سطح طري ودافىء ولديها من الفتافيت ما يكفي لجيش كبير من رفقائها ، لن تعود لتبلغهم بكشفها سيعرفون ويحضرون صمتت فجأة، عليَّ أن أهتم بنفسي الآن …. هكذا فكرت وبدأت تؤلم القدم الطرية الدافئة بقرصاتها ، ولم تفق إلّا عندما تحركت قدم البدين معلنة انتهاءه من التهام الطعام .

(3)

البدين همَّ واقفاً محركاً كرسيه بشده ومتجهاً إلى الحمام ، ولكن عاجلته دقات على الباب فذهب مندفعاً والنملة متشبثة أكثر على قدمه اليسرى بين أصبعه البنصر ، وعندنا فتح الباب كان الطارق رجلاً قصير القامة يبدوأنه زبون وصديق فى نفس

 

28

الوقت ، تصافحا ببرود وقد دعاه الرجل البدين للجلوس ، ولكن القصير عاجلة غاضباً :

  • عملت إيه فى تليفزيوني ، ده بقا له شهرين عندك .
  • اقعد بس الأول ، تليفزيونك ده مسألة وقت بالنسبه ليه بس .

فى الوقت الذى دعاه للجلوس على مائدة الطعام كانت النملة معطلة عن فعل أى شئ منتظرةً عودة الإستقرار مرةً أخرى ، وقد عاجلها البدين بشىء صلب يجسم على ظهرها وهى واقفة بين أصابع قدمه ، كان يلبس شيئاً فى قدمه ليدخل إلى مطبخه يصنع للقصير مشروباً ساخناً لرفضه أن يأكل أي طعام .

بالنسبة للنملة فقد وقف الرجل البدين وقتاً طويلاً ليصنع الشاي

عندما رجع إلى المائدة حاملاً معه صينية الشاي جلس فى نفس كرسيه وقد أفرج أخيراً عن النملة بخلعه للشبشب البلاستيك القديم ، وفى هذه اللحظة شاهدت النملة رفقاءها ورفيقاتها المنتظرين وقد بدءوا لتوهم يمشون على آثار الفتافيت إلى أن وصلوا إلى الجسم الطري الدافئ ، ولم يكن فى حسبان النملة أن الأمور ستسير بهذه الطريقة ، ولكن ما رأته هو أبناء جنسها يتراصون فى صفوف ، يحتلون القدم الطرية .

بينما كان يحتسي الرجل البدين الشاي مع صديقة المتذمر القصير كان يتكلم –بالطبع – معللاً تأخره فى إصلاح التليفزيون ، يتكلم بصوت منخفض وحاسم إن جهازه به عيب نادر ومعقد ، وأنه سبق أن قال له :

روح لأي مهندس وقل له : أن تليفزيونى فيه ثيريستور واسمع هايقولك إيه !! هايقولك لأ معلهش أصل ماباشتغلش فيه وسكت قائلاً بتقطيع : بيخافوا منه ، ثم ينهي كلامه مسرعاً ده مرض بيصيب التليفزيونات فى كل العالم ثيريستور إصلاحه يجب أن يكون بحذر وتركيز ، لا مجال للشغل العادي يحتاج وقتاً وهنا تكون المشكلة !! أين هذا الوقت الآن لأبحث لك عنه فى ترسانه الأجهزة التي تراها من حولك ؟!

فى هذا الوقت كان النمل المحتشد قد بدأ يتزايد بدرجة يشعر بها الرجل البدين ، وقد انتبه لتوه، وأصيب بذعر أخرجه من حالته وهو يرى جيوش النمل متكاثرة على قدميه فيجري إلى الحمام ليفتح صنبور المياه على آخره واضعاً قدمه ، ولكنه يتعثر فيسقط بظهره على البلاط الرمادى الناعم وبفعل السقوط تقع مجموعات كثيرة من النمل على قدميه ، يساعده صديقه القصير على الوقوف ليجري إلى الحمام مرةً أخرى مخلفاً وراءه النمل المتساقط من قدمه الناجي من الموت الماء يندفع بشدة فيتشبث النمل فى مكانه …. ويسقط آخر غارقاً فى المياه وهى تجري مندفعة صوب بالوعة الحمام .

لكن ماذا عن النملة القابعة بين اصبع الرجل البدين ، إن وجودها فى هذا المكان السحري الضيق قد حماها من خطر الموت والغرق ويبدو أنها ستنجو مرة أخرى ….. يا لها من محظوظة !!!

عندما كان الرجل البدين ينشف قدمه فى صالته الواسعة دك قدميه فى الأرض بشدة تحسباً لأي نمل مختبىء وسقطت من بين أصابعه سقطت وهى مرهقة ومصابه إصابه ليست بالميته على أي حال وأحسست أنها سرعان ما ستنساها ها هي تجد نفسها واقفة مكانها على البلاط الصلب الناعم ، وقد تحرَّك الرجل البدين بعيداً عنها منشغلاً بالهلع ، وسيطر عليه وسواس يهمس له بأن المزيد من النمل مختبئ فى جسمه مازال ، ويتألم من آثار اللسع على قدميه ، وقد زادت حمرة جسده الطري الدافىء ، ويبدو أنه لن يستطيع التخلص من آثار هذا الحادث بين ليل وضحاه .

(5)

تتحرك النملة ببطء متجهة إلى سبيل آخر لا تعرف عنه شيئاً ترى جثث رفقائها فارشة الطريق وترى المصابين يتحركون

29

ويقاومون السحل بالأقدام والقتل ..

لم تكن لتفكر بمأساوية ، كانت تمشي فقط !!؟ “.

إن جيوش النمل التي أغرقتها المياه وقتلتها لم تكن لتعبأ بالموت نفسه ، أرى النملة التي التصقت بقدم الرجل البدين وطعامه أدخلت فى قلبه الذعر، و فى عقله خلل أفقده توازنه، وقد عبرت الأشلاء المفترشة الطريق ، واتجهت إلى ثقب صغير أسفل الحائط …. أراها بصعوبة ….. ياه …. لا أراها الآن .

(6)

الرجل البدين أطبق عليه الصمت …. لا يشتهي الحكي الآن …. انشغل بهرشقدميه بطريقة قهرية لا فكاك منها ، بينما صديقه القصير ينظر إليها مندهشاً وساخراً بعض الشئ .

 

فؤاد إسرائيل

 

فؤاد إسرائيل أمين عام حزب التجمع الوحدوي بمحافظة بني سويف من عام 1995إلى الآن.. وهذه طريقته للتحدث مع مَنْ أحبهم فقط دون زواج أو حتى ارتباط عاطفي قائلاً برعونة تثير الضحك غالبًا :

أظن أنه من خلال تقييمي للمرحلة السابقة، والآتية في علاقتنا، استطعت أن أتوصل إلى نتائج من خلال تحليلي.. وعليَّ استعراض النتائج الغير المُطلقة، والتي هى قابلة للخلاف، والتعديل حيث يكون لها أثر إيجابي.. حتى الآن أنتِ لم تصلِ بعدإلى سمات أو قسمات .. أو إنْ شئتِ الدقة خصوصية واضحة السمات في تركيبك العقلي والمعرفي..

كان يرتدي في عنقه سلسلة من الفضة الخالصة بها صورة جيفارا، ودبلة مكتوبًا عليها لا إله إلا الله، ونصفها الآخر مع صديق مسلم عزيز عليه مكتوب عليها محمد رسول الله واسمه، وقد استعادها منه قبل موته ليحتفظ بها في يده الأخرى، كان لديه أختان متخلفتان حورية وجنات، يرعاهما بإخلاص وتفانٍ، ويدعو العدرا نهارًا وليلاً أن تموتا ليرتاح من المصاريف أهم شيء فقد كان غنيًا جدًا وبخيلا جدًا، ومهذبًا جدًا، وكان عندما يحتد في النقاش مع أحد أصدقاء الحزب أو أثناء الاجتماعات يقف غاضبًا رافعًا صوته على غير العادة قائلاً بخجل شديد‍:

«اسمح لي سيدي، عندما أستمع إلى هذه الأقوال منك، لا يسعني غير أن أسبك بكلمة تخص الأم.. ما هذا الكلام المثالي، المزيف، نحن في عام 2013 أفق يا سيدي

فلا يكون من الآخر الذي يمعن في إيذائه نفسيًا أن يشخر له قائلاً :

«لا يا روح أمك.. أنا الذي سأقولها لك يا سيدي وباللغة الفصحي مثل التي تحدثني بها يا ابن القحبة.. فرج أمك..

  • يا مريم يا عدرا.. يا أبونا يسوع ارحمني من هؤلاء الأوساخ، المدَّعين، المزيفين فاقدي الأخلاق، والضمير. أنتم حيوانات بشرية، ويفر هاربًا قبل أن تخونه دموعه التي ملأت جفونه ، وتكاد تنزل أمامهم.

كان فؤاد إسرائيل غريب الأطوار، وغرابته لا تأتي فقط من طوله الفاره زيادة عن المتعارف عليه، وإنما أيضًا فمه كبير

30

وواسع كفم الحيوانات المتوحشة، كالحوت والأسد مثلا بالنسبة إلى الإنسان العادي وشفتاه غليظتان، وسبحان الله فيما أبدع، تجد عينيه ضيقتين للغاية وفي واحدة منهما بعض الحول، والنظارة المقعرة، السميكة الزجاج التي يضعها على وجهه من سنوات، لا يغيرها من بخله الشديد، رغم أنها فقدت أية صلاحية طبية وآخر طبيب أخبره بأنه لابد من استبدالها بكشف نظر جديد، حتى لا يضعف نظره، وهو لا ينصت لأحد.. وأذن من طين وأخرى من عجين وكأنهما عينا شخص آخر، وبالتالي هذه النظارة القبيحة شكلاً وموضوعًا، تزيدهما عدم تناغم أو انسجام مع وجهه ؛ فهو يأخذ شكل المستطيل بالضبط ، لا أعرف كيف كان لإلهي أن يُبدع مثل هذه الخلقة بالمرة، لكن يبدو أن غرابة الأطوار كان لها ميزة كبرى انتفع بها فؤاد إسرائيل بهذا الطول الفاره، استطاع أن يطول أغلب رفوف مكتبته الضخمة بطول حوائط الصالة وغرفته.

وبارتفاع يُناسب طوله الفاره لترتيبها وتنسيقها كلما رغب، وهذا ما يفعله من حين لآخر، كان دائمًا يضع الروايات الروسية عشقه الأول في الرف الأخير أو قبل الأخير، حتى لا تكن في متناول أحد من أصدقائه في الزيارات.. والإنبهار والإنجذاب لهذه المكتبة الضخمة، المنمقة بذوق عالٍ ولافت للنظر ولأنه غني جدًا، لا يعمل ويقضي وقته بين التأمل علي كرسيه الملكي المُذهب بقشرة من الذهب ورثه عن جده الباشا.. ويأخذه شروده إلى التوهان أحيانًا ؛ فمثلاً في إحدى المرات كان ينفض البطانية، ثم يذهب بها إلى المطبخ بدل حجرة النوم، وفي إحدى المرات استعدادًا للذهاب إلى الكنيسة كالمعتاد والدائم في حياته اليومية، وضع المفتاح في الباب الحديد لشقته من الخارج ثم دخل وتركه، وظل واقفـًا بين الشباك والبلكونة أكثر من ساعة ، ينتظر أي أحد، حتى يفتح له الباب، وهو متوتر لتأخره عن الذهاب إلى الكنيسة حتى جاء جار صدفة وفتح له الباب فضحك بشدة أمام صورة صديقه المسلم العزيز وهو يقول له بخفة دم :

ـ كان لازم يا صديقي يحصل الموقف ده علشان أحكيه ليك

فهو يحكي له كل شيء ما يأتي على خاطره أو حتى أحلامه التي يتذكرها جيدًا ، ويرويها له في الصباح حسب المقولة الشائعة بالتفاصيل المملة ولهذا حديث آخر.

عندما يمل التأمل، يمارس هوايته المُفضلة وهو رسم البورتريه بالأقلام الرصاص ، لأنها رخيصة رغم أن ثمن الورق الكبير المختص برسم البورتريهات غال بعض الشيء، لكنه يحاول تناسي هذا أمام متعة الرسم.. وخاصة مَنْ يحبهم. لديه بورتريه لجيفارا وكارل ماركس ولينين وأم كلثوم وعبد الوهاب، وأمه، وأبيه وحورية وجنات والعديد من الأصدقاء يعلقهم على حائط مرسمه الخاص به ، ويغلق عليهم بمفتاح وقفل غليظ ، لشدة الحرص والحفاظ عليهم فهذا فنه وخلوده الشخصي له.

أعود إلي حديثي السابق، عن سرد أحلام فؤاد إسرائيل لصورة صديقه المسلم العزيز المتوفي، التي يضعها على الكومودينو بجانبه.. يتذكرها وهذا شيء غريب، فقليلاً نحن البشر العاديين ما نتذكر أحلامنا إلا مع أشخاص قليلة ومميزة مثل فؤاد إسرائيل.

  • يا صديقي الغالي ، الحاضر رغم أنف الموت اللعين، كانت ليلة غريبة، الأرق لا يتركني، والقلق يملؤني، ويعصرني الضيق ، حتى أذان الفجر ونمت وحلمت أنني في مكان ما كالجنة واسع، ساحر.. جمال خرافي يا صديقي لم أره من قبل في حياتي، أو ربمابعد موتي، أعتقد ذلك صديقي، وجميلة الجميلات نفرتاري الفرعونية ترتدي فستان شيفون محبوكًا بغرز البليسيه عند الصدر والردفين بشكل بديع، ونجري خلف بعض كلانا يغوي الآخر ، ويعتدل كمَنْ تذكر شيئًا، مشيرًا بسبابته لصديقه كمَنْ يحذره وافقًا قائلاً : تعرف يا صديقي أن الأوروبيين أخذوا هذه الموديلات الفاتنة من ملابس الفراعنة العظام في القرنين 17 ،18 حتى الأثاث والموبيليا تصمم على نفس الأشكال المصرية الفرعونية بالضبط يسكت برهة، ثم يعود جالسًا على الكرسي أمام الكومودينو التي عليه صورة صديقه الغالي المُتوفي قائلاً بتنهد وحسرة بس إحنا شعبنا مُتخلف جدًا أنا أشعر أني لستُ من مصر هذه لا
  • 31
  • أعرف هل يعقل أن هذه مصر بلد الفراعنة العظام ، أهذا حق يا يسوع صحيح (العرب جرب) كما قال شعبنا فى
  • أمثاله الشعبية و)ظلم الأتراك ولا عدل العرب(،صدق المثل الشعبي الأصيل ثم يتوقف فجأة عن التحدث تمامًا، ويستودعه إلى النوم قائلاً بحزن: إلي اللقاء صديقي في حلم جديد.

في إحدى المرات النادرة الأحلام، قام قبل أذان الفجر مباشرة فزع من نومه، يصرخ قائلاً بعصبية لا .. لا أنا آسف يا عدرا يا مريم.. أنا آسف أنا آسف.. أنا مخطئ.. لا أقصد ويسوع ما حدث، وذهب إلى الكنيسة بعد أن أدى الصلاة، يقف أمام صورة العدرا مريم يبكي ويعتذر لها، ويضيء الشموع وينكت الشموع الصغيرة في رمل الصحن المبارك الذي أمامها، ويبتهل ويتضرع خشوعًا أن تغفر له حلمه اللاإرادى الماجن بأنه ضاجعها في منامه، هذه القديسة الطاهرة من دنس البشر العاديين الملوثين بأغراضهم الدنيوية الرخيصة تجاه الملاك الطاهر، والروح العفيفة، وسيدة السماء مريم العذراء المبجلة، وظل أيامًا فريسة لحالة إكتئاب، وضيق شديد لا يخرج من منزله، لا يرسم، لا يقابل أحدًا من أصدقائه، لا يذهب إلى الحزب، جالسًا على كرسيه الملكي أمام البورتريه الصغير لصديقه المسلم المتوفي، يتحدث له، عن كل ما مر من حياته، وعاشه، من وحدة ومرارة وقسوة من تلك الحياة القصيرة، حتى فاجأ صديقه المُتوفي بعدة أسئلة، متخيلا الإجابة منه، وقد نطقت الصورة وجالت معه في عالم التخيل تجيبه عن أسئلته بكل طلاقة وفصاحة متسائلاً صديقه بحيرة وألم :

ـ كيف حال مصر صديقى العزيز؟ أتحبها مازلت؟

ما هذا السؤال صديقي؟

أولم تضق منها مثلما ضاقت فلورنسا بدانتي؟ إني لأعجب كيف يعطي المرء حبه حتى لمَنْ دهس قلبه، وأماته احتراقًا.

صديقي العزيز لو أن أم المرء ذئبه، هل يستطيع المرء أن يكره أمه. كل أمور الحب تتلون ، إلاّ حب أمك..

وقد ورد في حكاية يونانية قديمة «إن ثعلبًا اعتاد في شبابه وصباه، أن يذهب إلى بستان عنب، له أسوار عالية، كان يقتحمها الثعلب الفطن؛ ليحصل على ما شاء وطاب ولذ له من العنب شهور وسنوات حتى شبع وامتلأ، لكن الثعلب عندما كبر في السن، لم يستطع اقتحام الأسوار العالية، فانصرف عنه، وأخذ ينظر إلى العنب بحسرة، وهو يبتعد عنه ويردد بحسرة شديدة: “يظهر إنك حصرم مُر المذاق».

***

عزبة التحرير

 

بعد الثورة التي حدثت في25 يناير 2011، في بلدنا الأم الحبيبة مصر في أواخر عام 2012 تقريبًا ، في محافظتي النائية ، والتي دائمًا يتجاهلونها على الخريطة ذاكرين محافظة المنيا ، ويلحقونها بمحافظة الفيوم ، وتسقط محافظتي بني سويف من أي تنويه عنها ، حتى في جولة الأرصاد الجوية ينسونها ، وكأن لا وجود لها.. رغم ذكر أسماء محافظات الصعيد إلى نهاية شريط وادى النيل ، بينما هى مدينة كبيرة، ومعقل الآن لقانون البلطجة الجديد برئاسة زعيم البلطجية (أحمد يوسف) الذى يرتدي الجلابية الصعيدي ، ولاسة على رأسه كالعرب ، ويحمل فرد سلاح صناعة محلي في جيب سرواله الأيمن وفي الأيسر مسدس صغير كاتم صوت صناعة ألماني مميز، أما المطواة فهى في يده علي الدوام، أو يضعها فى

32

إحدى رسغي اليدين بين ثنايا أسورة جلدية يلبسها دائما، ولا ينزعها أبدًا من رسخ يديه اليسرى ، له منزل كبير في حي المرماح الشهير في محافظة بني سويف، الطابق الأول يستقبل فيه الجمهور وصبيانه وأصدقاءه ، ويتم عقد الإتفاقات وجلسات الصلح والقتل وكل ما يلزم من أمور البلطجة ، التي يضع قانونها الكفء أحمد يوسف وشارع المرماح والمدارس والرمد وكل الأزقة والحواري ، التي تتبع هذه الشوارع الرئيسة، تضرب تعظيم سلام للكفء سيد البلطجية.

في إحدى المرات، جاءت للكفء ، فتاة في سن العشرينات، فتاة من حي شعبي، جميلة، وقوية، تشكو له، وهى تبكي أن أحد بلطجية مركز الفشن التابع لمحافظة بني سويف ، قد اعتدى عليها وسلبها شرفها، وذهبت إلى القسم ولم يفعلوا لها شيئًـا ، وهرب البلطجي ، وضاع كل شيء منها. على الفور بحث عنه صبيان الكفء وأخذوه إلى القسم فأنكر، والفتاة المسكينة لم تستطع أن تثبت شيئًا بالدليل القاطع؛ فقد مر وقت على الحادثة، فاستسلمت الفتاة لقدرها، إلّا أن هذا البلطجي الوقح، أعاد الكرة ، واعتدى عليها مرة أخرى فذهبت إلى الكفء شاكية باكية من هذا البلطجي الملعون، الذي يلاحقها وهي فتاة فقيرة من أحد أحياء شارع الخضار تعمل مع أمها فى بيع الخضار على فرشة على الأرض، وليس لها من سند أو رجل يحميها، يعيشان على قوت يومهما من بيع أكوام الخضار التي أمامها ، فما كان من الكفء أن أحضره مرة أخرى وبكل عنجهية وجراءة ذهب به إلى القسم، وقال للمأمور شخصيًا بكل سخط وغضب:

لو طلعته من السجن.. اقتله.. هاتاخده ولا أقتله..

فرّ المأمور ذات نفسه من أمامه، وأمر بسجنه وترحيله لعرضه على النيابة وإثبات الواقعة حتى يأخذ حكمًا على قدر جريمته في حق هذه الفتاة الصغيرة الغلبانة ، فما كان من البلطجي المعتدي أن طلب الزواج منها، مُدَّعيًا أن فرجها أمتعه، وهو الفاتح المقدام لعروسته وهو أولى بها، وافق الكفء الكبير مباشرة وأحضر المأذون في القسم وكتب الكتاب، وأقام لهما فرحًا، كان على مسمع وحديث كل أهالي شارع المرماح والشوارع المجاورة، وانضم العريس إلى صبيان الكفء الكبير تحت إمرته وسلطته، أما الفتاة فكادت أن تموت من الفرح، وقد أصبحت تحت حماية البطل أحمد يوسف، فقانون البلطجة في رأي الكفء الكبير شرف ونزاهة، وهى الصح.. وهاتفضل صح الصح..

عزبة الصفيح بعد الثورة تبدل اسمها إلى عزبة التحرير، حدث بها مشكلة هائلة، استدعت تدخل سريع من الكفء، بعد أن جاءته الأخبار من البلطجية العصافير، ويطلق عليهم ذلك ؛ لأنهم حديثو السن .. وأعمارهم لا تتعدى خمسة عشر عامًا.. يختصون ببيع المخدرات ونقل أخبار البلطجية الآخرين لسيد المنطقة الكفء وبيع الأسلحة البيضاء، بدأت المشكلة على خمسة آلاف جنيه، أخذوها ثلاثة بلطجية من رجل ما استأجرهم لقتل شخص ما، خمسة آلاف جنيه. فقط لإزهاق روح.. اختلف الثلاثة في اقتسام المال، بعد أن أتموا فعلتهم، اثنان منهم كانا من حي الغمراوي، وواحد من عزبة التحرير، تقابلوا عند عمارات الأوقاف بجانب حي الزهور.. قرابة الساعة التاسعة مساءً إلى الواحدة ليلاً ، وقد أحضر كل منهم بلطجية الغمراوي وبلطجية عزبة التحرير. وكانت عركة كبيرة بالأسلحة البيضاء، والعصي وزجاجات المولوتوف ، وهاجت المدينة، وهرب الناس جميعًا إلى البيوت، وأغلقت الأبواب والشبابيك وكل المنافذ، خشية وهلعًا أصاب حي الأوقاف والزهور بل ارتعبت المدينة بكاملها، من جنون هؤلاء البلطجية، إلى أن جاءت الشرطة آخر من تعلم دائمًا، وكانت عربة الشرطة الزرقاء الوحيدة التي أتت، بها سائق ورائد شرطة جديد، كان يعمل في أمن الجامعة (جامعة بني سويف)، ومن يومين فقط نـُقل إلى مباحث بني سويف، وأصابه طلق ناري خطأ في فخذه اليمنى ونقل إلى مستشفى الزهراء، ثم المستشفى العام، وكان تقرير الطبيب به خطأ طبي، لم يتوقف النزيف الداخلي ؛ حيث جاءت الطلقة في شريان دقيق في الفخذ موصل إلى القلب، فمات الضابط الشاب، أما من أطلق النار الذي كان من عزبة التحرير، فهرب على الفور، رغم أنه يتبع رئيس مباحث بندر بني سويف كمال عزيز، فهو يرأس كل بلطجية عزبة التحرير، ويعرف عنهم كل شيء، ويدير كل شيء معهم وتحت إمرته، إلا أن الولد ارتعب؛ فقد مات ضابط من الشرطة، ولن يقف معه أحد منهم حتى لو كان المأمور نفسه.

 

33

هرب إلى مدينة الشرق الجديدة التابعة لمحافظة بنى سويف ، حيث تقطن خليلته وعشيقته صاحبة بيت دعارة شهير في مدينة الشرق، وبات ليلته، يشرب المخدرات ويضاجعها، وانقلب واهتاج كل ضباط الشرطة، وقلبوا المدينة رأسًا على عقب ولجئوا طبعًا إلى الكفء أحمد يوسف، أن يحضر هذا الولد بأية طريقة، واستجاب الكفء بعد أن هددوه بسجنه ومحو كل ما يخصه من على الوجود.. وأرغم الكفء أصحاب هذا الولد على الإعتراف بمكانه.

تم فعلاً القبض عليهم من قِبَل الشرطة، التي صممت على تولي الأمر، وما كان من الشرطة أن فعلت منه أمثولة للمدينة في مشهد لا يصدق، ولا يحدث إلا في أفلام الرعب.. وقد أحضرا الولد وفتاته وجردوهما من ملابسهما ماعدا السروال عنده، وهى بقميص نوم شفاف قصير لونه أسود بحمالات رفيعة ، لا ترتدي غيره ووضعوهما على عربة نصف نقل وأخذوهم إلى جامع عمر بن عبد العزيز في شارع المديرية ؛ حيث يصلون على صديقهم الضابط ، وظلوا يضربونهما بالأحزمة الجلدية التي خلعوها من بناطيلهم.. والبلطجية والناس أجمعون أمام أمناء الشرطة، والأهالي؛ لإعطائهم درسًا قاسيًا لمَنْ يتجرأ أو يفكر ويقتل ضابط شرطة ولو كان قتل خطأ، وأرغموا بعضًا من الناس في قسم الشرطة بالإعتراف فى محضر رسمي ، أنهم ضربوا من الأهالي، دفاعًا عن شرفهم ؛ لأنه يعاشر المومس التي تدير بيت دعارة في مدينة الشرق، ونـُقل الولد والفتاة إلى المستشفى حتى جاء أهل الولد وضربوا الدكتور المختص والممرضة وأفقدوهما الوعي، وأخرجوا الولد بينما فتاته كانت بين الحياة والموت في العناية المركزة، وهرب الولد إلى قرية الحلبية بمحافظة بني سويف بمساعدة رئيس المباحث ، إلا أنه بعد الضغط عليه من جميع مسئولي الشرطة الكبار أخبرهم بمكانه، إلا أن الولد استطاع أن يهرب منهم إلى عزبة في عين شمس في محافظة القاهرة.. لكن تم القبض عليه أيضًا وقُدم للمحاكمة، التي أثبت فيها المحامي المغوار أنه قتل خطأ وعقوبة هذا أمام القانون من سبعة إلى خمسة عشر عامًا، وبعيدة تمامًا عن حكم الإعدام، وغرابة الأقدار كان معه في عنبر السجن عصابة المجرمين الأربعة الشهيرة بأولاد الشوارع التى كان زعيمهم يسرق الأطفال، ويفعل لهم عاهة، ثم يعلمهم بعلامة في الجسم أو الوجه.. حتي يفرق بين هذا الطفل وذلك الطفل ليصبحوا أطفال شوارع.

الرجل زعيمهم عندما تحدث مع وكيل النيابة للإدلاء بآرائه، كان يتحدث بكل برود وكأنه لم يفعل شيئًا، ويعترف بكل مباهاة وعظمة أن هذه مهنتي ، وأحبها وأنا من المعدمين، وأعشق القذارة والنوم في الخرابات، والزبالة، وممارسة الجنس مع الصنفين، ولي خمس زوجات يعشن تحت سيطرتي، طوال النهار يسرحن بالمخدرات لبيعها، ويأتين آخر النهار يعطين لي ما كسبنه من بيع المخدرات، وأنا آويهن وأطعمهن وأشربهن وأسهر الليل بطوله مع نسائي الخمس نشرب المخدرات ونمارس الجنس إلى أذان الفجر، وأنام النهار كله، وفي نهاية الحديث، الذي ملأ حلق وكيل النيابة بالاشمئزاز والقرف ، وكاد أن يبصق عليه لولا ضبط النفس، الذي اعتاد عليه من كثرة ما سمع ورأى فى مهنته، ووكيل النيابة يُخبره أيضًا بكل برود وقسوة، أنه إن شاء الله سيعدم.. فردّ الرجل ضاحكــًا ضحكة فاغرًا فيها فاه بأكمله فأوضحت عن أسنان وحش مفترس باصفرارها لحد السواد فى بعض الأسنان وإعوجاجها المقزز فى البعض الآخر. قائلا بغطرسة تامة وكبرياء:

_ ما فيها شيء نحن أتينا من العدم ، نحن دود الأرض وقذارته وزبالته ولا نستحق إلّا العودة إليه، وأنا أستحقها بكل جدارة ، ولا أحب غير العيش والموت فهيا أعدموني وأريحوني من هذه الدنيا القذرة والحياة الملعونة.. هيا أعدموني.. لترتاح الحياة من قذارتي.. وأرتاح من قذارتها.. تلك الحياة الملعونة.. الملعونة أقسم بالله إنها ملعونة.

***

عدوى المرح

 

من أقوال السير تشارلز سبنسر تشابلن الفنان شارلي شابلن الممثل الكوميدي الإنجليزي ومخرج الأفلام الصامتة الشهير بدور} الصعلوك{ و}عشرين دقيقة من الحب قائلا { قبل وفاته :

34

ـ يوم بدون سخرية هو يوم ضائع

بعد أن قام بتمثيل دور هتلر قال :

ـ مستعد أن أفعل أى شئ لأعرف رأي هتلر فى هذا

يكتب سومرست موم عن الأسطورة شارلي شابلن:

شارلي شابلن:

فكاهة بسيطة، حلوة، غير مفتعلة، ومع ذلك يراودك الإحساس طوال الوقت بأن وراءها حزنًا عميقًا. وأن فكاهته مغلفة بالحزن.

وكما كان يوجد شارلي شابلن، الذي لن يتكرر مرة ثانية في التاريخ كان يوجد أيضًا رابطة عدوى المرح الثلاثي الشهير في قصر ثقافة مسرح محافظة بني سويف للهواة. كفاح ومواهب وميلاد، أصدقاء جامعة واحدة، وكلية واحدة، كلية التجارة، وعاشقين المرح الفكاهي وقدوتهم فى المرح شارلي شابلن.. كانت كل آمانيهم أن يمثلوا ويعبروا عن المرح والفكاهة من خلال المسرح، يمثلون في أي مكان، وبدون نقود في أحيان كثيرة مثل: التمثيل على مسرح الجامعة،أو في مسرح قصر ثقافة بني سويف، ببا، إهناسيا، الفيوم .. هم يعشقون المسرح من أجل المسرح فقط لا غير، ولديهم إيمان برسالة المسرح الفكاهي لابد أن يؤدوها مهما حدث. حتى جاءتهم الفكرة الذهبية بتمثيل حياة من خلق مرح العالم كله بمرحه وفكاهته التي لا تنافس حياة شارلي شابلن كما فعل فى أفلامه الشهيرة عندما جعل من هتلر الزعيم الألماني سخرية للعالم بفيلمه (الديكتاتور العظيم) ،وتعهد الثلاثة أن يقوموا بعمل المسرحية، كالفيلم الصامت إلى حد ما، الذي صنعه معجزة القرن شارلي شابن ،مع الإستعانة بالديكور والموسيقى والإضاءة والماكياج اللازمة كأدوات مسرحية تتمم العمل.

فعلاً كتب كفاح حوار المسرحية الذي أغلبه استقاه ، من مقولات لشارلي شابلن، على لسانه بعد أن استعانوا بقراءة كتاب الراحل الجليل صلاح حافظ ، في ترجمته لمذكرات شابلن (كتاب الهلالسبتمبر 1965) ،مع استخدام الديكورالمتنقل ، بموتيفات خشبية بسيطة خفيفة للإنتقال من فصل مسرحي إلى آخر، حيث تجسيد بسيط ومرح ، لحياة شارلي شابلن الفكاهة الكبرى ومواهب قامت بعمل الموسيقى التي تناسب كل موقف مصيري ،عن حياة شابلن، أما ميلاد سيقوم بأصعب مهمة، وهي تمثيل دور شابلن ويضع مثله المكياج اللازم ليشبه الى حد كبير، ويرتدى البدلة والقبعة اللاتي اشتهرا بهما ويخطو مثل خطواته وحركاته المميزة المعروف بها شابلن أثناء التمثيل ، بعصاه الشهيرة وأيضا كفاح ومواهب يعاونوه في تمثيل الأدوار الثانوية كدور الأم، الأب، الأصدقاء، وهكذا.

كانت المسرحية مكونة من ثلاث فصول مسرحية قصيرة : الأول يحكي عن أبيه السكير وأمه الممثلة والمغنية (هانا تشابلن) التي فقدت صوتها وأصابها خلل عقلي، وعاشا شابلن وأخيه مع أمهم في ملجأ (لامبلث) وعمل ممثلا ،في فرقة مسرحية هزلية للأطفال،حتى سافرإلى أمريكا 1918 وأنتج فيلمه الأول (حياة كلب)، وفعل كل هذا ،رغم قمة الفقر والمأساة ، التي عاشها الأخان ومأساة الأم ، ونفذها الأبطال الثلاثة ، بشكل مسرحي فكاهي لشابلن الممثل وهو يتفوه بحوارات قليلة وأغلبها يعتمد على تقليد حركات شابلن بعصاة المعروفة ، ومعاونيه كفاح ومواهب يشاركوه الحوار القليل الذى أكثره تعبيرا بالحركات والإشارات مثلما كان يفعل

ثم فيلم (كتفا سلاح) الذي سَخِر فيه من الحرب ،ثم فيلمه الشديد الأهمية (أضواء المدينة) وهنا ينتهي الفصل الأول، ويبدأ الفصل الثاني، بالإعلان عن فيلمه الشهير (الديكتاتور العظيم) عن الزعيم النازي هتلر، الذي واجه فيه صعوبات جمة سواء لعرضه في أمريكا أو انجلترا، ولكن شارلي كان مصمما على أن يواصل طريقه، فهتلر يجب أن يكون مادة

35

للضحك. حيث كان شابلن مصرًا على السخرية من خرافاتهم الغبية عن وجود عنصر ذي دم نقي، كأنما يمكن حقا أن يوجد في العالم مثل هذا العنصر».

ثم دعوته لحضور مؤتمر لدعم روسيا في حربها ضد الألمان ثم زيارته للندن ومقابلته مع رئيس الوزراء تشرشل والزعيم الروحي للشعب الهندي (المهاتما غاندي) الذي قال له شابلن:

ـ إنني أقف بعواطفي مع آمال الهند ونضالها من أجل الحرية.. لكنني برغم ذلك أشعر بشيء من الحيرة بسبب نفوركم من الآلات.

فقال غاندي:

ـ «أفهم أهمية الآلات، لكن على الهند قبل أن تحقق هذه الأهداف أن تخلص نفسها أولا من الحكم البريطاني. وهذا هو السبب في أننا جعلنا الواجب الوطني على كل هندي أن يغزل قطنه وينسج ثوبه بنفسه حتى نتخلص من التبعية البريطانية، لقد جعلتنا الآلة تابعين لإنجلترا. والطريق الوحيد لتحرير أنفسنا من هذه التبعية هو أن نقاطع السلع المصنوعة آليا».

هنا ينتهي الفصل الثاني ،من مسرحية عدوى المرح ، عن روح الفكاهة الشهير،

ويبدأ الفصل الثالث، بدخول والدته إلى المستشفى، وتحسن حالتها الصحية، والذهاب إلى نيويورك، لتعيش مع ولدها الفنان ،الذى أصبح معجزة القرن العشرين .. والبقاء بها إلى أن ماتت بعد عامين ،من حضورها أثناء انشغال شابلن ،بإعداد فيلم (السيرك) ،حيث تلقى خبر وفاتها.. فأزال أثار الماكياج وذهب إلى المستشفى فكتب وهو يتذكر هذه اللحظات {حتى بعد الموت كان تعبير وجهها يبدو مهموماً ،كما لو كانت تتوقع المزيد من الآلام، وكم كان غريباً أن تنتهى حياتها هنا على مقربة من هوليود ،بكل قيمها الخرقاء ،وعلى مسافة سبعة آلاف ميل من {لامبلث}موطن تعاستها حيث الملجأ الذي عاشت فيه، وبدأ يداهمنى فيض من الذكريات عن كفاحها طول الحياة ، ومعاناتها وشجاعتها ،ومحنة عمرها الضائع فبكيت ، فبالرغم من تدينها كانت تحب الخاطئين، وترى نفسها فيهم ولم يكن من طبيعتها، ذرة من الفظاظة ، وما من تعبير لاذع جرى على لسانها، إلا وكان بليغا لمقتضى الحال ، وبالرغم من حياة الفقر إلا أنها حمتني وأخي سيدني من الشارع ،وجعلنتا نشعر بأننا لسنا نتاجا عاديا للفقر ، بل أشخاصا متفردين وممتازين } ، ثم استدعته أكثر من مرة (لجنة النشاط غير الأمريكي) يتهمونه بالشيوعية والتآمر على أمريكا التي عاش بها شابلن أكثر من أربعين عاما. حتى قرر ترك أمريكا نهائيًا قائلاً: (لن أعود لأمريكا ولو ظهر فيها المسيح).

هنا يقفل الستار وتنتهي المسرحية فعلياً ،ويفتح الستار ، مرة أخرى وميلاد ما زال يمثل دور معجزة القرن العشرين ، و يتحرك على المسرح مقلدا شابلن ، ويشاركهما مواهب وكفاح الذين قاموا بكل الأدوار الثانوية من الأم، الصديق، غاندي، والمحقق، ويباغتهم ميلاد وهو لا زال يمثل شابلن بسؤال ،عن من يستطيع فيكما، أن يقول كلمة من خمس كلمات بها شارلي شابلن ،فيجيب كفاح بحدة:

هذه جملة صعبة للغاية قلها أنت:

فيرد ميلاد بحذق:

ـ على شرط.. إذا قلتها من يستطيع أن يكررها قولاً عشرين مرة دون أن يخط‍ئ

فقالت مواهب بسرعة:

 

36

ـ أنا صديقي شابلن العظيم

فيقول ميلاد على الفور:

إذٍ هي : شادي شايل شنطة شارلي شابلن ثم وجه حديثه لجمهور الصالة الذي هاج وماج بالضحك من إتقانه تمثيل روح شابلن في الحركات والتحدث قائلا بخفة ورشاقة :

هل لدى أحد القدرة أن يشارك المرح مع شابلن حتى يصبح عدوى بين الجميع.

هاجت وماجت الصالة من ضحك الجمهور وبعضهم يحاولون أن يقول الجملة المكونة من خمس كلمات عشرين مرة شادى شايل شنطة شارلي شابلن.

وقد تحولت أعظم مأساة إلى أعظم فكاهة بفضل صاحب الأسطورة شارلي شابلن الفنان والإنسان جدًا جدًا في مسرحية عدوى المرح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

37

الحياة في مساحة متر ونصف

 

أبلة شوشو دلع شادية، وفيبي دلع فوقية، ليستا سيدتين كسائر السيدات، وإنما هما مخلوقتان غريبتان، فى حياتهما ألغاز لا تُفهم، وفى طبيعتهما عناصر لا تدخل فى تركيب البشر منذ كانتا طفلتين تتلذذان بتناول ساندوتشات الفينو بالسكر، والمكرونة، اللتين أصبحتا الآن عدوهما اللدود بعد إصابتهما بالعديد من الأمراض، أولها بالطبع مرض السكري.

أبلة شوشو تزوجت وعمرها تسعة عشر عامًا، وأدركت من رحلة العلاج الطويلة بحثًا عن الأمومة أن زوجها لا ينجب، وتتنهد تحكي بحسرة وأسى: استنفد عمري معه كسحابة عابرة.. بعد خمسة وثلاثين عامًا تذكر يقول لي، يا شادية من حقك أن تتركيني، وتطلقي وتبحثي عن زوج يحقق حلمك.

كان زوجًا أنانيًّا، شرهًا في الطعام والتأنق في ملابسه زيادة على الحد، وسهراته مع أصدقائه التي تجلبه إلى المنزل في أحيان كثيرة مع بزوغ فجر اليوم التالي، وأنا وحيدة خائفة، منزوعة من كل دفء وحنان وتسلية، وقد تحولت إلى كائن هش، خامد، ليس عندي أي قدرة على اتخاذ القرار الصائب أو الخطأ، فأنا مجرد رد فعل للآخرين، يفعلون بي ما يشاءون، وليس أمامي غير الإنزواء، وتمزقت إحساسات شتى داخلي كلها متضاربة، منها الدهشة من عبث القدر معي، ومنها اليأس، ومنها الغضب من سلبيتي، ومنها دوافع الجنس، حتى أهمد تمامًا وأقبع إلى جانب الحائط كجرو صغير بائس.

مات زوجي وكان عمري خمسة وأربعين عامًا إلّا شهرين، وعندما رأيته جاثمًا في سريره، تركت خيالاتي الحزينة، والعمر الذي مضي يفتش عن قراءة عن معنى لحياتي أمام عينيه المغلقتين، وتماست روحي مع تلك الجثة كلوحة صماء يمزقها فراغ المكان والحياة حتى من هذا البغل الميت، قررت أن أقوم بزيارة قصيرة إلى بيت الله، وكان يتبقى شهران على تمام الـ 45 عامًا لأذهب لعمل العمرة دون محرم، بعت خلالهما شقة الزوجية في الزيتون بمحافظة القاهرة، واشتريت شقة مكونة من حجرة وصالة ومطبخ وحمام لا غير، إلى جانب أختي فيبي في إمبابة، وبالمناسبة هي عاقر لا تنجب، وبدأت أحرضها على العيش معي، فهي أيضًا ملت وكرهت معاشرة زوجها رفعت ، الذي كان يعمل مديرًا ماليًّا لمصنع كبير، حتى قامت الحكومة في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، بحملة خصخصة للعديد من المصانع، فباعته لمستثمرين جدد، مختلطي الجنسيات، أخذوا قروضًا من البنوك بضمان المصنع، وهربوا بالمال، وأفلس المصنع، واضطرت الإدارة إلى تسريح جميع العاملين فيه، وإغلاقه، وبيعه، وتحويله إلى عمارة شاهقة، وكأن شيئًا لم يكن.. تقاضى رفعت مكافأة هزيلة ومعاشًا مبكرًا يدخره للأدوية بعد أن أُصيب بكل الأمراض، القلب، والسكري، والضغط، والروماتيزم، حتى تعددت وتنوعت الأدوية في كيس كبير يضعه على الكومودينو إلى

 

38

جانب سريره، وأسفل زجاج الكومودينو يضع ورقة بمواعيد تناول الأدوية، حتى لا تختلط مواعيد الأدوية بعضها

ببعض.. وتتوجهما العصبية الشديدة والإنفعال لأتفه الأسباب كأنه جمر من النار مشتعل على الدوام، مما يدفع فيبي

إلى معايرته وإخراسه وإحباطه تمامًا بالصراخ في وجهه: روح كفايه خناق يا قلبي روح ياأخي شوف كيس الدوا ليكون تاه منكروح يا فاشل.

شوشو وفيبي تعشقان غناء الفنانة وردة الجزائرية، وكانت المفاجأة الرائعة أن صنعت شوشو بروازًا ضخمًا ومذهبًا وجميلاً أقرب إلى الجدارية للفنانة الكبيرة، ووضعته فاصلاً بين السريرين الّلذين لا يتجاوزا طول كل واحد منهما مترًا ونصف المتر، وعرضه متر لضيق الغرفة الوحيدة بالشقة، لتقضي شوشو فيها بقية حياتها مع شقيقتها الوحيدة فيبي، وأحيانًا تتمردان على مرض السكري المصابتين به، وتتناولان سندوتشات الفينو بالسكر والمكرونة، أكلتهما المفضلة منذ كانتا صغيرتين، وتلعبان لعبة الأغاني القديمة، فهما مغرمتان بسماع ومشاهدة روتانا كلاسيك (الأغاني القديمة)، تغني شوشو غناءً مرتجلاً لأغنية ما، وعلى فيبي أن تخمن لمن، وتصرخ:

وردة.

فتضرب شوشو على يديها بخفة ودلع:

لأ.

طيب نجاة.

وتخرج شوشو لسانها بسخرية لها:

لأ.

تميل فيبي برقبتها، وتقترب بوجهها، وتجحظ عينيها بتعمد لإرهاب أختها وتصرخ فيها:

يبقى أكيد فايزة أحمد يا شوشو.

تصرخ الأخرى، وقد برقت عيناها نورًا ووهجًا ضاحكة بصوت عالٍ:

لأ.. عزيزة جلال يا فيبي.

 

39

 

 

ذبابة القيظ

لم يكن بالحجرة سواي .. وحقيبة هلاوسي وأحلامي تستميحني .. افترشتها بنشيج أعضائي الملح .. هنا لا شئ سوى اصطكاك صمتي بالصمت .. حملتها ثقيلة .. تبدو غير ما اعتادت أن تحمله بطيش الحلم فيتخثر بغيمة فراغ الكلمة مع وهج امتلاء عالم صغير تمددته ، هكذا كانت خيالاتي وهلاوسي مع الحر الشديد الذي أشعر به .

الحر في الصعيد ، حر يشعل فتيل البطء ، والإنحراف ، والآلم ، والأحزان ، إنه حر يختلف عن حر المحافظات الكبرى كالقاهرة ، والجيزة وأنا لا أقصد الموقع الجغرافي باعتبار الجنوب عادة أشد حرا وإنما معنى الحياة بكاملها في كل تلك المدن المختلفة عن معنى الحياة في مدينتنا الفقيرة فهذا ينطبق على جميع مجالات التعامل في مدينتنا المكونة من موظفين ، شبه تجار أو محدثين نعمة كالقادمين من بلاد الخليج ، هنا الحر هو ما يفرض قانون التكيف مع لعناته المستمرة واعتبار أسلوب المناورة أحياناً والتجاهل أحياناً أخرى أسلحة للمقاومة ونقول :

  • يا صبر أيوب .. على الحر دا ، ولا جهنم الحمرا .

حلمت أن الشمس دخلت على الأرض . أحرقتها ، وأنا هربت لكوكب آخر، استيقظت وأنا في حالة كدر وهاجس أنني ربما لا أستطيع الهروب وسأموت تحت ظلال الشمس الحارقة وأدركت الخطر الذي يحدق بي فلا شئ أشرس من شمس شديدة الحرارة ، وامتعضت بشدة لذلك الهاجس فقمت بيأس بدون سبب أقص أظافري كنوع من السلام مع النفس . ظهرت صديقة القيظ الذبابة التي أحاول أن أقتلها بدفتر طفلي الصغير الأزرق الذي به الحروف الهجائية رفيق الخمس السنوات ، دون جدوى في التقاطها .

  • أحسست أنه مَر دهر من القيظ فوقي ، مع التهاب أصاب باطن قدمي ، وبدأت أشعر بالعطش يشتعل في حلقي ، كررت محاولات بين الفشل والنجاح لقتل الذبابة التي أصبحت أخريات ،وفجأة ابتهجت وتمنيت لو أن ساسة العالم كله ذباباً أستطيع قتله بذات الدفتر الذي يقترب لونه من موج البحر الجميل .

هذا الذباب الذي يرقد بطنِينه المعتاد ويأكل في هدوء التورتة المكرزة المخفية عن أعين الحيوانات والبشر أجمعين .

إن بعض الذبابات يغطسن داخل التورتة ، ولا يجد نجاة غير الطنين والموت ، بينما رُفقاء نشيطون أكثر وقادرون على أن يأكلوا فقط دونما أن يلاحظهم الموت .

 

40

أيتها الذبابة صديقة القيظ ، التورتة في وسط الصالة ، على السجادة القرمزية تنتظر حضورك الدائم في كل مكان .

إحساس مروع ومفزع أن يموت شخص عزيز عليك في الحر الشديد ، تذكرت جدتي وهي تموت في عز الحر وكنت راكبة سيارة ( ميكروباص ) أضع على قدمي هارد الكمبيوتر الخاص بي ذاهبة به إلى مهندس الصيانة ، بكيت بحرارة مباشرة بعد أن أخبرتني أمي من خلال SMS الخاص بي حتى أحضر سريعاً . هكذا ماتت جدتي العزيزة فجأة في هذا القيظ الذي دفعني إلى البكاء مرتين ، لموت جدتي وللعرق الذي يملأ جنبات وثنايا جسدي من شدة الحر إلّا أنني بعد عشر دقائق تقريباً كففت البكاء وكأن شيئا لم يكن .

كانت الشمس قد مالت عند كبد السماء منذ فترة ، وبدأت تتجه صوب الهضاب .. يبدو أن الأمور تبدَّلت ، وأصبحت بلا مراد أو أمل ، هكذا انتهت كل الأشياء والحاجات والآمال أليس هكذا تتبخر الأحلام مع شدة القيظ لتبقى الآلام تعبث بنا ! عدت إلى الغرفة الوحيدة أعيش جدران سجني ، أتمنى لو أستعيد تلك الحقيبة التي مزقها الحر وقيظه .

 

 

أنا الزعيم

 

عندما مررت كعادتى من شارعي الرئيسي الأباصيري فى منطقة بنى سويف الجديدة المعروف والمزدحم بأهم وأشهر محلات الأناقة ، والأزياء والأحذية على مستوى مدينة بنى سويف دلفت منه إلى شارع ضيق أجتازه هروبًا من الإزدحام ، وتكدس السيارات للذهاب إلى عملي فى مديرية الكهرباء شاهدت ورقة كرتونية لافتة للنظر على دكان المكوجي عم مصطفى (انتقل إلى رحمة الله الزعيم الكبير مصطفى كامل ، والعزاء فى البلد ، وللإستعلام : ت …… ) لم أصدق عينىَّ ، تسمرت فى مكاني لبضع دقائق ، اغتمت روحي على هذا الصباح المريب وتأوهت هامسة لنفسى يا إلهي عم مصطفى الذى يسكن بجوارنا فى شارع الأباصيري من قبل حتى أن نقطن أنا وأسرتي فى هذا الشارع ، فقد كان منزل والديه من زمن بعيد قبل أن يصبح الأباصيري من أكثر الأماكن ارتفاعًا فى الثمن ، كدت أن أعود إلى منزل أمي لأتاكد من الخبر، لكني تراجعت ، وتذكرت أنه لم يعد عندي أيام من الإجازة العارضة متبقية لي فأرجأت هذا لحين العودة من العمل ، أخبرتني أمي بحزن بصحة الخبر ، وأنه تُوفى متأثرًا بتمدد الكالو فى قدميه ، وآلام ظهره المقبب من آثار الوقفة والإنحناء طويلاً على كي الملابس ، عم مصطفى كان متطوعًا فى الجيش ، واستمر فيه ، حتى نقلوه صولاً فى شرطة بندر بني سويف ، كان أيضًا يمارس مع أبيه مهنة الكي ، حتى مات أبوه ، وتوارث المهنة ، وصمم على العمل بها رغم عمله الوظيفي، فاستعان بصبي دائم التأخير فى الحضور إلى العمل ، كان يعشق ابنة عمه نرجس ، وظل يسعى وراءها خمس سنوات لرفض زوجة عمه زواجها من مكوجي ، وعندما فاز بها ظل فى ليلة الزفاف يشرب الحشيش وزجاجات البيرة الإستيلا الخضراء ، حتى كاد يموت من الفرحة ، وعدم استعيابه أنه تزوجها حقيقة ،

41

شاهدتها وأنا طفلة فى سبوع ابنها جابر، تطبل على طبلة بلدي اشترتها من سوق الثلاثاء ، وترتدي جلبابًا بمبيًا فاتحًا ، (و اشرب ) الفلاحات المبرقش بالورود الملونة الزاهية ، وضفائرها تهتزان بجنون من الطبل والرقص وكأنها لم تلد أوتعاني أو حتى تتألم ، وتزعق فرحة وفخورة :- أنا مرات الزعيم مصطفى كامل على سن ورمح ويضحك مَنْ حولها إعجابًا بجرأتها وتنكتها أمها غيظًا :-

لأ والنبى دا حيا الله مكوجي ياروح أمك .

بعد المعاش المبكر الذى ناله عم مصطفى زهقًا من عمله البوليسي ، كان من الصباح لا يفارق جلسته ، مع عم محمد النمر الذى يفتح بجانبه محل أدوات خياطة و ملابس حريمى داخلية ، ويظل الإثنان يعاكسان الزبونات اللاتي كن أغلبهن سيدات، متعتهما الوحيدة التي لا تتعدى حدود الملاطفة، والإغواء والنكت القبيحة لمَنْ تستطرد وتلعب بالعين والحاجب وتضحك بغنج وإثارة ، ويرد عم مصطفى بعنجهية وعجرفة :-

يابت دا انا الزعيم مصطفى كامل على سن ورمح

تحسرت كمدًا على فراقه ، فقد كان طيبًا ومرحًا ويعتز باسمه إلى حد الهوس وقلت تأوهًا الزعماء يموتون ، فلا يموت أشباه الزعماء أيضًا

 

المتمردتان

 

مال العالم يدفعني إلى حافة الجنون، تلك الأحلام الغريبة والملعونة تملأ حالات نومي ويقظتي بذكريات تلتصق بي كحشرة القراض تنمو وتكبر داخلي كوحش كاسر، لتدفني في دوامة من الأفكار المضطربة مع هواجس فراق الشباب والحيوية والنضارة ليترهل جسدي وتخمد روحي، وفوبيا البحث عن أفضل برامج الدايت، أمام سمانة الردفين والكرش والنهدين المتهدلين، وظلال سميكة تخفي هالات وتجعيدات كشباك العنكبوت تنسج تحت عيني، وعند جبهتي، سأبدأ منتصف الأربعينات، أعوام النضج، والصمت المرعب، تلك الحقائق المرعبة مثل أحلامي الملازمة لي.. الآن أشعر بتوسيع دائرة استيعاب الآخرين، ليس فقط باستخدام الحواس الخمس الموجودة لدى الجميع؛ وإنما تزيدهم الآن الحاسة السادسة، التي تخرج منها تجاوزات الفهم والاستيعاب لِأُدرك سبر أغوار الأشخاص والأمور في وقت قصير جدًّا، وأهزأ وأتعجب من تلك الحاسة الجديدة ذات الإستقصاء البعيد من مجرد مؤشرات مألوفة، وحركات باتت واضحة بكل بساطة لتفهم الأمر والشخص معًا سريعًا، إنها الخبرة الملعونة كأحلامي أيضًا.

42

أمس حلمت حلمًا غريبًا، بل أشبه بكابوس، إنني في منزل جدي القديم ذي الأبواب الخشبية القديمة الضخمة، والشبابيك الطولية لتلك الحجرات ذات الأسقف العالية، وعندما اتجهت إلى باحة المنزل الواسع الخلفية، رأيت أدراجًا كثيرة، وكأننا في فصل مدرسي كبير لا حدود له، وسرت إلى نهاية الأدراج، ثم مشيت في ردهة طويلة حتى وصلت إلى باب موصد عتيق الطراز مثل أبواب حكايات ألف ليلة وليلة، دفعته بكلتا يدي، وكان فصلاً دراسيا كبيرًا وواسعًا.. جدرانه رمادية اللون، والسقف معلقة به مروحتان قديمتان على التوازي وتتدلى منهما الأسلاك، وتدوران بأقصى سرعة، حتى عندما أطلت النظر إليهما، ارتعبت بتخيل سقوطهما عليَّ وقتلي، واكتمل فزع المشهد بالتلاميذ المتراصين في الأدراج بنظام، منكفئين داخل رءوسهم على الأدراج كالنائمين نوم الميتين.. هلعت روحي، وتشتتت أفكاري، وكدت أصرخ، وجريت إلى آخر الفصل أحاول الإختباء وأنا أراقب ما يحدث من بعيد، وبعد سويعات من الوقت بدأ بعض التلاميذ يستيقظون، ويخرجون، والباقون ما زالوا على وضعية النوم الأشبه بالموت، تخللت جسدي برودة كالصقيع، جمَّدت أطرافي، واصطكت أسناني، وقرقرت بطني، وكنت أرتجف من رأسي إلى عقب قدمي كغصن شجرة داخل الماء، وسقطت على الأرض أجلس القرفصاء دافسة رأسي داخل ذراعي، بكيت بكل ما أوتيت من قوة، حتى أجهشت بتنهدات عالية كمَنْ يعدد قهرًا من حزن ساحق وماحق، حتى على غفلة، تسللت فتاة صغيرة بخفة الأرواح، عيناها نورهما خابي، وتشع منهما رائحة الموت، الذي عاد إلى الحياة بغتة كروح شيطانية، وربتت على كتفي وأمرتني أن أخرج سريعًا من هنا، وذهبت عني، استجمعت قواي المتخاذلة، وأنفاسي لا ألتقطها من البكاء، والفتاة الصغيرة واقفة تنظر إليَّ نظرات أشبه بالسِّهام تكاد تصيبني في مقتل، وبمجرد أن خرجت من باب الفصل لمغادرة المنزل، استيقظ جميع التلاميذ بنفس عيون الفتاة الصغيرة ينوون اللحاق بي، هكذا شعرت، وحضرتني قوة الحياة والمقاومة، فجريت بأقصى سرعة وهم يجروون خلفي فعلاً، استيقظت على صرخة، أشهق كأنني كنت أجري حقًا، ونهضت فورًا.. غسلت وجهي ورأسي بالماء الساقع، حتى أهدأ، وعدت إلى فراشي يلزمني الصمت وأنا أحاول أن أتجاهل الأمر وأدَّعي أنه ليس إلّا كابوسًا وسأتجاوزه.. لكن مع الأسف، بعد عدة أيام، وأنا جالسة بمفردي في البلكونة أشتم نسمات الصيف العليلة، رفعت سهوًا عيني إلى السماء المظلمة أتامل وجودها وأشاركها اكتئابها عن حالها وحال الطبيعة، الذي أبان عن شحوب بواكير النجوم البازغة في سماء الليل، ومن بعيد يبدو نور خافت لقمر يتوارى كفتاة خجلة من الظهور كاملاً، ثم ألقيت نظرة إلى أسفل، حيث يعيث البشر في الأرض فسادًا، فرأيتهم وحوشًا ضارية، رغم كل ما يدَّعونه عن المحبة والمودة الإنسانية، فإن العنف بين البشر هو أساس الإستمرار في الحياة.. ذلك الإنسان ما هو إلّا كائن قاسٍ بلا رحمة، يحارب أخاه الإنسان، والطبيعة والكون جميعًا من أجل رغائبه وطموحاته الغبية؛ لذا اعتقدت أننا نحن المخلوقات القاسية في هذا العالم،لاغير، إذن من الأفضل أن يدمر هذا الكون، وتنهار الجبال، وتهب الرياح، وتعصف العاصفة المدمرة، وتنشق الأرض، وتبتلع البشر، وكل المدن القائمة على أرض وطني بزهو وتعالٍ.. إنها من صنع ذلك المخلوق المتعجرف، المتيم بعبقرية الوجود.. فليذهب إلى الجحيم، لتعُدْ الطبيعة الغاضبة من تخريبها والإستهانة بها، بأشجارها الخضراء الوارفة ونقائها، وأنهارها الجارية بانسيابية، وجبالها الشاهقة خلف التلال مع أربابها، من الحيوانات والطيور.

 

43

رجعت برأسي إلى الخلف، وأغلقت عيني من تلك الأحلام الكابوسية التي تشغلني، وقررت هذه المرة أن آخذ دشًا باردًا وأضع رأسي وجسدي كله تحته فترة طويلة ربما أفيق من تمردي أنا والطبيعة.

 

أكثر مرحًا

 

 

يحب الرجل المرأة ، لأنها تملك من التعاطف معه ، والإشفاق عليه ، ما يدفعها لقول أحبك ، في اللحظة التي يقل فيها حبها له ، وتقول ذلك من أجل ألا تشعره بالأمر وكي لا يلاحظ ذلك ، ببساطة يحب الرجل المرأة لأنها المرأة .

أحيانا كثيرة ، نتخيل أنّ مصيرنا واحد مهما حدث ومهما كانت الظروف ، استحالة أن نفترق ،لكن الأقدار تأتي ، وتواتينا بالضربة القاضية وتصبح طاقة الدموع داخلي سكين يخترق قلبي ، وينزف ببطء كالموت البطئ يا له من وجع ، تئن له نبضات قلبي بين حين وآخر، همٌ لا يُطاق ، ولا أستطيع تحمله.

ذهبتْ بسرها الدفين إلى شارع البحر الكبير الواسع الذي تطل مبانيه ، علي البحر وإنْ كان ليس بحرًا حقيقيًا ، فهو امتداد مياه نهر النيل حيث في مدينة (بني سويف) يوجد أكبر اتساع له ، والناس اعتادوا أنْ يُطلقوا عليه البحر.. بل سُمى الشارع المشهور بشارع البحر ، به الكثير من المراكب الصغيرة ، وسفينة سياحية فخمة ، وحديقة بمخارج ومداخل للعديد من النوادي التي تطل على البحر.. كما أطلق الجميع عليه هذا شارع البحر.

وقفتْ أمام البحر تتأمل حياتها كاملة ، وقصة العشق والفراق لحبيب وزوج وصديق الجامعة الذي أحبته، وعمرها لا يتجاوز العشرين عامًا.. وتدفقت مع مياه البحر الرقراقة ، كل الذكريات التي هي أصبحتْ كل ما تبقى لها بعد حب وزواج وعشق دام لأكثر من خمسة عشر عامًا وهي الآن امرأة في آواخر الثلاثينيات ، تبحث عن مرفأ ، وملاذ للوحدة التي أبرمت معها عقدًا دائمًا ، وقد أصبحتْ أسيرة ذكريات العشق ، والفراق الذي كان ، بعد أنْ حـُـرمتْ من الأمومة رغم كل المحاولات الطبيةْ تـُنجب لتكلل قصة حبها العظيمة ، وبقائها بوجود ثمرة تسعد بها زوجها وحبيبها الوحيد ، وفي لحظة جنون قرّرتْ أنْ تتركه يشق طريقه مع امرأة أخرى، تنجب له الطفل الذي يتمناه هو وعائلته ، بعد أنْ تأكدت أنّ العيب في عدم الإنجاب هي السبب فيه ، ولا أمل في العلاج لأنْ تـُنجب .

تنهدتْ بحسرة على قرار أخذته بالإنفصال وفراقه ، أغلى من أحبتْ ، وعاشت من أجله ، ولم يتبق غير جلسة الذكريات مع بحرها الواسع العميق الذي يلتهم كل الأحباب ، والأحزان ، والسماء فوقها تبدو وكأنها ناقوس زجاجي كبير تخفي داخله كل حزن العالم.. ووجع يفصلها عن أي معنى للحياة ، ثم جالت بنظرة غارقة حتى لمحتْ ما يشاركها معنى الرحيل الذى كتب عليها.. رأتْ السُفن وكأنها نوارس الشواطئ تناديها.. إنه الموت البطئ.. إنه الرحيل الذى لا عودة منه ، وبخطوات لا إرادية جلست مباشرة في نفس المكان ، الذي كانا لا يفارقاه معاً ، حتى بعد الزواج لسنوات طويلة ، وقد كان أجمل مكان بالنسبة لها ، حتى وهي الآن بمفردها؛ فمازالت روحه تطفو فيه كجنيات البحر تففز من البحر وتجلس بجانبها ، وهي تراه لمسافة عدة أميال من حوله ، يتحدث وينادي حنان.. حنان.. حنان ، في المرة الثالثة أيقنتْ أنّ هذا الصوت حقيقي ، ولا يأتي من خيالها المتأجج بالشوق واللهفة إليه. والتفتتْ لمصدر الصوت الدافئ

 

44

الحنون ، الذي ينطق بطريقة تخصه هو فقط.. حبيبها الأبدي.. وهتفتْ من هول المفاجأة السعيدة :

ـ حبيبي .. حبيبي .. معقوله ؟!

يرنو إليها ، ويكاد أنْ يحتضنها لولا طفل لا يتجاوز الثلاث سنوات يحمله على ذراعه ، فتتراجع ، وتكتفي بالسلام بالأيدي ، سارا في حديقة النيل ، يؤكدان أنّ الحب ، والعشق لا ينتهي مهما كان ظلم القدر وقسوة الحياة.. وعاد كسابق عهدهما، ولو للحظات من الزمن ، الذي عصف بعشقها تحت وطأة الظروف إلى حبيبين مفترقان دون رجاء أو أمل ، يهمسان لبحرهما.. رفيقهما الثالث المخلص في رحلة الحب ، ثم العشق ثم الفراق ، ثم اللعب مع يوسف ابنه بالكرة ، ومياه البحر، ركلات يوسف الهوجاء تلتقطها فيصرخان ، ويستعيدونها بمرح وسعادة ، وقد تركا أحلام المياه العذبة تلهو بهم وتملأهم بهجة وفرحة لا تسع البحر أو السماء أو السُفن ، وأثناء افتراق كلا منهما سألته بشغف وحزن ليكتسح عينيها النجلاوين قائلةً بحزن :

هل تغيرت يا إبراهيم..؟

أجاب بعينه التي أيضًا الحزن يكتسحهما قائلًا بإبتسامة فاترة :

كنت فقط أكثر مرحًا حبيبتي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

45

أكره الثقافة

 

جاء تعييني في بدء حياتي العملية إلى زاوية أبو مسلم التابعة لإدارة أبو النمرس بمحافظة الجيزة.. لأعمل إخصائيًا اجتماعيًا، في مدرسة ابتدائي، بينما أنا أعيش في شارع الهرم، بعد تجربة الإنتقال القاسية إلى تلك القرية، علمت ممن يمرون عليها بالجاموس والحمير يحملون فتيات أو صبيان أنه لا توجد مواصلة تدخلك إلى داخل القرية، حيث المدرسة.. لابد أن أسير على الأقدام لا مفر.

تضايقت، وعزمت على السير، الذي استمر لأكثر من ثلث ساعة في طريق أغلبه ترابي فهو ممتد لحوالي أكثر من كيلو ونصف، مرت صعوبة التجربة إلى أن أصبحت لى تمرينًا رياضيًا مفيدًا لشبابي وصحتي ، لم يكن هناك أي عمل كبيرغير تنسيق البحوث الإجتماعية؛ لعدم الإلتزام بدفع المصاريف، لأولاد وبنات المدرسة من القرية ، مع مهام أخرى بسيطة جميعهم يخشون الأستاذ مصطفي آياتي. وكيل المدرسة أكثر من المدير نفسه القادم أيضا من الهرم، لأنه ببساطة هو كشيخ البلد، يعرف ويلتقي بكل كبار العائلات، والعمدة، وضابط النقطة الشرطية.

إذا أخطأ أو تجاوز أي تلميذ يأتيه مصطفي آياتي محذرا إياه، وإذا لم يتعظ يحضر الفلكة ويعبطه على قدميه. هذه الأمور بالطبع، حتى لا نستخف بعقل القارئ، كانت في أوائل التسعينيات قبل حضور الألفية بالطبع .

بعد مرور سنوات العمل والجد رغم أنني تركته من فترة طويلة، لم يعد هناك فى ذاكرتى سوى مصطفي آياتي والفلكة، وقد تبدَّلت الأحوال وجيل الألفية الجديدة، وجيل ثورة 25يناير2011 الذي أصبح مختلفًا تمامًا، لكني كنت للحق معجبًا جدًا بشخصية هذا الرجل مصطفي آياتي، ولا أعارضه في أي شيء يأمر به رغم أنه ألغى وجودي تمامًا، الذي اقتصر على ملأ أوراق روتينية كعادة كل المؤسسات الحكومية في مصر؛ فمصر بلد الأوراق. كانت القراءة شاغلي الوحيد، ولم أكن قد تزوجت بعد،

في إحدى مرات السير على الأقدام، للذهاب إلى عملي، رأيت فتاة فلاحة فاتنة يتدلى من رأسها خصلات شعرها المتبقى من (طرحة ) برتقالية أصفرًا ذهبيًا وعينيها خضراء خضارًا باهرًا، وخمرية البشرة ، فكان أشبه بالجمال المكسيكي أو البرازيلي ربما ، كانت تدفع بقدميها الأنبوبة جرا، لتستبدلها من المستودع الذي يجاور المدرسة ثم نقل بعد ذلك بعيدًا جدًا بعد أن انفجرت إحدى الأنابيب وكادت أن تحرق المدرسة والقرية بأكملها، قفز قلبي وتمنيت أن أقترب ولو للحظات لأتأمل هذا الجمال الذي يقطن وسط الأحراش والتراب، ، والغبار، والقذارة البادية في جلبابها المنقرش بألوان بُهتتْ من كثرة الإرتداء ، مر الأمر بسلام واستعدت توازني، حاولت أن أنسى أمرها واكتفيت أن أصرخ على الأوراق داخليًا دون صوت.

في بداية الأمر نزعق بكل حماس، أن الأمر يعنينا وبعد مرور الوقت العصيب، أفقد حماسي بشدة ، وأشعر بإهانة كبيرة داخلي تجاه هذا الجمال الطاغي، المقهور في براثن التخلف والجهل. وثمة إحساس داخلي ، يؤرِّقني، ويعذبني للغاية، وأشعر بالإثم الذي لا صوت له، ولا مدلول فاعل ،غير أنين مكتوم يعم قلبي، ليخترق عقلي بذكريات مشاهد مؤثرة، لا تفارق مُخيلتي ، تنغص عليَّ في لحظات التأمل، أثناء الإختلاء مع نفسي ويتحول الأمر إلى ما هو أشبه بموقف هستيري وأنه حدث لي كذا في يوم كذا، ربما يسقط تحديد الأيام من حساباتي ، لكن الوجوه ، والنظرات تظل جاثمة في أفق الذكريات كخفافيش الظلام، فتضلل آداءات عقلي، وتتشابك التفسيرات والتأويلات، ويثير حنقي لكل ما يحدث في العالم، من بؤس، وشقاء وعنف لا حدود له، ولا يفنى أبدا، وأبدو رخيصًا جدًا أمام نفسي التي تكتفي بالمشاهدة، والإبتسام.. ابتسامة صفراء باهتة لا تتجاوز أي معنى من المعاني الكبيرة والمجدية والحاسمة.. لأي أفق آخر غير حالة اللاجدوى، اللامبالاة (مفيش فايدة)

46

أهذه هي المعرفة، والثقافة، أن تجرحني هكذا، بإشعال نيران الحيرة، وحسابات النفس العسيرة، والتساؤلات المروِّعة، والأجوبة غير المرضية بالمرة تطعن في قلبي جرح غائر وعميق.. حين يهف على ذاكرتي وجهها المشع بصهد الشمس الواضحة، التي زادته وهجًا وجمالًا وهو يضخ بدماء العافية، وهى تدفع أنبوبة البوتاجار بقدميها.. بروح العزيمة والبقاء وعندما أرنو متخيلًا مدى حضنها الدافئ، وبساطتها السالمة والآمنة والوديعة، أهدأ إلى حد ما وأردد بسلام وحب لا يأتيني كثيرًا فى شذى رحيق فتاة الأنبوبة الفاتنة .

يالا هم الثقافة.

يالا هم الآخرين

يالا روعتك يا فتاة الأنبوبة.

***

 

هو داخل مربع

اهتزازات عنيفة يشعر بها من الداخل والخارج فى آن واحد ، عقله يموج بالأفكار المختلفة ، عالم مجهول ولكنه يخطف الأبصار ، الترام يتحرك ببطء فى قلب شوارع العاصمة المختنقة ، معلوماته عن الكهرباء لاتزيد عما قرأه فى كتب المدرسة ، لم يسبق له أن تعامل معها إلّا حين كان يذهب إلى دوار العمدة .

مازالت قريتهم سوداء على الخريطة المميزة للريف المصري .. لا تصاحب أصحاب السوء يا محمد ، إياك وترك الفريضه يا محمد ، من البيت إلى الكلية يا محمد ، اوعى من بنات مصر يا محمد ، وخليك بعيد عنهم .

الوصايا العشر دائماً، ولكنهم يتجاوزون الألف أحيانًا ، لا بأس ! لا يذكر من وجه أمه إلّا شفة جافة تفتح وتغلق ، لتصب أكوام النصائح بداخل أذنيه ، تمر به العديد من الأجساد التي تلتصق بها الملابس ، لتُعلن عما بداخلها بأسلوب غير مباشر و أجساد أخرى تفضل المباشرة ، فالسيقان واضحة والنحور ظاهرة ، والأزرار العلوية ليست دائماً مغلقة ، العرق بدأ يسيل فى قنوات متعددة المجاري على وجهه و صدره ، وجه أمه أمامه تحيطه هالة سوداء ، منديله المربعات الذي أخرجه ، ليجفف به عرقه من قماش البنطلون ، ينظر إليه أحدهم ، وعلى شفتيه تسبح ابتسامة باهتة ، أمه كادت تفقد بصرها ، وهى تحيك له البنطلون المربعات على ضوء مصباح الجاز ، تجلس أمامه مجموعة من فتيات يرتدين الزي المدرسي ، تسترعي انتباهه إحداهن ، لايدري لماذا هي بالذات وسط هذا الكم الهائل من الفتيات ، يقارن بينها وبين أمه و أخته ، ربما كانت مسحة الألم والحزن فى العيون هى وجه المقارنة الرئيسي ، الترام يتوقف فجأة ، فيهتز الجميع بعنف ينقلب الثّبَتُ الموجود أمامه على الأرض ، وتظهر على أرضية الترام محتوياته من البيض المهشم والجبنة والزبدة ، سارع يجمعها متلعثمًا ، تهمس إحداهن ببضع كلمات فينفجر الجميع فى الضحك بصوت عالٍ ، جسدها البض يهتز كله ، أمه كانت تخجل أن تضحك بصوت عال ٍ أمام أبيه .. أخته كانت جافة العود ، لم يشاهدها تهتز مطلقًا ، بنطلون

47

المدرسة كان ضيقًا وكأنها حُشِرَت ْ فيه حشرا ً، تجرأ أكثر ورفع نظره إليها ، عيناها تقولان الكثير ، يشعر وكأنهما وحدهما فى الترام .. وجه أمه يظهر مهتزا ً أمام عينيه ، يتذكر قصة حب قرأها عن حب بدأ بين اثنين داخل الترام ، ولم يكد الترام يتوقف فى المحطة التالية حتى نزلا سويا ً وذهبا إلى المأذون .. تبتسم له فتاته ابتسامة صغيرة ، يعود بوجهه سريعا ً إلى الأرض وتلتقط أذناه صوت ضحكات عالية لهن ، يمكنه الآن أن يميز صوتها من بين أصواتهن ، العرق يزداد كثافة على وجهه ، يستحي أن يخرج منديله المربعات مرة أخرى ، فتى نحيف يرتدى الملابس الضيقة الملونة يصعد للترام يتجه مباشرة نحو الفتيات ، وكأنهن هدف مقصود ، يندس وسطهن بسهولة ، الدم يغلي فى عروقه ، يسعل بصوت مرتفع ، ينظر الفتى النحيف إليه ، وإلى الثَّبَت ِ الذي أمامه باشمئزاز ، يتمتم ببضع كلمات هامساً ، تنفجر الفتيات ضاحكات ، وتعود أجسادهن للإهتزاز مرة أخرى .

يلتقط الفتى الخيط سريعا ً ، يبدأ فى توجيه الحديث لهن ، ترد واحدة منهن بتردد ، وسرعان ما يأخذ الحديث اتجاهه المعتاد ، وجه أمه في السماء . الآن يتذكر دمعة حائرة على وجه أخته .. لقد لطمها أبوه ؟ لأنها سلمت على ابن عمها بيدها ، صاح أبوه ساعتها : كيف تمد النساء أيديهن ليسلمن على الرجال الأغراب ؟! لقد انتهى العالم فى نظر أبيه ساعتها . النحيف مستغرق الآن فى الحديث مع الفتيات ، وأصوات الضحكات والإهتزازات تملأ المكان كله .. يتوقف الترام فى المحطة ويفتح أبوابه ، ينزل الفتى ومعه الصديقات الجُدد ، الترام يكمل المسيرة ، مجموعة من الجالسين بجواره يتحدَّثون عن فيلم السهرة التليفزيوني ، وجه أمه اختفى الآن ، ويبحث عنه دون جدوى ، نسمة هواء تدخل من الشباك لتجدد الهواء بداخل الترام .. الله أكبر الله أكبر – لا إله إلّا الله – شيخ عجوز يردد وراء المؤذن النداء ، ويغوص هو بنظراته داخل المربعات الموجودة على البنطال.

تمارين الحزن

 

فى منزلى أكون وحيدة ، أنا فى منازل الأصدقاء أكون خارج نفسي ، فى شوارع هذه البلدة أسير فيها ، خارج طرق البشر، وأسير داخل نفسي المغتربة فقط لا غير ، أنا فى هذه الوحدة المدرسية راية من علم ملطخ بكل الألوان ، وكل الأشكال تتواطئ لصنع نفس مزيفة ، غير ما تتمناه نفسي وأمام كل الآخرين أكون غير ما أريد وأطمح ، لتخرج أمامهم نفس مهترئة ممزقة بذكريات الماضي وخيبات الحاضر التي تلاحقني ، يدور حدث جلل فى الشارع ، ولا أبالي ، أهرب من الأنوار ، والعلم الذى يمقتني داخل الوطن ، وأبتعد عن هنا لأقف هناك بعيدًا ، لا أعرف ماذا أفعل ؟ فأشد الغطاء أكثر فأكثر على فراشي ، حتى لايظهر شيء من جسدى النحيل ، وروحى الضامرة وأردد كالببغاء سأمارس تمارين الحزن ، تمارين الحزن هى الحل الحاسم لهذا البرد الأهوج والإغتراب القاتل :

تمرين رقم 1 : أنت تكون متخما بطاقة لإنجاز أى فعل ضخم ، وصنع دوي هائل وسط الأصدقاء وفجأة روحك

48

تنشطر إلى جزيئات متناثرة كالزجاج المهشم ، لايعود لسابق عهده ، ولا تعود أنت قادر على فعل أى شيء ، ولاتجد أي رد أو تفاؤلاً لتصد ذلك السهم النافذ والقاتل لإرادتك .

تمرين رقم 2: فارس أحلامي الذى أحببته حب حياتى فى عبارة مختصرة مات فى ادِّعاء حادث على الطريق السريع فى يوم محفور فى ذاكرتى 28/2/2010 أثناء ركوبه موتوسيكل أهوج ، كانت وسيلته الوحيدة فى التهام الطرق والبحث عني .

تمرين رقم 3: فى شده اكتئابي وإحباطي ، أتجمل بالمساحيق الزاهية الألوان ، حتى أبدو كالبلياتشو، وأرتدي بلوزتي الأخضر الزرعي والجيب الأسود الضيق (المحزق ) على ردفىَّ والطرحة الصفراء ، حتى أهاجم فصل الشتاء بضبابه القاتم والصيف بحره المُنفِّر بألوان الربيع المنعشة .

تمرين رقم 4 : عندما لا أجد مكانًا أذهب إليه ، أقطع تذكرة فى المترو فى أي اتجاه دون هدف للوصول لمكان محدد ، وأجلس على المحطة ، أمعن النظر في الموديلات الجديدة والتقليعات اللافتة للنظر لهذا الموسم بتفحص بعيدا عن الشبهات لما ترتدي الفتيات والسيدات الهابطات من المترو القادم أو الغاديات مع المترو الراحل .

تمرين رقم 5 : أحلم دائمًا أنني أجلس على ربوة عالية خضراء ثم أتدحرج عليها لمسافات طويلة مندفعة لمصيري بين أحضان الزروع والمياه ، لتتحرر روحي فيهما ، وأنا أتمنى لروحي الهائمة فى سحب الأحزان أن تستقرعلى أرض النقاء والطبيعة الحرة حتى لو موتا .

تمرين رقم 6 : بأية طريقة لا تجعلهم يحولونك إلى شيء آخر، غير ما أنت عليه ، ربما تخضع للعبتهم ، وتعتقد أنك الفائز، ولكنك الخاسر أمام نفسك التي لا تستطيع أن تتخلص من إيلام الذات ، الموجع للغاية لك .

تمرين رقم 7 : يفتح الإنسان ذراعيه للدنيا ويصلب هكذا أخبرنا شاعرنا أراجون .

 

لعنة (صنمو)

 

توجد في أسيوط، قرية تـُسمى صنمو تتبع مركز ديروط، تسعون في المائة من سكانها مسيحيون، وبها إرهاب وعنف شديد، فالطفل من سن الثامنة يحمل سلاحًا، وأحيانــًا النساء، وخاصة الكبيرات في السن، يعرفنّ استخدام السلاح، المُعلق على الحوائط، وتحت الأسرة وفي كل مكان.

في إحدى السنين، احترقتْ هذه البلدة الملعونة عن كاملها، من حرب شعواء بينهم وبين الجماعات المتطرفة، والحكومة المتمثلة في المأمور ونقطة الشرطة، وجنودها بكاملها حتى أهم رجال البلدة، لم تستطع أنْ تفعل شيئــًا حيال ذلك بتاتــًا. مع الوقت اعتادوا على ذلك، وتمّ عقد اتفاقيات ومعاهدات صلح عديدة أهم شرط فيها هو حماية الشرطة ورجالها ضد أي عدوان، وانقلب الأمر ليُصبح رجال الشرطة فى حماية أهالى البلدة وهذا من سخرية الأقدار، مما يحدث في بلدنا مصر ففعلاً مصر أم الدنيا وأم المعجزات.

كان يوجد رجل يسمى (حيا الله) ذات شخصية قوية، ونظرة نفاذة في فهم البشر وأحوال الدنيا، وبه خفة الدم

49

المصرية، المعهودة في طبيعة المصريين عامة وإنْ كانت تزيد عن الحد في هذا الرجل الحاذق بشكل خاص، ورغم أنه أمي ،لكنه يتقن التحدث بثماني لغات من علاقاته المتنوعة والمتعددة مع الأجانب من مختلف الجنسيات، حيث أنّ تلك البلدة مشهورة ببيع الآثار المصرية ، بل ودُعي هذا الرجل أكثر من مرة لزيارة فرنسا من صديقه الحميم رضوان الذي أطلقه عليه (حيا الله) من حبه الشديد له، بل وقام الآخر بإشهار إسلامه. وتزوج من إحدى بنات البلدة الجميلات.

اعتاد (رضوان الخواجة) أنْ يعيش في البلدة شهورًا عديدة مع صديقه (حيا الله)، ولأنّ القرية بكاملها من مخارج وطرق وشوارع مرسومة في عقل (حيا الله) بدقة متناهية، يبحث وينقب بحذر حتى يصل لمراده. في إحدى المرات وصل إلى (نبات قوي) وهو ملك فرعوني أسطوري اخترعوه رمزًا للحيوان، وينتمي إلى عصر تل العمارنة وهو عبارة عن أربعة قنينات (النسرالصقرالبومة العرقوب) وطبعًا صديقه الفرنسي الأصل رضوان، هو ما شرح له مدى قيمة تلك الآثار، فصنع بها ثروة أصبح بها سيد الكل على قريته، والقرى المجاورة وذاع صيته واشتهر بفرعون ديروط كاملاً، وقد تحوَّل إلى أسطورة منذ مولده.

(حيا الله) اسم غريب، ليس له مغزى واضح، ولكن ما الداعي إلى هذه التسمية غير سبب لابد الحكي عنه : أبوه كان لا يـُنجب إلاّ البنات، أنجب ثماني بنات، ومات منهنّ أربع.. وحزن الأب حزنــًا شديدًا، فهنّ كنّ جزءًا منه حتى ولو كنّ بنات، حتى جاءه (حيا الله) وقد أطلق عليه هذا الإسم الغريب، وأحضر له التعاويذ والأحجبة لتؤمنه وتحرسه من أي شر أو عين حاسد.. الغريب أنه كان جميلا للغاية جمالًا أقرب الشبه بشدة إلى جمال بناته اللائى بقينَ على قيد الحياة. بحرص الأب الشديد على رعاية ابنه الوحيد، الذي دفع له حزن العالم أجمع وكذلك دفع فدية لا مثيل لها بفقدان بناته الأربع وحسرته عليهنّ، وقلبه المكلوم بوجع دائم، وانكساره أمام أفعال القدر، عافر وقاوم وبدلّ الحزن بالفرحة بابنه (حيا الله) الذي ينمو ويكبر بذكائه، ومحبة الجميع له، وشطارة التاجر، وخفة الدم الزائدة، ووجهه الباسم المصاحب له في أصعب المواقف، وأقوى المصائب، نفسه الشامخة وعقله الكبير، وقلبه الفولاذي، الذى عوّض الأب عن كل حسرة أو ألم، ومع كل هذا فإنّ (حيا الله) به حنان عارم لكل من حوله، وينصت للجميع فكان بحق كالفرعون لا يحب قريته الصغيرة صنمو فقط، بل ديروط وأسيوط كاملة، وشاء القدر الذي يفاجئنا دائمًا بغرائب الحياة، أنْ يتزوج من ابنة رجل اسكندراني، جاء لاجئــًا ل (حيا الله) هروبًا من حكم عليه بالإعدام في جريمة بشعة.. حيث قتل زوجته، في الإسكندرية، وأنجب حيا الله من ابنته ثلاثة أولاد، أطلق على البكري اسم صديقه الخواجة الفرنسي الذي أسلم، رضوان، رضوان الإبن كان شبيه والده (حيا الله) في كل الصفات، وإنْ كان يفوقه في القوة الجسدية.. كان أقوى من ثور الساقية، واشتهر بساعده القوي، وعضلات من حديد، حتى أنّ أصحابه في إحدى المرات أقاموا بروح الفكاهة والممازحة مسابقة بينه وبين ثور الساقية، من يلف أكثر الثور؟ أم رضوان ؟ فكان رضوان الأقوى.. وهتافات الأصدقاء.. وأهالي البلدة تهتف رضوان أقوى من الطور.. رضوان أقوى من الكل.. يعيش رضوان يعيش رضوان.

مرّ الزمن، وسافر رضوان فجأة نداءً لروح الصعايدة المهاجرة والرحَّالة، الذين يشتهرون بها في جميع بقاع العالم سواء داخل مصر أو خارجها، إلى رأس سدر في (سيناء)، وعمل ميكانيكيًا، وفتح ورشة صغيرة في مكان خال ومهجور على الطريق.. كافح وعافر الوحدة بالعمل، وبنى مسكنه بساعده القوي، حتى بدأ يعرف بين البلاد المجاورة، واستجلب العمال الذين بدأوا يعمرون المكان بالزواج والإنجاب، ورضوان يدفعهم ويساعدهم بكل قوته الجسدية والروحية، حتى أصبح سيد المكان، فقد كان هو أول من حضر وأول من بدأ الحياة، وشارك في بناء حياة الآخرين، وتوطدت بالتالي العلاقات مع كبار المسئولين من أعلى مسئول مثل رأس المحافظ – ومدير أمن المحافظة، إلى أصغر موظف.. ولا شيء يقف أمام ثراء ونفوذ ومحبة الناس وسلطة رضوان. لا شيء، بل وتزوج إحدى بنات العائلات الكبيرة من عرب سيناء، وأنجب أيضًا ثلاثة أولاد.. وأطلق على البكري (حيا الله) تيمنـًا بذكرى الأب، الذي ذهب عنه، ونساه ونسى قريته (صنمو) تمامًا.. حتى جاءه مرسال من أبيه، حزينــًا، متألمًا لمرض شديد أصاب (حيا الله) الأب، ويطلب رؤية ابنه قبل موته، وذهب رضوان على الفور شاعرًا بالندم ويكاد يبكي من الفراق الطويل عن أبيه، مع انشغاله وانهماكه في صنع حياته الجديدة.. نجحتْ حيلة الأب، التي لم تكن كاملة الصدق.. هو مريض، لكنه ليس مرض الموت، كما ادّعى، وأقسم الأب أنْ يظل مع الإبن الغالي، أيامًا لا تعد حتى يشبع منه، ويستمتع بمجلسه، وهيبته الجديدة، كان الأب (حيا الله) لا يـُفارق

50

ابنه الحبيب لا في النوم – أوالطعام، والشراب، حتى شرب الحشيش والأفيون الذي كان الأب يُدمنه، أشرك فيه ابنه رضوان، حتى لا يفارقه في هذه المتعة.

في إحدى المرات وأثناء التسامر وممارسة التمشية في طرق القرية الوعرة والضيقة، ذهبا إلى الخرابة القديمة، التي كان يلعب بها (حيا الله) ثم رضوان من بعده، أثناء الضحك وتخيل الذكريات القديمة، مرّ كلب أهوج سريعاً للغاية، فانتفض رضوان للمباغتة جدًا.. وكان ينظر إلى خزان (صنمو) الملعون بإمعان، هكذا كان يـُطلق عليه أهالي بلده (صنمو) فجأة، وقع رضوان فى هذا الخزان بكل عبث، ومات رضوان.

كان ذاك الخزان هو لعنة بلدة (صنمو) فهو عبارة عن فتحة كبيرة وواسعة بها عمود على شكل cross خشبي، كل مربع به دلو كبير، يملؤه بالمياه للإغتسال أو أى ضرورة، ويتم هذا برفع الدلو بحبل سميك ووضع طوبة ثقيلة فى الدلو ، ثم يدفعون العمود الخشبي، حتى يندفع تيار الماء ويمتلئ الدلو وتمرر المياه إلى الدلو من خلال ثقب في الخزان، لعنة قرية (صنمو) هذا الخزان الذي يتوسط الخرابة القديمة.. قال الأهالى إنّ به عفاريت وجانا تلتهم أي أحد يقترب منه بشدة أو يتمعن النظر في عمق الخزان، حيث تقطن العفاريت في القاع، فتناديه العفاريت وتأخذه معها وإليها في قاع الخزان الملعون.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

51

سلامتك يا راسي

 

 

جلس السيد الفاضل ، صاحب مكتب تسويق عقارات ،في مدينة 6اكتوبر،المحامي سابقــًا بعد فشل ذريع لممارسة مهنة المحاماة ، وفشل في حياته الزوجية ، وطلاقه المتكرر من نفس الزوجة بطلقة ثالثة بائنة لا يصلح العودة إليها إلاّ بمُحلل، فأراحتْ رأسها من العراك المُـتكرر، وأصبح المُحلل زوجًا حقيقيًا استمرتْ معه.. ودام الزواج لمدة خمس سنوات ، فيئس السيد الفاضل عبد الكريم عبد الفتاح عبد الحميد الدويري من عودة زوجته إليه ، فتركها وترك لها كل شيء ، حتى أغلى ما لديه ابنته سندس الفتاة الجميلة.. ونزح إلى مدينة 6أكتوبر مستأجرًا شقة مكتب عقارات وسكنـًا خاصًا له.. جالسًا على كرسيه الهزاز مسترخيًا في تأمل حياته البائسة بصلعة وكرشه المُـتضخم وعيونه الخضراء التي ورثتهما سندس.. فأضفى عليها جمالًا خاصًا ببشرة بيضاء ناصعة ، وشعر أصفر ذهبي.. فوهبها جينات وراثية من أبيها على شكل أنثى ، فكانت فائقة الجمال والروح والدلال بثغرها الدقيق وملامحها الرقيقة الجذابة ، عادة ما يفعل السيد الفاضل هذا وهو الجلوس لفترة طويلة على الكرسي الهزاز الذي أحضرته له سندس في عيد ميلاده بعد أنْ عرفتْ رغبته في اقتناء كرسي هزاز يضعه في الغرفة الثانية ، التي بها سرير خشبي ودولاب متهالكيْن وسجادة مهترئة قديمة ، وترابيزة مستعملة اشتراها من رجل يبيع روبابيكيا كان سائرًا على عربة كارو أمام شقتة فى مدينة 6 اكتوبر فى مرة لا تتكرر كثيرًا.

كان السيد الفاضل يفعل هذا قبل موعد حضور غاليته وبسمة حياته سندس من (ميت عقبة ) لقضاء يوم كامل معه من الصباح إلى المساء.. ويُـصر كل مرة بإلحاح أنْ يقوم بتوصيلها إلى بيتها في ميت عقبة.. رغم المشقة والجهد الذي يبذله من جراء هذا حتى يطمئن على وصولها سالمة آمنة..

السيد الفاضل جاء نازحًا من (ميت عقبة )، شأن كل النازحين من مدينة 6أكتوبر من المحافظات الأخرى وجحيم القاهرة التي يطلقون عليها (تحت) وتحت هذه تعني السفر إلى محافظة القاهرة أو الجيزة لبعد المسافة وإنْ كان هذا غير حقيقي.. فالمسافة مع مرور سلس ومنظم لا يتجاوز الساعة.. ولكن للزحمة الشديدة وطول المسافة التي توصف بالسفر وملل الإنتظار.. والمرور المُعقد فى شوارعنا المزدحمة بشدة فيقولك بتأوه :_ (ياه دا أنا نازل تحت) ورغم النظام والنظافة والهدوء التي تتميز به مدينة 6أكتوبر خاصة في الأحياء المُميزة ، والأثرياء فى أحياء بعينها إلاّ أنها أوشكتْ أنْ تأخذ روح القاهرة الكبرى والجيزة في التزاحم والتكدس خاصة في بعض أحيائها والتي أصبح يُطلق عليها أحياء شعبية مثل الحى 11 أو 12 أو 10.

يستيقظ السيد الفاضل في يوم حضور الموعد المُقـدّس لسندس.. والذي يحدث فقط مرتيْن في الشهر بعد الفجر مباشرة ، يُصلي الفجر حاضرًا وإنْ كان لا يحدث هذا إلاّ مرتيْن في الشهر، دون مُنبه ، يستيقظ نشيطــًا ، بكل الهمة والحب والتلهف والشوق لكل ما بقي له في الحياة ، ويعيش من أجله ، ويبدأ في إعداد الطعام ، الذي تحبه ابنته سندس ، بعد أنْ يكون قد ملأ الثلاجة الإيديال النصف عمر، المُستعملة ما يلزم لتجهيز ثلاث وجبات رغم إصرار سندس على عدم تناول العشاء معه ، لإمتلاء معدتها بطعام الغذاء ، وإحساسها بالشبع التام ، لكنه يُصر فتأكل من أجل إرضاء متعته التامة في تناول الثلاث وجبات معها.

عندما تحضر سندس ، تذهب مباشرة إلى غرفة النوم ، وتستبدل ملابسها وغالبًا بلباس جديد أحضره لها ، ويجب أنْ يراه عليها ، قبل أنْ تأخذه وتحتفظ به ، فربما لا يراها به مرة ثانية ، ويبدأ في إعداد الإفطار والحديث الطويل عن عالمها الجديد في الجامعة ، فقد كانت في السنة الأولى من الجامعة ، ويطلب منها السيد الفاضل أنْ لا تنسى شيئــًا لا تحكيه عن نفسها وعن صديقاتها ، وسط ثنايا الحنين الذي يُـضمّـنه الكثير من المزاح والتفكه.. ويطلب منها أنْ تحكي له عن أخبار الأم ، وأحوالها مع زوجها ، تتلعثم سندس في بادئ الأمر، ثم تستسلم أمام رغبة والدها ، وأمام كل ما ترويه سندس عن

52

 

حياتها وحياة الأم ، تـُذكــّر والدها السيد الفاضل أنْ يسرد لها قصة حقيقية من عالمه القديم أو من ذكرياته في المحاماة والأسرة ، وأيام الشباب والعربدة التي لا يخجل من أنْ يذكرها ويتسامر فى البوح عنه مع ابنته التي يُـشعرها بحديثه عنه إنها صديقته ، والوجه الآخر لإلقاء الحقيقة بكل صدقها وأخطائها وزلاتها ، ولا يخجل فى طرحه أمامها.. وأيضًا لاستخلاص خبرة وتجربة تعلمها وتـُخبرها عن ماهية وطبيعة العالم الذى نعيش فيه.. لتتعظ وتستفيد وتتوخى الحذر وقراءة البشر والأمور ببراعة كحنكة المُـتمرسين فى عراك الحياة.. هذ حقيقة ما كان يهدف إليه السيد الفاضل بفطنته وحكمته التى خرج بها من رحلته مع الحياة والمحاماة. عادة ما تبدأ حكايات السيد الفاضل العجيبة التي يدخرها لحبيبته وصديقته وقرة عينه ابنته سندس بعد الغداء.. وقد تمّ تنظيف المطبخ والشقة ، تتولى سندس هذه المهمة والأب يُساعدها بفرحة غامرة ، فهو طاه بارع ، ورجل نظيف ومرتب ، وأستاذ في تنسيق الشقة ، وترتيبها على أبلغ وجه ، يفوق أي سيدة ملكة في بيتها.. لكنه يترك المجال لسندس حتى تـُصبح جوهرة فى بيتها القادم إنْ شاء الله.. أمنيته الأخيرة له فى الحياة .

حينئذ يجلس على الكرسي الهزاز، ينتظر كوب الشاي الأخضر من يد سندس.. وهو الشاى الذي نصح به بعض الأصدقاء لحرق دهون البطن المُـتضخم ويزعجه جدًا ، ويُعكر صفو احتضان سندس كاملا عندما يهفو إلى احتضانها بقوة ، وحماس وحنان زائد عن الحد يريد أنْ يُعبّر عنه بكل جوارحه.. لتشعر سندس بنبض قلبه الذي يرنو فيه إليها كأميرة وأمل حياته كلها .

يرشف رشفة قوية من الشاي الساخن الذي يحب شرابه ساخنــًا للغاية ويبدأ في الحكي بهدوء ورصانة :

كان هناك رجل وأسرته ، يركبون المركب الصغير كالمعتاد في تلك الآونة من ذاك الزمان والمكان ، بارتياد المعدية من (الكيت كات إلى الزمالك )، فجأة غرقتْ المركب الصغيرة ، وسقطتْ الزوجة والطفلان ، الّلذان كانا لا يزالان صغيريْن.. حيث الأول حوالي أربع سنوات والثاني سنتيْن ، وتصاعد الموقف وأصبح دراميًا للغاية مع انقلاب المركب ، والمراكبى المسكين يُحاول بكل جهد ودأب أنْ ينقذ الزوجة والطفليْن ، غير مُهتم وغير مُبالي بالرجل الذي سقط أيضًا في ماء النيل ، ساءتْ الأمور، والمراكبى يُعافر ويصرخ عسى أنْ تـُحاول الزوجة أنْ تلحق بطفليها وتمسكهما ، حاولتْ الأم المسكينة ، لكنها مثل الطفليْن لا تعرف السباحة ، فغرقتْ مع الطفليْن وشهقتْ الأنفاس الأخيرة والمياه تملأ جوفهم ، ويذهبون بعيدًا كل في ناحية وقد غرقوا وماتوا وشبعوا موتــًا . بُهتَ المراكبى الموجوع ، متعبًا من محاولاته الفاشلة لإنقاذ الأم وطفليها ، وظلّ عالقــًا في الماء ، دون حراك لفترة من الوقت والذهول والصدمة سمّرته في مكانه كالحجر ، لا يقدر على فعل أى شيء من فعل الصدمة الفادحة ، واستفاق على رؤية الزوج الذي نسيه تمامًا.. وقد باغت الجميع الذين حضروا بعد فوات الأوان على الشاطئ من الجهتيْن ، وهو يُحاول إنقاذ نفسه بالتعلق بخشبة لإنقاذ حياته بأي شكل.. فهو أيضًا يبدو أنه لا يعرف العوم ، ولا يبالي أو يهتم بما حدث لأسرته.. وقد تركهم يلاقون مصيرهم بكل قسوة.. ولم يُحاول أنْ يفعل لهم أي شيء مثلما فعل المراكبي المسكين، بل اهتم فقط بإنقاذ حياته ، وفعلاً وصل إلى الشاطئ، والناس في حالة استغراب شديد ، وتحسر وهم يُمصمصون أفواههم وقد انهالوا عليه بالشتائم واللعنة من رد فعل هذا الرجل ، فما كان من المراكبي إلاّ أنْ يذهب إليه في وسط الماء . وقد كاد الرجل أنْ يقترب من الشاطئ ، ولفحه صفعة شديدة على خده وانهال عليه بالضرب.. وجذبه من رقبته ليغطسه في الماء حتى يموت وهو يسب ويلعن ويشتم به بكل قوته ، التي عادت إليه فجأة من حجم غضبه وحقده على هذا الرجل الحقير الواطي ، الأناني ، الغبي ، حتى أنقذه أحد الواقفين من يده وحمله إلى الشاطئ ، والرجل أنفاسه تلهث ، وجسمه ينتفض.. وعندما لمح المراكبي والشر لازال يملأه وعيناه تتسعان وتلمع من لهب الغل والإنتقام منه ، حاول استعادة قوته، وأخذ يجري على الشاطئ بعيدًا عنه مرددًا بهذيان ولوثة واضعًا يديه على رأسه :

 

53

سلامتك يا راسي.. سلامتك يا راسي.. يالهوي ياما

يا لهوي يا راسي سلامتك يا راسي

الناس أجمع يشاهدون بتأثر بالغ لدراما تفوق الخيال تحدث أمامهم ، لا يعرفون أيضحكون أم يبكون مما فعله هذا الرجل وقد ظلّ يركض ، ويقع ويركض .. وكلمة سلامتك يا راسي.. سلامتك يا راسي يُردّدها كالمهووس وكالمجنون حتى خارتْ قواه تمامًا وفقد الوعي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

54

ملامح الوطن

 

كانت الفرحة والأمل تعم الجميع لهذا الحدث التاريخى يوم 26/5/2014، بالذهاب إلى مقار الإنتخابات الرئاسية ، بعد توالي سبعة رؤساء على حكم مصر خلال هذه الفترة العسيرة من عمر الوطن بعد تنحي الرئيس السابق فى 11/2/2011 عقب ثورة يناير 25/1/2011 ومن فرط الحماسة بين زملائى وزميلاتى فى العمل ، أصدرت أبلة آمال وكيل شئون العاملين في إدارة 6 أكتوبر التعليمية (محافظة الجيزة) قرارًا حاسمًا بتقسيمنا إلى مجموعات تذهب وتأتي حتى لايتأثر سير العمل الوظيفي، كان من حظي الجيد أنني كنت واحدة من المجموعة الأولى مع صديقتين أخرتين، وابتسمنا ثلاثتنا زهوًا وفرحًا لإختيار الرئيسة لنا أولاً ؛ لأننا سنذهب مبكرًا تقريبًا عقب فتح لجان الإنتخابات قبل الزحام ، التي هي فى أماكن متفرقة في مدارس 6 أكتوبر شملنا إحساس غريب وجديد ، بتلك المسئولية ، ومدى أهمية صوتي الإنتخابي ، فأنا صراحة لم أعش تلك التجربة من قبل ، فهذه المرة الأولى التي أحظى بها بالذهاب إلى الإنتخابات ، ومن كثرة ما مر على وطني من انتخابات لايعنيني الأمر وأضحك وأقول بتفكه وسخرية : – ياعم دي الحكومة والبلد بلدهم والكراسي لحبايبهم وحبايب حبايبهم ، بينما نستعد بتلهف للذهاب ، وكأننا ذاهبون لحفل أو فرح عرسأشارت لي الرئيسة بغمزة من عينها اليمنى مع إصبعها السبابة بالذهاب والنفي ، أى أنا بالذات لا أعود مرة أخرى للعمل بعد أن أدلي بصوتي الإنتخابي، وذلك رأفة بحالي فى تعثر السير ومشقته لعرج يلازمني فى ساقي اليسرى على إثر حادث مأسوي تعرضت له من عامين .

حين عودتي من الحي السادس ؛ حيث كانت لجنتي الإنتخابية فى مدرسة المستقبل للتعليم الأساسي، ومازال شعور الزهو والفرحة يملؤني أشرت للعربة الكبود .

ذات الصندوق البشري من الخلف المرفوع بسلم حديدى صغير عالٍ للصعود والهبوط منه وإليه ، ومن الأمام سائق وراكبين لاغير، وللأسف الحكومة تتواطأ مع شرطة المرور، لمضايقتهم بشتى الطرق، لحساب ناس أخرى ، تريد أن تستحوذ على الطريق فى المدينة ، وهؤلاء السائقون أغلبهم من محافظة الفيوم ،أتوا من أكثر من 20 عامًا للعمل والعيش ، وقت ما كانت هذه المدينة مجرد صحراء ، ورمال لا معالم لها ، وذاك قبل أن يصبح هذا الرمل يباع ذهبًا الآن بأغلى الأثمان ، سيرًا على الأقدام ذهبت لموقف تلك العربات ، بعد أن مللت من الوقفة أمام اللجنة الإنتخابية ، التي أقام بها الجيش لأكثر من 200 متر قبل أن تصل إلى المدرسة متاريس حديدية وعساكر جيش منتشرون في كل مكان .

أشرت لسائق أن يفتح لي باب المقعد الأمامى ؛ حيث لا أستطيع التسلق داخل الصندوق البشرى الخلفي ، رفض بشدة ، فذهبت لآخر وآخر أيضًا يرفضون ويقابلون طلبي بلا مبالاة ودون مراعاة لعرجي وعكازي الذي يصاحبني ، حتى لمحني سائق ابن حلال ، وهرع مسرعًا متسائلاً : – مالك يا أبلة تحبي أوصلك قلت له ضجرًا : – شكرًا وصمت والغضب يملؤني

55

دون انتظار لإجابة ذهب على الفور لسائق شاب وأمره بعد رفضه الأول وألح فى طلبه ممزوجًا بالشتائم المصرية المعهودة بين عامة الشعب، ثم فتح الشاب الأسمر الجميل الطلعة باب السيارة ، ودون إرادة ظللت أتأمل ملامح وجهه الشديدة السمرة بعينين سوداوين سوادًا لامعًا غائرًا فى حزن دفين لا أعرف ( من أين أتاه ) ، وشعره أسود ناعم ومفلفل ، ولامع من جيل كثيف أضفى على ملامحه غزارة وعمقًا لشخصه الذي لفت انتباهي للغاية وقلت مباشرة بعد أن جلست ، وارتحت وأخبرته ألا يجلس أحد بجانبي وسأدفع الأجرة كاملة : –

ـ إذٍ لماذا ترفض أن أركب بجانبك ؟ ألا ترى عرجي وعكازي أيها الشاب المصري الجدع ألست مصري جدع قل لي ؟

نظر لي نظرة صارمة متبرمًا من عتابي وتهكمي ، وقاد السيارة صامتًا صمت القهر، لكن لم أسكت ، وجاءني تحد داخلي أن أفتت هذا الحزن الذي يحاصر هذا الشاب الجميل لينشطرإلى كلمات وفضفضة لاريب فيها إثارة ما جاءني شعور بذلك .

فقلت وأنا أبتسم : – هل ذهبت إلى الإنتخابات وأكملت دون أن أنتظر ردًا منه

ـ بالتأكيد انتخبت المشير (عبد الفتاح السيسي) مثلنا جميعًا لم يرد بغير نظرته الصارمة هذه ، فقلت تمللاً : –

طيب على راحتك :

ثم فجأة ملأ دهشتي بنبرة هادئة وصادمة قائلاً :

أنا لست مصرياً يا أبلة أنا من ليبيا

فعاجلته قولاً : –

لكن لهجتك مصرية جداً ، وأيضًا ملامحك مصرية نعم والله مصرية بلا شك هذا غير معقول واستطرد يقول بنبرة مهزومة وحزينة : –

نعم أنا هنا من بعد ثورة يناير 2011، لهذا لسانى اتعود على اللهجة المصرية

قلت وصوتي خفض وقد تسربت إلى مشاعر طاغية بالإنكسار: –

 

 

 

56

لك حق لا تذهب إلى ليبيا ، ربما يقتلونك

فرد بحدة صارخًا من حمل ثقيل جاثم على صدره وقلب ممزق :-

لكني أريد الذهاب إلى أخي أريد أن أعود إلى عملي فى طرابلس ، ألا تعرفين أني متعلم وحاصل على الجامعة ، وتاجر سيارات وقطع غيار محترم فى بلدي ؛ حيث امتهنت مهنة أبي رحمة الله عليه بينما عندكم مجرد سائق على سيارة كبود وضيعة أهذا عدل أهذا الربيع العربي

قلت بتعاطف حقيقى : اهدأ ما اسمك ؟

محمد أعتذر يا أبلة أين سكنك حتى أوصلك إليه لوسمحت ؟

شكرًا يامحمد أنا معك لآخر الخط فسكني في الحى العاشرلا تقلق أرجوك لا تعود يا محمد إلى ليبيا الآن ميليشيات الإخوان سوف تقتلك لامفر

قال ساخرًا :

_لا هم ليسوا إخوانًا مسلمين متطرفين، إنهم جميعًا مسلمون عاديون شيعة يقتلون سُنة والعكس .

ياربى مثلما يحدث فى العراق ولا يهمك ربما يجمع الشمل على يد اللواء (حفتر) فرد سريعًا وبقوة وبثقة العارف والمدرك لغور الأمور الشائكة فعلا :

لن يفعل شيئًا، لا يوجد جيش الآن، بعد أن تفكك وتناحرعلى يد اللعنة حلف الناتو بعد الثورة والقتل البشع للزعيم الليبى السابق (معمر القذافى ).

قلت بيأس :

_كيف إذٍ تُدار الأمور يا محمد؟

هناك محاولات للم الشمل ، والإتحاد ، من خلال قبائل عديدة ، تتولى كل قبيلة حوالى شهر القيادة وتوحيد الجبهة الشعبية مع ما تبقى من الجيش

إن شاء الله قريبًا استبشر خيرًا يا محمد

قال بإصرار وعزيمة صلبة المراس :

لن يتغير شيء ، لن يفعل أى أحد شيء مطلقًا ، أنا أجزم لك قولا وصدقًا ، أنا أعيش فى محافظة الفيوم ، فى قرية

 

57

الغرق التابعة لمركز إطسا مع أمي وأختي الصغيرة في شقة متواضعة ، ورديئة ، مثل عملي هنا ، لإرتفاع الإيجارات فى

مدينة الفيوم والمراكز التابعة لها ، أنا وأسرتي تركنا منزلنا الكبير، وأعمالنا المهمة وتجارتنا وثرواتنا ، هل يصلح هذا يا صانع الربيع العربي ؟ وأقول لك مثالاً أصدق تطبيق لما أحكيه لك تلك محافظة الفيوم التي تعدادها لنقل مليوني مصرى تقريبًا ، ربما يعادل أكثرأو قليلا من سكان ليبيا ، لكن الإختلاف المميت، أن فى ليبيا مليوني قطعة سلاح ، الطفل لايتجاوزعشر سنوات ، ويحمل السلاح بل وأكثر من نوع .

بعد يأس تسلل لجوارحنا صمتنا حزنًا وقهرًا ، حتى يعود محمد بحنين قاتل للحديث عن أخيه الكبير الذى مازال فى طرابلس ، والقلق والحيره تراوغ كغبشة ضوء نهار تحاول البزوغ بأي حيلة قائلا:

لكني خائف على أخي وأسرته

فقلت تكلفًا :

_ إذٍ دعه يأتي إلى مصر

فقال متوترًا :

_لا يصلح أن يأتي ، هو متزوج ولديه أسرة وعمل وكيف يأتي وماذا يعمل ؟ والله الموت أرحم من هذه الغربة والفقر والبؤس الذي بتنا فيه

قلت مجاملة ولم يعد الكلام له أي مغزى لكلانا والمقت والغم ملأ روحي وقد اقتربت من مسكني:

كم عمرك؟

ـ 25عامًا

وأخوك

-30عامًا

ألحَّ أن يوصلني إلى شقتي ، لكنى رفضت وشكرته كثيرًا ، وأعطيته الأجرة التي نسيت دفعها بعد إصرار مني وقلت له بابتسامة فاترة :

ـ ربنا معك يا محمد لكن تذكر مصري ، ليبي، ملامح الوطن واحدة

ـ

 

58

وطن صغير

 

صممت بعد الوفاة المباغتة لزوجي، البقاء في محافظة الجيزة، في شقتي في فيصل، مع ولدي الوحيد سيف، رغم إلحاح أمي على العودة إلى مركز الواسطى بمحافظة بني سويف، لأمكث إلى جانبها، أو الإمتثال للعيش في البيت الكبير لعائلة زوجي المتوفى في مركز بوش بمحافظة بني سويف، التي لم تلح فقط؛ بل رأته واجبًا مقدسًا العيش وسطهم في شقتي القديمة التي تزوجت فيها في بدء الأمر قبل أن ينتقل زوجي المتوفى للعمل في محافظة الجيزة، وعندما تمردت، ورفضت الخضوع لقانون الزوجة الأرملة لديهم، ثار عم الولد، بل تجرأ وأقام دعوى قضائية لحرماني وابني من الميراث بادعاء أن زوجي المتوفى باع له قبل وفاته كل شيء، المتمثل في نصيبنا في البيت الكبير للأسرة كاملاً، والذي يتقاسمه أخوان آخران، غير ميراثنا في الأرض الزراعية، التي علمت أمي سرًّا، أن بعضها سيدخل في كردون المباني، ويرتفع سعرها ارتفاعًا مذهلاً، بإصرار وحماسة تولت أمي دون رغبتي رفع قضية أمام عم ابني لإسترجاع الحقوق لي ولإبني وهي تصرخ في وجهي: هذا حق سيف وليس حقك يا مجنونة، يا غبية، وذهبت بولدي مرغمة لعمل توكيل عام بالقضايا للمحامي، ومعرفة الإجراءات اللازمة لرفع القضية، على الرغم من ضيقي ونفوري من المحاكم والمحامين والتناحر الذي شابه عداء شخصي بيني وبين أسرة زوجي المتوفي، فإنها كانت فرصة لي للإسترخاء لليلتين أبيت فيهما في منزل أبي المتوفي منذ سنوات في حجرتي القديمة مع أختيَّ اللتين لم تعودا إليها بعد زواجهما وإن كانتا حضرتا للترحيب بي ومؤازرتي في هذا الموقف البائس.

كان يومًا شديد الحرارة والرطوبة، صمغت جسدي بسيل من العرق اللزج في ثنايا نهداي وبين فخذاي، وأعلى سلسلة ظهري وتحت الإبطين، وكدت أنزع حجابي وملابسي زهقًا وكمدًا وأنا جالسة في الميكروباص ذهابًا إلى منزل أمي لمقابلة المحامي صباح غد، خاصمني النوم، رغم إرهاق السفر، ففتحت (بلكونة) غرفتي الفسيحة، التي أخذت الكثير من أوقات اللعب والمرح مع أختي، وكان بها الكثير من التراب العالق على الكراسي والسور والأرضية، فجاءتني حمى النشاط بغتة وقمت بتنظيفها وترتيب الكراكيب وإلقاء الزائد منها، ثم استحممت، وارتديت جلابية واسعة خضراء قديمة وجدتها في الدولاب، الذي به العديد من أغراضنا مرتبة ومنمقة تثبت أن أرواح هذه الملابس باقية مهما رحلنا عنها، وبعد كل هذا الإنهاك البدني أيضا ما زال النوم يخاصمني، وملأني القلق من يوم غد هذا وأنا سأدخل عالمًا غريبًا وجديدًا عليَّ لأول مرة في حياتي، محام وقضية وعراك.. ما هذا الذي يحدث لي؟ فقررت أن أستمتع بالجلسة في البلكونة بعد نظافتها وتألقها عن سابق عهدها، وأسفل بيتنا الكبير ظلال شجرة الكافور العتيقة التي وضع بذرتها الأولى أبي منذ سنوات طويلة، وظلالها الوارفة بوريقاتها، التي يسقط بعضها على حواف البلكونة.. أبهجني رغم عدم اهتمام أحد بها خاصة بعد وفاة والدي، بدأت أنتعش بجلستي ونسمات مساء الصيف العليلة، غيرت من مزاجي المتعكر وروحي الحائرة إلى حد كبير، وكان الشارع يموج بالمارة، والمحال مفتوحة إلى ساعة متأخرة من الليل، والناس جالسون في جنبات شارعنا الكبير المتفرع إلى عدة حارات يلوكون ألسنتهم بالنميمة، ويحتسون المثلجات، ويقشرون اللب والفول

59

السوداني، يتسلون ويضحكون بتمرد وتحدٍ عما لاقوه من حرارة النهار مع نسمات الليالي الصيفية السمراء. ولأني في الطابق الخامس كنت أراهم أحجامًا صغيرة، ولغطهم لا يصلني إلّا أصوات مشوشة ومتلعثمة، فاستكنت في صمت وحزن أتأمل الفراغ، رافعة رأسي إلى السماء أبحث عن النجوم، ولمحت نورًا خافتًا للقمر بعد أن حجب الضباب جزءًا منه، فمللت صمتي والسماء، فاتكأت بيدي على سور البلكونة واضعة رأسي دون هدف، شاردة من يقظة عقلي وجسدي المنهك، حتى التقطت عيناي مشهدًا مثيرًا للتتبع على بعد أمتار قليلة من شجرة أبي الأصيلة، وقد بدأ المارة والجالسون على المصاطب يقلون ويعودون إلى منازلهم، خاصة بعد غلق المحال الثلاثة الموجودة في شارعنا غير سوبر ماركت العم حليم، الذي يظل مفتوحًا إلى قرب أذان الفجر، رغم أنه مسيحي، دققت النظر وفتحت عيني بعد أن نهضت من الكرسي وأدليت رأسي كالأطفال أنظر بإمعان حتى أيقنت أنه يوجد أكثر من خمس عشرة قطة تقريبًا أغلبها بيضاوات، وقليل منها بيضاوات بنقط سوداء، وقليل مائلة إلى اللون البني، وواحدة فقط سوداء سوادًا أجرب واضحًا من القذارة، وقد ساعدني العمود الكهربائي المضاء إلى جانب الشجرة، ولمبة البلكونة حتى تأكدت أنها منهمكة في تفان حول شيء ما.. بالطبع وليمة متخمة أثارت شهية الجميع فالتفوا حولها، أخذني الفضول بشدة لهذا المنظر العجيب، وطارت الفكرة داخل عقلي بطيش، نهضت فارتديت روبًا صيفيًا طويلاً بأكمام وطرحة خفيفة، وتسللت إلى الباب بعد أن تأكدت من نوم أمي وسيف في حضنها كالعادة، حتى وجدتني أقف وسط القطط وهي تلتف حول قدميَّ بلا مبالاة تمامًا وظلت منفعلة بحماسة في التهام أكبر قدر من بقايا أطعمة مختلفة وكثيرة ألقى بها أحد الجيران سخفا هكذا على بعد أمتار من شجرة أبي العظيمة، حتى بعد وقت ليس طويلاً نظرت إليَّ إحداها، وقد تباطأت في الأكل بين نظراتها لي بعينيها الخضراوين اللامعتين كالزجاج، حتى اتسعت حدقتا عينيها ورشقتني بسهام التساؤل عن وجودي وسطهن، بل ترددت في استكمال تناول طعامها، وحارت أتأكل أم تهرب أم تبقى مثل الأخريات المستغرقات في التهام بقايا الطعام، والتحدي مع قطتي أصبح واضحًا حتى انتبهت بعض القطط بعد الشبع لوجود أقدام غريبة وسطها، فهرب بعضها فورًا، وبقي البعض الآخر من منطق الجشع والطمع في استمرار تناول الوليمة عن آخرها كفرصة لا تعوض، في حين تسمرت قطتي وتوقفت عن الطعام نهائيًا وجلست بزاوية قائمة تنظر إليَّ بتحفز فأخفضت عيني وابتسمت استغرابًا من موقفها المتحدي لي هذا، دون القطط الأخرى التي أخذت الأمر ببساطة وهدوء ينم على مدى تعقلها في تناول أمور الحياة، ثم اضطررت أن أغادر مكاني بعد أن لمحني عم حليم البقال، وجاء بالخطوة السريعة منزعجًا ومتسائلاً:

ـ ما لك يا مدام وفاء واقفة عندك ليه، وإيه القطط دي؟ وأزاحها بقدمه بعنف، زاعقًا بصوت عالٍ يسب فيها حتى تفرق الجميع تعسفًا وفزعًا، حتى قطتي العنيدة ذهبت لتبحث عن وطن آخر مع أصدقائها وصديقاتها من قطط الشوارع.

 

 

 

60

 

 

 

عائشة من دارفور

 

كم هو مؤلم أن يقول لك الآخرون كونى قوية وليس لديهم أية فكرة عن صعوبة ما أمر به أو تحمله 0 بهذه العبارة المؤثرة التى تفوهت بها عائشة السودانية وكادت دموعها أن تنهار وهى تستحلفني أن أرحم ظروفها ، وأقف بجانبها ، ولكن كيف لي أن أساعدها ؟، فعائشة وافدة سودانية من دارفور ، وعند قيام هذه الحرب البشعة فى 2003 بسبب نزاعات قبلية وعرقية مات زوجها عام 2009 ، وأحرقوا كل شىء وبالكاد استطاعت أن تهرب بأولادها الثلاثة ، دونما أى أوراق أو أغراض ، ودخلت مصر عبر رحلة شاقة بمساعدة المفوضية فى مصر لها ، ولولا رحمة الله لماتت منها الأطفال الثلاثة المقيدون لدينا فى المرحلة الإبتدائية الصف الثالث ، الخامس ، السادس ،ظلت الأم المكلومة بغربتها وتشردها تكافح فعملت كل الأعمال المتاحة لها من خادمة فى المنازل ، لبائعة في المحلات ، لعاملة نظافة فى حضانة ، حتى أبدعت وتفننت فى فن التجميل وفرضت موهبتها فى أحد محلات الكوافير فى مدينة 6 أكتوبربمحافظة الجيزة خاصة صنع الوشم والتاتو والرسومات الغربية والبديعة للسيدات والفتيات بالحناء، على الكفين والبطن عند الصرة ، وكعوب القدمين ، وكل مكان يرغبن فيه حتى الأماكن الحساسة والمثيرة في المرأة ، و بمهارتها وإخلاصها ذاع صيتها فى العمل في مدينة 6 أكتوبركاملا لمدة خمس سنوات حتى استطاعت أن تعمل فى سنتر كبير فى وسط البلد فى محافظة القاهرة ، ومن ثم نقلت السكن ، وأصبح لزامًا نقل أطفالها الثلاثة إلى مدارس قريبة من العمل والسكن الجديدين ، تربت على يدي تستجديني :

ألا تساعدينى يا أستاذة أسحب الملفات

لكن يا عائشة لابد من شهادة وفاة الأب ، حتى تستطيع الأم حيازة سحب الملفات لنقلهم إلى مدارس أخرى

انهارت أخيرًا وبكت بكاءً مريرًا وهى تقول :

ـ ياربى كيف تصدقونى يا ناس ارحموني ألا تعلمون ماهي الحرب ارجوكم ارحموني الحرب قتلت زوجي ، وأحرقت الأوراق ، وهدمت بيوتنا وشردتنا وفرقتنا عن أهلنا وأحبابنا ووطننا وبالكاد أنقذنا أرواحنا وأرواح أطفالنا .

 

 

61

خيال عن وطن مغاير

 

تثاءب يوسف ممددًا على سريره بثنايا النوم الذي ما زال عالقًا بجفنيه، وأنا أناديه مرارًا :

  • انهض يا يوسف من فضلك، تأخرنا عن موعدنا للذهاب إلى النادي، يا كسول.. انهض.. انهض.

استند إلى السرير وما زال يغالب النعاس في عينيه وقال بحماسة مفاجئة:

  • ماما ، أين هو القمر؟

قلت: نعم؟! القمر في السماء يا حبيبي.. لما

  • كنت هناك مع كائنات غريبة الشكل.
  • هذا حلم يا يوسف.
  • وإن كان حلمًا يا أمي.. أريد أن أعيش هناك.
  • هيا أخبرني.. عن الحلم.

_ يقظتي المفاجئة أنستني ملامح المكان.. لكني أتذكر تلك الكائنات.

  • ولا يهمك يا حبيبي، أخبرك أولاً أين القمر؟.. القمر قرص مستدير يشع نورًا في الليل وسط ظلمات السماء.. كأننا في استاد رياضي كبير واسع جدًّا وفي أعلاه يقف القمر منيرًا وضاحًا كالبدر الجميل.

أكمل يوسف وقد استعاد وعيه وتشغيل الحواس الخمس من جديد:

ـ ونحن نلف حول مَن؟ القمر أم الشمس؟

  • نحن نسكن على كوكب الأرض، ومثل كل الكواكب الأخرى نلف حول نجمتنا الأم الشمس.
  • كيف يحدث هذا يا أمي؟

صمت فجأة وانتابني جهل جغرافي، وإن كان في الحقيقة موجودًا منذ بداية الحوار بيننا، إلا أن يوسف ضحك عاليًا وقفز من سريره بهمة ونشاط وسحبني من يديَّ وأوقفني في وسط الحجرة ولف حولي عدة لفات، هكذا صح يا أمي، نحن كوكب الأرض نلف حول الشمس، فأنت مثل الشمس عندي، وسألف حولك. وقهقهت بعدة ضحكات، واحتضنته وقبلته بقوة، ونهرته بلطف قائلة:

62

  • امشي يا شقي واستعد.. تأخرت عن ميعاد التدريب في النادي يا ولد. وغادرته والإبتسامة لا تفارقني، وهززت رأسي تعجبًا من خيال طفلي الذي لا يتجاوز العاشرة، وخاطبت نفسي بصوت واضح أنظر بإعجاب في أمنية طفلي: والله فكرة رائعة أن نصعد معًا إلى القمر يا يوسف ونسكن هناك بعيدًا عن تلك الأرض المعذبة بناسها البؤساء.. وعدت أبتسم مرة أخرى.

 

تمت

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

63

 

 

سيرة ذاتية للكاتبة هدى توفيق

 

الإسم بالكامل: هدى حسن عباس توفيق

اسم الشهرة: هدى توفيق

من مواليد محافظة بني سويفمصر

ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية – جامعة القاهرة

مدير تحرير سلسلة (كتابات جديدة) الهيئة المصرية العامة للكتاب سابقا.

عضو عامل باتحاد الكتاب _مصر

صدر لها:

1- مجموعة قصصية (أنا تصير رجلا) عن هيئة قصور الثقافة المصرية عام2007

2- مجموعة قصصية (عن عاقر وأحول) عن مركز الحضارة العربية عام 2007

3- مجموعة قصصية (كهف البطء) عن دار نشر (الدار) عام 2008

4- مجموعة قصصية (مذاق الدهشة) عن دار نشر (شرقيات) عام 2010

5- رواية (بيوت بيضاء) عن دار نشر (كيان) 2( طبعة ) عام 2011-2012طبعة ثالثة عن دار نشر روافد2016

6- مجموعة قصصية (الأمنية الأخيرة) طبعة محدودة عن مطبوعات (ورشة الزيتون) عام 2012

7 ـ مجموعة قصصية )سلامتك ياراسي ( عن دار نشر (المحروسة ) عام 2015

8ـ رواية )المريض العربي( عن دار نشر (روافد) عام 2015

9-مجموعة قصصية )عدوى المرح( عن دار نشر (الأدهم) عام 2015

10_ متتالية قصصية ( رسائل لم تعد تكتب ) عن دار نشر (الأدهم ) عام 2016

11_ رؤى ثقافية (مصر للقراءة والمعرفة ) عن دار نشر يسطرون للطباعة والنشر عام 2016

12_ قراءات ابداعية وفكرية في القصة والرواية المصرية (الهيئة العامة لقصور الثقافة ) عام 2016

13_ مجموعة قصصية بعنوان (حذاء سيلفانا ) عن دار (نشر كتبي ) للطباعة والنشر عام 2017

64

14_ مجموعة قصصية بعنوان (الوجه الآخر للوحدة ) عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2017

15_ مختارات قصصية بعنوان (الرقص على البحر) عن دار نشر يسطرون للطباعة والنشر عام 2017

16_ كتاب (اقتحام الخلوة ) عن الدكتور الناقد (عبد المنعم تليمة ) عن دار نشر يسطرون عام 2018

تم نشر العديد من المقالات النقدية والقصص القصيرة في المجلات والصحف المصرية والعربية وترجمة بعض القصص

الجوائز :

جائزة القصة القصيرة عن أدب الحرب عام 1998من مجلة النصر (مصر )

جائزة القصة القصيرة من أخبار الأدب عام 1999 على مستوى الوطن العربى

حائزة القصة القصيرة من نادى القصة عام 2003(مصر )

جائزة المركز الأول عن )رواية بيوت بيضاء (تحت اشراف الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2012

جائزة النشر الإقليمي عن كتاب قراءات ابداعية وفكرية الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2016

البريد الإلكتروني :hudausef@gmail.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

65

أضف تعليق