بلاد الجنون العظيم – رواية وقصص أخرى – الحسين سليم حسن

لتحميل الكتاب :
https://www.4shared.com/web/preview/pdf/uwNMDTDXiq?
أو :
https://en.calameo.com/read/005270298ec9a72278f2b

لقراءة الكتاب أون لاين :
تابع للأسفل

الحسين سليم حسن*

( بلاد الجنون العظيم ) *

قصص*

بلاد الجنون العظيم

المؤلف : الحسين سليم حسن

نوع العمل : قصص

رقم التسلسل : 88-

2021-الطبعة الأولىآذار

تصميم الغلاف : ريبر هبون

تنسيق الكتاب وتدقيقه : المؤلف نفسه

دار تجمع المعرفيين الأحرار الالكتروني

واتس : 004915750867809-

بريد الكتروني

reber1987@hotmail.com

reber.hebun@gmail.com

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

بلاد الجنون العظيم

الحسين سليم حسن

القصة الأولى

(( حرب رشيدة ))

الفصل الأول

الثلج

-1-

طوال الأسبوع المنصرم انشغلت عائلة المحامي والأستاذ الجامعي الذائع الصيت والشهرة ( عبد الرحمن السليمان )بالاستعداد النفسي لانتخابات مجلس الشعب التي كان من المقرر إقامتها في الأيام القريبة التالية بعد أن أقدم رب الأسرة على الترشح لها .

وعلى الرغم من موقف ابنته رشيدة المعارض لقرار والدها إلا أنها كعادتها استيقظت في اليوم الذي يسبق الانتخابات بيومين لتجهيز والدها من أجل الذهاب إلى عمله ،وكانت تداوم على فعل ذلك منذ عودتها من بيت جدها والد أمها المطلقة بعد أن أتمت الخامسة عشرة واختارت العيش مع والدها والانفصال عن والدتها التي تطلقت ذات يوم من والدها وفرت إلى منزل عائلتها مصطحبة رشيدة و شقيقها (وسام ) إلى منزل أهلها في الريف المعدم والبسيط حيث عاشت رشيدة أسوأ أيام حياتها مع والدتها الأمية التي كانت تنحدر من عائلة بعقول تؤمن بطرد الأمراض عن طريق الشعوذة و إلوسائل المتنوعة لطرد الحسد والتي قادت ذات يوم إلى اهمال مرض رشيدة عندما أصيبت باليرقان في طفولتها وفضلت الأم العلاج الروحي واصطحابها إلى المزارات بدلاً من السفر إلى المدينة لتلقي العلاج في المستشفى .

لذا لم تتوانى رشيدة عن العودة إلى والدها بعد بلوغها السن القانونية ونذرت سنوات مراهقتها في خدمته وواظبت على تطوير معارفها وثقافتها كي تحقق رغبته في دراسة الإعلام وولوج عالم الصحافة والسياسة لتحقق مالم يستطع تحقيقه فيما يخص مشروعه السياسي الليبرالي الذي اصطدم بالجهل والرجعية والكبت الذي امتلأ بها زمانه ،إلا أنه كان متفائلاً بجيل رشيدة الذي كان في رأيه يملك كل المقومات والوعي بتجارب من سبقهم وخصوصاً ابنته رشيدة التي لم تفترق عنه يوماً في مجالسه مع أصدقائه العلمانيين من أطباء وكتاب وناشطين سياسيين .

إلا أن ما كان ينغصه هو ابتعاد شقيقها (وسام ) عنه والذي فضل البقاء مع والدته لحمايتها في الريف بعد أن قضت والدته طوال السنوات وقتها في جعله رجلها الذي سيحميها من أولاد الحرام ومن أحقاد أفراد عائلتها وغيرتهم كما كانت تردد على مسامعه ومسامع رشيدة منذ الصغر ،والذي جعل من رشيدة تنشأ غريبة عن والدتها وأخيها ،فلم تحتمل يوماً طباع والدتها وأفكارها المتخلفة الرجعية وإصرارها عليها ،ولما عادت إلى والدها في يوم ربيعي جاء فيه الوالد منتصراً في قضية ،و فاجأته بقدومها شعرت بأن مكانها الملائم هو إلى جانبه ،إلى جانب هذا الرجل الأنيق الذي ما إن يتكلم معها ويناقشها يتسلل الشعور بالأمان والطمأنينة إلى قلبها ،والذي مع مرور الزمن اكتشفت معه شخصيتها وتفردها ،وماتحب وماتكره ،وتعلمت معه قول رأيها وتحمل مسؤوليته ، والتقدم إثر كل فشل .

وفي ذلك اليوم الذي يسبق الانتخابات بيومين ،كان على عاتق رشيدة الكثير من المسؤوليات فيما يتعلق بالحملة الدعائية ووضع شكل مختصر و نهائي لمشروع والدها السياسي والقضايا التي سيتبناها كحرية الملكية لكن مع دمجها في العدالة الاجتماعية و العلمانية وضمان حقوق الأقليات على كافة المستويات الدينية والجنسية والعرقية وحتى الثقافية،والتي كانت مواضيعاً جديدة الطرح في أوائل القرن الواحد والعشرين في بلد كسوريا .

وبعد أن تناول الوالد وجبة الإفطارالمؤلفة من العسل والنسكافيه بلاك وبسكويت الشوفان الخاص بالريجيم ومرضى السكري و التي حضرتها له رشيدة كالعادة كما أضافت له في ذلك اليوم كأساً أذابت فيه حبة من فيتامين ث الفوار،بعد ذلك وبينما كان الوالد ينتقي ربطة عنقه من ضمن مجموعة من ربطات العنق التي انتقاها ورشيدة معاً من شارع الحمرا في بيروت عندما زاراها الصيف الماضي لقضاء العطلة ،جاء أحد طلابه في الكلية والذي كان يكمل دراسة الماجستير في الحقوق بعد أن حصل سابقاً على البكالوريوس من الجامعة الأميركية في بيروت ،وكان ذلك الشاب الجميل المحيا البهي الطلعة يدعى (سالم الحميد ) وكانت المرة الأولى التي يزور فيها والد رشيدة في منزله ويقابل رشيدة التي فتحت له الباب واستقبلته ريثما يخرج والدها من غرفته ، ورأت في ذلك المتعرق دوماً والذي يمسح جبينه بمنديله دوماً ، إنساناً يصلح صديقاً ، لكنه مناقش قوي وند شرس في الدفاع عن أفكاره ،فما إن جلسا في غرفة الضيوف على الأرائك القديمة والتي يقوم والدها بتنجيدها كل فترة ليحافظ على إرث والديه له ،حتى شرع يحدثها عن تجربته في الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن أرسلته عائلته الميسورة الحال إليها ، وكيف انضم إلى الشيوعيين في لبنان وتوجب عليه بعدها إخفاء هذا الانتماء بعد عودته عن عائلته الصوفية المحافظة في إحدى قرى الساحل السوري ،والتي كانت منسجمة للغاية مع السلطة والرؤية السياسية السائدة ،ولم تكن مستعدة لزعزعة اطمئنانها الذي تتنعم فيه ،الشيء الذي دفع برشيدة لسؤاله عن مدى توافق مشروع والدها السياسي مع رؤيته الشيوعية ،عندها تنحنح مبدلاً جلسته على نحو شديد التهذيب أثار إعجاب رشيدة للغاية ودفعها تبتسم بخفية .بينما راح هو يشرح لها عن موقفه المعارض لليبراللية التي يعتبرها فوضى تقود بالعالم نحو الأسوأ ،وأنه لا بد من نظام شمولي يحكم العالم للوصول به نحو بر الأمان ،إلى الطوباوية المطلقة .

عندها تبدلت ملامح رشيدة نحو الدهشة وتمتمت بعد أن طأطأت برأسها نحو الأسفل محدقة بفنجان القهوة 😦ولكن لايمكن تطبيق نظام شمولي على بلدان ومجتمعات متباينة في الظروف والأفكار والعادات والثقافات) .

وعندما تنحنح لكي يرد عليها دخل والدها مقاطعاً الحديث ،مردداً وهويبتسم :

(هاقد جاء الراديكالي المشاكس ،قاهر قلوب العذارى )

عندها نهض سالم من جلسته على نحولائق للغاية قائلاً وهويقهقه :

(لا بد من قليل من الراديكالية ،فالتغيير الشديد السلمية زائف )

ثم التفت نحو رشيدة وسألها : (هل أنا غير محق أيتها الآنسة ؟)

ضحكت رشيدة دون أن تنطق ببنت شفة .

غادر بعدها والدها برفقة المحامي الشاب إلى الجامعة ،بينما خرجت رشيدة بفستانها الأحمر المنقوش بصور الورود إلى الشرفة مصطحبة معها صينية القهوة الصباحية ،وجلست إلى جانب الصبارة الضخمة التي كانت نبتتها المفضلة ،وراحت تعود بذاكرتها إلى تلك الأيام التي قضتها في الريف وهي تحلم بالعودة إلى أبيها ،فمنذ اللحظة التي تركته فيها في صغرها شعرت بنوع من الضعف المقزز الذي أصبح فيما بعد ضعفاً مزمناً ،جعلها تعيش غريبة عن والدتها وأخيها ،ولم تهتم يوماً لمعرفة فيما إذا كان السبب في هذا الاغتراب نابع من داخلها أو من والدتها التي لربما حاولت في البداية احتضانها وجعلها فتاة صالحة من منظورها الشخصي ،إلا أن تلك الفتاة الصامتة الغير متطلبة عاشت غريبة عنها ، تكرر الأحداث والتفاصيل التي عاشتها مع والدها في عقلها ،وتحاول في كل مرة تفسير جمله التي كانت تحفظها عن ظهر قلب دون أن تعي معناها ،بينما نشأ شقيقها الأصغر وسام كما ارادت له والدته أن ينشأ ،وجعلت منه نموذج الرجل القوي الصبور والمتكامل والذي يصلح للتباهي به أمام الناس بما يملكه من قوة ودين وأخلاق ورجولة ،إلى أن أوصلته إلى بر الأمان الذي تظنه بعد أن انتسب إلى الكلية الحربية ، الأمر الذي سيمنحه السلطة ومزيداً من القوة ،ويضمن له المكانة اللائقة بين الناس إلى جانب مكانته التي حظي بها في تقربه من شيخ القرية ، أما بالنسبة لرشيدة فكانت بمثابة فشلها الذي تتناساه دوماً ،لكي لاينغص عليها متعة انتصارها أمام أفراد قريتها بعد أن فشلت أمامهم قديماً في تجربة زواجها من ذلك المحامي والذي تمكنت من الزواج به بعد أن تعرفت عليه عندما استلم قضية إعادة ميراثها المغتصب من قبل أقربائها ،وخسرت القضية التي كانت قضيته الأولى في شبابه ،وصارت تنتظر بلوغ رشيدة السن القانوني لكي ترسلها لوالدها قبل أن يكتشف أعداؤها في القرية غربة تلك الفتاة عنها .

ومنذ اليوم الذي وصلت فيه رشيدة إلى منزل الأب كانت تداوم على الجلوس كل فترة إلى الشرفة تستعيد ذكرياتها وترتب أولوياتها وتؤكد على نفسها تحقيق ما ترنو إليه .

وفي هذا اليوم فكرت أيضاً بذلك الشاب (سالم الحميد ) و أفكاره الغريبة ،وقادها فضولها إلى التوجه نحو مكتبة والدها لقراءة البيان الشيوعي من جديد ،إلا أن صوت رنين الهاتف قاطعها فجأة ،وكانت صديقتها (جيانا) تتحدث عبره كعادتها في كل يوم عطلة ،تتصل برشيدة وتنسقان معاً مشروع لقاء بينهما في أحد المقاهي أو في منزل إحداهما .

كانت جيانا تدرس الإعلام أيضاً ،لكنها كانت مختلفة كلياً عن رشيدة ،فهي تنحدر من عائلة مسيحية محافظة تعرفت على رشيدة عن طريق خطيبها (جورج )الذي أعطى رشيدة دروساً خصوصية في اللغة العربية عندما كانت تتقدم للشهادة الثانوية ،وقرأ لها ذات يوم قصيدة كان قد كتبها لخطيبته جيانا ،فرغبت حينها رشيدة بالتعرف إلى تلك الخطيبة ،وهكذا أصبحا صديقتين .

وفي هذا اليوم دعتها رشيدة لقضاء اليوم معها في منزلها ،لكي تسليها وهي تقوم بطباعة البروشورات الدعائية لمشروع والدها السياسي كي توزع على طلابه في الجامعة في اليوم التالي الذي يسبق موعد الانتخابات بيوم .

وبعد أن قدمت جيانا إليها أمضت معها فترة ماقبل الظهر بكاملها وهي تسرد لها قصصاً ونهفات جامعية كي تضحكها كعادتها ،فرشيدة وعلى الرغم من وجودها إلى جانب والدها كما حلمت دوماً ،كان ثمة حزن وقلق ما في عينيها، أوربما خوفٌ من فقدان الكل والعودة إلى العدم ،فقدان الواقع والعودة إلى الحلم والغربة عن العالم .

كان هذا الحزن والقلق يجعلها متوترة في أغلب الأوقات ،ولا شي كان يخفف عنها هذا التوتر سوى أمرين ، وجود جيانا بقربها ،والتي كانت تعلم بأنها العلاقة الطبيعية الوحيدة التي تذكرها بكونها إنسانة طبيعية كمثل كل الناس ،وكانت تلك العلاقة هي العلاقة الوحيدة التي لم يتحتم عليها أن تنظر إليها لا بتعظيم أوتحقير مبتذلين ،فهي بقدر ماكانت تعظم والدها بقدر ما كانت تحتقر والدتها وحياتها السابقة ولم تكن تجرؤ على الاعتراف حتى لنفسها بذلك الاحتقار،فهي لطالما احتقرت عائلة والدتها وأفكارهم الجاهلة وأوهامهم والمعايير الصارمة التي يعتمدونها في تقييم الناس ،كما كرهت عنصريتهم وكرههم للطوائف الأخرى ووصفهم إياهم بالأنجاس .

فهي وبما أنها كانت على ثقة دوماً بأن المنطق الذي نعتمده في فهم العالم والحياة هو ما يحدد شكل مصائرنا ،كانت تحاول العيش دوماً بمعزل عنهم كي تكون فهمها الخاص الذي سيقودها نحو شكل أفضل من أشكال الحياة البعيد كلياً عن طقوسهم وفلسفتهم ومنطقهم المحدود .

وعندما حدثت صديقتها جيانا عن هذا طوال فترة جلوسهما معاً ،استغربت جيانا بشدة ،وحتى أنها خافت بداية من أن تكون رشيدة تحمل مثل هذه الأفكار وشغلها عن هذا التفكير اتصال فجائي قاطع عمل رشيدة في طباعة البروشورات .

وكان المتحدث عبر سماعة الهاتف (سالم الحميد ) تلميذ والدها وكان يحمل لها خبراً سيئاً ،خبر نقل والدها إلى المستشفى إثر إصابته بنوبة قلبية أثناء تأدية عمله في الجامعة .

-2-

مر اليوم المخصص لإقامة انتخابات مجلس الشعب دون أي يحرك ساكناً في منزل المحامي (عبد الرحمن السليمان ) الذي قضى ذلك اليوم سطيحاً في الفراش منتظراً ابنته رشيدة لكي تأتي له بخبر عن النتائج ،وذلك بعد أن أمره الطبيب بالالتزام التام في الفراش .

أما رشيدة التي قضت اليومين السابقين في المستشفى بقربه إلى جانب (سالم الحميد )كان عليها اليوم وبرفقة سالم التنقل بين المراكز الانتخابية لمراقبة سير عملية الاقتراع .

وعندما عادا مساءً وأخبرا والدها بالنتيجة المعروفة مسبقاً ،ألا وهي الخسارة ،لاحظا الخيبة واضحةً على وجهه وتفاجآ لذلك لأن النتيجة كانت محتومة تماماً بالنسبة لهما ،لذا غادرا صامتين الغرفة التي يشغلها ليتركاه مع صمته و دموعه العصية على الذرف .

وجلسا في الصالون يتحدثان قليلاً عن رأيهم في هذه الانتخابات :

(كان من الواضح أن برنامجه الليبرالي لن يفهم ولن يحظى بالأصوات الكافية ،فلم صدم هكذا ؟)

تساءل سالم .

أجابته رشيدة بعد أن تنهدت بعمق :

(للمرة الأولى أراه هكذا بكل هذا الاستسلام ،أنا حقاً خائفة جداً عليه ).

عندها نادى عليها وطلب منها أن تدخل لوحدها إلى غرفته ،ثم أمرها أن تتصل بشقيقها (وسام )و تطلب منه المجيء لرؤيته .ثم أردف قائلاً : ( العمر قصير ،ولا يعلم المرء متى يأتي أجله ،ثمة أمور يجب إنهاؤها )

ولأول مرة وجف قلب رشيدة ذعراً امام شخص والدها ، وراودتها شكوك جديدة عليها وتساءلت في سرها فيما لوكانت ثقة والدها بها مجرد وهم لا أكثر ، وهذا ما أرعبها بشدة أن تعود للأوهام التي اختارتها كطريقة في العيش في الماضي .

وعندما خرجت لسالم مرة أخرى ،طلبت منه البقاء لساعة أخرى لاحتساء الشاي والتحدث قليلاً.

ثم اسرت له عن مخاوفها من ردة فعل والدها ،ثم تمتمت وهي ترتجف :

(سوف يستسلم .. أشعر بذلك ،وسيكون علي بعد فترة أن أعيش تحت جناح أخي الكبير ..)

وللمرة الأولى بدا لسالم وحدة رشيدة وربما غربتها بالرغم من إظهارها للعكس ،و أحس بأنها مخذولة وأن هذا الخذلان يفصمها عن الواقع .

لذا اقترح عليها أن تخرج برفقته إلى مقهى ما ،حيث سيلتقي هناك بصديقته (داليا ) الطبيبة ذات الشخصية القوية والتي تعجب شيوعيا يميل إلى الراديكالية مثله .

وقبلت رشيدة تلك الدعوة منه رغبة منها في إشغال نفسها عن واقع سيغدو محتوماً عليها تقبله على نحو سريع ومؤلم .

(أنا رشيدة من تتكلم )…

في المقهى لم أنجذب مطلقاً لداليا صديقة سالم ،كان كل مافيها يبرق ،واستفزني أسلوبها الجريء في الكلام وصوتها الحاد وضحكتها الحرة ،وحديثها المليء بالأرقام والألفاظ البذيئة التي تخرج من فمها خلف ضباب دخان النارجيلة .

أعادني ذلك إلى ضعفي وعزز حزني الداخلي ،وأحسست بأن قوتي وطموحي وكل تلك الأمور التي ظننت أنني ملكتها عندما عشت بجانب والدي أصبحت غير ذات نفع ،وعزز هذا الشعور انشغال سالم عني والذي كنت أتأمله وهو يضحك من كل قلبه وشعرت برغبة عميقة في تقبيله أمام تلك ال (داليا )التي تمنيت أن يلسعها ثعبان في تلك اللحظة !

تحججت بأنني مرهقة من اليوم الطويل للانتخابات ،ورفض سالم أن أعود بمفردي للمنزل ،فرافقني .

مشينا في شوارع مدينتي اللاذقية التي لم أكن أعرفها جيداً من قبل ،فعندما قدمت إلى تلك المدينة كنت أجدها فقط منزل والدي ،هذا كل ماكان يعنيني فيها .

اصطحبني سالم معه في أزقة وشوارع ضيقة في حي الأميركان ،وأثارت في القدامة نشوة لذيذة ،وأخرجتني قليلاً من قوقعة تخبطي .

حدثني قليلاً عن علاقته بداليا ،وكيف فرت مع رجل ثري آخر لما كانا مرتبطين في الماضي ،ولما عادت متطلقة مع ثروة طائلة ،طلبت نادمة أن تعود إليه فوافق على أن يعودا كصديقين فقط .

كان هذا مثيراً للسخرية بالنسبة لي لكنني لم أبح له بذلك .

عندما كنت صغيرة ،كنت أنصت لمدائح والدتي عن تلك الفتيات القرويات اللواتي نجحن في اصطياد رجال أثرياء ،ثم أنسحب من المجلس الذي يدار الحديث فيه وأركض بكل طاقتي لاهثة ً راغبة في أن أصطدم بشيء ما يثبت تشتتي الذي سببه كلام والدتي ثم أنزوي في ركن هادئ من الحقل المجاور لمنزل عائلتها ،وأحدق في شيء ما من الطبيعة حولي ،أو أعبث بزهرة أو حفنة من تراب .

ثم ما أذكره أنني شيئاً فشيئاً بدأت أمقت أولئك الفتيات لمجرد أنالحديث عنهن مضجر للغاية ،وما أذكره أيضاً أنني كنت لا أحترمهن بالرغم من عدم معرفتي بهن و حتى أنني كنت أحتقرهن .

لاحظ سالم علي عدم استلطافي لصديقته ،وفرحت لذلك .كان ثمة ما يشدني إليه و منحني احساسه بارتباكي تعويضاً عما خسرته من ثقة في ذلك اليوم إبان قرار والدي الصادم .

اقترح علي مرافقته لنتمشى قليلاً على رصيف الكورنيش الجنوبي ،فوافقت .

حمل هواء البحر الساخن إلي طمأنينة لذيذة ،ودعم ذلك الشعور حديث سالم عن ضرورة ابتعاده عن تلك المرأة ،و وصفها بأنها غير جديرة بالثقة .

تناولنا عرانيس الذرة المسلوقة ،وحدثني قليلاً عن ماضيه الشيوعي في بيروت ،لكننا لم نخض في نقاش كالذي خضنا فيه في لحظة تعارفنا الأولى .

كنا مثل طفلين يرغبان في عيش اللحظة دون أن تقحم الأفكار التي كدستها الحياة في عقولنا نفسها بيننا .

وانتهى هذا اليوم ونحن عائدين مبتسمين تملؤنا نشوة ماقد يسمى الحب ،وبعد أن أوصلني للمنزل ،تناولت كوباً من الأعشاب المهدئة وتوجهت بعدها لرمي البروشورات الدعائية الخاصة بالحملة الانتخابية الخاصة بوالدي في القمامة ،ثم رقدت في سريري وزارني هذه المرة حلم جديد ومختلف .

من صباح الغد ،انشغل منزلنا بخبر قدوم والدتي برفقة شقيقي وسام ،طلبت من والدي أن يحضر خدماً لاستقبالهم ،وأظهرت له وللمرة الأولى عدم اكتراثي بأمر يثير اهتمامه ،ثم جهزت نفسي ووضعت الميك أب وخرجت دون تناول الفطور معه .

شعرت بأنني كنت وقحة للغاية معه ،ولكن وقاحتي هذه عكست مدى خيبتي ورفضي التام لأي شخص قد يقاسمه حبي ،فماذا لو كان هذا الشخص من ماضي الذي أمقته ،والذي لجأت أصلاً إلى والدي للهرب منه .

ركبت سيارة والدي وتوجهت للتسوق ، وزرت للمرة الأولى محلات الاكسسوارات الأوروبية المنتشرة في حي الأميركان ،ثم اتصلت بسالم وطلبت منه أن نلتقي لتناول الغداء في مطعم الفيو على الكورنيش الجنوبي .

عندما جاء سالم اقترح علي تغيير وجهتنا والجلوس في حديقة ما ،توجهنا إلى حديقة المارتقلا التي كان والدي يحدثني عن بقائه المستمر فيها وحيداً في فترة دراسته الجامعية ليوم كامل ربما يقضيها في القراءة أو الكتابة .

اشترينا سندويشات الفلافل برغبة مني ،وولجنا الحديقة بعد أن دخلنا في نقاش عما إذا كان تطبيق الليبرالية في سوريا وهماً أو حقيقة .

بدا على سالم تطرفه الشديد فيما يخص موقفه من التنوع ،إلى الدرجة التي تجعد معها جبينه وقطب حاجبيه وهو يشرح لي أن الفوضى التي يعيشها العالم يمكن السيطرة عليها بنظام شمولي يحدد معايير الصحيح والخاطئ من منظور وجودي وبعيد كلياً عن المعايير التي تضعها الأديان مثلاً.

رافق العبوس وجهه بعد ذلك ،حتى اننا لم نتكلم سوى بضعة كلمات في طريق العودة ،ورغم هذا كله كانت تنتابني رغبة عميقة في أن يقول شيئاً يحدد من خلاله شكل علاقتنا التي تطورت بسرعة وعلى نحو جميل ودافئ على الأقل بالنسبة لي .

-3-

ما أخبأ في قلبي من كراهية تجاه والدتي وبيئتها المقيتة يتعبني ،كما يرهقني ذاك الشعور بأنني أقضي أيامي وأنا أعبث فقط ،أعلن تمردي الناعم على والدي تارة ،وتارة أركض خلف سالم وكأنني أبحث عن أمان آخر ،أو ربما عن مفتاح جديد أفتح فيه باباً مغلقاً من أبواب ذاتي المغلقة ،لأعثر على نقطة قوة جديدة تحول دون انكساري .

وهكذا تستمر الأيام وأنا متعبة ،أنظرإلى والدي ويزعجني حزنه واستسلامه ،والذي دفعه إلى توزيع ورثته علي وأخي ،واحتضان أخي بقربه ليعوضه عن سنوات البعد بينهما .

كنت أتجنب البقاء طويلاً ضمن هذه المعمعة ،خصوصاً عند وجود والدتي ولا مبالاتها المستفزة ،وأحاديثها البسيطة الساذجة و أنسحب متقززة عندما تبدأ بسرد بطولات أخي واصطداماته مع أهالي القرية المخالفين للقوانين مهما كانت تافهة وصغيرة ،أو عندما تسهب في حديثها عن ضرورة تزويجه و الفرح بأبناء له .

يتوتر والدي لانسحابي وينادي علي متوسلاً بقائي ،أتحجج بأنني على موعد مع جيانا صديقتي ،وأهرول إلى الخارج مجتازة نظرات شقيقي المندهشة والبلهاء .

أسارع بعدها للقاء سالم في حديقة ما ،أو في مقهى أو في أحد المراكز الثقافية التي يداوم على الارتياد عليها ،نشاهد فيلماً أو مسرحية.

كان سالم يصر دوماً على نعت الثقافة السائدة في البلاد بالثقافة المنحدرة ،ويؤكد على أن سبب ذلك هو إصرار دولتنا على أن تبقى دولة محافظة .

كان تمسكه بشيوعيته يثير إعجابي تارة وتارة كنت ألتمس المبالغة والتطرف الغير مبرر في أقواله ،بالرغم من انك لو تأملته قليلاً ستؤكد لك بنيته القوية وجسده المشدود والصحي بأنه قادم من وسط عائلة برجوازية وربما محافظة متشددة .

طلبت منه ذات مرة أن يحدثني عن عائلته فأخبرني أنهم ريفيو الطباع والعادات ،النسوة منهن قويات البنية تماماً كالرجال ،وأن الرجال محافظون وهادئون ملتزمون بشرائعهم الدينية والإخلاص للطائفة .

قال عبارته الأخيرة وهو يبتسم ساخراً ،وراح يخبرني بعدها عن مشاجراته المستمرة مع أفراد عائلته المتدينين ،أو أولئك الأثرياء منهم الذين لا يملكون ما يعول عليه سوى المال والذين انساقوا خلف وحش العولمة كما عبر بعماوة حتى أصبحوا يفخرون باقتناء أنواع أسلحة الصيد أكثر من افتخارهم بطائفتهم التي يقدسونها .

كانت الخيبة المشوبة بابتساماته الساخرة واضحة ،وحتى أحياناً كانت تبدو لي مزيجاً من الغضب والتقزز الذي يشبه ما يعتريني تجاه والدتي وعائلتها ،

لذا عندما كنت أراه في مثل هذه الحالة ،أسحبه من يده وأصحبه لتناول البيتزا التي يعشقها في مطعم نابولي ،ثم نرتاد إحدى المقاهي ليحدثني عن الكتب التي قرأها في بيروت وعن شوارعها الغربية الحزينة أو عن حداثة قسمها الشرقي الشرسة الذي يمقته كما يمقت منطقة الزراعة ويرفض دوماً اقتراحاتي عليه بالذهاب إليها والتجول قليلاً.

ويردف بأنه يكره بأن يكون محاطاً بمجموعة من الغارقين في وهم جمع المال والذين لايملكون هدفاً أخر من جمع المال سوى مزيداً من المال ! وأنه لايثق حتى في أكثر المهن التي تدار هنا إنسانية بما فيها الصيدليات والأطباء وأن كثيراً من حالات الوفيات تسجل نتيجة لأخطاء الأطباء أو الصيادلة الذين يصرفون أدوية خاطئة لمجرد مثلا ً أنها أغلى ثمناً ،كان يضحك عندما يسهب في شرح هذا ويقول : (تخيلي أنه هناك قتلة حرين طليقين في صيدلياتنا وعياداتنا ،مهزلة !).

وأحياناً كان يحدثني عن تفاهة تلك النسوة اللواتي تدمرن أنفسهن في سبيل الهوس بعمليات التجميل وحقن البوتوكس وتكبير الصدر إلى حد الجنون احياناً .

كنت أكتفي بالصمت حينما يتكلم في مثل هذه الأمور ،رغم أنني في الغالب كنت أملك رأياً آخر ،وأتأمل تقاطيع وجهه الجدية ،وأبتسم دون أن يراني ،وتنتابني رغبة في احتضانه .

فمعه فقط عادت لي تلك المشاعر القديمة التي انطفأت منذ أحببت للمرة الأولى ابن المختار في قرية والدتي ،وحضنا بعضنا لمرتين فقط ،ثم جاء بعدها إلي وصرخ في وجهي أنني عاهرة وغادر إلى الأبد !

ولم يتأخر سالم في تلبية رغبتي ،لما سارع وتقدم إلى خطبتي من والدي وأخي ،وتزوجنا في غضون شهرين بناء على طلبي ،وذلك لأهرب مجدداً ربما من واقع قد يفرض علي فرضاً .

-4-

تنتابني رغبة في اختراع لغة جديدة ،لأتمكن من خلالها من التعبير عما يكتسحني من مشاعر وانفعالات متداخلة ،يتكوم لبرهة كل الغضب واليأس والخذلان الذي يبعثه في نفسي قرع الطناجر وشجارالنسوة وبقايا حروف مترسبة في أذني من نقاشات مسائية لاجدوى منها افتعلها زوجي سالم مع أقربائه من الرجال الذين فرغت عقولهم تماماً وأصبحت محشوة بالأرقام والخبرات البسيطة التي تتطلبها الحياة اليومية ،وبقايا ومضات مشتتة للمعان فساتين وأحذية ذات كعوب عالية وعدسات طبية ملونة وأسنان اصطناعية ذهبية براقة .

كان هذا هو عالم عائلة سالم ،في منزله الريفي حيث انتقلنا إليه للعيش هناك مؤقتاً ريثما يتسنى لسالم تجهيز منزله في اللاذقية ،عالم من الضجيج الذي لايذكرني سوى بعائلة والدتي ،ولوأن الرجال في هذه العائلة كانوا متعلمين وهذا مايميزهم عن رجال عائلة والدتي إلا أنهم اختاروا الطريق الاسهل بالعودة إلى عوائلهم والانتماء المتطرف لطائفتهم وانتقائهم لزوجات يصلحن طباخات و جليسات جيدات ،والنسوة رضخن وقبلن بذلك مقابل العيش في الأمان والرخاء .

كانت عائلة يمكن تلخيص أسلوب حياتها في جملتين أو ثلاثة ،نوع من البارانويا الممزوجة بالخرافات وبضعة أوهام تمنحهم القوة أو الاعتقاد الشديد والمتطرف بمباركة الله للطائفة ،ولم أتمكن من بناء أية علاقة حقيقية مع أي منهم سوى مع (ربيع )أحد أشقاء سالم والذي كان شبه منبوذ من العائلة ،بسبب إشهار خوضه في علاقات مع نساء كثر في القرية وفخره المستمر بذلك ،إلى جانب لسانه اللاذع كما كانوا يسمونه .

كنت أجده صريحاً وواضحاً بينما كان في نظرهم ذلك الفاشل الذي تخلى عن دراسته وتطوع في الجيش من أجل أن يقبض مبلغاً كافياً لتغطية مصاريف عشيقاته .

شدتني شخصيته وكنا احياناً نتمشى معاً في طرقات القرية ونخوض النقاشات ،وبالرغم من ثقافته المتواضعة وابتعاده التام عن الكتب إلا أن نقده المستمر لانغلاق عائلته وإصرارهم على الأفكار ذاتها كان محط إعجابي .

كان يرى بأنه وسط هذا التعصب والتطرف كان لا بد من خلق رأي مضاد وبنفس الحدة و بهذا برر صراحته وسعيه المستمر لخلق جو من التمرد والعصيان ،الأمر الذي شبهته بذلك العصيان الذي اتبعته منذ صغري مع عائلة أمي ثم مع والدي الذي استسلم لقدره ،ولو كان تمرده أشد وضوحاً وجرأة .

سرعان ما أصبحنا صديقين إلا أننا لم نستمتع بتلك الصداقة ،فقد اقترح علي ذات يوم سالم بالسفر لبيروت لقضاء شهر فيها يكون بمثابة شهر العسل بالنسبة لنا كما يطلقون عليه .

وهناك قضينا أياماً رائعة تخلى فيها سالم عن قوة أفكاره ،لنعبر كل ليلة مشياً على الأقدام من مار مخايل باتجاه الجميزة ونشاهد البارات المصممة بإبداع يجمع بين التراث والحداثة ،ثم باتجاه مار مارون حيث الأبنية الملونة المأهولة بالسياح الأجانب من كل البلدان ،ثم نصعد إلى الأشرفية ونقصد ساحة ساسين حيث تعلق لافتات تحمل خطاباً معادياً للسوريين ،بالرغم من أن سكان الأشرفية بأنفسهم كانوا يعاملوننا بمودة واحترام كبيرين .

كنا نجلس على المقاعد الخشبية في ساحة ساسين ننتظر الباصات التي ستقلنا إلى الحمرا لنزور مكتبة أنطوان لشراء الكتب ،حيث كنا نجد كل الكتب الممنوعة في سوريا هناك .

ثم ننزل باتجاه شارع المقدسي وجان دارك ونكمل باتجاه شارع بليس حيث تقبع الجامعة الأميركية بكبريائها المعهود ،وهناك نشعر بالحزن الذي يكتنف تلك الشوارع ،حزن المباني العتيقة على زمان فات وولى وكأنه يصارع من أجل البقاء أمام العالم السريع والبراق المحيط به ،المتمثل مثلاً في الشارع الحديث التجاري مار الياس .

كانت مدينة رائعة مثل حلم ،تشبه النفس البشرية بمزاجيتها ومشاعرها الكثيرة والمتداخلة ، وكان أشد ما يلفت النظر هو صور الزعماء في بداية كل شارع ،كل شارع وزعيمه كما لو أننا في بلد فيدرالي .

كان سالم يرى أن هذا التنوع هو فوضى وهو مايجعل البلاد ضعيفة سياسياً ،وأنه لو كان هناك نظام واحد شمولي كان الوضع سيكون أفضل .

وعند وصولنا إلى الروشة كنا نجلس في الشمس الحارقة نطالع ما ابتعناه من كتب ،ونمشي باتجاه الرويسة ونحن نستمع إلى الأغنية ذاتها ( parole parole ) لداليدا العظيمة وندندنها معاً .

ثم كنا ننزل باتجاه الدورة وبرج حمود ،حيث جميع أشكال الحياة أقسى والبشر أشد تخبطاً وقلقاً ونشعر بأننا ننتقل تدريجياً من الأنظمة المتعددة الى الفوضى ،أو من الشمولية المخدرة إلى الليبرالية المدمرة للذات كما كان يقول .

كنت حينها أمزح معه وأقول : (وماذا عن الليبرالية التي تعيشك في الجنة إذا تابعت باتجاه الكسليك وجونيه ؟)،ونبتسم معاً رغم تناقض أفكارنا .

ثم نستسلم معاً إلى وحش الليبرالية عندما نقصد سيتي مول لابتياع البسكويت الفرنسي والمكرونة الإيطالية والبهارات الهندية من كارفور،ثم ننتقل إلى الطابق الثاني حيث المطاعم لنتناول وجبة ما ،ثم ننهي جولتنا فيه بمشاهدة فيلم لبناني رائج في الطابق الأخير حيث السينما .

بدأت حينها أكتشف في سالم جانباً آخر لم ألاحظه من قبل ،ذاك الطفل المدلل الذي كبر و اكتشف طرقاً أخرى لتدليل نفسه ،ولكم حسدته على ذلك .

لم أنشأ مثل سالم كطفلة مدللة ،كنت مخدوعة طوال طفولتي بتلك الوالدة المضحية من أجل أطفالها ،والتي كانت تحاول أن تقنع الجميع بأنها المدافعة الشرسة عنهم ،إلا أنه في العمق كانت تلك المشاعر فقط لشقيقي الذي اعتبرته ورقة ربحها مضمون في حربها مع مجتمعها ،أما أنا فكنت أمثل لها العجز والفشل الحتمي و المفروغ منه .

ولهذا ربما كنت أستسلم دوماً للقرارات التي يمليها مايسميه المؤمنون ب( القدر) علي ،كقرار الزواج بسالم مثلاُ الذي دفعت ثمنه خسارتي لعام من دراستي الجامعية ،وابتعادي عن صديقتي جيانا .

فقد يحدث أحياناً أن نخسر أناساً على غفلة منا مقابل حيوات جديدة نعتقد بأنها ستحمل لنا شيئاً أفضل ،ثم نشعر بندم ممزوج بالفرح بما هوجديد ،وغالباً ما يمر علينا هذا الشعور مثل ومضة ،ونهمله متعمدين ،ونلتفت إلى ما بين أيدينا ونعيشه بكل استسلام .

-5-

انتقلت وسالم للعيش في منزله الواقع في منطقة الشيخ ضاهر بعد عودتنا من بيروت ،وشيئاً فشيئاً بدأت أتعلق بهذا المنزل الذي بدا مخالفاً لما حوله وكأنه المستقبل المنبوذ من قبل الماضي الذي يقدس نفسه .

وسرعان ما بدأت أغرم بتلك الشوارع المحيطة بالمنزل والتي تعج دوماً بالناس والباعة المتجولين والأضواء الملونة ،بالحياة الحقيقية والعارية ،وجعلني ذلك إضافة إلى تعلقي بسالم الذي كان يزداد يوماً بعد يوم ،متصالحة مع قراري بالزواج منه وعادت لي تلك الثقة القديمة التي رافقتني لما سافرت أول مرة إلى والدي .

(من ليس لديه ثقة بنفسه ،كمثل الأعمى الذي لايبصر …)

كان والدي يمليها علي في كل مرة أستسلم فيها أو أفقد الثقة ،أو يراودني الشك في جدوى ما نقوم به في ميدان السياسة ،إلا أن الثقة التي منحها لي وجودي مع سالم كانت ثقة من نوع آخر ،ثقة بأن الحياة يمكن أن تعاش وفقاً لأفكارنا وتصوراتنا ،وأن تغدو جميلة ومنوعة مكتفين بالتغير البسيط الذي هو ربما التغير الحقيقي .

كنت لما أضجر وسالم نتمشى قليلاً باتجاه شارع أنطاكية الذي نمقت واحديته إلا أننا نستمتع بتنشق رائحة الحياة المستمرة فيه بعفوية وطمأنينة لذيذة .

ثم نزور إحدى المكتبات ونبتاع بضعة كتب أو مجلات مثل مجلة العربي ونهرول باتجاه مقهى ثقافي ما لنخوض كالمعتاد نقاشات طويلة أو نقرأ معاً شعر ترانسترومر أو أدونيس شاعره المفضل والذي أتفق معه بكونه رائد الحداثة العربية ،أو ينضم إلينا في بعض الأحيان صديقه شارل الكاثوليكي الملتزم والذي لا يتفق معه في كون الثقافة مرتبطة بالإلحاد ،و يصحبنا معه عادة إلى إحدى حفلات جوليا بطرس التي نحبها جميعاً .

عشت هكذا مع سالم خمسة أعوام نتصارح ونتبادل آراءنا المتناقضة ،دون أن تزورنا الخلافات التي إن حدثت ،حدثت لمرة واحدة كانت لمزحة ما أطلقها سالم عندما قال لي بأن غادة عبد الرازق الممثلة المصرية أشد جمالاً مني .

كنا قد اتفقنا على كاتبنا المفضل لكلينا ،أورهان باموق التركي وتتبعنا سير القضية التي رفعتها عليه الحكومة التركية لأقواله بشأن مذابح الأرمن والأكراد إلى أن نال جائزة نوبل عام 2006 ، وقرأنا له معاً في مقهى قصيدة نثر الثقافي رواية اسمي أحمر التي تتطرق إلى المجتمع العثماني والصراعات والمكائد المحاكة فيه ،والتي كان قد أهداني إياها في عيد حب ما ،وكنت قد بادلته الهدية واشتريت له رواية لكاواباتا الياباني وأسطوانة لجان فيرا وأخرى لداليدا التي كان يعشقها وتذكره بشهر عسلنا في بيروت .

كنت دوماً أحاول أن أبعده قليلاً عن ماركيز أو أروندهاتي روي وكل أولئك الكتاب اليساريين المهووس بهم ،وأشتري له كتب أولئك الذين جلبوا نظريةالوسطية في الإسلام كأمثال محمد شحرور الذي أعاد قراءة الدين بأسلوب عقلاني ،أو أذكره برواية 1984 لجورج أورويل التي تنقد نظاماً ديكتاتورياً يسارياً متخيلاَ ونقرأها معاً للمرة العاشرة ربما ،ويردها لي بأن يمازحني ويجلب لي روايات عالمية صنعت للناشئة أمثال هايدي وتوم سوير وكتاب الأدغال وريمي الصغير و أحدب نوتردام .

كنت سعيدة معه بكل جوارحي ،وآمنت بحقيقة مطلقة لأول مرة هي السعادة بقربه ،ولم يكن لدي الوقت حتى لأختبر إذا ما كان هذا أحد الأوهام الزاخرة بها حياتي ،أومتى سينتهي كل هذا بخيبة جديدة ربما ،أو حدث حتمي تحاك خيوطه ربما دون أن ندري .

أحببت نقاشاتنا المحتدة غالباً ،مثلاً حول محبتي لروجيه غارودي الذي يعتبر تقلباته الفكرية ابتذال ،أو اعتراضي على تقديسه لجورج طرابيشي الذي كنت أجد في بعض كتاباته رؤية منقوصة ،أو عن رأيه الحاد والمتطرف في الروايات العربية التي لم يكن ليقرأها بتاتاً ،أو عن شغفي بأزنافور وأغنياته العاطفية الذي كان يعتبره بورجوازياً مزيفاً ،أرمنياً صدق نفسه أنه غربي !

وفي أحد المرات تشاجرنا حول أهلية نجيب محفوظ لنيل جائزة نوبل والذي كان يرى بأنه فاز بها في ذلك العام مكافأة لمصر لتوقيعها اتفاقية سلام مع اسرائيل ،أما أنا فكنت مغرمة بنجيب محفوظ واعتبرته دوماً ثورة في عالم الأدب العربي وخصوصاً في ثلاثيته الرائعة ورواية أفراح القبة .

وفي نقاش آخر اختلفنا حول ميلان كونديرا الذي كان يراه مفلساً من الأفكار لاذ كبقية الكتاب التافهين الذين جعلوا من نقد الشيوعية أداة لأدبهم .

وكنا لما تفرغ محاولاتنا في إقناع بعضنا ،نجلس صامتين نستمع معاً إلى ماكسيم لافوريستيير وأغنيته الرائعة (سان فرانسيسكو ) ،أو نقرأ بصوت عال قصائداً من ديوان أحزان باريس لشارل بودلير ،أو نلوذ بكتب برتراند راسل التي نتفق عليها ،ونجده أهم فيلسوف أنجبه القرن العشرين ،أو نعود لكتب جورج أورويل اليسارية التي كتبها قبل رواية 1984 .

وبالرغم من اختلافنا الشديد إلا أننا كنا نتفق في أشياء كثيرة ، مثلاً في كون زينة يازجي أهم

إعلامية عربية ،أو أن رواية أطفال منتصف الليل لسلمان رشدي من أهم الروايات في التاريخ ،وكنا متفقين أيضاً على حب رشدي واعتباره مبدعاً بغض النظر عما حورب لأجله ،وعلى أغنيتنا المفضلة (ne me quitte pas ) لجاك بريل ،أو مقولتنا المفضلة لنجيب محفوظ (نحن لم نتغير بل استوعبنا)،وعلقنا معاً صورتي جورج أمادو وتشيغيفاراعلى جدران غرفة نومنا .

في عيد زواجنا الأول أهداني أسطوانة لفرانك سيناترا كان قد جلبه لها صديقه الأمريكي ،أما أنا فأهديته رواية لهيرتا موللر المعارضة لنظام تشاوشيسكو الشيوعي والذي كنا نتفق على كون هذا النظام ديكتاتورياً ،كما كان كلينا معجباً قليلاً بشخصية هتلر!

وهكذا شغلتنا اهتماماتنا معاً عن الاكتفاء الذاتي المادي الذي كنا نعيشه ،مع مانجنيه من مال قليل سواء من القضايا البسيطة التي كان يستلمها ،أو من الدروس الخصوصية التي كنت أعطيها لبضعة أطفال من الحي .

كانت لنا جنتنا الخاصة رغم كل الشقاء ،أو هذا ربما ما اعتقدته بداية ً .

الفصل الثاني

النار

(أنا سالم …)….

كنت في الثامنة عشرة من عمري عندما قررت أن أتمرد على تلك العائلة التي تعيش في وهم فردوسها المزيف غارقة في حلمها النرجسي المودي بها نحو عزلة كنت أدرك ماستحمله من نتائج وخيمة ،لذا حملت كل ما تبقى لهم من احترام في قلبي هاملاً بكاء والدتي التراجيدي الذي لا يقود إلى نتيجة غالباً سوى البكاء نفسه وتركت خلفي كمثل كل الخائبين الذين يحلمون بالفردوس القابع في المجهول حبيبة تزوجت من قرد يكبرها بأعوام كثر من أجل حياة مترفة وراقية في المدينة ،وقصدت بيروت كطالب في الجامعة الأميركية .

قد يبدو للقراء أن هذا التمرد لا يعول عليه إلا أنني حقاً اكتشفت نفسي في بيروت ،بل إنني شكلتها من تلك العجينة الطائرة من قفص الخرافات ،بالرغم من أن تلك الحرية الفجائية حملت لي معها حيوية مضرة ترتب عليها نتائج سلبية مجحفة ،بفعل إغواءات الاكتشاف .

فتح بقائي في بيروت عيني على أموركثيرة كنت أجهلها ،وأهمها ذاك الذي يفترض بأن يشد انتباه أي مغترب لم يفارق بتاتاً بيئته المحافظة ألا وهو الجنس ،وثانيها تلك الكليشيهات الاجتماعية الفارغة التي نربى عليها في بيئاتنا المحافظة والتي لا معنى لها في الحياة العصرية والعملية .

تعرفت هناك على صديق شيوعي عرفني على الشيوعية وانجذبت لها فوراً ،كنت جاهزاً لتقبل أي فكر يجعلني كمن يولد من جديد ،وأصبح هذا الفكر متمثلاً في جميع تصرفاتي وأحاديثي أنا الذي اعتدت دوماً أن ألتزم حرفياً بما أؤمن به أو ربما ما تفرضه الظروف علي .

عندما عدت بعد ذلك إلى بلدي بعد أن اكتشفت ان كل ذلك كان مرحلة وهمية الغرض منها فقط العبور نحو مرحلة أخرى ،وأننا نشغل أنفسنا بأفكار ونشاطات عندما نعلم في دواخلنا أننا أضعف بكثير من نتمرد على شكل الحياة المتحجر الذي فرضه أجدادنا ،ونقبل عندها بشيء بسيط من السعادة متأخرين في فهم اننا كنا متعلقين بالوهم لا أكثر .

عندما تعرفت برشيدة وجدت فيها شيئاً يشبهني ،ذاك الرفض التام لكل ماهو قادم من الماضي ،لكن كل من وجهة نظر مختلفة ،لذا رغبت أن نكون معاً وبأي وسيلة كانت ،تزوجتها واتجهنا معاً إلى الريف بشكل مؤقت ريثما يجهز منزلنا في المدينة .

إلا أنني لم أكن لأصبر وأحتمل ذاك الشعور بالغربة بين أفراد عائلتي والذي ازداد حدة بعد أن عدت من بيروت وسار المنزل في اتجاه وسرت أنا في اتجاه مخالف .

ولاحظت على رشيدة عدم تأقلمها أيضاً ،لذا بحثت عن مصدر يؤمن لنا المال اللازم للخروج السريع من الريف ،وكانت داليا حبيبتي القديمة قد ظهرت في تلك الفترة مجدداً ،وعرضت علي أن نخرج معاً مجدداً ،قالت بأنها وحيدة وأنها بحاجة إلى صديق بجانبها ،بكت وتوسلت إلي وأخبرتني أنها ستمنحني المال اللازم لإنهاء منزلي .

قبلت بعرضها ،وخرجنا معاً طوال فترة خطوبتي لرشيدة ،إلى أن غادرت البلاد .

عشت ورشيدة أياماً رائعة ،كنا معاً في كل تفصيل وكل لحظة ،وكنت على ثقة بأنها لن تعلم بما قمت به حتى نعيش تلك السعادة .

إلا أننا فقدنا كل تلك السعادة في غمضة عين ،بعد أن وضعت رشيدة طفلتنا الأولى وأصيبت بمتلازمة كبدية نادرة تدعى (متلازمة بودكياري ) وكان هذا بسبب بقايا مرضها القديم الذي أصيبت به في الطفولة ولم تتلقى العلاج اللازم لذلك .

توفيت رشيدة تاركة خلفها حلماً منقوصاً وهزيمة لكلينا

لقد خسرنا ببساطة تلك الحرب التي خضناها معاً

القصة الثانية

(بلاد الجنون العظيم )

إن كان ولا بد لك أن تولد في مكان ما ،فإنه لمن سوء حظك _وبفضل أن تكتم هذه الجملة في صدرك _في البلاد التي تدور فيها أحداث قصتنا .

أو ربما يمكننا صياغة الجملة على نحو يضمن لنا بلاغة وأماناً أفضل ،بأن نقول مثلاً أنه لا بد لك أن تولد في البلاد العظيمة التي تدور فيها أحداث قصتنا حتى يتسنى لك بأن تحظى بتلك اللحظة الاستثنائية من النشوة التي تصيب المرء عند وصوله ذروة الاشياء ،المجد والقوة والكمال المطلق ،والتي ليس بأيديك أن تقرر امتلاكها ،طالما كان هذا الوصول فرضاً إجبارياً عليك بحكم انتمائك لتلك البلاد ،سواء وكنت طبيباً أو فناناً أو داعراً أو حتى قاتلاً أو لصاً !

فهذه البلاد و يوم ساد السلم فيها بعد حرب دامت سنيناً طوال ،أطاحت بنصف البلاد والعباد ،اجتمع ساداتها السياسيون مع ما يسمى (رجال الردع ) والعلماء ورجال الدين و رجال العصابات وقرروا أن الضامن الوحيد لعدم حدوث حرب أخرى هو أن نصبح كلنا عظماء ،أقوياء ،عباقرة ،راقيون ،ساحرو الجمال ،براقون ،لاهثون خلف المزيد من القوة والنجاح والعظمة التي تضمن وجودنا في الصراع العالمي مع أعداءنا الكثر ،لذا كان على كل فرد أن يجرب في مجال ما وإن فشل فيه يختار له مجالاً آخر ومن يفشل في المجالات المقترحة له يقصى من البلاد ويوسم بعبارة (اللاجدوى منه )وعندها يحكم عليه بالإتلاف الفوري كما تتلف القمامة ،ويتم ذلك بشكل سري على أيدي رجالات العصابات الذي يعتبر هذا دورهم الأساسي ،وعندها لا أحد يعلم ماالذي يمكن أن يفعلوه هؤلاء الرجال ،فقد يحولوك إلى سماد ربما بعد بيع جميع أعضاءك !

وبما أن الفنون بأشكالها كالرقص والرسم والغناء والآداب أمور تعتبر غير ذات أهمية ولا تسهم في زيادة قوة البلاد ،فإنه لا بد أن تتم ملاحقة كل من يعمل فيها لإتلافه بأقصى سرعة ،كما يتم ملاحقة المعاقين والقبيحين و المثليين والمخنثين ويتم تصفية المرضى الذين لا أمل من نجاتهم بما يعرف بالقتل الرحيم .

أما المجرم فتتم معاقبته بتسليمه لرجال العصابات وهناك يتكفلون بأمره حيث إن لم يستطع أن يثبت نفسه في فن ما من فنون القتل والتعذيب ،يتلف فوراً !

وبما انه لابد دوماً من استثاء ،تظهر حكايات الأبطال أو ربما البطلات فماذا حدث مع أبطال وبطلات قصتنا ؟

استيقظت من غيبوبة دامت عشر سنوات ،لأجد نفسي في بلاد أخرى لا أعرفها .

قالوا لي عليك أن تضحكي لأنك محظوظة ،فقانون القتل الرحيم لم يشملك وإلا فكنت في عداد المتلفين !

لم أفهم ما يقصدون ، ورحت أختبر قوة ذاكرتي فلم يخطر في بالي سوى مشهد منزلنا وهو يتهدم فوقي بعد سقوط صاروخ ،وحدث هذا على الأرجح لأن بلادنا كانت في خضم حرب أهلية .

قالت لي إحدى الممرضات أنه لم يتبقى لي أحد في هذه الدنيا من أقربائي ،و سألتني بكامل جديتها عن طبيعة عملي وتحصيلي الدراسي ولما أخبرتها بأنني كنت ممرضة قبل الحادثة سرت بذلك و عللت سرورها بأنني نجوت من وضعي في مهنة من المهن الدنيا في البلاد كالدعارة أو لاسمح الله العمل مع رجال العصابات .

لم أرى تلك الممرضة بعدها ،اختفت قبل أن تفهمني ما تقصده ،ثم فهمت ذلك لاحقاً من طبيب في المستشفى وعلمت منه أن تلك الممرضة أتلفت بعد أن صدمتها سيارة و نقلت في حالة ميؤوس منها إلى المستشفى ،وأخضعت فوراً لقانون القتل الرحيم .

قررت إدارة المشفى ان أحل مكانها لما أخبرتهم أنني ممرضة بشرط أن أخضع لدورة تدريبية ،ولن تصدقوا عما كانت الدروس التي لقنوني إياها ،كانت دروسأ عن إتقان إعطاء حقن السم لمن يشملهم قرار القتل الرحيم، قتلوا أمامي جنوداً مصابين وعجائزاً ممن لم يكن من أمل في نجاتهم !

بعد أن انتهيت من تلك الدورة وفي أول يوم عمل لي ، أدخلوني غرفة فيها عشرات المرضى وقالوا لي :هيا قومي بعملك ،اقتلي !

لم أتمالك نفسي وأغمي علي ،ولما استيقظت كان رجال ردع المستشفى فوق رأسي ،جروني جراً إلى باب المستشفى وهناك استلمني رجال الردع وزجوني في سيارتهم ذات النوافذ المعتمة ،وراحوا يصرخون في وجهي وهم يقهقهون : ( من لايجيد القيام بمهامه نختار له مهمة اخرى ،و عليك أن تشكرينا أننا لن نسلمك لرجال العصابات ،ستكون وجهتك المقبلة هي بيوت الدعارة ! هاهي جاذبيتك ومقوماتك الجسدية تنقذك !).

لما وصلنا بيت الدعارة ،عرضت فوراً عارية على امرأة ستينية ضخمة الجسد مترهلة رغم أنها محشوة بالبوتوكس ،ثم دخل علي رجل علمت لاحقاً أنه يدعم الدولة بالمال ،وطلب مني أن أدللـه ولما فقد الأمل في أن أتجاوب معه ،أدار ظهره وقال : (لن أخبر أحداً بأنك لم تجيدي القيام بعملك هذه المرة ! لا أتمنى تسليمك لرجال العصابات فقد أعجبتني ! ).

تمكنت بعدها من الفرار من بيت الدعارة ،لا تسألوني كيف ؟ غير مهم ،لا أحب أن أطيل الحديث عن الفترة التي كنت فيها عبدة .

أفضل أن أسرد ماحدث معي بعدها ،عندما قابلت الأبطال الآخرين الذين رفضوا العبودية مثلي ،أو سأتركهم يتحدثون بأنفسهم ،فأنا لا أجيد الأحاديث المطولة .

الإنسان ..ما الإنسان ؟ ماالذي تبقى من هذه الكلمة بعد كل ما جرى لنا ؟ لقد اودت الحرب الأهلية ببعض من الإنسان الذي فينا ،وقمنا نحن بالإطاحة بما تبقى منه بأيدينا .

ماذا يعني أن يكون وجودك الإنساني مشروطاً بأن تكون (إنساناَ كاملاً ) أو عظيماً !

وكيف تكون عظيماً ؟بأن تقتل ببراعة ؟؟ بأن تقبل أقدام الأقوياء والأغنياء ببراعة ؟؟ بأن تسب وتلعن وتسخر من الضعفاء والقبيحين والمثليين والمخنثين ،وحتى من الفنانين والأدباء والشعراء وتبلغ عنهم !

ما معناه رجل الدين إذا كانت مهمته فقط شحذ قوة السلطة والصداح بفضائلها ؟؟

أوأننا محكومون بعيش كل الأزمنة بما فيها زمان مابعد الحرب و نحن عميان ؟!نفلح كما تفلح الدواب ومن يتعب أو يضعف يتلف كما لو كان قمامة ؟!

لم تنتظر ابنتي (إيفا ) قرار إتلافها ،بل فضلت أن تنهي حياتها بنفسها ،شنقت نفسها بصديريتها وماتت عارية في أحد بيوت الدعارة بعد ان رفضوها لقباحتها ولأنها لا تملك مقومات جنسية ! وفقدت بذلك آخر أمل بأن تكون مجدية في نظر الدولة .

أثناء الحرب كانت تصنع السترات الصوفية للأطفال المتضررين من الانفجارات والقصف وكانت تحلم بأن تكون راهبة ،وبما أن هذا الحلم ممنوع ومستحيل في هذه البلاد ،فالراهبات لا يفدن الدولة القوية في شيء ! فقد قرروا سوقها إلى بيوت الدعارة لاختبارها ولم تنجح في الاختبار .

كنت وقتها في نظر الدولة زبالاً صالحاً يجيد عمله ،لكن بعد وفاة ابنتي لم تعد لدي القدرة وحتى الرغبة في التحمل وأصبحت الحياة كلها ثقيلة فهربت إلى البراري وهناك التقيت بفتاة ممرضة فارة من بيت للدعارة تدعى (عفاف ) ،وصارت تلك الفتاة أكثر من ابنة لي لما جمعنا فيما بعد ما لا تختصره الكلمات لما قصدنا مايسمى (حي المتمردين )…

ما هو الأسوأ ؟ لما كنا في خضم الحرب قالوا لنا أن الأسوأ يحدث الآن وأنه لابد لنا أن نمر في نفق الظلام كي نقابل النور في النهاية ،لكننا يبدو اننا كنا ننقل خطانا من أسوأ إلى أسوأ لا أكثر ،إلى أن غدونا في الحضيض نتخبط فيه كأسماك مصطادة للتو ،وذلك لأننا ببساطة نفعل الشر تحت اسم الخير والكمال .

عشت عمري وكأنني ولدت ونشأت في أعلى سلم عظيم ،بدأت أهبط إلى درجاته الأدنى في اللحظة التي اندلعت فيها الحرب الأهلية في البلاد ،والتي تهجرت بسببها من منزل طفولتي حيث كانت أكبر همومي ومشاغل تفكيري هي حسد الأقارب والمنافسين لي على تفوقي الدراسي أو خوفي من ألا أحظى بعلامات تؤهلني لدخول كلية الطب مثلاً ،ثم جلدتنا الحرب وأرتنا الهموم على أصولها.

وبعد الحرب ،و رغم أنني كنت صفقة ربحها مضمون في نظر الدولة ،طبيبة قوية الشخصية والبنية ،إلا أنني لم أتقبل تلك المهزلة ولم أتوانى عن إعلان عصياني والرفض الواضح للخوض فيها .

قذفوني في بيوت الدعارة وقالوا لي : (تصطفلي ،إن لم تقدري قيمة نفسك ،فهنا نهايتك ).

ولما مات أحد التجار الكبار الذين يغذون الدولة بأموالهم في سريري ،وسقطت جثته الضخمة والنتنة فوقي ،اتهموني بأنني من قتلته ،نقلوني إلى مكان مقفر ورموني هناك إلى أن جاءت إحدى العصابات التي تنهض في الليل واصطحبتني للعمل معها وهناك تدربت على كافة فنون القتل والتعذيب ،ولما علموا أنني طبيبة ،ملأتهم نشوة غامرة وطلبوا مني الاستعداد للقيام بعمليات نزع أعضاء العصاة الذين يتمردون ويرفضون القيام بمهامهم .

استطعت الفرار بمساعدة أحدهم والذي وعدني بأن يوصلني إلى مكان آمن حيث يختبئ الكثيرون مثلي ،وهناك قمت بأعظم ماقمت به في حياتي.

أقر بأنني قاتلة ..لكن هذا لايعني أن يزجونني رغماً عني للعمل مع رجال العصابات ،وأن أتعلم بالقوة فنون فقأ العيون ،والتلذذ بصراخ العصاة ،مجبرة على أن أقوم بذلك مع ابتسامة أيضاً ،إلى أن يأتي مخلصي ،رجلي (رجل الردع )الذي يتعامل معهم ،وأعجبه ويصحبني معه إلى شاليه غير مأهول من شاليهاته الكثر ،حيث يخبئني هناك مخالفاً لقانون بلاده ،لكي أكون مسليا له في أوقات فراغه .

ثم لأقتله أنا بكل برودة رغم لطفه ورغبته العظيمة في التهامي ،كما قتلت زوجي في الماضي لنذالته وخيانته وسخريته المتكررة من مظهري المقرف وجهلي وطيبتي كما كان يسميها .

قتلت زوجي ولم أفر وقتها ،وكنت مستعدة للعقاب الذي ينتظرني ،لكنني بعد أن قتلت ذلك الرجل (رجل الردع ) هربت وكأنني أدركت أنني أستحق فرصة اخرى في العيش ،وذلك لأنني تغلبت على رجل عظيم في نظر الدولة ،وكأنني أكافئ نفسي على هزيمته ،لأفكر بطريقة الدولة ،وأنتشي بشعور عظمتي .

عملت بعدها مومساً لفترة قصيرة بشكل مخالف ،أي خارج بيوت الدعارة المخصصة لذلك ،و قد يبدو هذا مثيراً للسخرية .

وعندها احترفت القتل ،ورحت أقتل زبائني بعد ان أمص ثرواتهم وقوتهم وعظمتهم ،حتى صرت أعظم من أعظمهم في نظر الدولة ،وانتشيت بنفسي كما لو أنني طاووس نادر .

حتى استيقظت يوماً واكتشفت بأن أحقادي قد انتهت ،و أنني أشبعت غريزة الانتقام لدي من كل ما يحيط بي ،ووجدت نفسي وحيدة مع ثروة ملطخة بالدم لا نفع فيها .

لذا حملت تلك الثروة وارتحلت في هذه البلاد باحثة عن عائلة لي ،وكأنني طفلة ولدت من جديد ترغب في أن تطهرها عواطف العائلة مجدداً ،إلى أن عثرت على تلك العائلة التي لا أستحقها ،كانوا مثلي رافضين لهذه البلاد ولقانونها ،إلا أنهم لم يكونوا ملطخين مثلي بماض أحمر .

حبيبي ..نعم أنت حبيبي وأود ان أحدثك وأخاطبك أنت ولا أحد سواك ..كما لو أنني أشهر بحبنا وقصتنا أمام الملأ ..أمام الدولة التي تعتبرنا كلينا مجرد قمامة وجب إتلافها ..

أتذكر يا حبيبي معاناتنا ؟ في الحرب ومابعدها وقبلها ؟ الكل عانى في الحرب ومابعدها إلا أنت و أنا معاناتنا تخص الأزمنة كلها ،وكأننا إلهي معاناة يا حبيبي

ولم ترأف بنا لا ظروف الحرب ولا السلم أو الرخاء ولا أزمنة الفساد ..

فنحن مستثنون دائماً من أية قاعدة في هذه البلاد مهما تغيرت الأزمنة أو تبدلت رؤوس أصحاب القرار ،ولكن مما يشكو الاستثناء ؟فالحياة كلها مبنية على الاستثناء وليس على القاعدة كما يظنون ،والدليل على ذلك أن التجارب الدينية التي تعتبر الأكثر عمومية والأكثر تأثيراً لم تكن سوى تجارباً استثنائية .

لذا فلنفرح ياحبيبي بأن قصتنا قد تصلح أن تكون بين القصص المقدسة ،وخصوصاَ ونحن ندافع عن وجودنا الذي يجزمون بضرورة إعدامه .

أتذكر ياحبيبي عدد المرات التي كان وجودنا فيها تحت رحمة أقوياء ومتبجحين وحتى وحوشاً أحياناً ،وكنا دوماً نتجاوز ذلك بالفرار أو المقاومة أو حتى بأعجوبة ،سواء كان جلادونا من عوائلنا الذين يلطمون وجوههم على هذه التخلفة المعطوبة ،أو من المدرسين والقساوسة والشيوخ الذين يسهبون لنا في دعواتهم التبشيرية والتي الغرض منها إنقاذنا مما نحن فيه ،أو من (رجال الردع ) المهووسين بتأديب من يلزمه التأديب ووضعه على الصراط المستقيم الذي يضمن كونه مواطناً صالحاً ونافعاً للدولة .

وكسر حبنا تلك القوى الطاغية وفتتها ،وهربنا وعشنا معاً في شقة على مقاسنا ،وحملنا على عاتقنا مسؤولية الحياة مبكراً ،إلى أن جاءت الحرب واستدعيت أنا إلى الخدمة الاحتياطية وحاربت سنيناً طوال ،ولم نفترق رغم ذلك .

والآن وبعد ان حل السلم وقرروا بعدم جدوانا ،أمسكنا بأيدي بعضنا وفررنا من حكم موتنا نحو الحياة التي انتظرتنا دوماً وقبلتنا كما نحن لنلتقي بعائلة من الرافضين الهاربين مثلنا ولنعرف بينهم ب(حازم ومنصور )العاشقان اللذان تستحق قصتهما أن تحيا وتعمر

الفرار جبن .. لكن في حالتنا نحن الفرار هو ذروة الشجاعة ..أو كما يقول المثل (الهريبة تلتين المرجلة ) ..ورغم انني كاتبة أؤمن بأنه قد تكون الأمثال التي نرددها يومياً أكثر فحوى مما نكتبه ..

لكنني لن أقبل بطمس مهنتي واعتبارها (لا نفع منها) إذا لم تخدم المصلحة العليا كما كان يردد زوجي المحلل السياسي المشهور والمحبوب ،عندما يحلو له تعييري بمهنتي المخجلة التي لاتصل إلى الشاشات لتخاطب الشعب وتثبت خدره المطلق .

كم كنت غبية عندما أحببت هذا الرجل ؟

الحب الحقيقي عرفته مع (فؤاد ) الرجل الذي قادت به الظروف للعمل مع رجال العصابات والذي صعدت إلى سيارته بالصدفة عندما كنت فارة من زوجي ورجال الردع ،وكان هو يهرب طبيبة تدعى (سلوى ) من أيدي رجالات العصابات ،لينقلنا كلينا إلى حي المتمردين ،حيث يعيش المئات من الفارين من الموت الحتمي و قانون القتل الرحيم أو من أيدي القوادات في بيوت الدعارة أو أيدي رجالات العصابات .

كان حياً جميلاً ،تمنحك رؤيته الفرصة في التلذذ بالألوان مجدداً ،بالموسيقى والفن والرقص و شغف قبلات العاشقين وضحكات المحرومين والمعاقين،وبكل ماهو ممنوع ومنبوذ ولا نفع منه في رأي الدولة .

أنزلنا فؤاد في بيت يجمعنا مع ممرضة تدعى (عفاف )،استقبلتنا بحماس كبير وقالت باننا سنشكل معاً ثلاثياً رائعاً .

لما ولجنا منزلها ،شاهدنا مالم نكن قد شاهدناه منذ سنوات ،بيانو في زاوية الغرفة ،لوحات بول جوجان على الجدران ،ستريو يصدح بأغنيات عن الحب والرغبة .

صنعت لنا الشاي بالتفاح وقالت بأنها جلبت الفكرة من فيلم إيطالي يدعى (ميليسا )وهو فيلم ممنوع طبعاً في بلادنا ،وهو يحكي عن حالة نفسية لفتاة تغوص في تجربة اكتشافها الأول للجنس على نحو مبتذل وتكاد تتورط في علاقات تقود بها نحو عالم العهر والدعارة .

شاهدنا الفيلم معاً ،ثم سردت كل منا حكاية تجربتها الأولى مع الجنس ،واكتفت عفاف بسرد قصة حبها الأولى التي لم تقد بها إلى أية علاقة جنسية ،لما أغرمت بصديقها في كلية التمريض واستشهد بعدها في الحرب التي شهدتها البلاد .

وودت لو أنني أستطيع أن أحدثهم عن حبي الأول ،لكن هذا كان موجعاً بالنسبة لي ،فكيف أحكي لهم أنني تعرضت للخداع من قبل شاب وغد لم يرد من كل تلك العلاقة سوى إرضاء غروره و هزيمتي في أمر ما لأنني كنت تلك الطفلة المتفوقة عليه في كل شيء ،ثراء عائلتي وقوتها ونفوذها ،وتفوقي الدراسي عليه .

وساءت خياراتي من بعده ،ولم أحظى بالحب الذي أحلم به .

إلا أنني فيما بعد ،وبعد مكوثي بأشهر في منزل عفاف أحببت ذلك الشاب الذي كان يطل علينا كل فترة ويقضي لنا حوائجنا ..

لقد غرقت في حب ذلك الرجل ،رجل العصابات المفعم بالحنان المتوحش ،والذي جر غصباً للعمل مع رجالات العصابات بعد خروجه من السجن بتهمة سياسية ،وبعد أن قرروا وضعه في قائمة (اللاجدوى منه )…

كان شاباً رائعاً من الداخل ،وكان رافضاً بحدة لما آلت له الدولة من أحوال جنونية من هستيريا المال و القوة .

كنا دوماً نستقبله لما يجلب لنا الكتب برحابة صدر وشغف لما يحمله لنا من أشياء منعت عنا سنيناً طوال ،واستبدلت فقط بالكتب الدينية التي كانت أيضاً تستعمل على نحو خاطئ لدعم الأقوياء .

كان يجلب معه أحياناً بضعة أقمشة لنتسلى في خياطتها أو يطلب ممن تجيد الطبخ منا أن تطبخ له المحاشي والكبب والشيشبرك ،وكنا دوماً نفشل في ذلك ونتحجج بأن الثقافة والطبخ لا يجتمعان ،ونضحك ثم نندهش بأنفسنا من تشكيلنا لحوارات مثل هذه،تكاد تكون انقرضت منذ زمن .

لقد أغرقوا البلاد في بحر من الظلام والتعنت والوحشية ،إلى الدرجة التي أصبحنا فيها نعتبر أن الحب والأحاديث العفوية والبسيطة ليس لها وجود .

وتبدلت أحلام المثقفين من تغيير المجتمع وهدم الطبقات إلى إنقاذ ما تبقى من إنسانيتنا والتلذذ مجدداً بمشاعرالحب والصداقة وتذوق الفنون والجمال .

حي المتمردين كان وجهتي دون أي تردد بعد أن هربت من أرض العصابات التي ساقوني إليها عنوة بعد خروجي من السجن ،والذي كان عقاباً لي على ضربي لجاري لما كنت أعيش حالة اكتئاب حادة إثر انهيار مطعم المشاوي والكباب الذي كنت أملكه في الحرب .

لست بقاتل كي أزج مع رجال العصابات ..فليذهبوا ويأتوا بالقتلة والمجرمين الذين يقدسونهم وهم في مناصبهم ..

لقد كنت إنساناً بسيطاً ،ولم أتزوج لأرعى والدي ،وفتحت مطعماً بالقرب من منزلنا يقدم الوجبات الشعبية التي كنت مغرماً بها ،وخسرته في غمضة عين وعشت سنيناً على مضادات الاكتئاب ،إلى أن فجرت كل غضبي بذلك الجار ودفعت الثمن .

ولكن أن تخسر الأشياء المادية أمر هين ويمكن تجاوزه ،إلا أننا خسرنا بعد الحرب أنفسنا وأخلاقنا وكل ما يمكن أن يعيننا على قسوة هذه الحياة وخسارات الحرب و غباء الطاقم السياسي ،ثم أن تزج بعدها لاحتراف القتل رغماً عنك ،فهنا يطفح الكيل ،ويغدو التمرد ضرورة حتمية .

لذا قصدت هذا الحي الذي يثبت مجدداً قوة البسطاء وقدرتهم على العيش بكرامة دون مكائد تحاك أو طغيان يبطش أو هيستيريا تسود وتدمر كل ماهو جميل .

تعرفت في الحي على أناس خسروا أكثر مني ،فوحدتنا خساراتنا وأصبحنا ذاتاً واحدة ،تملك المشاعر ومستوى الفهم وحتى أسلوب التعبير ذاته عن تلك المشاعر التي تخصنا وحدنا ،تخص هذا الشعب الذي لا يفهم معاناته سواه .

الحرية هي ما سعى هذا الشعب له ،لكن ماذا نفعنا اللهاث خلف الحرية ؟

أصبحنا اليوم لا نريد أن نتحرر بقدر ما نريد أن نعود بشراً

أسال نفسي وأكرر السؤال ، من أجل ماذا حاربت سنيناً طوال ؟وما الذي بنيناه وإلى أين وصلنا ؟

قطعوا الاشجار وصحروا البلاد وزرعوا وحوشاً فغدت بلادنا غابة ينهش فيها الأقوى والأكثر دهاءً الأضعف والأقل حيلة .

احترفت القتل بالصدفة لأحارب من أجل البقاء ،وبعد الحرب قرروا أن مايناسبني أن أبقى طوال حياتي (رجل ردع ) أسوق الفاشلين إلى رجال العصابات أو بيوت الدعارة وأحمي أصحاب الخصى الكبيرة .

فرزت ذات يوم للعمل كسائق لدى إحدى الخوانم زوجة أحد أصحاب تلك الخصى ،ورافقتها في مشاويرها إلى صالونات التجميل وغرف المساج إلى ان عرضت علي ذات يوم بأن أضاجعها ولما رفضت ،اتهمتني بمحاولة اغتصابها ..

جررت إثرها للعمل مع رجال العصابات ،وفررت منهم ،وقصدت حي المتمردين لأكون (رجل حماية )لا (رجل ردع ) أحمي الحي من الوشاة والمتجسسين و كل من يعكر صفو هذا الحي الذي يمثل _ولا أبالغ في هذا _نقطة الصفاء الوحيدة وسط سيل العكارة الذي يغطي البلاد .

أصبحت أجلس من جديد أراقب تغير الفصول ،وأستلذ بجمال ما بناه الخالق ،وكل ما جعلونا ننساه أو نعتبره من توافه وسوافه الأمور .

كنت سعيداً بدوري الجديد في حماية الضعفاء والمنبوذين والمقهورين ،هذا هو دوري الحقيقي ،حماية المستقبل والتقدم والإبداع ،لا الوقوف في وجه كل حلم أو فكرة لما كنت (رجل ردع ) بائس ومتوحش .

الموت أحاط بنا لسنوات ،ربما لسوء فهمنا لاختلافنا .إلا أننا اليوم أصبحنا نمتهن الموت ونصر على الاستمرار في لعبته كما لو أننا اعتدنا عليه كطقس من طقوسنا المقدسة .

في الحرب ،هجموا على بيوتنا ونشلوا أرزاقنا واختطفوا اجمل فتياتنا ،وقتلوا من وقف في وجههم .وبعد أن انتهى زمن الإرهاب أصبحنا نرهب بعضنا البعض وكأن تلك اللعنة لن نبرأ منها طالما نعيش وفق قانون الغابة .

كنت أقرأ الفنجان للناس ،لكن تلك اللعنة لم تظهر لي مطلقاً ،مما دفعني للشك بنفسي وخصوصاً لما فوجئت بمصيري ،بعد أن جروني إلى رجال العصابات لتنفيذ حكم إتلافي وهم يصرخون 😦 الموت للمجدفين ،العالة على الدولة القوية )،ونسوا أنني أم جيدة و نسوا كم عملت للدولة قبل التقاعد .

لقد اصبحت اليوم فارغة لا نفع منها إلا بقتلها و بيع أعضائها ،مثل غنمة ولكن الفارق هنا هو أن الأعضاء لا تؤكل للأسف !

كنت قوية طوال حياتي وكانوا يلقبونني ب(أخت الرجال )،ويستدعونني لتحميم الموتى والشهداء ،أو لأزغرد في جنازة أو عرس .

وقفت إلى جانب الأمهات المكلومات اللواتي دفن أغلى ما لديهن ،وإلى جانب المتهجرات من بيوتهن في ليلة لم يطلع فيها القمر .

وقادت بي الظروف ذات مرة لأن أعمل كمسلية لزوجات إحدى المسؤولين أثناء الحرب بينما كان زوجها منشغلاً بالتهام خيرات الحرب !ولما حل السلم وشبعت بطونهم طالبت بنفسها بإتلافي بعد أن تبدلت اهتماماتها وسمح لها المال الجديد بأن تستكشف مجالات أشد جاذبية.

وهكذا رحلت إلى رجال العصابات بعد أن منحوهم الصلاحية بأن يفعلوا بي ما يشاؤون ،إلا أنني استيقظت ووجدت نفسي مرمية في الغابة .

نعم ،لقد راهنت على شيء من إنسانية أولئك الرجال ،وربحت الرهان .

جاء إلي بعدها شاب يدعى (فؤاد ) ونقلني في سيارته إلى حي رائع ذو أبنية حديثة البناء محاطة بشتى أصناف الورود ،وقد رسمت على جدرانها رسوم منوعة تعبر عن حب الحياة والشغف بها .

وهناك في الحي أصبحت أم الجميع ،أتنقل من بيت هذا إلى بيت ذاك أقرأ لهم الفنجان وأنشر البسمة .

بعد مكوثنا في الحي أصبحنا نخاف أكثر ،لأنه صار لدينا ما نخاف من خسرانه ،وعرفنا قيمة الحياة وأحببناها مجدداً .

تعرفت على شاب يدعى (وسام )كان قد فقد قدمه في الحرب ،ثم حكم عليه بالقتل الرحيم وهوأكثر ما صرت أخاف من اخسره ،لأنه غدا بمثابة ولدي الذي لم أنجبه .وكنت أزوره كل صباح حاملة له فطائر الجبن الساخنة ،ونجلس معاً ليحدثني عن زوجته التي تخلت عنه وذهبت إلى أحضان رجل من المرتزقة التي يستعملونها (رجال الردع )للقيام بأعمال قذرة في الخفاء .

جنت بعدها زوجته بعد أن أسرف رجل الردع في ضربها على رأسها ،وأتلفت وفق قرار القتل الرحيم ،لذا كان دائم التعاطف مع ذوي الأمراض العقلية القاطنين في الحي ،والذي جلبهم (فؤاد ) لحمايتهم من الموت الحتمي وإنقاذ حياتهم .

كان من بين اولئك الذين جلبهم فؤاد ،رجل الردع الذي هربت معه زوجة وسام ،كان قد جن بعد أن انتهت مهمته كمرتزقة في الحرب وواجه صعوبات كثيرة في الاندماج مجدداً بالمجتمع ،وقتل شقيقته إثر مشاجرة بسيطة .

لقد جمع هذا الحي الكثير من التناقضات ،وكان علينا أن نتحلى بالتسامح كي نستمر أمام آلة القتل والهستيريا في هذه البلاد البائسة .

تحتاج وقتاً قصيراً للغاية لتبني عرشاً تخوف به شعباً ،إلا أنك تحتاج سنيناً طويلة كي تفتت هذا الخوف وتزيله من أبسط التفاصيل الحياتية لهذا الشعب ،وهذا ربما ما أدركناه متأخراً ،فريثما كنا نتعافى من خوفنا القديم كانوا يرسخون خوفاً أشرس و أكثر عناداً وديمومة .

هذا الخوف الصارم ،الأبدي جعل منا أشباحاً تمشي ونهش إنسانيتنا ،وحول أيامنا إلى ورق رزنامة يطير منا حاملاً معه حكاياتنا المنقوصة ،ومشاعرنا المسروقة ،وغدونا نعيش التفاصيل البسيطة والعادية وكأنها فردوسنا الصغير المنمنم ،الذي لا نستحق سواه .

لقد خدعونا و استغلوا اقتتالنا والتفاتنا إلى توافه الأمور ،وسرقوا الأخضر واليابس وبنوا تلك الدولة القوية التي تصلح للتباهي بها أمام العالم على جثث القتلى وصرخات الضعفاء .

الكل شارك في هذه الجريمة ،رجال الدين والعلماء والسياسيون والعاهرات ! العلمانيون والملحدون والمؤمنون ، الرجال والنساء ،بعد أن أغوتهم قوة الفولاذ ليسعوا إلى بلوغها .

لكنهم لم يبلغوا شيئاً ، وازداد عدد الرافضين لكل هذا وكبر حي المتمردين وظل يكبر إلى الدرجة التي أنارت فيها أضواءه البلاد بأكملها وتسللت إلى قلوب الجميع .

القصة الثالثة

سلطة

الفجر

للوهلة الأولى قد يبدو ذاك المنزل القابع على حدود البلدة الشرقية منزلاً عادياً للغاية ،وقد تمر من جانبه دون حتى أن يثير فضولك ،كما لو أنه غير موجود ،أو ربما لو كنت ممن يملكون عيناً فنية ستجذبك حجارة جدرانه بأحجامها المتماثلة وبراعة الحجار الذي وفي زمن غابر استثمر كل جهوده وخياله في خلق تلك اللوحة الفنية العادية للمنزل .أما فيما لو كنت من أولئك الذين تأسرهم شاعرية الأغصان التي تتمايل مع النسيم الناعم في الامسيات الصيفية ،فمما لاشك فيه انك ستمر بجانب المنزل دون أن تلحظه وسيشغلك عنه الإيقاع الحزين الذي تعزفه أشجار السرو القابعة أمام المنزل ،التي وبفضل شيخوختها اللافتة للنظر ستضطر لأن تضيع وقتاً ما في تأملها .

أما فيما لو أنك قصدت يوماً المنزل مع سبق الإصرار والتصميم ،وأنت مدرك للغاية وجهتك ،فأنت في الغالب لن تنتبه إلى شيء من كل هذا ،سوف تضع خلف ظهرك كل ما تحدثنا عنه سابقاً ، أي كل ما يخص خارج الملكية التي خصصها التاريخ لرب هذا البيت ،ويصيبك العجز عن التفكير بأي أمر سوى ما ستراه وتسمعه وتعيشه في الداخل ، بعد أن يفتح رب المنزل والذي في يده السلطة المطلقة لك الباب ويبتسم لك مؤهلاً ومسهلاً ،وأهل بيته مصطفون خلفه كالبنيان المرصوص يؤهلون ويسهلون أيضاً ،مع ابتسامات طفولية حقيقية للغاية على شفاههم .

حسناً ،لنكمل ماقد بدأنا تخيله ولنفترض أنك قررت أن تعيش في ذاك المنزل فعليك أن تعي جيداً القواعد غير الصارمة التي يفرضها نظام هذا المنزل ، والذي ليس شرطاً أن تطبقها ،فأنت بصفتك ضيف عليه أنت معفى منها ، فقوانين هذا المنزل تسري على ساكنيه فقط .

دعني ياصاحبي أسهب لك في الشرح عن تلك القوانين التي سبق وشرح لي عنها صديقي نبيل ،و التي فرضها رب هذا المنزل منذ سنوات كثر يصعب تخمينها ،والتزم بها بنفسه قبل أن يفرضها على الجميع فرضاً ،لذا ليس عليك أن تشعر بالعجب من دقة موعد ولادة المنزل اليومية ،عند السادسة من صباح كل يوم ،حين يبدأ تسلل خيوط الشمس بين الفراغات التي تشكلها تقاطعات أغصان شجر السرو المقابل للمنزل ،ويتزامن ذلك مع استعداد الديوك لمهمتها اليومية التي تقف من أجلها يومياً رافعة مناقيرها فخورة بمهمتها التاريخية التي تجهل بأن زمانها قد ولى واندثر ،والتي يصر رب المنزل بأنها وحدها من توقظه في صباح كل يوم ،لينهض كالعادة من فراشه في غرفته في الطابق السفلي ،بعد أن تعبق في أنفه روائح البخور المنطلقة من المدفن المجاور ،وروائح أزهار الدفلى وفم السمكة والفل التي تقتنيها سارة إحدى بناته الست في فناء المنزل الواسع ،حينها يرتدي شماخه الأحمر وعقاله وسرواله الذي يرفض أن يستبدله ببنطال رغم إلحاح أبنائه ، ثم يتسلل ببطء من الغرفة كي لا يوقظ زوجته الخمسينية النائمة بقمطة رأسها البيضاء ،وجواربها الصوفية السميكة ، خوفاً من البرد والمرض ،ويتوجه بعدها نحو الإسطبل ليلقي نظرته اليومية على الأبقار والدجاجات التي يربيها منذ زمن بعيد .عندها لن يجد نفسه المستيقظ الوحيد في المنزل ،وسيلاحظ كالمعتاد ابنته وحيدة وهي تقرفص لتباشر في حلب أثداء البقرات ،وسيسمع في اللحظة ذاتها صوت المذياع المنطلق من المطبخ والذي يصدح ككل يوم بالأغاني الفيروزية ،عندها سيطمئن بأن ابنته سارة التي يحبها حباً جماً قد استيقظت بمزاج جيد وباشرت وبكل رضا في غلي الجبن لتعقيمه وتحضير الشاي بالقرفة من أجل الفطور ،والتي كانت تقوم بكل هذا بكل سعادة ودون بذل أي جهد ،وبقبول تام بالخضوع لسلطة والدها مقابل أن تعيش الأمان والكرامة اللتين تمنحهما لها هذه السلطة التي جربت ذات يوم ان تعيش بعيدة عنها عندما سافرت لتلقي العلم في المدينة واستقرت في منزل أخيها الكبير محمود الخارج عن السلطة والمغضوب عليه من قبلها ،والذي ذاقت عنده طعم ثمن العصيان ،وفرت وهي تلهث من الحياة المعذبة التي يعيشها العصاة كعقاب أبدي لهم !

وعادت بعدها إلى حضن والدها ،وجنته راضية بكل قوانينها ،التي أصبحت فيما بعد مفهومة واعتيادية ،لتستلم مهمة تنظيم المنزل والاعتناء بوالديها ،ووضعت على عاتقها مسؤولية أن يحظى الجميع بصحة جيدة بفضل الغذاء الذي وجب عليها تأمينه .تلك المسؤولية التي عتقت نفسها منها والدتها رحيمة مذ أصيبت بآلام المفاصل في قدميها ،وانزوت في غرفتها ملتزمة بموضع خاص بها على الأريكة الحجرية المفروشة بالبسط الملونة التي كانت قد صنعتها بنفسها في الماضي من بقايا الثياب المستعملة ، وداومت على الجلوس عليها وهي تسلي نفسها بالأشغال البسيطة كالمساعدة في تقطيع الخضروات أو خياطة الجوارب والثياب المفتوقة أو حتى في القضاء على الذباب في الصيف باستخدام أداة بلاستيكية خصصت لذلك .

وأحياناً ولكونها الأكثر قرباً من السلطة البيتية _رغم أن ذلك لا يمنحها أية امتيازات _كانت تحاول أن تفرض بعض آرائها على قاطني المنزل مستعملة صوتها الخافت ولكنتها المهذبة والتي غالباً تكون غير مجدية ، الأمر الذي جعلها تعكف نهائياً عن إدلاء رأيها فيما يتعلق بالقرارات المصيرية لأفراد العائلة ،والتي كان آخرها قرار ولدها الأصغر يحيى بالزواج من فتاة من المدينة تختلف عنه كثيراً .

فقد كان ليهتم بشأن تاخر حلب البقرات أكثر من اهتمامه بموضوع كهذا ، أو أن يراقب بصرامة سير عملية قطاف التبغ ليتأكد من جودتها التامة ،فقد كان التبغ ومردود الحيوانات التي يربيها بالإضافة إلى ما يجنيه من حقوله الزراعية نقطة قوته الاقتصادية وهي إحدى أهم نقاط قوته التي تحفظ له السلطة المطلقة .

لم يحبذ رب المنزل هذا الزواج لكنه ولكونه غير صارم سوى فيما يخص القواعد البيتية وقواعد العمل التي تتعلق برزقه من الأراضي الزراعية ،لم يشأ أن يتخذ قراراً في شأن كان يعتبره خارج الأمور التي تشكل أولويات اهتمامه المنصب على استمرار هذا المنزل والحفاظ على الحياة فيه .

لنكن موضوعيين ولنقل بأن تلك السلطة لم تتصف بالأنانية ،وسمحت لبعض منها أن ينتقل بنعومة إلى ابنته الكبرى وحيدة ،التي وفي البداية شعرت بنشوتها ،وراحت تكرر إصدار قرارات والدها بل وبصرامة أكبر ،واعتقدت بأن القوة التي منحتها لها تلك السلطة هي الضمان الوحيد للسعادة التي افتقدتها دوماً ،وكان ذلك في الماضي بسبب تلك السلطة نفسها ،التي جعلت منها ومنذ صغرها كتفاً يمكن الاستناد عليه جيداً ،فتولت منذ طفولتها مسؤولية قيادة أفراد العائلة في العمل أو المنزل ،وعوضها ذلك النصيب الضئيل من السلطة عن اختلافها عنهم في أميتها ،وأكسبها شهرة واسعة ومكانة في المجالس الرسمية التي ترتادها العائلة ،سواء كان ذلك لتقديم تعزية أو حضور حفل زفاف .

وذاع صيت وحيدة كامرأة قوية وكمثال للتحمل والشقاء في أوساط البلدة جميعها ،الأمر الذي زادها امتلاء وكبرياءً ،واكتنفها شعور ما بالحرية الذي قادها نحو حيوية أكبر جعلتها تعيش مجدها بكامل تفاصيله .

فأصبحت القائدة في كل شيء ،صباحاً تقود عمال الحقول في موسم الزيتون نحو الحقول مع ابتسامة منتصر مرسومة على شفتيها ،ونشاط لاحدود له ،وفي المساء تقود أفراد العائلة في زياراتهم التي يفرضها الواجب عليهم لسكان البلدة من الأقارب والأغراب ،أيضاً مع ابتسامة لا تخبو أبداً .

وكان لديها أيضاً زياراتها الخاصة التي تتحرر فيها من شخصية القائدة وتنسى نفسها فيها وتعود طفلة صغيرة تسرد الحكايات والأحداث التي وقعت معها على مسامع جيرانها مثل الجد بطرس مدرس اللغة العربية المتقاعد وزوجته اللذين يعيشان في منزلهما الكبير وحيدين دون أبناء تسليهم قراءة الكتب والاعتناء بشجيرات الأنكي دينيا والخوخ والأحاديث التي تدور مع وحيدة التي كانت تنصت جيداً لما يدلي به الجد بطرس من آراء فيما يتعلق بالتغيرات الاجتماعية التي تفضي إليها التغيرات السياسية أو عن تأثر المواسم بتلك التغيرات ،أو ربما يقود به مزاجه نحو إسماعها بضع أبيات من قصائد بودلير أو أحمد شوقي .

وكانت وحيدة تعود دوماً فخورة بما تحمله في رأسها مما سمعته ،لتناقش فيها أشقاءها المتعلمين والذين غالباً لا يملكون قدراً من الثقافة كافياً لفهم ما تقوله ،فالعلم لايعني الثقافة في أي بقعة على وجه الأرض ،ويمنحها ذلك عادة ثقة تصقل سلطتها ،وشعوراً بالنصر على شقيقها نبيل المتحصل على أكبر قدر من العلم بين أفراد العائلة كلها ،والتي كانت تجد فيه نوعاً من عدم الاكتراث لسلطتها ،وخافت دوماً أن يتحول هذا قريباً إلى نوع من التمرد كما تحول مع شقيقها الأكبر محمود الذي كان عقاب تكبره على سلطة والدها هو العيش في الشقاء .

وكانت شكوكها هذه عن نبيل مردها تجربته الطويلة في العيش خارج حدود ملكية الوالد ،لما غادر البلدة لتلقي العلم في المدينة وأرسلت له رزم النقود في البريد بتوقيعها ليصرفها على الأشياء الممنوعة التي حرم منها داخل حرم والده ،كإرسال الورود إلى الصديقات المعجبات الكثيرات ،واللواتي غالباً يتوهم بإعجابهن له .

وربما لم تكن تلك الأمور ممنوعة في منزل الأب ،وإنما القواعد الموضوعة لم تتح له فرصة لتجربتها ،كما لم تتح له الفرصة لاقتناء الكتب ودواوين الشعر الرومانسية لعدم توفر وقت كاف للسفر الى المدينة لابتياعها ،مما جعله يدمن على شرائها في سنوات تحرره ،وراح ينشد ما يقرأه على أول فتاة يصادفها فلم تنجو من قصائده لا لا ابنة الصائغ بفستانها القصير ،ولا ابنة الإمام المنقبة .

وعندما عاد إلى حضن العائلة ،وجد صعوبة في التعود مجدداً على النظام القائم ،وعلى وجود نسوة قويات لا يكترثن بالرسائل والورود ويتمتعن بنوع من السلطة ،لذا سارع في اتخاذ زوجة له ،فاختار إحدى طالباته الخجولات واللواتي يهتتمن بأنوثتهن بشكل مبتذل ،لتكون زوجة له .

أنجبت له تلك الزوجة طفلة ثم توفيت ،فعاد مجدداً إلى إرسال الورود وإلقاء القصائد والزجل ،وتدبرت السلطة العليا بأمر الطفلة ووجدت حلاً مناسباً لهما ،بأن تعيش في كنف عمتيها وحيدة وسارة .

وكان هذه الطفلة بمثابة دافع قوي للعائلة بأن تستمر على نظامها نفسه لتأمين حياة جيدة للجميع وللطفلة خصوصاً ،ووجد أفراد العائلة فيها سلواناً عن أعمالهم في المنزل والحقول ومصدراً لإحداث ضجيج ما وسط هذا السكون القاتم .

ولعل أكثر من تعلق بالطفلة كانت خديجة الابنة الثالثة ،وشغلها ذلك عن مهمتها كضابط للألسن والتذكير الدائم بوجود إله في السموات يعاقب بقسوة عند الضرورة وعن وظيفتها الأخرى كمدرسة والتي حصلت عليها بفضل شقيقها مصطفى ، الذي وجد في تقربه من الأوساط السياسية ورؤساء البلديات سلطة ما حلم دوماً بأن تكون أكثر أهمية من سلطة والده البيتية التي أنهكت جسده وعقله بقوانينها الوجودية المحضة .

لكن تلك السلطة التي سعى دوماً لتوسيعها لم تغنه عن سلطة والده ،بل بقي مرتبطاً بها وبشدة ،لأن ما منحته إياه الأوساط الحزبية والتقرب من أصحاب الثروة والنفوذ من ميزات لم تضمن له الأمان والتعويض عند السقوط ،كان ذاك الأمان في منزل الأب فحسب .

ولو أنه كان قد خرج من حدود ملكية والده واشترى بيتاً له بعد زواجه ،إلا أن ذاك البيت لم يكن بعيداً عن منزل الوالد ،الأمر الذي جعله مجبراً على رؤية صرح والده كلما خرج من منزله الذي سيبدو تافهاً للغاية أمام شموخ منزل الأب ،وقد كان هذا يحزنه بشدة ويزيد من شراسته الثورية التي قادت به نحو السعي دوماً خلف المال والقوة ،وجمع المزيد من الموالين له فراح يتقرب من أشد الأثرياء ثراءً في البلدة مثل جورج صاحب المطعم الكبير الوحيد فيها ،وأقيمت الولائم العارمة باللحوم والخمور بينهما ،وحظيت طاولات المطعم بنقاشات مصيرية للبلدة وأهلها بفضل الاجتماعات التي أقيمت حولها بين مصطفى و جورج و رئيس البلدية والمختار والقس وبضعة من الذين يسمون أنفسهم وجهاء البلدة .

وغالباً كانت تلك الاجتماعات تسفر عن قرارات تتعلق بشأن توظيف أحد أبنائهم ،أو اختراع طرق لتمكين شعبية ومكانة أحدهم ،وكثيراً ما كانت تلك الاجتماعات لا تفضي إلى شيء سوى حشو البطون والترويح عن النفس .

وكان يفخر بإنجازات سلطته الفردية في تعيين رئيس للبلدية أومدير للثانوية ،أو عندما ينجح في إقامة عزاء فخم لرجل مرموق من رجالات البلدة ،أوينجح في إبراز أفراد عائلته بأجمل بريق يمكن في حفل ما من الحفلات المقامة في المطعم ،على الرغم أنك لو أتيت قبل ذلك بساعات ستجدهم ذاتهم يهتمون بمزروعات الحديقة المحيطة بالمطعم ،فقد كان سر سلطتهم في منظور مصطفى يكمن في تواضعهم ،وفي توددهم للجميع باستثناء من عصوا كلمة رب المنزل من أفراد العائلة أو من فروا باحثين عن شكل آخر من أشكال السلطة .

مثلما فعلت شقيقته أم كلثوم وزوجها الفقير الحال ،الذين أسسا حياة بعيدة عن السلطة مطبقين لما تعلموه من منزل الأب من قواعد بصرامة أكبر كونهما بدآ من الصفر ،لكنهما لم ينجحا في بناء سلطة مماثلة ،لأن النسخة المقلدة من أي شيء لن تملك حقيقة الأصل بتاتاً .

لذا علم الجميع بأنه من المحال العيش بعيداً عن ذاك المنزل ،وأن مصيرهم دوماً العودة إليه لأنه وحده الراسخ والثابت وسط هذا العالم المتغير والمخيف !

الفصل الأول

1981

_1_

(( جميل ))

لم يكن في وسعي بعد أن خسرت كل ما ورثته عن والدي سوى أن أقبل بوظيفتي التي أوكلت إلي كمدرس في إحدى البلدات في الريف الشمالي السوري على الحدود التركية ،بعد ان أيقنت بأن المال ضروري لكي يعيش المرء ،وتركت بذلك عالمي الذي خلقته في منزلي المتواضع في شارع جان دارك في بيروت ،ذاك العالم المفعم بكآبة كافكا و نبض ألوان بول كلي و شجن داليدا .

حملت حقيبتي في صباح يوم غائم وكئيب ،بعد أن ودعت هاتفياً عشيقتي ليلى التي لم تكترث كثيراً بالأمر ، فقد كان الشبق الذي بنيت على أساسه علاقتنا قد بدأ يخبو بيننا منذ زمن .

لذا عندما تحركت السيارة بي وبدأت تبتعد أكثر فأكثر عن المنزل لم يراودني سوى شعور واحد هو ألم الانسلاخ عن عالمي الفسيفسائي الذي صنعه خيالي ليخفف عني عبء الواقع ،ويغلف شعوري المخجل بالفشل في علاقاتي الإنسانية مع الناس ، وفي بناء روابط قوية في الصداقة أو العاطفة .

لم يدم هذا الشعور بالانسلاخ طويلاً ،لأن تأمل الطريق الذي تسلكه السيارة عبر زجاج النافذة جعلني أشعر بأنه يحمل لي في نهايته بداية ما .

وعلى الرغم من أن السائق كان يحاول دون استسلام بأن يخرجني من حالة الصمت الأبله المصحوب بجمود ملامح الوجه والنظرة الغامضة ،إلا أنني آثرت البقاء فيها كمرحلة موت مهمة تفصل بين حياتين مختلفتين لي .

وقد اضطررت إلى إنهاء تلك المرحلة لما اقتربت السيارة من حدود البلدة لأطلق تنهيدة ارتياح منحني إياه اللون الأخضر المشبع لأشجار الخوخ المصطفة على جانبي الطريق ،والذي مرد الطمأنينة التي يمنحها ربما وضوحه .

كان وضوح اللون الأرجواني الغامق لأزهار الدفلى التي تزين بعض شرفات البيوت ،يمنح شعوراً بخفة الجسد اللذيذة والتي نشعر بالرغبة فيها أحياناً ،فالجسد لا يحتاج دوماً للشعور بثقله والذي يدفعنا أحياناً لضم جسد آخر بقربنا وولوجه ،وإنما قد يحتاج إلى الخفة التي ترفع أقدامنا عن مستوى هذا العالم نحو الحلم .

والخفة التي شعرت بها في السيارة جعلتني أسهو عن وصولنا منزل صديقي نبيل الذي بدا صرحاً مسيجاً بالأزهار الملونة و منفصلاً عن بقية البيوت ،تظلله ثلاث شجرات سرو ضخمة عجوز ،تمد رؤوسها من خلف جدران مدفن مجاور يفصل بينه وبين المنزل فسحة ينفتح خلفها فضاء من الحقول خال من البيوت .

وقد منحت أشجار السرو للمنزل كآبة كافكاوية لم ترق لأزهار الشرفات الفارة وبإصرار تام نحو الحرية .

كما لم ترق لها أن ينافسها البخور المنطلق من بين الأموات في عطرها ،أو في كونها العنصر الأهم في تكوين انطباع عن المنزل .

لما ترجلت من السيارة ،كان صديقي نبيل ينتظرني عند باب المنزل ،وقد بدا عليه حزن ما ،أدركت كنهه لما ولجنا المنزل لنرى أفراد العائلة مجتمعين ومتشحين بالسواد ،وثمة خوف من المجهول واضح في سحناتهم .

سلمت عليهم فرداً فرداً ،وتكفل نبيل بتقديمهم إلي ،ودهشت حينها لرؤية مجموعة من البشر يقفون الوقفة ذاتها ،ويمارسون البكاء والنحيب ذاته ،وكأن لهم العقل والأفكار ذاتها .

كان ثمة أناس غرباء كثر أيضاً يملؤون فناء المنزل الكبير ،جلسوا يتهامسون فيما بينهم ،مررنا أنا ونبيل من أمامهم دون أن ننظر إليهم و دخلنا غرفة في صدر الفناء ،أخبرني نبيل فيما بعد أنها غرفة مخصصة للضيوف .

كانت غرفة سقفها من الخشب ،وقد زينت جدرانها بصور لأفراد العائلة ،ثمة صورة لزوجة نبيل المتوفاة ،لاحظت شبهاً غير عادي بينها وبين ليلى عشيقتي السابقة .

جذبتني أيضاً لوحة معلقة رسمت بالألوان الزيتية ،علمت من نبيل أنها لشقيقته الصغرى ،التي قررت يوماً أن ترسم انطباعها عن المنزل ،فنتجت هذه اللوحة التي تمثل منزلاً كبيراً وشاحباً يقع في الظل ،مبني من حجارة لا لون لها تقريباً ،تبرز من بين شقوقه ورود ملونة صغيرة .

لاحظت مكتبة زاخرة بالكتب الدينية في صدر الغرفة ،قال نبيل أنها تخص أخته خديجة ،تناول منها المصحف الشريف واستأذنني بالخروج قليلاً ،مبرراً بأنه عليه إيصال القرآن إلى شقيقته خديجة في الغرفة المجاورة حيث تجلس النسوة تصلين لأبيه الذي تبين لي أنه قد توفي منذ يومين .

تمشيت قليلاً في الغرفة ريثما يعود ،متأملاً السقف الخشبي الذي بني ببراعة وجلد كبيرين ،حمل النسيم القادم إلي من النافذة رائحة أزهار وبخور ،ثم سمعت صوت تلاوة للقرآن صادر من جهاز مكبر للصوت ،عندها عدت إلى مكاني في الأريكة ،ودخل نبيل بعدها وهو يمسح دموعه بكم قميصه ،جلس بجانبي وأحنى برأسه نحو الأسفل وقال : (( لا أحد يعلم كيف سنمضي بدونه ؟ سنضيع حتماً…))…

نادت إحدى النساء عليه معلمة إياه ببدء مراسم الجنازة ،نهضنا معاً مستعدين للخروج ، طلب مني البقاء في الغرفة لأريح جسدي المتعب من السفر الطويل ،لكنني أصريت على مرافقته .

عبرنا من فناء المنزل المكتظ بالنسوة الباكيات ،والصادح بعويلهن وكلامهن عن فضائل الميت وخصاله الحميدة .

في الخارج كان عدد هائل من الرجال يحاولون الاصطفاف في رتول منظمة ،ليتمكن الإمام ذو اللحية السوداء الحالكة والعينين الواسعتين السوداوين اللتين تتركان انطباعاً في النفس بأنهما غير مكترثتين بما يدور حولهما .

شدني نبيل فجأة من يدي لكي نعثر على مكان ما في الرتل الذي يلي الإمام مباشرة ،بعد أن لاحظ بأن شقيقه مصطفى كان يدعو ولاته وأصدقائه من أثرياء البلدة وخارجها لاحتلال الرتل الأول ،وقد بدا على وجهه تجهم عظيم ،وعلى جوارحه اضطراب وحماس غير مبرر .

سمعت فجأة أحد الحضور يصيح : (( من الأفضل ألا تذهب النساء )).

صرخت خديجة من مسافة ليست بالقليلة: (( لم ؟ الدين الإسلامي لا يمنع المرأة من حضور الجنازة ؟)).

لم يكترث أحد بما قالته وكأنها لم تقل شيئاً ،وراحت النسوة تدعون بعضهن لولوج المنزل والامتثال لأوامر الرجال .

أثناء سيرنا نحو المقبرة ،راح الرجال يتمتمون بأشياء لا أعرف عنها شيئاً ،وعلى الرغم من أن الغيوم القليلة التي ملأت السماء لم تغطي الشمس حتى ،إلا أنها أرسلت فوق رؤوسنا بضعة قطرات من المطر ،وفي الأفق ظهر لنا قوس قزح شاحباً .

عند وصولنا إلى المقبرة المتواضعة والتي كانت عبارة عن قطعة أرض صغيرة مسيجة بالأسلاك الحديدية ،وقد تربعت فيها أشجار سرو شامخة تمنح للمقبرة ظلمة دائمة بفضل الظلال التي ترميها على ظهور القبور ،شاهدنا خلفنا مجموعة من النسوة اللواتي رفضن الرضوخ للقرار الرجولي ،وكانت في مقدمتهم وحيدة الأخت الكبرى لنبيل ،والتي أدهشتني بنيتها القوية كبنية رجل .

استسلم الرجال للأمر بعد أن شاهدوا أن وحيدة من تقود النسوة ،وقام حاملو النعش بإنزاله فوق صخرة ليتم الصلاة عليه أمام المقبرة ،بينما راحت النسوة خلفهم تولولن وتسردن القصص عن أبي محمود .

بعد الانتهاء من مراسم الجنازة ،وقف نبيل وأشقاؤه في رتل لكي يتقبلوا التعازي ووقفت انا بجانبهم ،وراح الأطفال أحفاد أبي محمود يقدمون القهوة العربية المرة للمعزين ،بعد أن أطلق مصطفى صرخة في وجوههم يأمرهم فيها بذلك .

تعب كفي من المصافحات الطويلة والتي لم تنتهي إلا بعد أن انخفضت الشمس خلف أشجار السرو ،و أخذت شعاعاتها البرتقالية تتسلل عبر الأغصان لتبعث في النفوس حزناً زيادة على حزنها .

وما منح هذا المشهد صوفية أكبر كان صوت جرس الكنيسة الذي دق في تمام السادسة مساء ،وأدهشني لجهلي بوجود كنيسة في البلدة .عندها اعتذر بعض الحضور من مصطفى وتوجهوا لحضور قداس المساء بمن فيهم القس .

توجه بعدها الحضور للجلوس في خيمة التعزية ،وانقسموا إلى أتباع مصطفى من الأثرياء وأصحاب المناصب ، و إلى غيرهم من الحضور الذين جلسوا بعيداً عنهم بالقرب من الأماكن المخصصة لأطفال العائلة .

استأذنت من نبيل للمغادرة مبرراً بأنني على وشك السقوط من شدة التعب ،فنادى على أحد أبنائه لإيصالي إلى المنزل .

مشيت خلف الطفل الذي راح يعجل في مشيته مستمتعاً بدوره .ثم خطر لي أن أسأله سؤالاً : هل تحب جدك ؟

أجابني : طبعاً أحبه كثيراً ..

_ من تحب غيره بالمقدار نفسه ؟

_ لا أحد ،ليس مهماً ،المهم أن تحب جدي .. وأنا أحبه للغاية

قادتني خديجة إثر وصولي المنزل إلى الغرفة التي خصصت لي ،صعدنا معاً درجاً حجرياً يوصل إلى الطابق الثاني ،دون أن تنظر إلي بتاتاً أو تنطق بأي حرف .

تمكنت من تأمل وجهها المدفون بين القماش الكثيف لزيها الأبيض المخصص للصلاة ،وراق لي بالرغم من عظام وجنتيها البارزتين والتي لاأفضلها في وجه المرأة ،بل كنت في طبعي أحب الوجه الممتلئ .

كانت الغرفة المخصصة لي مرتبة تفوح منها رائحة النفتالين الممزوج برائحة الأزهار التي تزين نافذتها الصغيرة ،قالت خديجة أنها هي من انتقت لي النرجس لأنه يبعث على التفاؤل ،وابتسمت على نحو أدهشني ،وغادرت وهي لم تزل تبتسم .

كان في الغرفة باب يفضي إلى سطح المنزل ،عبرته فوراً ،وأصبحت عندها في مستوى رؤوس أشجار السرو القابعة أمام المنزل ، وتسنى لي رؤية البلدة كاملة بدءاً من حدودها الغربية حيث تقبع كنيسة ضخمة بنوافذ متماثلة ، وصولاً إلى حدودها الشرقية التي تنتهي بالمقبرة المستظلة بأشجار السرو .

شعرت بقشعريرة ما عندما سمعت صوت مرتل القرآن القادم من جهة الشرق حيث يقام العزاء ،المتداخل مع أصوات النساء المنتحبات القادم من فتحة على السطح تطل على أرض الديار ،ومع صوت الرياح الباردة التي هبت من الشرق ولفحت وجهي .

اقتربت من الفتحة مسترقاً النظر إلى النسوة المجتمعات ،ولاحظت أن خديجة قد عادت إلى تجهمها السابق ،بينما كانت عزة زوجة مصطفى تسرد بفخر لإحدى المعزيات كيف قبض شقيقها العقيد على إحدى عصابات التهريب الخطيرة .

عادت في هذه الأثناء وحيدة مع النسوة التي تجرأن على مرافقتها إلى المنزل ،وهن يصرخن ويولولن ،مما دفع بالنسوة الجالسات إلى التخلي عن أحاديثهن والعودة إلى البكاء والنحيب من جديد .

سارعت الأخت الكبرى أم كلثوم إلى ضم أختها وحيدة وكأنها المتضررة الأكبر من موت والدهما ،أو أنها خليفته في حمل أثقال هذه العائلة على كتفها .

(( لقد كان رجلاً حقيقياً)) صرخت عزة موجهة كلامها إلى الجمع كله ،وكأنها تخطب بهم ،ثم ذرفت عينها بصعوبة دمعة مترددة ،سقطت على الأرض وفق خط مستقيم ،فقد كان رأسها ينتصب بثبات شديد ،وعيناها تحدقان دون أن ترمشا حتى في أشجار السرو المقابلة للمنزل .

بينما راحت خديجة تخفض رأسها أكثر فأكثر وهي تسبح بيديها المرتجفتين ،وراحت امرأة بجانبها تصلب على وجهها .

من جهة الشمال هناك قرب أسلاك الحدود التركية انطلق صوت صراخ وتأوه امرأة ،التفت إلى مصدر الصوت ،فشاهدت امرأة بين الحقول ،تضغط بيديها بشدة على ظهر رجل ضخم لتدخله فيها أكثر ،بينما كان هو يحاول ألا يرمي بثقل جذعه عليها ،ويكتفي برمي ثقل نصفه السفلي .

كان ذلك يحدث في ظل شجرة زيتون ،في بقعة أمان صغيرة وسط العراء ،والصراخ يعلو ويعلو دون أي خوف من أن يسمع ،فقد كان يعلم جيداً أنه يحتمي بمنزل شغل الناس بأمر موت ربه ،وخدرهم بعويل نسائه القويات ،ونفوذ رجاله الطموحين .

…………………………………………………………………..

فوجئت بهوية الفتاة التي شاهدتها بين الحقول لما اجتمعنا جميعاً على المائدة مساء من أجل العشاء ،كانت ابنة صديقي نبيل من زوجته المتوفاة ،وتدعى فيوليت .جاءت وانضمت إلينا بعد زمن من جلوسنا ،وقد بدا على وجهها ملامح حزن شديد .

جلست إلى جانب وحيدة التي ربتها في الصغر والتي راحت تهتم بصحنها ،وتملؤه بصدور الدجاج المشوية ،وتضمها كل هنيهة مقبلة جبينها .

تناولت الفتاة طعامها دون أن تنطق بأي حرف ،أو حتى أن ترفع رأسها للأحاديث التي كانت تدار ،والتي استلم مصطفى زمام المبادرة فيها بحماس غريب ،جعله في غفلة عن كمية اللحوم التي كان ينهشها وهو يسهب في حديثه المبتذل عن نجاح العائلة في إقامة مراسم عزاء جيدة ،تليق بسمعة العائلة ومكانتها .

وشاركته زوجته عزة في ذلك الفخر ،مطلقة ضحكة لا تتلائم مع الظرف المعاش .الأمر الذي جعل من خديجة تتضايق بشدة .

غادرا مباشرة بعد العشاء إلى منزلهما ،قالا بأنه عليهما استقبال ضيوف كثر وبأن أولادهما لا يمكن تركهم بمفردهم لمشاجراتهم المستمرة والخطيرة للغاية .

بينما جلسنا جميعاً لتناول الشاي والحليب ،وراح نبيل وشقيقاته يكلمونني عن البلدة وطباع الناس فيها ،وعن بعض العائلات التي يتوجب علي أخذ الحذر عند التعامل مع أبناءها .

انسحبت فيوليت دون ان يلحظها أحد سواي ،بينما استأذنت بالذهاب إلى غرفتي ،ولما مررت بجانب المطبخ شاهدت سارة مرهقة وهي تجلي صحون العشاء بمفردها .

صعدت الدرج الحجري المفضي إلى غرفتي ،وهبت ريح شديدة جعلت من أشجار السرو تصدر حفيفاً لطيفاً على الأذن ،فالتفت إليها فرأيت فيوليت قد تسلقت حائط المدفن المجاور وجلست فوقه وهي تلعب بكرتي سرو بضجر وتململ .

عندما دخلت الغرفة سارعت نحو حقيبتي وأخرجت رواية ( ترنيمة عيد الميلاد) منها ،واستلقيت على السرير أقرأ فيها .

كنت قد قرأتها مراراً لكن وجود المدفن المجاور والأحداث التي شهدتها في هذه البلدة جعلتني اشعر برغبة شديدة في عيش أجواء تلك الرواية مجدداً .

غفوت وأنا مستغرق في القراءة ،و رحت أكلم نفسي في الحلم وأتساءل : ماذا لو أنني مخطئ وأن تلك الفتاة التي شاهدتها بين الحقول لم تكن فيوليت ؟

……………………………………………………………………………..

أيقظني نبيل في اليوم التالي بعد أن استغرقت كثيراً في نومي العميق ،وأخبرني بأن ابنته فيوليت هي من سترافقني إلى المدرسة ،لأنه سيتغيب من أجل استقبال المعزين .

كان جميع أفراد العائلة قد استيقظوا و باشر كل منهم في دوره ،سمعت صوت آلة الحلب أثناء نزولي الدرج الحجري ،وصوت بخاخ الماء الذي كانت سارة تنظف به أزهار الفناء ،والتي ما إن رأتني حتى أشارت إلي لقصد المطبخ من أجل الفطور .

في المطبخ كانت فيوليت التي نشأت أصلاً بين عماتها في منزل جدها تتناول الفطور وهي على أتم الاستعداد للذهاب إلى المدرسة ،في بذتها العسكرية الموحدة .

بدت عابسة ولم تبتسم لي حتى عندما ألقيت التحية عليها ،ردت علي بصوت خافت ،ولم تلتفت إلي وكأنها لا تكترث لأمري بتاتاً .

قامت بتكسير الكعك بغضب بأصابعها ثم أضافته إلى كأس الحليب أمامها ،وراحت تأكل الكعك المغمس بالحليب بواسطة ملعقة .

بكت فجأة واضعة كفيها على عينيها ،وراحت تردد : لقد كانت هذه طعامه المفضل ..ثم مسحت دموعها فوراً ،مستعيدة توازنها في زمن قياسي .

دخل نبيل بعد وقت قصير ،وجلس ليشاركنا الفطور مبدياً إعجابه بالأطعمة التي تزخر بها المائدة ،لاحظت عندها ابنته وهي ترميه بنظرة خاوية .

غادرنا المنزل بعدها قاصدين المدرسة ، عبرنا الشوارع بداية دون أن نتفوه بحرف ، لم نرى شيئاً يلفت النظر ،سوى الأعلام الورقية التي ترفرف هنا وهناك .

لما مررنا في الشارع الرئيسي للبلدة والذي يربطها بالمدينة المجاورة ،أشارت فيوليت إلى الحافلات المصطفة لتخبرني بأنها الحافلات التي توصل النسوة إلى المدينة ليبعن أشغالهن اليدوية ،والرجال ليبيعوا الثمار المقطوفة كالخوخ والعنب والتين .

ثم أخبرتني بغصة عن قوانين جدها الصارمة فيما يخص مواسم قطف الثمار ،وعن أغطية الطاولات التي تصنعها عمتها وحيدة وترسلها مع بعض النسوة لبيعها .

عندما وصلنا إلى المدرسة التي تقع إلى جانب الدير ،استأذنتني لدخول الدير وإلقاء التحية على الراهبات الواقفات أمام الكنيسة ،راقبت من بعيد كيف استقبلنها وقمن بحضنها وكيف غاصت بينهن وأفلتت في البكاء والنحيب على نحو أدهشني ،فهي لم تبكي هكذا حتى في الجنازة .

دقت أثناء ذلك أجراس الكنيسة حداداً على جدها أبي محمود كما علمت منها لاحقاً .

أدهشني الحجم الهائل للكنيسة التي نقش على يمين بابها تاريخ وقرار بنائها الذي أصدرته الحكومة الفرنسية في الثلاثينيات ،وأسماء البنائين من أهل البلدة وبعض العمال الفرنسيين الذين جلبوا لهذا الغرض .

وبما أنني كنت قد نشأت في بيروت منذ صغري مع والدين شيوعيين إلى حد التطرف ،فقد كنت من النادر جداً أن أزور ديراً ،وإن زرته يوماً فكان حكماً ديراً للروم الأرثوذوكس ،ولم يسبق لي وزرت ديراً كاثوليكياً .

كان الدين في بيتنا غائب تماماً ،ولم يكن له أي دور في رسم شكل حيواتنا المتقلبة ،والتي تبدو لوهلة أنها حرة لكنه في العمق رأي واحد وشكل واحد هو الذي يسود في النهاية ،حتى في نظرة كل منا إلى النعيم ،الذي اختصر في أمور مادية بحتة .

الأمر الذي جعل منزلنا يفتقد إلى التعاطف الأسري ،وجعلنا نعيش حيوات زائفة في حريتها ،يربط بينها جميعاً الانتماء العائلي والاحتياجات المادية .

ولهذا السبب ربما لم أشعر بوحدتي إلا بعد أن صرفت كل ورثة والدي ،وبعد ان انتهت علاقتي بليلى نهائياً ،تلك العلاقة الطويلة مقارنة بعلاقاتي السابقة ،رغم أنها أسست على الشبق فقط .

وللسبب نفسه تضايقت عندما أنهت فيوليت بكائها أمام الراهبات على نحو مفاجئ كما أنهته صباحاً على مائدة الفطور ،لأنني حقاً كنت أرجو أن يطول بكاءها لأتمكن أنا من بلوغه ،وأذرف أخيراً تلك الدموع العصية التي يبعث على ذرفها الخواء والجهل الذي يكتنفني.

………………………………………………………………………………..

أمر غريب وجديد علي ماجرى في الاجتماع الصباحي في المدرسة التي هي عبارة عن بناء شاحب جدرانه متشققة ،يقبع في نهاية منحدر لايبخل عليها بوحله الذي يرسله ليملأ باحتها دوماً .

فبعد أن اصطف الطلاب بانتظام لا مثيل له ،وتجمع المدرسون متحمسين وكأنهم أمام حلبة مصارعة ،وكان في مقدمتهم الموجه الموجهة وقد حمل كل منهما في يده عصا من الخيزران وقطعة من خرطوم للمياه قصت وهذبت لاستعمالها في ضبط الطلاب الذين بدوا وكأنهم تماثيل متشابهين صفوا لأخذ جرعتهم اليومية من المخدر الذي يضمن بقائهم الآمن على الوضع ذاته .

لاحظت أن فيوليت كانت التمثال الوحيد الذي تجرأ على أن يتحرك ليحك رأسه ،وبدت وكأنها لاتكترث لكل من يقف أمامها ،فقد كان المدير هو والدها نبيل ،والموجه هو ليث ابن عمتها أم كلثوم ،وكل تلك الأساليب التي يستعملونها مفهومة وواضحة وربما تافهة في نظرها .

عندما وصل بضعة طلاب متأخرين على الاجتماع الصباحي ،أمرهم الموجه ليث بالجري حول بناء المدرسة خمس مرات ،وعندما اعترض أحدهم طالباً تفسيراً لهذا العقاب القاسي ،غضب الموجه وهجم عليه وراح يهيل عليه الضربات بخرطومه مثل ثور هائج ،وقال له أنه سيخبره بالسبب بعد أن ينفذ الأمر بصمت وخضوع تام دون أن يرف له رمش .

ثم قامت الموجهة بتحذير الطلاب من الخوض في نقاشات دينية ،منذرة إياهم بسوق من تسمعه إلى مخفر الشرطة لتأديبه ،كانت امرأة ضخمة الجثة ملامح وجهها وحشية ،وقد عقصت شعرها الخفيف للغاية بحلقة مطاطية وشدته بإحكام نحو الخلف .

لاحظت فيوليت وهي ترمقها بنظرة ازدراء ،وقد احمر وجهها من الغضب والعجز .

دقت أثناء ذلك أجراس الكنيسة مجدداً من أجل أبي محمود ،وتساقطت بضعة قطرات من المطر ،دفعت بالموجه إلى أن ينهي العقوبة على نحو فجائي ،وولج الطلاب بانتظام إلى الصفوف ،والموجهة تصرخ في وجوههم : (( هيا دون أن ترفسوا كالبغال !)).

وعندما مرت فيوليت بجانبها حدقت فيها بعينين غاضبتين ،لكن الموجهة لم تنتبه لذلك .

بعد أن دخلنا إلى غرفة المدرسين استدعى الموجه فيوليت ،وأخبرها بأنه يريد أن ينصحها بصفته ابن عمتها وليس موجهها ،وحذرها من إقامة علاقات صداقة مع الطلبة القادمين من القرى المحافظة و النائية المجاورة.

هزت برأسها موافقة على كلامه ،وبدت وكأنها استوعبته جيداً وسترضخ له ،لكنني لما ولجت صفهم ،وشاهدتها تضحك وتمرح مع مجموعة من الطالبات ذوات الأردية الطويلة المزركشة بالألوان الفاقعة ،أدركت أنها توقفت عن الإصغاء لأي أحد منذ زمن طويل ،أو ربما لم يعد لهم وجود مطلقاً في نظرها .

لكن ما أدهشني حقاً لما رأيت طالباً بينهم يدعى محمد ،تقاطيع جسده تشبه إلى حد كبير جسد ذاك الرجل الذي لمحته مع الفتاة بين أشجار الزيتون ،عندها عادت الشكوك تراودني حول فيوليت دون أي رحمة .

………………………………………………………………………………..

(( أحتقرهم إلى درجة الازدراء ،جميع الطاقم المدرسي يشعرونني بالغثيان ،ولن أصغي لأي كلمة يقولونها )).

أجابت فيوليت على سؤالي لها عما ستفعله بشأن ما لقنت به ،وذلك في طريق عودتنا من المدرسة ،قالت ذلك وبصقت بصقة كبيرة على نحو أدهشني .

كان وجهها يطفح بالغضب وقد تماهى ذلك مع غضب السماء التي راحت تقذف بحبات البرد مثل طلقات نارية .

ولما سألتها عن محمد وعن طبيعة العلاقة بينهما ،قالت أنه حبيبها ،وأنها لا تخجل من ذلك وأردفت : (( لديه كثير من صفات جدي ،إنه قوي البنية ويحب العمل ،كما أنه يعاملني مثل جوهرته )).

قالت ذلك أثناء سيرنا أمام المؤسسة الاستهلاكية حيث تلقي زوجة عمها عزة خطابها اليومي على مسامع أهل البلدة .لذا أخفضت من صوتها عندما أدلت بتلك الجملة خشية ان تسمعها فقد كانت بمثابة جهاز لا يستهان به من أجهزة الرقابة على حياتها ،وكانت لا تستسيغها لا هي ولا شعاراتها المبتذلة .

لم أتجرأ على سؤالها إن كانت هي من رأيتها بين الحقول ،وخصوصاً بعد أن لاحظت أن الحزن بدأ يتسلل إلى وجهها ،ولما وصلنا إلى جانب دكان للبقالة ،دخلته لتشتري البسكويت وغزل البنات ،مبررة أنها الأشياء الوحيدة التي ستخفف من حزنها على جدها .

راقبت أثناء انتظارها شرفات البلدة العتيقة والتي بدت كلاسيكية للغاية وغير لائقة بالزمان الصدئ الذي تعيشه البلدة .

صادقت فيوليت على انطباعي هذا ،وقالت أنها تعيش حياتها دون أن تحتك بالرداءة .

قالت ذلك ونحن ندلف المنزل ،ثم سارعت دون ان تكترث إلي نحو المطبخ لتساعد عمتها وحيدة وهي تشكل أقراص الكبة ،الأمر الذي فاجئني أيضاً .

صعدت إلى غرفتي لأبدل ثيابي ،وخطرت ليلى في بالي دون سابق انذار ،تذكرتها في إحدى أوضاعنا الجنسية البوهيمية ،راودني عندها شعور غريب بالحزن ،ورغبة في إخراج رأسي من النافذة .

أخرجت رأسي من بين القضبان الحديدية للنافذة ،ورحت أراقب البلدة ،كانت الغيوم قد انحسرت ،وراحت الأوراق المبتلة لشجرة الجوز المقابلة لنافذتي تبرق في عيني كصورة ليلى ،بينما تسللت في أنفي رائحة بخور من المدفن المجاور .

سمعت صوت شجار بين أطفال قادم من منزل مصطفى الذي شعرت بتفاهته امام هذا الصرح الذي أقطنه ،ثم رأيته يترجل من سيارة فخمة لكنها وسخة ،برفقة صاحب مطعم البلدة والإمام .

نادى نبيل علي أثناء ذلك لتناول الغداء برفقته وشقيقاته وابنيه ،اعتذرت عن ذلك لأنني حقاً كنت فاقداً للشهية تماماً ولم أكن أرغب سوى بشيء واحد أن أنام طويلاً وبعمق شديد .

…………………………………………………………………………….

رافقني التفكير في ليلى حتى في أحلامي ،إذ رأيتها ونفسي نتكلل في كنيسة البلدة ،وبدلاً من أن يسألنا القس ذو الوجه الأصفر والعينين الزرقاوتين المؤطرتين بهالتين من السواد ،عن رأينا في الزواج ،طلب منا ان نتوب عن حيواتنا الضالة السابقة وأخذ يصرخ :توبا ،توبا فالظلام الأبدي قادم ..

استيقظت عند هذا الحد من الحلم ،بينما كانت السماء تمطر بغزارة في الخارج ،والظلمة قد اكتسحت الغرفة ،مغيبة كل تفاصيلها بما فيها اللون الأبيض الناصع لزهرة النرجس .

نهضت وارتديت ثيابي عازماً على المضي إلى خيمة التعزية المخصصة للرجال ،وبعد أن نزلت الدرج الحجري شاهدت شقيقات نبيل وفيوليت يجلسن صامتات في فناء المنزل مع مجموعة من النسوة ،وكان بينهن أيضاً راهبتين جالستين إلى جانب فيوليت وخديجة.

ألقيت التحية عليهم واستأذنت بالخروج ،كان البرد قارساً في الخارج والمطر قد توقف ،سمعت خوار أبقار عال قادم من الاسطبل المجاور .

سرت باتجاه خيمة التعزية ،كان ليل البلدة هادئاً ولمعت نحو الغرب أضواء سيارات تمشي ببطء ،بينما كان القمر غائباً في السماء خلف الغيوم .

دخلت خيمة التعزية التي لم تكن مكتظة بالكثير من الرجال ،دعاني ليث موجه المدرسة للجلوس بجانبه متحمساً لذلك ،سألني فيما لو كنت مرتاحاً في البلدة ،وعرض علي خدماته ،ثم وعدني بأنه سيدلني على طرق عدة لكسب المال في هذه البلدة التي وصفها بالكنز الخفي !

بعدها سحبني من يدي ومضى بي حيث يجلس كل من مصطفى وجورج صاحب المطعم ،وبعد أن قدمني إليهم ،اقترح على الجميع إقامة عشاء للتعارف في مطعم جورج أو منزله .

هززت رأسي بالموافقة ،ربما لأنه كان لدي احساس ما في داخلي أنه الخيار الوحيد المتاح لي !

وبالفعل ركبنا سيارة جورج البيجو بعد أن أقفلت خيمة التعزية ،ومضينا إلى منزله في طرف البلدة إلى جانب أضخم معصرة للزيتون فيها .

كان المنزل كبيراً و قد بني حديثاً ،لكنه يخلو من أي ذوق فني ،وبدا وكأنه زريبة ضخمة لتربية المواشي ،تحيط به حديقة قاحلة تخلو من أي شيء .

(علينا ان نخبر رئيس البلدية بوجوب تزفيت الفسحة أمام منزلي من جديد )..قال جورج ونحن نعبر الممر المؤدي إلى المنزل .بعد ان دخلنا نادى جورج على امرأة مسنة تدعى أم خالد التي جاءت مسرعة ومرتبكة من المطبخ ،و قد بدا عليها أنها كانت غارقة في النوم ،وطلب منها ان تحضر صينية كبيرة من السمك المشوي على الفور ،وتجلب لنا من الثلاجة زجاجات الويسكي والنبيذ .

مر الوقت دون أن ننطق ببنت شفة ،سوى بضعة نكات سخيفة أطلقها مصطفى واقتراحه المفاجئ بإعطائي دروساً خصوصية لجيمي ابن جورج ،الذي كان بعمر فيوليت تماماً .

ثم أردف ممازحاً : ((ولكن ذلك قد يمكنه من أن يصبح منافساً حقيقياً لابنة أخي فيوليت ،إنها عبقرية )).

ضحكنا بشكل هستيري ربما بتأثير الكحول ،ولاح لي وجه فيوليت في صينية السمك المشوي .

بعد أن ثملنا ،حكى لنا مصطفى بحزن عن طفولته القاسية ووالده الحازم ،،وعن نومه في البراري في ليالي الشتاء القاسية ليحرس قطيع المواشي وهي ترعى .

ثم التفت الجميع نحو جورج الذي راح يحدثنا عن حبيبته التي حرماه منها والداه المتسلطان ،والتي تزوجت وسافرت إلى لبنان و قتلت هناك في الحرب .

بينما بقي الموجه صامتاً ،متحفظاً عن البوح بأسراره ،واكتفى بذرف دموع حارقة من عينين أشبه بجمرتين متوقدتين .

شعرت أنني أحب تواجدي هنا ،وكأنه انتماء ما ،وخلق هذا في نفسي طمأنينة مشوبة بشيء من القلق ،ورافقني هذا الشعور أثناء عودتي ومصطفى إلى المنزل بعد انتهاء تلك السهرة برفقة سائق جورج ،إلى أن كسره حزن فيوليت الذي بدا على وجهها وهي تفتح لي الباب .

عندها سارعت في سؤالها عن سببه ،فأخبرتني أنها كانت تزين صورة جدها الضخمة التي أرسلت اليوم من المدينة بالشرائط السوداء ،وعلقتها في صدر غرفة الضيوف بجانب صورتي والدتها وجدتها المتوفتين ،وأن بقرته المفضلة قد ماتت اليوم أثناء الولادة .

ولجنا معاً إلى غرفة الضيوف كي تريني الصورة ،تأملت تلك الصورة التي غطت نصف الحائط تقريباً ،وبينما كان إحدانا ثملاً والآخر مكدراً ،كان أبو محمود يبتسم ابتسامة أبدية ملؤها الطمأنينة .

_2_

(( فيوليت ))

أغني وأنا جالسة على حائط المدفن أتأمل النجوم ،وفي يدي كرة سرو ..

أنزل عن الحائط ،يجذبني صوت قادم من الاسطبل

أغني وأتبعه

أراقب العجل الحديث الولادة من وراء الشبك وهو يموء بوهن بجانب أمه الميتة وأغني ..

تخبرني ذاكرتي أن أمه المفضلة عند جدي .. فأغني ..

أشعر بالبرد فألوذ المنزل وأنا أغني ..

أزين صورة جدي بالشرائط التي على شكل زهور سوداء وأغني ..

أتأمل ابتسامة جدي وأغني ..إلى أن أغفو إلى جانب مدفأة الحطب ..

يوقظني صوت طرق على الباب ،أنهض وأفتح للمدرس جميل المستأجر الجديد عندنا ،والذي ينظر باستغراب إلى أي شيء ..

يلقي علي التحية ورائحة الخمر تفوح حتى من عينيه ،يسألني عن سبب حزني ،أجيبه دون أن أجرأ على طرح السؤال عينه عليه .

يمشي بتثاقل بقميصه الأبيض المزهَر والمجعد ،وبنطاله الدجينز الباهت المنزلق عن مستوى خصره .يتعثر بحوض زهور من أحواض عمتي سارة ،ثم يتمدد على ظهره ويدندن أغنية الليل يا ليلى يعاتبني ..

أساعده على النهوض ،أسنده على كتفي ،وأشعر بالغثيان من رائحته ،أقوده إلى غرفة الضيوف بناء على طلبه فقد رغب في رؤية صورة جدي ..

يقف وأطرافه تهتز أمام صورة جدي ويسهب في تأملها ،ألاحظ عداءً في نظرته ولا أجد تفسيراً لذلك ،يغضبني هذا فآمره بالصعود إلى غرفته لأن الوقت قد تأخر .

ينظر إلي بعينين دامعتين ،ثم يرضخ لأوامري على نحو يخجلني من نفسي .

أسارع إلى غرفة نوم عماتي ،وأندس إلى جانب عمتي وحيدة في سريرها الكبير ،أشتم رائحة عطرها ويزول عندها وخز رائحة الخمر التي ملأت منخري .

أفكر بغرابة ذلك المدرس وصمته ،ونظراته الغريبة إلي في الصف وكأنه يراقبني ،علاوة على صدمته لما أخبرته بأنني لا أكترث بأي من المدرسين و شكوكهم المرضية .

أحاول أن أتجاهل التفكير به ،فيقحم محمد نفسه ويتربع على عرش أفكاري فأبتسم ..

ألتفت إلى عمتي وحيدة ،وأطمئن بأنها نائمة ،فهي طوال تلك الأيام العصيبة التي مضت لم يرقد لها جفن .

أتأمل تقاطيع وجهها الأسمر ،لأستمد منها القوة ،يفاجئني صوت عمتي خديجة القادم من السرير المجاور وهي تنصحني بتلاوة سورة الإخلاص والنوم المبكر .

أفعل ذلك وأنا مغمضة العينين ،وأغفو ..

في الحلم أرى جدي وجدتي وأمي وهم في النعيم وأنا أغني لهم ..

……………………………………………………………………………..

من صباح الغد ،استيقظت على ضوضاء نقل أثاث من شاحنة أمام المنزل ،خرجت إلى الفناء وتسللت رائحة ندى الصباح إلى أنفي .

كانت عمتي وحيدة تشرف على نقل أثاث العائلة البدوية التي جاءت لغرض العمل في قطاف الزيتون الذي تزامن قدوم موسمه مع وفاة جدي .

هرعت العاملات التي كنت أنتظرهن كل عام إلي ،سلمن علي وقبلنني بمودة كبيرة ،واسترسلت أنا في تأمل أسلوب لباسهن ذي الألوان الصاخبة والمكتظ بالأفكار الفنية المتعددة والمطبقة بإتقان مع بذل جهد لا يستهان به .

أحببت أزياؤهن وبعثت بشرتهن السمراء و أعينهن المشبعة بالدفء في نفسي شعوراً بالارتياح دفعني إلى ضم إحداهن والبكاء في حضنها بعد أن أعلمتها بخبر وفاة جدي .

دعوتهن بعدها للفطور برفقتي ،قمت بسكب حليب طازج كانت عمتي سارة تغليه في قدر نحاسي كبير ،وأحضرت الكعك بالسمسم من الخزانة وقدمتها لهن .

أدخل والدي العمال الرجال ،كانوا جميعاً نحيلين ذوي سحنات سمراء ولامعة ،وقد ارتدى كل منهم جلابية رمادية اللون وشماخاً أحمر اللون وعقالاً.

أثناء تناول الفطور دخل المدرس جميل وحدق بي بعينين حمراوتين محاطتين بهالتين مجعدتين وسوداوتين وأمرني بلهجة وجدتها وقحة قليلاً بأن أرافقه إلى المدرسة ،تأذنت من صديقاتي البدويات اللواتي أخذن يدعون لي بالتوفيق .

مشيت والمدرس جميل حتى منزل الجد بطرس دون أن نتفوه بحرف أو حتى أن ننظر إلى بعضنا ،وعند ذلك توقفت وطلبت منه أن ينتظرني ريثما أدخل منزل الجد بطرس لأعيد له روايات ألبير كامو التي استعرتها من مكتبته وأطلب منه أن يسمح لي بالاحتفاظ برواية (الغريب ) ، فراح يرمقني بنظرة اندهاش غريبة .

قرعت الجرس فظهرت لي الجدة أنطوانيت من خلف القضبان الحديدية للباب الحديدي الضخم المحاط بشجيرات الدفلى وقد ارتدت معطفها الطويل الذي بلون أزهار الدفلة ،ووضعت على عينيها نظاراتها الطبية السميكة وحملت في يدها لوحاً كبيراً من الشوكولا التي تصنعها بنفسها .

رحبت بي بحرارة ،ثم تناولت الكتب مني وزجت في كفي لوح الشوكولا ،طلبت منها أن تسمح لي بالاحتفاظ بالرواية ،فأجابني الجد بطرس الذي كان جالساً على الشرفة يدخن غليونه ويقرأ في الجريدة : (( إنها لك ياعزيزتي )).

رفعت رأسي باتجاهه وشكرته مبتسمة .صرخ عندها المدرس جميل متذمراً وامرني بالاستعجال ،نظرت الجدة أنطونيا إليه من فوق نظاراتها نظرة دهشة يشوبها شيء من الغضب .

ودعتني ووعدتها بمرافقة عمتي وحيدة إليهم في أقرب فرصة ،ثم تابعت سيري إلى جانب المدرس بعد أن اكتسحني شعور بالتوتر تجاهه .

سألني عن سر اهتمام تلك العائلة بي ،فأخبرته أنه ليس لديهم أطفالاً وأنني تربيت منذ صغري في كنفهم فقد كانت عمتي وحيدة تصطحبني دوماً إليهم ،ولهم الفضل في تعلمي السريع للقراءة والكتابة وفي قدرتي على الانضباط الدراسي .

ثم سألني بنبرة استعلاء :وهل تفهمين كامو عندما تقرئينه؟!!

صعد الدم إلى وجنتي وشعرت بسخونة في أذني من جراء كبت انزعاجي الشديد .

لم أجبه بتاتاً على سؤاله هذا ،وتابعنا مسيرنا صامتين حتى وصولنا مبنى المدرسة حيث توقف فجأة وطلب مني أن أسبقه ريثما يدخل قليلاً إلى الكنيسة ،دفعني الفضول لأن أنتظره ،خرج بعد هنيهة غاضباً ،قال بأن القس منعه من الدخول بسبب رائحة الخمر التي تفوح منه ،وأخبره بأن ذلك يسيء لحرم الكنيسة .

ثم ولجنا المدرسة ،والتقينا عند الباب بجيمي ذاك الشاب الثقيل الظل والذي يضحك كالأبله ويثرثر بشكل متواصل عن أحذيته الخارقة الباهظة الثمن المجلوبة من تركيا خصيصاً له .

عندها انفصلت عنهما واتجهت صوب صديقاتي اللواتي كن يرمقنني بنظرات غير مفهومة وهن يثرثرن عن شيء ما .

قرع الجرس بعدها واجتمع المدرسون للاجتماع الصباحي ،مبتسمين ونشطين كالعادة وكأنهم يظنون أنفسهم آلهة تقود البشرية نحو المجد من خلال طقوسهم العظيمة .

رمقتني تلك الموجهة الفظة بنظرة غريبة وابتسمت بخبث ،ثم وجهت نظرات ملؤها الضغينة لمحمد .

فهمت سر تلك النظرات بعد انتهاء الاجتماع الصباحي لما طلب ابن عمتي الموجه _ذلك الشخص الموتور_ من محمد أن يخرج عن الرتل ويقترب منه .

تقدم إليه محمد بكل ثقة بصدره الواسع الشامخ ،لكن ابن عمتي باغته ودفعه بقوة فسقط على الأرض وراح يركله بقدمه دون أي شفقة مثل يهودي كما تقول عمتي خديجة .وراح يصرخ : (( لقد حذرتكم من قبل أن تتعرضوا للطالبات …)).

عندها راحت الموجهة تردد : (( لقد جاءتنا شكوى أن محمد قد اعترض طريق فيوليت و تحرش بها لفظياً بألفاظ وقحة وبذيئة !)).

صرخ هنا محمد وهو يجهش بالبكاء : ((والله غير صحيح ،أنا أحبها نعم ،فكيف لي أن أؤذيها ؟ )).

عندها انفجر ابن عمتي غضباً وراح يركله بقوة أكبر على وجهه ورأسه حتى سالت الدماء من أنفه ،ثم راح يهدد الجموع بأنهم سيلاقون المصير ذاته لو بدر منهم هكذا سلوك .

تملكتني حينها رغبة بوجود أبي بجانبي ،وخمنت أنه لو كان هنا اليوم بصفته المدير كان ليردع حدوث هذا الأمر ،ولم أكن متأكدة من هذا التخمين ولم أعلم على أي أساس بنيته .

ورغم كل ما عاناه محمد أمامي من أجلي إلا أنني لم أشعر قط بالشفقة أو الحزن ،إنما راودني شعور بالنشوة أشبه بمشاعر خائف قد سيطر على مخاوفه .

لذا فاجأت جميع من حولي بصمتي ،حتى أنني لمحت في عيني محمد نظرات شكوك حولي ،ثم رفعت رأسي نحو الأعلى ونظرت إليه بعينين مفتوحتين على وسعهما بينما كانت مخيلتي ترسم طريقي معه التي بدأت أراها بوضوح منذ اليوم .

……………………………………………………………………………..

قادني ابن عمتي إلى غرفة الموجهين بعد الاجتماع الصباحي وأجرى معي تحقيقاً في موضوع حب محمد لي ،فلم أنبس بحرف أمامه وبقيت صامتة لأكثر من نصف ساعة حتى ضجر مني وسمح لي بالالتحاق بصفي .

في الصف تسمرت في مكاني مطأطأة الرأس طوال اليوم ولم أنظر في وجه أحد ،ولم يكن ذاك سببه الخجل إنما لأمنح نفسي فرصة الاستمتاع بالحالة التي تمر بها بمفردي .

ورغم ما شعرت به من ضعف في هذه الوحدة المؤقتة ،إلا أن هذا الضعف كان لذيذاً ،مما سمح لي أن أحتملها حتى نهاية اليوم .

وعند الانصراف قاطعت تلك الوحدة لبرهة لأنظر عاتبة في وجه المدرس جميل ،الذي كدت أجزم أنه من وشى بي .

رافقني كالعادة في طريق العودة ،مشينا صامتين ثم نادت إحدى الراهبات علي وصافحتني بحرارة وضغطت على يدي بشدة وكأنها تشير إلي أنها على علم بكل ماحدث .

مشينا بعدها مثل غريبين حتى وصولنا المنزل ، أحسست أنه كان ينتظر مني كلاماً ما ،لكنني لم أمنحه أي حرف .

لما وصلنا كانت عمتي وحيدة تنتظرني أمام الباب وتيار من الهواء يحرك وشاحها الأسود ويغير مسار دمعتها الجارية فوق شامتها الكبيرة السوداء المنطبعة على خدها .

ما إن رأتني اقتربت مني وسحبتني من يدي بقوة ،حاول المدرس جميل أن يهدئ من روعها لكنها لم تكترث إليه .

قادتني عبر فناء المنزل ،علق كم سترتي بالفلة فتكسرت أغصانها لما حررته منها ،وفوجئت بوجود عمي محمود الملقب بالعاصي الذي انضم إلى عمتي وحيدة وأمسك بي وهو يكز على أسنانه ،وزجني في غرفة عمتي التي أغلقت الباب وأقفلته بالمفتاح .

جلست على أحد الأسرة غير مستوعبة .آلمتني يدي فاكتشفت انني قد جرحت نفسي .

سمعت صوت عمي يحيى الذي يعيش في المدينة ،وهو يقول لعمتي وحيدة أنه من الضروري السيطرة على الوضع في أسرع ما يمكن ،وصوت زوجته التي لا تزور البلدة إلا نادراً وهي تنصحهم بالهدوء والتروي لكونهم يتعاملون مع مراهقة .

فتحت النافذة فرأيت المدرس جميل يقف ساكناً على الدرج الحجري المقابل ،ولما رآني نظر إلي بعطف ،وبادلته بنظرة ملؤها الكراهية .

طأطأ رأسه هنا وصعد مسرعاً إلى غرفته ،وظهر لي أمام النافذة عمي محمود الذي راح يصرخ : هيا أغلقي النافذة ،بدك تفضحينا عشقانة واحد بدوي .

ثم انضمت إليه عزة زوجة عمي مصطفى وقالت :بدي خلي أخي يخفيه عن وش الأرض .

انفجرت هنا وصرخت في وجه عمي :هل جئت لترث جدي الآن ؟

عندها جن جنون عمي محمود وارتجفت أطرافه ثم أمسك بحفنة من التراب بين يديه ونثرها على وجهي عبر شباك النافذة ،حاول عمي يحيى تهدئته وأدخله غرفة الضيوف .

طلبت مني زوجة عمي يحيى أن ألوذ بالصمت ،ووعدتني أنها ستحررني من سجني .عاد أثناء ذلك والدي من خيمة التعزية و لما دخل المنزل التفت إلى النافذة التي أجلس خلفها ونظر إلي بعطف لم أشهده فيه من قبل .

اقترب من عمتي وحيدة التي كانت تجلس صامتة ومتوجسة على الأريكة العتيقة وسط الفناء ،وأخبرها بأن خيمة التعزية قد فصلت أجزائها ويتم الآن ترحيلها إلى صاحبها بعد انتهاء العزاء .

فأجابته : لقد تعجلت في ذلك ،قد نحتاجها اليوم فقد يتم دفني اليوم بعد هذه الفضيحة !

لم يدلي والدي بأي رأي في ذلك ،وبدا وكأنه يحاول تجنب النقاشات الطويلة فيه .استدار بعدها للهروب نهائياً من الموقف ،وصعد الدرج الحجري قاصداً غرفة المدرس جميل ،دون أن يلتفت إلي بتاتاً .

حط عصفور دوري على النافذة أثناء ذلك وراح ينقر الشبك ،بينما كان الألم يزداد في عيني من جراء التراب الذي دخلهما ،وأرغمهما على أن يفيضا بالدموع .

ولم أستطيع أن أحدد سبب بكائي بدقة ،هل كان التراب فقط ،أم أن رؤية الطائر وهوينقر الشبك جعلتني أدرك على نحو صادم أنني حقاً سجينة وعاجزة .

_3_

(( جميل ))

لما فتحت فيوليت النافذة ورأتني واقفاً متسمراً في مكاني على الدرج الحجري أنتظر نظرة صفح منها ،أشحت بنظري عنها متخلياً عن رغبتي في معرفة مشاعرها نحوي ،ولم أكن قادراً على إيجاد سبب لذلك ،لكنني أستطيع أن أجزم بأنه لم يكن الشعور بالذنب .

لذا هربت من عيني فيوليت وصعدت إلى غرفتي هناك في العلية حيث يمكنني أن أصم أذني عن كل مايحدث في الخارج .

دخلت غرفتي وسارعت نحو مكتبتي لأنتقي كتاباً أشغل به نفسي ،اخترت رواية مرتفعات وذرنج لإيميلي برونتي وجلست إلى النافذة أقرأ فيها ،دون ان أكترث لأزهار النرجس الذي ذبلت جراء إهمالي لها .

جاء إلي نبيل بعدها وجلس صامتاً في وضعية تشبه تلك التي اتخذها عندما التقيته لأول مرة عند وفاة والده ،وتمتم ببضع عبارات بدا وكأنه يتقصد عدم إيضاحها لي ،من قبيل :لن أستطيع الوقوف في وجههم ،أنا أضعف من ذلك بكثير ..ربما تنجح ابنتي في أن تكون أكثر تمرداً وشجاعة مني .

انضمت إلينا بعد حين شقيقته خديجة ،كانت يائسة ،لكنها وللمرة الأولى نظرت إلي وتحدثت معي بشكل طبيعي دون أي خجل أو ارتباك .

جلست إلى جانب شقيقها وربتت على كتفه وكأنها تواسيه ،استفزتني عاطفية المشهد لذا أشحت بنظري عنهما وتأملت السماء عبر النافذة ،لكنني سمعتها تخبره بأنها لن تسمح لهم أن يجردوا فيوليت من مشاعرها مثلما فعلوا بها .

شعرت أن وجودهما لوقت أطول سيجعلني أشعر بالذنب ،لذا طلبت منهم المغادرة متحججاً بالرغبة في الراحة ،فغادرا متأبطين ذراعي بعضهما .

غفوت قليلاً ،ثم استيقظت مع رغبة شديدة في الخروج من هذا المنزل الذي بدأ يمسي عصياً على الفهم إلى حد الإرهاق .

تمشيت قليلاً باتجاه الحقول ،كانت الغيوم الوردية المحملة بالوحل تملأ السماء ،ووقت الغروب قد اقترب ،لذا عبرت من جانبي الجرارات والسيارات العائدة من قطاف الزيتون وهي محملة بالعمال البدويين ،بأصواتهم العالية البربرية المثيرة للاشمئزاز بالنسبة لي .

التقيت بمصطفى عائداً من المطعم ،دعاني إلى منزله لتناول العشاء برفقته وجورج صاحب المطعم وعائلتيهما ،قال بأنها فرصة لنا للتفاهم فيما يخص إعطاء دروس لجيمي .

قبلت بعرضه ورافقته إلى منزله ،وقبل أن نصل إليه بقليل سمعنا أصوات أبنائه وهم يتشاجرون ،وتسللت إلى أنوفنا روائح الزيت المغلي القوية إلى درجة لا تحتمل .

عندما حل الظلام جاء جورج برفقة زوجته وابنته ،وقد ارتدوا ثياباً عادية عملية لها اللون الأسود الحالك ذاته ،كما كان لهم مشية الرجل الآلي ذاتها .

بعد أن تعشينا صامتين دون الالتزام بأي آداب للطعام ،جلسنا لاحتساء الشاي ،بينما راح جورج يحدثنا عن ابنته وفضائلها ، والتي كانت تتصنع الخجل وحال دون نجاحها في إقناعنا بذلك ضحكتها البلهاء الفارغة المصحوبة بغرغرة عديمة الذوق .

شعرت بأن طبلة أذني ستنثقب من جراء سماعي لصوت الغرغرة تلك ،والذي تخلله أيضاً صوت شجار قادم من الطابق العلوي .

كنت أتجرع الويسكي بنهم كي أصل إلى الثمالة ،لكي أفقد جميع حواسي وشعوري بالذنب .ولما وصلتها انتفضت فجأة وعزمت بإصرار على المغادرة ولما حاول مصطفى وجورج أن يقنعاني بالبقاء ،صرخت في وجههما على نحو أثار دهشتهما بأنني مصر على الرحيل .

مشيت بتثاقل إلى المنزل وأنا نصف مدرك لما حولي ،كان باب المنزل مفتوحاً ،دهشت لذلك لكنني تناسيته فوراً .

صعدت الدرج الحجري بصعوبة ،ورحت ألعنه وأنا أحمل قدمي بيدي لأتمكن من اجتيازه .ولما وصلت غرفتي سارعت نحو الباب المؤدي إلى سطح المنزل ،عبرته مثل عبد يتحرر من قيوده .

جلست على أرضية السطح ورفعت رأسي إلى السماء الحالكة الظلمة ،وتنفست بعمق .

التفت باتجاه الحقول ،فلمحت أحداً ما يهرول بين الشجر .

خمنت أن تكون فيوليت قد استطاعت الهرب وهي الآن في طريقها إلى محمد ،لذا ركضت بسرعة إلى غرفتي ثم إلى الدرج الحجري وأنا أتعثر في كل خطواتي لأمنع خسارتي لها .

كان نزول الدرج صعب للغاية ،وكدت أقع على وجهي وأنا أتخلخل في هبوطي له وألعنه ،لأنه سيجعل فيوليت تضيع مني .

عندما وصلت الفناء شاهدت خديجة برفقة زوجة أخيها يحيى القادمة من المدينة واقفتان أمام الغرفة التي صارت سجناً لفيوليت وكان الباب مفتوحاً على وسعه ،ولمحت رزمة مفاتيح في يدي خديجة .

نظرت إليهما مقطباً حاجبي بينما رمقتاني بنظرتي ريبة وبدتا مرتبكتين للغاية .

بدأت هنا أفقد الوعي تقريباً ورغم ذلك خرجت من المنزل وهرولت وأنا أتمايل باتجاه الحقل المجاور .

لمحت فجأة فتاة ترتدي وشاحاً فوق رأسها ،خمنت ان تكون فيوليت وأن عمتها خديجة جعلتها ترتدي ذلك الوشاح لكي تنجح في الهرب دون أن يتعرف أحد إليها .

لحقت بها ورغم تعثري المستمر استطعت اللحاق بها وبدت وكأنها رأتني لكنها لم تحاول الفرار مني .

لما أصبحت على مقربة منها فاحت في أنفي رائحة غزل البنات التي تشتريها فيوليت عادةً ،وهطلت فوق رأسي قطرات ثقيلة من المطر المحمل بالوحل .

أمسكتها من ثوبها عند الكتف بكل ما أوتيت من قوة ،فصرخت وحاولت التحرر من قبضتي لكنها فقدت توازنها وسقطت فجأة على الأرض وبقيت دون أي حراك .

قرفصت بجانبها ،وفتحت عيني على وسعهما لأتمكن من رؤية وجهها الأسمر الممتلئ الذي لايشبه وجه فيوليت أبداً ،وكان خيط من الدماء يسيل فوق التراب خلف رأسها .

سمعت بعدها صوت خديجة وزوجة أخيها تقولان :قتلت إحدى العاملات ؟

هنا فقدت وعيي تماماً ،ولما استعدته وجدت نفسي في غرفة الضيوف وحولي خديجة وأخواتها جالسات ينتظرن عودة رشدي ،وعلى الحائط فوقهما صورة أبي محمود الذي لم يتعب من ابتسامته تلك التي جعلتني أشعر بغضب وحزن شديدين .

………………………………………………………………………..

ماإن رمى الفجر بأول خيوطه حتى كانت العائلة بكاملها مجتمعة في غرفة الضيوف من أجل إيجاد حل لمشكلتي ومشكلة فيوليت .

كانت وحيدة قد أبلغت مصطفى أن يأتي برفقة زوجته لتكلم شقيقها الشرطي من أجل البحث عن فيوليت وإنقاذها من يدي ذاك البدوي كما وصفته ،ومن اجل أن يقلني معه في السيارة إلى مخفر الشرطة قبل أن يعلم أشقاء العاملة البدوية أنني من دفعتها ،عندها لن يتمكن أحد من أن ينقذني من رغبتهم العمياء في الثأر لشقيقتهم .

بدا على الجميع أن من واجبهم مساعدتي طالما كانت غايتي من كل هذا اللحاق بفيوليت دون أن يكترثوا لمعرفة سبب لحاقي بها .

جلس نبيل إلى جانبي مطأطئ الرأس وراح يضغط على فخذي كل هنيهة ويطلب مني أن أدعو بأن تنجو الفتاة من الموت وتستيقظ لتدلي بأن ماحدث ليس سوى حادث لا أكثر ، شعرت بالتقزز من استسلامه .

كان مصطفى وزوجته يتشاجران بسبب تأخر شقيقها ،لما انطلق صوت وحيدة وهي تطرد زوجة أخيها يحيى لتحريرها فيوليت ،وتهدد شقيقتها خديجة بأن حسابها معها سيكون عسيراً إن لم تعد فيوليت سالمة .

جاءت سيارة الضابط بعدها وطلب مني مصطفى أن أرافقه ،نهضت دون أي تردد وكأنني أرغب في نيل العقاب .

مشى الجميع خلفي ،ولمحت سارة تبكي وهي تدعو لي بأن يفرجها الله علي ،زرع كلامها الذعر في نفسي بدلاً من أن يريحني .

لما وصلنا إلى السيارة ،ترجل شقيق عزة منها وسلم على شقيقته وزوجها مصطفى واعتذر لهما عن تأخره ،وأخبرهما أن محمد معه في السيارة وأنه لم يعترف إلى الآن بمكان فيوليت لكنه سيجعله يعترف على طريقته الخاصة .

صعدت إلى السيارة ،ولم أفاجئ برؤية محمد جالساً فيها وكدمات زرقاء تملأ وجهه .لكنني فوجئت بوجود القس الذي راح يعلمني بسبب تواجده وهو ينظر إلي بعيون ناعسة : جئت لكي أكون مصدر قوة لك ،ولأصلي لله أن يخفف عنك ..

أشحت بنظري عنه واتخذت موضعاً بجانب النافذة الصغيرة الوحيدة في السيارة ،أسندت ذقني إلى حرفها ،ورحت أراقب الطريق من عبر زجاجها .

تحركت السيارة بنا ببطء شديد ،ولما وصلنا إلى جانب منزل الجد بطرس تمكنت من تفحص الأشخاص الجالسين على الشرفة ،ورأيت فيوليت تبتسم للعم بطرس وهي تحمل كتاباً في يدها ،وقد ارتدت معطف الجدة أنطوانيت الدفلي لكي تضلل الجميع عن معرفة هويتها ،لكنني هذه المرة استطعت أن أجزم أنها فيوليت ،وما جعلني متأكداً ضحكتها المميزة التي كانت على رأس الأشياء التي عشقتها فيها .

الفصل الثاني

1991

_ 1_

(( جميل ))

بالرغم من أن مدة عشرة أعوام ليست بالكافية لأن تنمو أشجار السرو المقابلة لمنزل آل أبي محمود ،بالقدر الذي يجعل من نموها ملفتاً للنظر ،إلا أنه كان من الواضح جداً للعيان أن الظلال التي ترميها تلك الأشجار باتت أشد ضخامة وظلمة حتى أنها غطت المنزل بأكمله معيقة فرار وروده نحو النسيم .

وبالرغم من أن تلك العتمة قد جعلتني أضطر لإنارة الأضواء باكراً جداً في غرفتي المتواضعة ،إلا أنها كانت تبعث في نفسي طمأنينة لذيذة زيادة على الطمأنينة التي تزرعها في قلبي حالة الاستقرار المادي والأمان الذي أعيشه في حمى عائلة قوية ،على الرغم مما أخفيه من تعاسة .

كنت قد استيقظت في هذا اليوم الذي يصادف الذكرى العاشرة لقدومي إلى هذه البلدة ،على صوت الأغاني الفيروزية المعتادة ذاتها ،والتي تواظب عليها سارة تلك الفتاة التي تمر الحياة من امامها دون ان تلتفت لها وكأنها غير مرئية لدرجة أنني غدوت أيضاً أمر من جانبها مرات كثر دون أن أنتبه ،حملت حقيبتي الجلدية اللامعة وهذبت ربطة عنقي بعد أن رتبت الفوضى التي تعج بها خزانتي المملوءة بالبدلات الرسمية والأحذية الجلدية التي أهدتني إياها هيلدا ابنة جورج صاحب المطعم و خطيبتي.

كانت حالة اليأس والإحباط التي عشتها طوال تلك السنوات قد دفعتني إلى الرضوخ لرغبتها في أن نصبح خطيبين ، تلك الحالة التي عشتها بعد خروجي من مخفر الشرطة في تلك الليلة إثر نجاة الفتاة من الحادثة وإدلائها بأقوال كاذبة عن سقوطها الذي زعمت بأنه كان من اعلى الدرج وليس بين الحقول وذلك لتنقذ نفسها من أيدي أشقائها ،والصدمة التي تلقيتها بعد أن علمت بتزويجهم فيوليت لسيف ابن عمها محمود الخارج عن سلطة المنزل وذلك لترويضها وحمايتها كما عبروا ،بعد اكتشافهم لفقدانها عذريتها ،واختفاء محمد بعد خروجه من المخفر .

مازلت أذكر ذلك اليوم الذي خرجت فيه من المخفر منهكاً ومسنداً محمد إلى كتفي، وهو فاقد للوعي تقريباً .

كان المطر يهطل بغزارة ،كنا نمشي دون أمل بأن نصل ،نمشي مع توقع يرافقنا بأننا سنسقط في أي لحظة .

انتظرنا مرور سيارة ما لتقلنا ،لكن مامن سيارة مرت إلا أن خذلتنا قوتنا وسقطنا غير مدركين لأي شيء .

استيقظت بعد زمن ،فوجدت نفسي فوق سرير جلدي في غرفة تعبق برائحة الكحول ،وكان أول مارأته عيني شامة بنية كبيرة في جبهة راهبة ترتدي زياً أبيض يخص الراهبات الطبيبات اللواتي يخدمن في المستوصف التابع للدير .

ابتسمت لي عندما رأتني وراحت تشد بقوة وإحكام قطعة من القماش حول يدي لتضمدها بيديها القويتين على نحو يثير الدهشة .

أخبرتني أن أحداً ما قد عثر علي على قارعة الطريق ،فقام بنقلي إلى المستوصف هنا،سألتها عن محمد فأخبرتني أنها لاتعلم شيئاً وأن الرجل الذي قام بنقلي لم يذكر لها شيئاً عن وجود شخص آخر .

قضت الراهبة بعدها الليل بأكمله بقربي تعتني بي ،وعند الصباح غادرت المستوصف عائداً إلى منزل آل أبي محمود .

مررت بجانب مجموعة من الشبان الذين كانوا يزينون شجرة عيد ميلاد ضخمة في ساحة البلدة ،كان الميلاد قد اقترب ،وشعرت بأنه ميلاد جديد لي أيضاً !

لما وصلت إلى المنزل كانت سارة تقوم بما تقوم به اليوم ،تغلي الجبن لتعقيمه وتستمع إلى الأغاني الفيروزية ،فتحت لي الباب واستقبلتني بعاطفة مبتذلة لكنها حقيقية .ثم أجهشت بالبكاء وهي تخبرني عن تزويج فيوليت لسيف ابن عمها عنوة .

حملقت حينها بزهرة البنفسج وسط الفناء ،ثم أدرت ظهري لها وكأنني لم أكترث لما قالته وصعدت إلى غرفتي ،وهناك بكيت لأول مرة في حياتي .

منذ تلك اللحظة بدأت في الخضوع والقبول بما يعرض علي ،وتجاهلت كل ما لايخصني حتى أنني تناسيت فيوليت ،كنت أراها في المدرسة ،أوعلى المائدة إلى جانب زوجها الضخم والعابس دوماً.

ولما غادرت فيوليت البلدة لستة اعوام لدراسة الطب في المدينة ،لمت نفسي عن عدم منحها فرصة لسبر مشاعر فيوليت تجاهي أو معرفة نظرتها عني .

واليوم وفي الذكرى العاشرة للقائنا ،مررت بجانب عيادتها والتي هي عبارة عن ملحق بني خصيصاً إلى جانب المنزل لجعله عيادة خاصة بها ،لتحافظ على بقائها الآمن في ظل حماية هذا المنزل .

لحظة مروري بجانب نافذة العيادة المفتوحة على مصراعيها لمحتها تدخن بحزن كعادتها ،وتحتسي القهوة بشراهة ،وكانت قد جمعت شعرها على شكل كرة فوضوية وعقصته من الخلف ،وبدا جفنيها ثقيلين وشاحبين .

كان من الواضح أنها تعيش حياة مضجرة ،وأنها لاتحب زوجها لذا لم تنجب طوال تلك السنوات ،وعاشت في اغتراب ذاتي ولم يسليها سوى قدوم أصدقاء قدامى لها إلى العيادة من أيام الجامعة ،عندما دفعها تمردها إلى الانتماء لحزب يساري والخوض في سلك السياسة ،وفشلت جهودهم تلك بعد تراجع الاهتمام بتلك الأفكار ،خصوصاً بعد أن تراجع دور الاتحاد السوفييتي وظهرت بوادر سقوطه .

وكانت في العادة تجتمع كل أمسية في عيادتها معهم ،وتطول ساعات النقاش الأمر الذي يثير غضب زوجها وعمها مصطفى ،فالأول كان يرى أن سيدة مثلها حري بها الاعتناء بمكانتها الاجتماعية وعدم الهبوط إلى تلك المستويات من البشر الذين لاتنتمي إليهم ! بينما كانوا بالنسبة لعمها مصطفى مجرد واهمين ،هو الذي كان يرى الشيوعية مصطلحاً طوباوياً وتكاد تكون وهماً إلى درجة أنه كان دائم السخرية من الشيوعيين الفاشلين كما كان يسميهم.

لكن فيوليت لم تكترث لكل هذا كعادتها ومنذ سنوات لم تتغير ،كان جل ماتغير فيها هو ضحكتها التي كادت أن تختفي مع مرور الزمن .

كنت قد مررت بجانب عيادتها اليوم على أمل أن تحدث معجزة و تكسر ليوم واحد ذاك الحزن الذي يملأ جفنيها .لكنها بدت وكأنها تتماهى مع عمتها سارة و تصبحان معاً مثل شجرتي سرو لا يغيرهما الزمن .

عندما عبرت شوارع البلدة أيقنت أنها أيضاً لم تتغير ،الأعلام الورقية المرفرفة ذاتها ،والأناس الذين عادوا إلى قناعتهم الشافية ،جالسين في بيوتهم الآمنة بعد أن اكتشفوا أن الصمت ينفع حلاً ،وأن أي نوع من السلطة هو ملك للقوي في هذه البلدة.

كان الجد بطرس ربما لم يقبل بخيار العيش بصمت كالبقية ،وفضل أن يرحل عن هذا العالم تاركاً مكتبته وحيدة لا يكترث بها أحد .

لما مررت بجانب منزله ،لاحظت على زوجته أنطونياً تغيرات كثيرة ،من بينها نحولها الشديد وتلك النظرة اللامبالية بأيشيء في عينيها ،ومعطفها الدفلي الذي استبدلته بمعطف زيتي ،طالما أن الألوان لم تعد مهمة في زمن صمت فيه كل شيء ،والجمال والفضيلة احتكرا للقوي فقط .

كما احتكر كل من مصطفى وجورج الثروة لهما ،ووضعوا أسسهم الخاصة للفضيلة في هذا العالم ،ليصنفوا الناس إلى جيد و سيء ،وحتى إلى عاقل أو مجنون .

لذا كانت فيوليت وأصدقاؤها في نظرهم واهمين و سذج ،وأن من عاد إليهم منهم راضخاً لقوانينهم هو العاقل الذي حظي أخيراً بالحقيقة المطلقة والنعيم .

بالنسبة لي لم أعلم مع أي منهم قد أصنف،وربما كنت مثل بقية الناس في هذه البلدة ،حيادياً مقابل لقمة العيش ولو بشيء بسيط من الكرامة .

كنت كعادتي طوال تلك السنوات ،أشي لهم بمن أشك في امتلاكه لأفكار لا تناسبهم ،دون أن أخشى من أن أخسر شيئاً يستحق الخوف من خسارته مثل فيوليت .

وشيئاً فشيئاً أصبحت حياتي مفصلة على مقاس طموحاتهم ومجدهم ،ولأكن صادقاً من أجل تلك الجرعة الملائمة لي من الطمأنينة .

وإن كنت عبر تلك السنوات قد أسهمت في ازدياد نفوذهم ،في أنني مثلاً صنعت من جيمي شخصاً ناجحاً ليتسنى له السفر لإكمال دراسته في مجال الإدارة الفندقية في أفضل الجامعات الأوروبية ليعود إلى البلدة و يزيد من عظمة صرح والده ويحوله إلى فندق لامع .

واليوم وكما كل الأيام ‘كان علي أن أقوم بوظيفتي اليومية في منحهم قوتهم اليومي من التبجيل ،بأن أعتني بأولاد حلفائهم في المدرسة ثم ألا أتخلف عن موعد الغداء مع خطيبتي هيلدا ،ثم ان أقضي ساعات الليل في إسلاء والدها والاستماع إلى قصص نجاحاته وماضيه المليء بالصعوبات .

ولأعود في آخر الليل ،إلى منزلي الآمن وأراقب حلمي البعيد فيوليت ،وهي تضحك بإفراط مع أصدقائها المتحلقين حولها في عيادتها ،ثم أصعد إلى غرفتي وأنام وفي قلبي حزن صغير .

_2_

(( فيوليت ))

من الصعب أن أخمن اللحظة التي صحوت فيها بشكلٍ نهائي ،من نومي المتقلقل كعادته ،والذي يتسلل إليه ليعكر صفوه صوت التأوه الذي ينبثق من داخلي والممزوج بخوار البقر القادم من الاسطبل وبصراخ زوجي الليلي النابع من أفعال اقترفها في الماضي و النوم يذكره بها ،و يفضح ندمه .

ولأن تلك الأصوات كانت تتركني في حالة مابين الغفو والصحوة ،فقد كنت ألزم سريري لساعات ربما قبل أن أنهض منه ،أتقلب فيه وأفكر تارة وتارة أبكي بصعوبة ،أو أغمض عيني لبرهة لكي أنفصل عن هذا العالم قليلاً وأنصت إلى ذاك الفرح القديم الذي خاصمني منذ زمن طويل ،أو التأوهات الكثيرة لأصدقاء قدامى سلخوا من حياتي فجأة وتواروا عن الأنظار .

نهضت من سريري دون أن أنظر إلى تلك الكذبة التي ترقد بجانبي ،وتأملت وجهي في المرأة ولاحظت بروز ملامحي وعظام وجنتي وكأنه الغضب المتراكم فيّ يثور ،ثم تسللت كعادتي إلى غرفة الضيوف لأتأمل صورة جدي ،التي لم أتخلف عن تأملها طوال تلك السنوات بالرغم من أن الدافع لذلك قد تغير مع نموي ،و تبدل من الإعجاب إلى الامتنان ربما .

فمع نضوجي كنت قد خسرت ذاك الاعجاب بشخصية جدي ،ربما بسبب شعوري بنزوعه نحو البرجوازية ،بالرغم من أن ذاك النزوع كان ضئيلاً على نحو لم يقودني فيه إلى نقده أو كراهيته .

وكان ثمة سبب آخر يمنعني من كراهيته ،هو أنني مازلت أقع في حب رجال يملكون من خصاله الكثير ،ولم يشكل زواجي من تلك الكذبة زوجي عائقاً يمنعني من أن أحب بعد أن خسرت محمد ولهثت خلفه أبحث عنه ولم أحظى سوى بالخيبة.

فقد كان زوجي يزيد ذاك الفراغ العاطفي في داخلي بذلك الدور الذي يلعبه في علاقتنا الجنسية ،حيث كان يظن ربما بأنه لما حظي بي استولى على كرسي العرش التي تمنحه السلطة المطلقة بأن يسيطر على جسدي وينظر إليه متعالياً ،يحتقره أو يدلله كيفما يشاء ،وهو الذي يحتفي دوماً بأفكاره الحضارية كما يسميها ويطالب بملاحقة الأصوليين وهو هنا في علاقته الجنسية يؤمن بامتلاك الرجل للمرأة وقوامته عليها !

في الليلة التي تزوجت منه فيها ،كسرت مرآتي ولم أعد وأشتري مرآة أخرى إلا بعد زمن طويل ،أو بالأحرى إلى أن تعرفت على كارلوس ،الرجل الوحيد الذي أحببته بعد محمد .ربما كسرت مرآتي في الماضي،لكنني اليوم عدت لأرى نفسي في المرآة ليس لأختبر جمالي وإنما لأن جسدي أصبح جديراً بأن يرى بعد أن عومل كما يستحق أن يعامل به جسد إنسان .

جاء كارلوس إلى جسدي ليعيد وجوده ،جاء إلى مسقط رأس والديه وسكن في منزل جديه ،ذاك المنزل المختفي خلف كرمة ضخمة بجانب الدير ،والذي كانت عجائز البلدة تسردن قصصاً عن صاحبته الفرنسية ابنة الأكابر التي تزوجت من ذاك الإسكافي المعتوه بعد أن أعدم زوجها الضابط الفرنسي الخائن الذي سرب معلومات للثوار الذين يقاتلون مع ابراهيم هنانو عن مكان الملهى الليلي الذي يتجمع فيه الضباط الفرنسيون ليلاً للترويح عن أنفسهم .

كان كارلوس يقول أن روح التمرد والرغبة بالرفض إن لم يكن قد ورثها عن روبسبيير قائد الثورة الفرنسية فإنه حتماً قد ورثها عن جده ذاك الذي اعتنق الإسلام على حين غفلة وانضم إلى ثورة ابراهيم هنانو فقط لأنه وجد أن ممارسات الجيش الفرنسي تتناقض وتربيته الكاثوليكية .

تزوجت بعدها جدته من ذاك الإسكافي الذي فتح لها منزله وهي حامل ،وأنجبت والد كارلوس الفرنسي الذي نشأ نشأة عربية و كبر وأمسى مدرساً للغة العربية وشاعراً ،لكنه كن هادئاً ورصيناً ،ولم يمسه سحر التمرد الذي مس كارلوس ،وقاده إلي ،لأتعلق به ويلحق بي إلى بلدتنا حيث لقاءاتنا السرية الليلية في عيادتي ،بعد ان نودع أصدقائنا القدامى ،ونستلقي على السرير الجلدي تحت صورة جدي ليدل كارلوس جسدي على وجهة الوجود من جديد .

كان يقول أن أكثر ما يجذبه إلى جسدي هو غموضه وكأنه يخرج من تربة أشياء جميلة مدفونة ،وأنه لم يعتد على ذلك من قبل مع الفتيات اللواتي عرفهن ،وكان معظمهن من الشقراوات الضخمات و الشرسات .

كانت نشأته في منزل يقع على شاطئ الروشة في بيروت ،وهروبه من العادات الارستقراطية التي فرضتها جدته الفرنسية عليهم إلى الشاطئ دوماً قد منح جلده سمرة لاتينية جذابة إلا أنه كان قد ورث الشعر الكثيف عن أصوله العربية التي تعود لأمه .

كان يقول لي دوماً أنه قضى نصف عمره في السباحة هارباً من ذاك المنزل الحكاء الذي يجيد الثرثرة بلغات كثر ،الأمر الذي جعله يولع بكتابة الشعر ،لكنه كان يمقت الدراسة ،لأنه يمقت الالتزام.

لكنه وبعد ان توفي والده باكراً ووجدت والدته صعوبات في العثور على عمل كونها سورية في فترة كان السوريون فيها مثيرون للريبة في لبنان اضطر ليعمل كمنقذ في النهار ،ونادل في الليل وشكل هذا مع المبادئ العلمانية الجادة التي ورثها عن والده االقومي الاجتماعي ،سببين كافيين في أن تكون شيوعيته راديكالية وحادة وحتى أن تميل إلى العنف .

وكانت شيوعيته الراديكالية وشمس سماء الروشة قد جعلتا من جسده متصلباً مثل منحوتة من صخر ،وكم كنت أتمتع بلثم تقاطيع جسده البارزة وزواياه الحادة وتنشق الحياة منها .

أما هو فكان أشد ما يعجبه في جسدي بياضه الناصع ،بالرغم من أنني كنت أواظب في طفولتي على ارتياد المسبح الذي يقع داخل أسوار مطعم جورج ،حيث كنا نحجز المسبح لساعة يومياً خلال أشهر الصيف ،لكنني كنت أنزل المسبح بكامل ثيابي خوفاً من النار التي في الآخرة التي كانت تهددني بها عمتي خديجة مما جعل من جسدي يحافظ على بياضه .جسدي الذي أصبحت انظر إليه بحب كل صباح ،مثلما فعلت في صبيحة هذا اليوم ،مع أن ذاك الحزن الذي يجعل من جفني مثقلين لم ينجح حتى هذا التصالح مع الجسد بأن يزيله .

حملت حزني هذا إلى عيادتي وأنا أحتسي القهوة ،مر بجانب العيادة مدرسي القديم جميل والذي لا أحمل تجاهه سوى مشاعر مابين الشفقة والاحتقار ،لذا أشحت بنظري عنه وحدقت باعتزاز بصورة جدي وفي قلبي رغبة كبيرة بأن يأتي الليل بسرعة لأرشف جرعة الحياة اليومية من كارلوس .

……………………………………………………………………….

لما دقت أجراس الكنيسة معلنة حلول منتصف النهار،كنت في العيادة أدخن بضجر، ففاجأتني عمتي خديجة بقدومها ،قالت بأنها قد أنهت دوامها المدرسي وشعرت بتوعك في طريق عودتها إلى المنزل ،لذا قصدتني لأقيس لها ضغط دمها .

قالت ذلك لتبررقدومها إلي ،فهي طوال تلك السنوات كانت مقلة في الحديث معي بعد ان أصبحت يسارية ،وأصرت دوماً أن ذاك الانتماء السياسي المفاجئ لم يكن سوى ردة فعل ،لذا كانت دؤوبة على الدعاء بالهداية لي .

قست لها ضغط دمها فكان طبيعياً ،فعلمت حينها أنها كانت تتحجج بهذا لكي تأتي إلي وتسمعني كلماتها المعتادة عن عدم تعارض الحرية مع الحياة الملتزمة وبأن أصدق مثال على هذا يكمن فيها ،مشيرة إلى أناقتها التامة ونجاحها كمدرسة ،رغم أنني كنت واثقة كل الثقة بأنها تعيسة وغير محبوبة من قبل أي أحد .

قالت لي تلك الجمل المعتادة مردفة هذه المرة أنها تنصحني بالطلاق إن لم أكن سعيدة مع زوجي ،لأنها تشعر بأنني على وشك أن أخطئ وأنها تخاف علي من العقاب الإلهي.

مرت أثناء ذلك بجانب العيادة عزيزة زوجة عمي مصطفى بنشاطها الأبله الذي ينم عن سذاجة وتفاهة وخواء .ولم تلتفت صوبنا ،فهي طوال الوقت كانت مؤمنة دون أي شك بأنني خائنة ،لذا كانت تتصنع السعادة عندما تمر بجانب العيادة لتوجه لي رسالة بأن سعادتها تلك هي سعادة المخلص لوطنه ولطائفته والتي يجب الاعتزاز بها أمام تعاسة الخائنين مثلي !

توقف بعد فترة جرار أمام عيادتي ،وترجلت منه عمتي وحيدة التي كانت تشرف على العاملات البدويات أثناء قطاف الزيتون .

تقدمت من العيادة وهي تبتسم ايتسامة طفولية ،وقد تصبب العرق من جبينها ،وبلل وشاحها الملفوف بفوضوية ،وقد حملت رمانة كبيرة في يدها .

دخلت إلى العيادة متحمسة ،ولم تكترث لتلويث أرض العيادة بالأوحال العالقة على جزمتها البلاستيكية السوداء ،اقتربت مني وقبلت جبيني بشغف ثم ناولتني الرمانة وقرصت وجنتي وهي تردد بصوت عال : (( ابتسمي ،ابقي مبتسمة دوماً ،إن كانت العيادة ضيقة سأوسعها لك ،وإن كان زواجك تعيساً فاطلبي الطلاق يابنيتي ،مع أن صديقاتي الراهبات لن توافقن على ذلك )).

ثم جلست إلى جانبي وأردفت بصوت منخفض : (( وافقت على زواجك في الماضي لكي تنسي ذاك الخونجي لكنني لن أقبل بأن تكوني تعيسة )).

قالت ذلك ثم نادت على إحدى العاملات التي كانت قد تسمرت بجانب باب العيادة ،وطلبت مني أن أفحصها بعد أن قصت لي عن سقوطها مغمى عليها أثناء العمل ،ثم غادرت بعد أن استأذنت بالانصراف من أجل الشروع في حلب الأبقار باكراً ،كي يتسنى لها حضور الإكليل الذي ستتم مراسمه في كنيسة البلدة في تمام الساعة السادسة .

تمددت العاملة فوق السرير الجلدي لأفحصها ،ولمعت حبة عرق كبيرة ناجمة عن خوف ربما تحت ذقنها .

وبينما رحت أفحصها مرت بجانب العيادة سيارة جورج مسرعة تصدح منها القدود الحلبية وكانت متجهة باتجاه المطعم .

لمحت فيها المدرس جميل وخطيبته هيلدا ،حدق بي المدرس جميل بنظراته المزعجة المعتادة ،فأشحت بنظري عنه وتابعت عملي .

أخبرت الفتاة بشكوكي عن كونها حامل ،فارتجفت أطرافها وبكت بشدة ثم توسلت إلي بأن أعطيها دواء لكي تجهض .

صدحت البلدة بأصوات قرع الطبول تجهيزاً لحفل الزواج المقام في الدير ،فقالت لي الفتاة في اللحظة ذاتها : (( ساعديني ولا تجعلي هذا العرس مأتماً )).

وعدتها بأنني سأحميها وطلبت منها أن تخبرني باسم والد الطفل كي نرتب زواجهما بسرعة ،لكنها لم تقبل بذلك وفرت من العيادة وهي تولول ،لحقت بها لأمنعها من إيذاء نفسها ،لكنها اختفت بسرعة.

انتابتني قشعريرة على نحو مفاجئ دفعتني إلى أن أستلقي فوق السرير الجلدي ،وشعرت بألم في رأسي كان يزداد مع صداح الطبول المقروعة والزغاريد القادمة من ساحة البلدة والتي كانت تزيد من توتري وارتجافي ،أملت رأسي باتجاه الرمانة الموضوعة على الطاولة ،فزاد النظر إلى لونها الأحمر الدموي من توعكي وخدري .

أغمضت عيني أملاً بأن يزول الألم ،وحاولت تخيل كارلوس لكنني فشلت في رسم صورة بهيجة له ،وإنما ظهر لي حزيناً مطأطئ الرأس وذليلاً ،محاطاً بهالة من لون أحمر دموي ،عندها شعرت بدمعة ساخنة تجري فوق خدي وتغسل في طريقها كل مخاوفي ،وتعيد الدفء إلى جسدي ،ففتحت عيني أمام صورة جدي وعاد إلي نشاطي .

(كم أكره الصورة التي أنا عليها الآن ) تمتمت وأنا أقلب بألبوم صور طفولتي ،وتوقفت عند صورة أحبها جداً وهي صورتي بالفستان المزركش بزهور البنفسج تماماً كاسمي ،وأنا أقف بجانب جدي وهويرتدي شماخه الأحمر المبرقش بالأبيض وعقاله لافاً ذراعه حول عنقي ومبتسماً من صميم قلبه .

قلبت بين صفحات الالبوم وتوقفت عند صورة أخرى لي في حفل تكريم المتفوقين في المدرسة ،وقد وقف خلفي طاقم المدرسين والموجهين متجهمي الوجوه وأنوفهم تحلق في السماء .

مر أثناء ذلك موكب العروسين بجانب العيادة ،وراحت النسوة ترششن الأرز والأزهار عليهم من شرفاتهن وتزغردن بفرح .

دخلت حينها صديقاتي اليساريات السابقات وهن يلمعن من فرط تبرجهن وتزينهن بالحلي ،فهن وبعد أن فشلنا جميعاً في تغيير العالم نحو الأفضل ،كن قد تنبهن متأخرات لضرورة الاعتناء بجمالهن وإظهار أنوثتهن .

ركضن إلي وسحبنني من يدي لكي أخرج معهن ونرقص مع الموكب ونستعيد طفولتنا ونحن نلملم الليرات التي ترشها النسوة من بين أقدام الحضور .

خرجنا من العيادة ورحنا نركض بين الحضور وننحني لالتقاط الليرات .

بقينا نركض ونجمع النقود حتى تعبت أجسادنا و تعرقت ،وراح بعض الرجال العجز الذين يرتدون بذات تخص الشبان يعبسون في وجوهنا وهم يتأبطون أذرع زوجاتهن وكأنهم يعيدون مراسم زواجهم .

جاء بعدها قارع الطبول وطلب من الجميع أن يتحلقوا حوله وحول العروسين وأن نرقص على إيقاع الطبل ،ثم راح يضرب على الطبل بعصاه بقوة وكأنه يحطم كل الحيرة والتشتت الذي يكتنفه ،أو يعيد المشاعر والأفكار التائهة إلى مكانها الصحيح الذي على مقاسها .

كانت أصوات الضربات تفعل بي ذلك أيضاً ،لتعيد لي ثقل جسمي وتثبت أقدامي على الأرض ،لأشعر بكياني مجدداً .

فتحت كفي ونظرت إلى الليرات التي معي ،واكتشفت أنني حظيت بمبلغ جيد .

التفت إلى إحدى صديقاتي وراقبت قطرة عرق تسيل من وجهها وتجرف معها مسحوق التجميل الذي تضعه .

عدنا بعدها إلى العيادة ،وقررت ونحن في طريقنا أن أشتري بالنقود علبة مسحوق لتبييض البشرة .

جلسنا في العيادة ندخن ونستمع إلى نشرة الأخبار على أثير مونت كارلو ، وتأملت تبدل ملامح صديقاتي وعودة جديتهن وشراستهن.وفكرت آنذاك في أنه من الأفضل شراء وشاح لكارلوس بها ليحمي عنقه من برد البلدة القارس .

…………………………………………………………………………

بعد أن غادر الجميع بما فيهم عماتي ولحقوا بموكب العروسين المتجه نحو الكنيسة للشروع في مراسم الإكليل ،أقفلت عيادتي وعدت إلى المنزل لأتنقل فيه بحرية تامة .كانت فرصة جيدة لي لأستعيد ذكرياتي على طبيعتي وخصوصاً وأن زوجي كان قد غادر إلى الحفل بعد أن كلف بمهمة درء عمليات الشغب التي قد تحدث أثناءه .

دخلت غرفة جدي بداية ،ورحت أشرب بالكوب البلاستيكي الذي يخص جدتي والتي راحت في آخر أيامها تمنعنا من استعماله ثم حملت أداة التخلص من الذباب التي كانت تستعملها ،وابتسمت .

جلست في المكان المخصص لها والتي لم تتخلى عنه حتى الرمق الأخير ،ورحت أتساءل :هل كانت جدتي صامتة دوماً لأنها كانت ضعيفة أو لأنها كانت راضية بالقدر الذي هي شديدة الإيمان فيه ؟

في كلتا الحالتين نحن نشبه بعضنا في تعاستنا ،رغم أنني لست ضعيفة ولست مؤمنة ،إلا أنها دفنت تعاستها خلف الصمت ،أما أنا قررت عيش حياة أخرى أنفض فيها التعاسة مؤقتاً عن وجهي.

التفت بعدها إلى شماخات جدي المرتبة في خزانة حجرية من ضمن الحائط نفسه ،تناولت واحدة منهن وقررت أن أهديها لكارلوس بدلاً من شراء وشاح له .

راقبت الطريق عبر النافذة بعد ان تسلقت إلى حرفها وجلست فوقه ضامة ذراعي حول قدمي كما كنت أجلس في صغري ،وتخيلت جدي قادماً من الحقل برفقة العمال البدويين وهو يضحك ويمزح معهم .

فوجئت بسيارة جورج القادمة من المطعم تقاطع تخيلاتي ،حيث توقفت فجأة بجانب النافذة ،ونزل منها المدرس جميل ،نظر إلي مندهشاً وطلب مني أن أفتح له الباب .

قابلته عند الباب ،واقترحت عليه تناول القهوة معي لأول مرة منذ عشرة أعوام ،اعتذر عن ذلك متحججاً بالتعب لكنه بدا مسروراً لمسامحتي إياه على مافعله في الماضي و دمر حياة محمد وحياتي .

التفت إلي فجأة وقال :قبل ان أنسى ،هل سمعتي الأخبار ؟ يبدو أن الاتحاد السوفييتي سيعلن عن تفككه رسمياً قريباً جداً ؟

أشرت له برأسي أنني أعلم بذلك ،ودهش من برودة مشاعري .

عدت بعدها إلى جولتي في المنزل واتجهت نحو الأريكة وسط أرض الديار ،جلست فوقها ورحت أستعيد ذكريات تلك الأمسيات التي عشتها مع العاملات البدويات في صغري حينما كنا نسهر ونسمر و نلقي قصائد شعبية أو بالفصحى .

ثم فكرت بتلك العاملة المسكينة التي اختفت فجأة ،وتخيلت ما الذي سيحدث لو أنني كنت مكانها وحملت من كارلوس ؟

دفعني حماس ما بأن أنهض وأمضي إليه ،حملت شماخ جدي وهرولت مسرعة إلى بيته .

لما وصلت إلى ساحة البلدة شاهدت العاملة البدوية وهي تركض باكية دون وشاح على رأسها ،كانت قادمة من جهة منزل كارلوس ،ناديتها لكنها لم تلتفت إلي .

وصلت إلى بيت كارلوس ،كان بابه مفتوحاً ،دخلت فرأيته جالساً على الأريكة في الصالون يدخن عابساً ،ووشاح العاملة البدوية إلى جانبه .

( جاءت لتخبرني أنها حامل ،كنت في حاجة ماسة للجنس ،وأخبرتني أنها تمارس الجنس مقابل المال ،منحتها مبلغاً ونمت معها ،لكن من غير الممكن أن أتزوج منها ،إنها حثالة ! ).

رفع رأسه وحدق بي ،ثم أمسك بيدي وضغط عليها وأردف : (ثم لا مستقبل لي هنا ،سأبيع المنزل و نغادر ).

بقيت صامتة لبرهة ثم سحبت يدي من بين يده وهرولت بسرعة نحو الخارج .

مشيت باتجاه المنزل وفي يدي شماخ جدي وهواء بارد يداعب شعري ،لذا لففت شماخ جدي حول رقبتي و فكرت في أنه علي أن أمحو كل تلك السنوات العشر من ذاكرتي بما فيها كارلوس وأطلب الطلاق من زوجي لكي أستعيد توازني .

الفصل الثالث

2001

_1_

(( جميل ))

غرقت البلدة في رخاء غير معهود ،حيث عاد جيمي ابن جورج مع طموحاته في جعل هذه البلدة ملكاً له ،فاشترى الأراضي من الفقراء وبنى فندقاً كبيراً ،وافتتح معملاً للأجبان ،ومعصرة إضافية للزيتون .

وبفضل علاقاته الغير محدودة مع مشاهير في السينما والتلفزيون والرقص الشرقي استطاع إقناع إحدى شركات الإنتاج بتصوير عمل في البلدة يحكي عن حقبة الانتداب الفرنسي .

عبدت البلدية الطرقات ،وزرعت أشجار الإنكي دينيا على قوارعها استعداداً لاستقبال طاقم المسلسل .

عاد معظم المغتربين في أوروبا إلى البلدة ليشهدوا تلك الظاهرة الفريدة من نوعها ،وأقيمت الاحتفالات اليومية في ساحة البلدة ،وتخدر الجميع بالفرح والجنون لدرجة أنهم استقدموا مزيداً من العمال البدويين ليتولوا أمور المواسم كي لا يضيعوا من أيديهم أية فرصة في الاستمتاع بالحفلات المقامة .

أجر الناس بيوتهم للممثلين مما زاد من رخائهم ،إضافة إلى الأعمال التي وفرها لهم جيمي ابن جورج وشريكه الجديد حازم ابن مصطفى عم فيوليت التي فضلت كعادتها أن تبقى حيادية وغادرت منزل جدها بعد أن أصبحت غير مرغوب فيها إبان طلاقها من زوجها سيف والذي ساعدتها فيه عمتها وحيدة عندما باعت جزء من حقولها لتتمكن فيوليت من خلع زوجها ،والذي جمع أمواله وعاد إلى المدينة بعد ان نقل مكان عمله إليها .

استأجرت فيوليت منزلاً وعيادة لها بجانب الدير ،وتطوعت للعناية بالأطفال اليتامى الذين يأويهم الدير .

ورغم زواجي بهيلدا وانتقالي للعيش في منزل والدها الكبير بكن العديم الذوق ،ورغد العيش الذي كنت أهنأ فيه إلا أنني بقيت أفكر بفيوليت ،التي كانت تعيش حياة سعيدة ،فقد كنت الحظ ذلك عليها .

في إحدى المرات مثلاً ،كنا قد دعينا جميعاً إلى حفلة تواجد فيها الممثلون بعد انتهاء تصويرهم للعمل ،والذي ارتأى أثرياء البلدة وأقوياؤها أنه من الضروري إقامتها .

وقد حضر إليها جميع آل ابي محمود بمن فيهم فيوليت التي ربطت حضورها بالسماح لأطفال الميتم بالحضور ،وتخصيص طاولة لهم .

وبينما كان الجميع منشغلاً بالتصفيق لجيمي الذي راح يبرم صفقة شراكة جديدة مع رجل يدعى (عمر بيك ) ،كانت فيوليت منشغلة مع عمتها خديجة ووالدها نبيل في توزيع الهدايا على الأيتام ،والاحتفال بعيد المعلم كون هؤلاء الأطفال هم طلاب عمتها ووالدها .

حسدتها على أنها غير مجبرة أن تتملق مثلي ،وكنت أرى في عينيها نظرة احتقار لي ،لشد ما آلمتني .

كانت أقسى نظرة لها في إحدى الليالي الباردة ،لما كان سكان البلدة يرقصون بشكل هستيري دون أن يشعروا ببرودتها ، في إحدى المناسبات الوطنية ،والتي لم تكن سوى سبب لتجمعهم ،لكن دافعهم الحقيقي للرقص كان نشوة الرخاء وراحة البال .

سقطت يومها زوجتي هيلدا مغمى عليها أثناء تحلقنا جميعاً لرقص الدبكة ،فسارعنا لنقلها إلى عيادة فيوليت ،استيقظت في طريقنا إلى هناك وبدت وكأنها أصبحت على مايرام ،لكن شقيقها جيمي أصر على أن نعرضها على طبيب .

لما وصلنا إلى العيادة دخلنا إلى غرفة الانتظار لكن باب غرفة المعاينة كان مغلقاً ،وقالت السكرتيرة لنا أنه ثمة مريض في الداخل ،و أن الدخول ممنوع إن لم تكن الحالة خطرة وعلينا أن نلتزم بالدور .

أهمل جيمي كل ما صرحت به ،وفتح باب غرفة المعاينة بعنف .

كانت فيوليت تقطب جرحاً في رأس طفل ،انتفضت غاضبة إبان تصرف جيمي وصرخت : كيف تفعل ذلك ؟هل أنت عديم الذوق ؟

ثم نظرت إلي باحتقار وأردفت : وأنت كيف تسمح لشاب متهور يظن نفسه أنه ملك العالم في أن يقوم بذلك ؟أليس من المفترض أن تمنعه كونك تكبره بأجيال وكونك معلمه في الماضي ؟

عندها انتفض جيمي وهددها بإغلاق عيادتها ،تدخلت وهدأت من روعهما ووعدت فيوليت بأن ننتظر دورنا .

في تلك الليلة ونحن في طريق عودتنا إلى المنزل لم أنطق بأية كلمة مع هيلدا وجيمي ،وشعرت برغبة على فتح باب السيارة والهروب من كل هذا إلى الأبد .

لكن هذا الموقف منحني فرصة أخرى للقاء فيوليت للاعتذار لها ،التقيتها في دار الأيتام التابعة للدير .كانت تغني للأطفال أغنية عن الربيع ،بينما راحت إحدى الراهبات تكلل الأطفال بأكاليل جميلة من الزهور .

جلسنا إلى طاولة في حديقة الروضة تقع في ظل شجرة زعفران مزهرة ،كانت الشمس يومها ساطعة مما أظهر لون شعر فيوليت العسلي الأصلي و نظراً للوقت الذي قضته مع الأطفال متعاطفة مع قصصهم انعكست طفولتهم في وجهها و بدت غضة متوهجة الخدين .

اعتذرت منها على تصرف جيمي واحتسينا القهوة ،وعاملتني للمرة الأولى بلطف شديد ،وذلك لما قاطعنا أحد الأطفال ليسألها عن تحضيرات عيد ميلاده الذي قرب موعده ،فوعدته بأنني سأتكفل بكل النفقات .

عدت بعدها إلى مطعم عمي جورج ،واقترحت عليه أن نقيم حفلة عيد الميلاد لذاك الفتى اليتيم في المطعم ،وأقنعته بأن ذلك سيدعم موقفه في انتخابات مجلس الشعب التي ترشح إليها و يضمن له أصوات أهل البلدة المتدينين.

قال بأنه قد ضمن أصواتهم بعد أن صرف الكثير من المال على ترميم بركة وحديقة الدير ،لكنه وافق على إقامة الحفل لكسب مودة فيوليت ومحاولة ضمها إلى قائمة النخبة من البلدة الذين استطاع ترويضهم وضمهم تحت عباءته .

لكن في مساء ذلك ليوم ولما اجتمعنا على العشاء ،رفض جيمي اقتراحنا وقال أننا لن نلهث خلف مودة مختلة كفيوليت تظن نفسها مخلصةً للبشرية ،وأن عليها هي أن تخضع لنا ،فالبلدة كلها تحت قبضتنا !

زرت في اليوم التالي فيوليت وبلغتها اعتذاري ،فابتسمت وأخبرتني أن الموضوع لا يهمها على الإطلاق وأنها ستقيم الحفلة في منزلها وأن بإمكاني الحضور وإيفاء وعدي للصبي بأن أتكفل بكامل النفقات .

شعرت بأن ذلك الموقف قد قلص المسافة التي بيننا ،وأن ذاك الاحتقار الذي تحمله في عينيها تجاهي قد حال إلى شيء من الاحترام .

وفي اليوم المقرر لعيد الميلاد ،استيقظت باكراً وارتديت بذتي المفضلة بعد أن اغتسلت ،ثم أيقظت هيلدا لأخبرها بمغادرتي التي استغربت من تخلفي عن تناول الفطور مع والدها للمرة الأولى .

أخبرتها بأنني كثفت الدروس لبعض الطلاب ذوي المستوى الضعيف لاقتراب الامتحانات ،فصدقتني .

خرجت من المنزل ومشيت مسرعاً إلى منزل فيوليت ،ولكثير من الأفكار الجميلة تتدافع في رأسي .

قابلت فيوليت في منزلها بكامل نشاطي ،كانت تغلف الهدايا للأطفال وتزينها فساعدتها في ذلك ،ثم انطلقنا معاً إلى الدير لزيارتهم و استكمال التحضيرات اللازمة للحفل معهم .

لما وصلنا إلى هناك كان الأطفال مجتمعين في الحديقة وقد بدا على سحناتهم الخوف والحزن ،وكانت إحدى الراهبات تحاول جاهدة ان تضحكهم .

حكت لنا الراهبة عن سبب حزنهم ،حيث أخبرتنا عماجرى مع أحد الأطفال اللبارحة والذي يقطن في الطابق الأرضي للمبنى المخصص للأيتام ،حيث خرج ليلاً إلى الشرفة الخلفية لغرفته والتي تطل على منزل كان قد استأجره جيمي لأحد الحراس الشخصيين له .

بعد خروج الفتى إلى الشرفة بقليل ،سمع اصدقاؤه صوته وهو يستغيث ويطلب من أحدهم أن يتوقف عن ضربه وأنه لن يمازحه مجدداً ،فخرجوا لرؤية مايحدث .

كان ذاك الحارس الشخصي ذو الحجم الهائل يصفع الطفل بقسوة على وجهه ،إلى أن أنهك الطفل وخرت قواه فسقط أرضاً مغمى عليه ،عندها نادى الأطفال على المشرف عليهم والذي قام بنقله إلى مستوصف الراهبات ومازال هناك منذ الامس .

انتفضت فيوليت لدى سماعها القصة غاضبة ثم أقسمت بأنها ستجعله عبرة لمن يعتبر .ثم طلبت مني أن أذهب معها إلى المدينة لكي نبحث عن محامي لنرفع قضية ضد ذلك الحارس .

بعد عدة أيام جاء جيمي إلي وهددني بأنه سيطلق شقيقته مني ويرميني في الشارع ،إن لم أتوقف عن مساعدة فيوليت ،وقال أن أحداً قد شاهدني برفقتها في المدينة .

ثم ضحك وأردف ساخراً : القضية كلها كالضراط على البلاط ،نحن نعرف كيف سنجعل تلك المخبولة تسحب تلك الدعوى وتغير أقوالها وأقوال الصبي وهي بكامل إرادتها .

زرت فيوليت في منزلها كي أفهم موقفها ،قالت بأن عمتها وحيدة قد زارتها وأمرتها بان تسحب الدعوى مبررةً أن جيمي سيفض الشراكة مع حازم ابن عمها مصطفى وأنه ليس من شيء أهم من مصلحة العائلة والحفاظ على قوتها وسلطتها !

ثم أخبرتها بأن حازم ابن عمها مصطفى قد هدد بأن يحيل عيادتها إلى غبار متناثر إن لم تقم بمايجب أن تقوم به !

دلكت فيوليت وجنتيها بوهن وهي تخبرني بذلك ،ثم لعنت ذلك اليوم الذي ولدت فيه في كنف تلك العائلة .

ضممتها إلى صدري بقوة ،فغفت مثل رضيع شعر بالدفء .

حملتها ومددتها فوق سريرها ،وتأملت التجاعيد التي بدأت تظهر على وجهها المنهك والمتورد دوماً .

لما أقدمت على الخروج من الغرفة مدت ذراعها إلي وطلبت مني أن أتمدد إلى جانبها في السرير ،فرضخت لها .

فكت أزرار قميصي و طلبت مني أن أخلعه ،ثم جلست فوقي وأمسكت برأسي بين يديها وداعبت شعري ،وراحت تقبل مواضع عشوائية من وجهي متنقلة بنعومة إلى رقبتي ثم صدري فبطني وتوقفت عند سرتي ثم عادت وتمددت مجدداً على السرير وطلبت مني الولوج فيها .

استيقظت بعد مدة عارياً ،وكان قد أيقظني شعور بالبرد اللذيذ الذي يلي هروب الرطوبة عن الجسد فينعشه ،ولم أجد فيوليت بجانبي .

نهضت وارتديت ملابسي ثم غادرت المنزل ،ومشيت وأنا أرتجف من البرد بينما كان المطر يهطل بغزارة فوق رأسي ،ولما وصلت منزلي كانت هيلدا تنتظرني على الشرفة ففتحت لي الباب ونظرت إلي وهي عابسة دون أن تتفوه بأي كلمة فأشحت بنظري عنها و سارعت نحو الحمام لأغتسل بالماء الدافئ ،والذي جعلني أشعر بالأمان مجدداً .

وبعد أن أنهيت استحمامي واجتمعنا جميعاً على العشاء ،علمت من جيمي أن فيوليت قد سحبت الدعوى بعد أن اصطحبت الفتى لتغيير أقواله .

في تلك الليلة جمعت هيلدا أغراضها من الغرفة وقالت أننا لن ننام في الغرفة ذاتها بعد اليوم .

لذا قضيت الليل وحيداً ويقظاً حتى طلوع الفجر وأنا أفكر بموقف فيوليت الغريب وأتساءل إن كانت نادمة على الفعل الجميل الذي قمنا به اليوم.

_2_

(( فيوليت ))

عندما عدت برفقة ألفريد ذلك الفتى الذي تم الاعتداء عليه من مركز الشرطة بعد أن سحبنا الشكوى وغيرنا أقوالنا ،كانت سيارة حازم ابن عمي مصطفى تصطف في ساحة البلدة ،وفيها مجموعة من الممثلين الذين كان حازم يستخدمهم كواجهة له تدعم موقفه في الانتخابات

ولما مررت بجانبها التفت حازم إلي ورحب بي بتملق مبتذل ،وكانت نبرة صوته تحمل رسالة مفادها أنني لست بحجمهم وأنني عاجزة على الوقوف في طريقهم .

تابعت طريقي باتجاه الدير غير مكترثة ،ولما وصلت كانت إحدى الراهبات تنتظرني أمام باب الكنيسة لتتسلم ألفريد مني ،وما إن أصبحت على مقربة منها حتى سحبت الصبي من ذراعي بقوة ،ثم قالت لي متلعثمة : (( ليس من الضروري بعد اليوم أن تأتي يومياً لرعاية الأيتام و الاهتمام بهم ،لدينا مشرفون كثر خصيصاً لذلك ،وإن احتجنا لك كطبيبة سوف نستدعيك )).

مشيت بتثاقل صوب منزلي وأنا أذرف خيبتي دموعاً ،وعند وصولي ولجت غرفة النوم وتأملت السرير الذي يعبق برائحة المدرس جميل ،فشعرت بالاشمئزاز ثم عادت لي تلك الكراهية التي أحملها تجاهه .

قمت بوضع شريط كاسيت لفرقة البيتلز ورحت أدخن بنهم .

اتصلت بي عمتي خديجة عبر الهاتف لتدعوني إلى الإفطار يوم الغد والذي يصادف أول أيام شهر رمضان ،فوعدتها أنني سألبي الدعوة .

تمددت فوق السرير وسرعان ماغفوت ،وحلمت بتلك الفتاة البدوية التي رمت نفسها في النهر بعد أن اكتشفت حملها من كارلوس ،فاستيقظت مذعورة .

من صباح الغد ،لملمت كامل أغراضي الشخصية وملابسي وعدت إلى منزل جدي .

وبعد أن قضيت شهر رمضان بأكمله فيه ،وشاركت عماتي في طقوس الإفطار والسحور ،مستمتعة بها بخدر تام مثل طفلة صغيرة لا تكترث لشيء ،عدت إلى منزلي لتأجيره إلى عائلة تتألف من زوجين متقاعدين كانا قد فرا من زحام المدينة الخانق .

وبينما كان هذان الزوجان يوقعان أوراق تبني ألفريد كابن لهما ،كنت أنا قد قتلت طفلي من المدرس جميل دون أي شفقة بعد أن تناولت دواء مجهضاً .

فكرت بعد ذلك بأن ما أفتش عنه ربما هو النوم وإنجاب طفل من أول حب في حياتي ، محمد ،وليس مع زوجي سيف أو كارلوس أو المدرس جميل أو أي رجل آخر .

الفصل الرابع

2011

_1_

(( فيوليت ))

مرت السنوات على منزل جدي دون أي تغير ملحوظ ،كانت الحياة في الخارج تتغير وتتبدل إلا أن منزلنا بقي على نظامه الداخلي المعتاد .

ورغم ذلك لم أشعر قط بالملل فيه ،أو بالندم على عودتي إليه .

بعد رحيل والدي ،أصبح المنزل ملكاً لنا نحن النسوة الأربع فتحول ذاك القصر المغلق على نفسه إلى عالم أنثوي بامتياز ،بالرغم من أن مصدر أمانه ورغد عيشه كان مالاً وسلطة ذكورية .

كنا نستيقظ ونتناول الوجبات اليومية حسب المواعيد التي قررها جدي في الماضي ، كنا أنا وعمتي سارة وخديجة نقضي معظم أوقاتنا في الجلوس واحتساء القهوة مع نسوة البلدة اللواتي يقصدننا عادة من أجل ابتياع الحليب والأجبان أو شتلات الورود و أغطية الطاولات ،بينما كانت عمتي وحيدة تغيب طوال اليوم مابين حقول الزيتون والاسطبل .

كانت تلك النسوة تجدن الثرثرة عما يحصل في العالم الخارجي الذي شيئاً فشيئاً أصبحنا ننفصل عنه ،ولعل أفضلهن كانتا الشقيقتان فلك ونهاد اللتان تعيشان وحيدتين في منزل كبير في ساحة البلدة .

كانتا تأتيان يومياً إلى منزلنا لتنقلا لنا أخبار البلدة ،وممارسات حراس جيمي الجنونية فيها ،بعد ان ترك لهم مسؤولية إدارة ما تبقى له من ممتلكات في البلدة لم يبعها لشريكه الجديد عمر والذي كان قد اشترى كامل ممتلكات عمي مصطفى وابنه حازم اللذين فرا بصحبة عائلة عمي بأكملها إلى إحدى دول الخليج مع ثروة طائلة .

ومنذ أن تسلم رجال جيمي و شريكه عمر مسؤولية إدارة الممتلكات غرقت البلدة بالحشيش والأفيون كما كانت فلك تردد دوماً .

وسرعان ما انتشر الأفيون بين عمال البلدة وخصوصاً بعد أن تم طرد الكثير منهم من أعمالهم ،بعد أن حول هؤلاء الرجال البوهيميون غالباً الفنادق والمطاعم إلى ملاه ليلية وبيوت للدعارة .

أما عمر بيك والذي أصبح يملك نصف البلدة ،اشترى منزل الاسكافي جد كارلوس وهدمه ثم بنى مسجداً مكانه ،وعين خطيباً على منبره بنقوده ليبقي العنال في حالة خدر دائم ،بما يتوافق مع مصلحته .

وفي يوم وبينما كنت أنظف صورة جدي،وعمتي خديجة كانت تصلي ،بينما كانت عمتي سارة منشغلة كعادتها في المطبخ ،سمعنا أصوات إطلاق نار في الخارج ثم ما لبث أن رأينا باب المنزل يسقط أمامنا ليظهر منه مجموعة من الرجال الملثمين والمدججين بالأسلحة ،والذين كان يتمايلون كالمخبولين ويزمجرون كالوحوش بعبارات (( الله أكبر)).

ثم راحوا يكررون جملة : (( هل من رجال ؟ أين الرجال ؟)) ثم انتشروا في كامل أرجاء المنزل وراحوا يكسرون الأبواب والنوافذ ،وعندما لم يعثروا على أحد ،بدؤوا بالخروج من المنزل واحداً تلو الآخر .

لكن أحدهم تسمر في مكانه وسط أرض الديار و ساد الصمت المكان لفترة قصيرة .

ثم نطق ذلك الملثم بجملة جعلتنا أنا وعماتي نتقصف ذعراً حيث قال : (( لدي حساب علي تصفيته أولاً )).

مشى ببطء نحوي بينما راح قلبي يخفق بشدة ،وشرعت عمتاي سارة وخديجة بالصراخ والرجاء .

لما وصل على مقربة مني طلب مني أن أدخل إلى غرفة الضيوف ففعلت ذلك ،ثم دخل بعدي وأغلق الباب وراء ظهره ،وانطلق صراخ عمتاي وهما تحاولان كسر الباب لإنقاذي .

اقترب مني ،كانت رائحته مقززة للغاية ،وأسقط ببندقيته صورة جدي على الأرض فتحطمت ،ثم قام بتعليق بندقيته مكانها .

حملني بيديه من خصري وراح يعبث بشعري و ثديي ،وشعرت بأنه يرغب أن تصلني رسالة منه أنه يمتلكني الآن .

أزال اللثام عن وجهه ، فدهشت لكونه محمد أول حب في حياتي .

ابتسم بقهقهة مزعجة تخلو من أية مشاعر ،وهو يردد : (( أنت لي الآن ، كل شيء لي ، السلطة في يدي ،لأن السلاح في يدي ،والقوة أيضاً ، والقرار .. جسدك ،حياتك ،كلها ملكي وتحت سلطتي )).

لم يكن محمد ذاته ، كان وحشاً ،ولم يعد ينظر إلي كإنسانة ،كان ينظر إلي كفريسة ضعيفة أمام قوته ،وبإمكانه فعل مايريد بها .

استجمعت قوتي وضربته لكمة على رأسه فسقط وأسرعت باتجاه لوحة منزلنا حيث خبأ جدي يوماً مسدسه خلفها ، أحضرت المسدس بينما كان هو قد نجح في النهوض ويصيح هائجاً : (( سأقطعك … ))

ولم يكمل كلمته هذه إلى أن كانت طلقة مسدس جدي قد خرقت رأسه ،وخر أرضاً مثل كيس من الزبل .

سارعت نحو الباب وفتحته ،فانهالت علي عمتاي بالتقبيل وهما تجهشان بالبكاء .

ركضنا مسرعات خارج المنزل ،فالتقينا بعمتي وحيدة وهي عائدة من الحقل وفي يدها فأس كبيرة .

ثم توقفت بقربنا سيارة المدرس جميل ، ترجل منها وراح يأمرنا بالصعود إليها بينما كانت عمتي سارة تردد : أزهاري ،أزهاري .

أما عمتي خديجة فقد بدت وكأنها تحولت إلى جماد ،وجحظت عيناها وحدقتا في اللاشيء .

صعدنا إلى السيارة وانطلق المدرس جميل مسرعاً بنا ،وهو يتمتم : (( سنكون بخير ،سنخرج ،سنخرج ،سنكون بخير )).

أخفضت رأسي نحو الأسفل تاركة فرصة للنسيم بأن يجفف عرق شعري وقلت : لقد قتلت محمد .. قتلته بيدي

_2_

(( جميل ))

كنت جالساً وحيداً أحتسي القهوة على شرفة منزلي الذي أعيش فيه بمفردي منذ رحيل هيلدا مع عائلتها بعد أن أيقنت أنه لا شيء يجمع بيننا ،عندما سمعت صراخ بشر يهرولون خائفين في أزقة البلدة .

اتصلت بالدير لكي أستفسر عما يحدث ،فأخبروني بأن مجموعة من المسلحين الملثمين يهاجمون البلدة ،بغرض قتل كل من كان مرتبطاً بالدولة والسلطة الحاكمة .

استقليت سيارتي وأسرعت باتجاه منزل فيوليت ،وأنا على يقين تام بأنها في خطر .

وصلت إلى هناك فوجدتها وعماتها متعانقات ومنهكات يمشين بتثاقل باتجاه ساحة البلدة .

ترجلت من السيارة وطلبت منهن الصعود ،فرضخن دون أن ينطقن بأي كلمة ،شغلت محرك السيارة وانطلقت ،وبعد هنيهة سمعت فيوليت تتمتم : لقد قتلت محمد ،قتلته بيدي )).

راودني شعور بالنشوة لما سمعت عبارتها ،ورحت أرتجف خوفاً من فشلي مجدداً بأن أنقذها ،لذا زدت سرعة المحرك مستجمعاً كامل تركيزي وقوتي .

وبالرغم من أنني كنت واثقاً أنني بهروبي هذا خسرت كل ما جمعته طوال تلك السنوات في هذه البلدة ،وعدت كما كنت لما جئت إليها مفلساً ،إلا أن ما كان يعزيني هو وجود حب يربطني بهذه الحياة ،ويمنحها معنى.

عند وصولنا إلى ساحة البلدة ،التقيت بليث موجه المدرسة ابن عمة فيوليت ،الذي راح يأمرني باللحاق بسيارته ،للوصول إلى مكان آمن .

رضخت لأوامره دون أي تردد ،ولحقت بسيارته ،فعبرنا طريقاً ترابية تقبع على جوانبها أراض قاحلة تخلو من أي زرع سوى الأعشاب اليابسة الغزيرة بالأشواك .

فجأة ،تحسست فوهة مسدس موجه نحو رأسي ،التفتت فإذ بفيوليت تصوب مسدساً باتجاه رأسي وتأمرني بأن أغير وجهتي وأن أكف عن اللحاق بسيارة ليث وإلا أفرغت المسدس في رأسي .ثم أردفت : ثقتي بك شبه معدومة لذا لن أتردد بقتلك أبداً ،نفذ ما آمرك به .

استسلمت لطلبها ولم يكن الخوف ما دفعني لذلك ،وانعطفت بالسيارة نحو اليمين لندخل طريقاً أخرى تصطف على جوانبها أشجار الخوخ بخضارها المعتاد والملفت للنظر.

عندها سحبت فيوليت يدها نحو الخلف ورمت بالمسدس من نافذة السيارة ،وتمتمت :

(( هكذا سنضمن بأن نكون جميعاً بخير )).

القصة الرابعة

أحفاد زورو

(الشاي ثقيل …) صرخ أرتين في وجه زوجته التي حافظت على وضعيتها المتجهمة والمحدقة فيه بصمت ،ثم أخذ يتأوه شاكياً من ألم واخز في قدمه والذي كان يتفاقم مع اقتراب حلول الظهيرة ،في يوم كادت فيه البلدة تحترق من الحر .

دفعه هذا الألم المتزايد إلى أن يزيل الضماد الذي يلف به جرحه ،وهو مرتجف اليدين ،حاولت زوجته منعه عن ذلك ،فلكمها بقوة ولؤم بيده كابحاً جسدها الهزيل وزارعاً في نفسها ذعراً جعل من دمها يتدفق صاعداً ليلون وجنتيها ،ومن عينيها تحدقان ببلاهة وعجز إليه .

لما كشف عن جرحه ،راح يتلمسه بأصابعه واستطاع أن يشعر بتعرجات اللحم الذي نما على نحو عشوائي وفوضوي في الموضع الذي بترت عنده قدمه .

مدد كلتا قدميه على الطاولة الخشبية التي صنعها بنفسه خصيصاً للحديقة الخلفية لمنزله ليملأ بذلك أوقات فراغه التي كثرت بعد ما أصابه من مصاب ،حيث كان مداوماً على الجلوس فيها يوبخ زوجته أو يساءل نفسه مذ أصيب بقذيفة أفقدته قدمه وجعلت منه جليساً متذمراً تارة وتارة حالماً متسائلاً عن الذنب الذي اقترفه ليحظى بتلك النهاية ،فهو وعلى الرغم من وجود عدد قليل من الناس الذين يستلطفونه ،مازال يعتقد بأنه كان إنساناً جيداً.

لما حدثت حرب كبرى في السبعينيات شارك فيها ، ومازال يذكروقتها لما أعلن النفير العام عبر أثير إحدى المحطات الإذاعية وسمعه بفضل الراديو الصغيرة المفضلة لديه والتي كان يحتفظ فيها خفية عن والديه كي لا يظنانها تلهيه عن دراسته ،وعندها أخاطت له والدته ثياباً داخلية سميكة لتدفئه في غيبته و ودعه والداه وداعاً عادياً يخلو من أية مشاعر ،فقد كان في رأيهما أنه من الواجب على ولدهما الالتحاق للقتال ضد اليهود الصهاينة الذين قتلوا المسيح . وبالرغم منذلك ولما عاد من الحرب ولم يكن في البلدة سوى العجائز والحشائش اليابسة في الأراضي القاحلة والموحشة والمليئة بالمستنقعات والعذارى الحائرات الكبيرات في السن ،بكى عند لقائه بهما وهما يضحكان ضحكات طفولية ساذجة ،لشخص أمامهما لم يعرفانه بتاتاً .ورفض الزواج حتى يتسنى له العناية بوالديه اللذان لم يرحلا إلا بعد أن شاخ ابنهما .

ولما استدعاه الأب ذات صباح ليقترح عليه الزواج بإحدى الفتيات التي خسرت عائلتها وبقيت وحيدة وطاعنة في السن و لا عائل لها ،لم يتوانى في اتخاذها زوجة له ،ولم يتخلى عنها عندما علم بأنها عاقر .أما في شأن عمله فعلى حد علمه كان مخلصاً دوماً فيه ،أما في حب الوطن فقد كان لينزح مع البقية لما سيطر الإسلاميون على البلدة إلا أن إصابته حالت دون ذلك ،وهو كان دوماً مخلصاً لوطنه .

راح يفكر في هذا كما في كل يوم وهو يتأمل موضع البتر في قدمه ،ويحاول أن يقربه إلى أقرب شكل ،حيث صرخ فجأة في وجه زوجته : ((هيه ،ألا تشبه وجه صقر ؟ )).

بقيت زوجته صامتة وهي تلملم أكواب الشاي ،بينما كان هو يواصل تأمله كتلة اللحم مبتسماً بفخر ،ومتناسياً كمية الألم الذي شعر به لما سقطت قذيفة الهاون بقربه وهو عائد من وظيفته .

وعندما ضجر من ذلك ،راح يدندن إحدى الأغنيات التي تعلمها في الجيش ،بينما راحت بضعة فراشات تحوم حول موضع البتر في قدمه على نحو مزعج استثار غضبه ،فأخذ يضرب قدمه المصابة على الطاولة أمامه حتى نزفت دماً وكأنه استيقظ فجأة وعاد إليه الألم القديم ،وأدرك أن تلك الأغنية قبيحة للغاية .

جاءت زوجته من المطبخ على وقع الضربات ،فباغتها وأمسك بعكازه وأهال على قدميها بالضرب المبرح ، مغمضاً عينيه كي لا يشوب قسوته أية رحمة ، فذعرت زوجته وظنت بأنه سيقتلها ثم فرت وهي تصرخ باكية إلى المطبخ .

كانت معتادة على قوة وصلابة زنديه أثناء ممارستهما للجنس ،وخصوصاً في اللحظة التي يقترب فيها من النشوة حيث يضغط بقوة على كتفيها دون حتى أن ينظر في عينيها ويسرع العملية بأنانية ودون أن يكترث بما قد تشعر به من ألم .

وربما لم تكن أنانية منه ،بل نوع من الشغف بالروتين أو حب القيام بالأمور دون معنى ،كان يخاف من المعنى أو الهدف ،ويفضل أن يقوم بالأشياء دون أن يمنحها هدفاً ،فكان يضاجع ليس لإسعادها ولاحتى لإمتاع نفسه ،وإنما لأن ذلك ما تفرضه اللحظة ،أو لأنه في مكان ما من عقله ثمة قاعدة تعلمها توجب مضاجعة الرجل لامرأته.

راودته ذكرى عن ضرب والده له بواسطة العكاز نفسه في صباه لتلفظه بألفاظ بذيئة أو بعد شكوى من القس نفسه ،كان والده مسالماً وهادئاً ،إلا أنه تمتع بردات فعل قاسية لا تعرف الرحمة ،كان مثل صوفي صامت يشطح فجأة .

ذكرى والده تجعله يرتبك ويتخبط في شرك من المشاعر المتداخلة ،مابين رغبة بالقتل أو رغبة بالاختفاء ،أو ربما رغبة بالبكاء ذليلاً ومستعطفاً زوجته ،طالباً منها الصفح والعفو .

فكر فيما لو كان قد آلم زوجته،ودهش لذلك لأنه لطالما لم يكترث بأي أمر يتعلق بها ،وكان عند الاستيقاظ في كل يوم يتأمل صورة عرسهما المعلقة في الصالون ويخال امرأة أخرى مكانها ،وطفلاً ممتلئاً بينهما ،وكم تمنى لو كان بمستطاعه تغيير حياته التي عاشها ، كأن يغير المرأة التي تزوجها ويتزوج بتلك الفتاة ذات السمرة اللاتينية التي كانت تأتي برفقة عائلتها من فنزويلا لقضاء الصيف في البلدة ،وكان هو يذهب للسباحة في بركة المياه العذبة القريبة من البلدة خصيصا ً كي يراها وهي تسبح بالمايو ذو الكنزة القصيرة بحيث تظهر سرتها النظيفة واللامعة للعيان ،وعضلات بطنها المشدودة الجذابة ،لكن الأوان قد فات وكيف له أن يبدأ من جديد بعد إصابته تلك .

ثم راح يفكر في أن تعاسته وتذمره ليسا جديدين عليه ،فقد كان دائم التذمر وذو طباع حادة وكان يفرغ غضبه هذا في زوجته ،وأبى دوماً في أن يساعدها في عملها البيتي لصنع المؤن وبيعها للمصطافين القادمين من المدينة إلى البلدة لقضاء الصيف ،بالرغم أنه كان على دراية تامة أن ما تجنيه زوجته من هذا العمل يضاهي بكثير راتبه الذي يتقاضاه عن وظيفته .

لم تكن زوجته يوماً متطلبة معه ،لذا فهي تستحق معاملةً أفضل ،والمرة الوحيدة التي قدم لها نوعاً من الشكر في رأيه لما اصطحبها معه إلى لبنان وصعدا معاً لزيارة سيدة حريصا ،للدعاء لزوجته بالشفاء كي يرزقا بطفل يملي عليهما حياتهما ،وظل وقتها شهراً بكامله وهو يعاملها بلطف على أمل أن تحمل ،لكنه لما فقد ذلك الأمل لم يتمالك نفسه ذات يوم وقام بتحطيم علب المؤن المحفوظة في المنزل وغادر المنزل ولم يدخله لعدة أيام ،كان قد عزم في قرارة نفسه أن يعيشها كبوهيمي للمرة الأولى ،فراح يضاجع الفتيات في الحقول بين العشب مقابل مبالغ مالية زهيدة ،متلفظاً أثناء تلك المضاجعات بالألفاظ البذيئة التي منعه عنها والده في الماضي .

أسند رأسه إلى الشجرة خلفه في الحديقة حيث يجلس ،وحاول أن يفكر بشيء آخر ليتناسى تلك الأيام التي لطالما رغب في محوها من ذاكرته ،وسرعان ما غفا وأخذ يحلم بوالدته لما كانت تمنع عنه طعامه المفضل ألا وهو الخبز المفتت المغمس بالحليب لو سمعته ذات مرة وهو يكفر بالله بصحبة أولاد الحي ،وأحياناً كانت تقود بها مزاجيتها التي لا تحتمل إلى جلد قدميه باستعمال غصن شجرة رمان ،لذا ظل طوال حياته يكره الرمان ويمنع زوجته من جلبه للمنزل مع أنها كانت فاكهتها المفضلة .

استيقظ من غفوته القصيرة تلك على صوت المذياع القادم من المطبخ ،حيث كان المذيع يذيع خبر سقوط عدة قذائف في بلدته ذاتها والذي أسفر عن وفاة قس البلدة ،عندها تذكر السبب الحقيقي الذي دفع الأب في الماضي لتزويجه بتلك الفتاة ،فبعد أن عاد من الجيش كان جسده متخماً بالجروح والأمراض ،وكان دائم الصمت لدرجة تخاله فيها مخبولاً ،وخصوصاً بعد معرفته بوفاة والديه ،لذا لجأ إلى الأب لمساعدته في العثور على زوجة له تقبل به على حاله ووضعه المادي المحدود .

وما إن أنهى المذيع ذيع الخبر حتى أطلقت زوجته صرخة مدوية وأجهشت بالبكاء ،فأنصت لبكائها وهو يحدق في غيمة بيضاء صيفية غطت عين الشمس فخيم الظل على الحديقة بكاملها .

بعد هنيهة نهض مستعيناً بعكازه ومشى باتجاه المطبخ ،وعند مروره من الصالون تأمل صورة أخرى له ولزوجته التقطت لهما في حريصا ،ولاحظ للمرة الأولى أنهما كانا يبتسمان معاً ،ثم واصل مشيته نحو المطبخ ليخفف عن زوجته صدمتها بعد هذا الخبر ،وفي رأسه فكرة واحدة هي كيفية الفرار إلى بيروت .

مضت الأيام التالية عليهما ثقيلة ،فالزوجة التي لم تفارق السرير إثر مرضها وصدمتها برحيل القس ،لم تعبر عن امتنانها بأي وسيلة من الوسائل لزوجها الذي سهر على راحتها طوال تلك المدة والذي بدت عليه أمارات الانزعاج والخيبة الواضحة لاعتقاده ربما بفشله في نيل شيء من الصفح كان في أمس الحاجة إليه .

لكنها لما نهضت من سريرها بعد استرداد عزيمتها ورأته جالساً وحيداً في شمس الحديقة الحارقة والعرق يتصبب من جبينه ،نظرت في عينيه نظرة واثقة وللمرة الأولى دون أي خوف أو توجس وسألته فيما لو كان يحتاج منديلاً ليجفف به عرق جبينه .

قاطعتهما غجرية اقتحمت المنزل دون استئذان وكانت تلهث وتعرج وفي يدها يتأرجح رضيع باك ،رمت بنفسها بعجالة على الأرض ممددة طفلها الرضيع على البلاط الساخن ،ثم راحت تستنجد بهم وقدمها تنزف بشدة ،صارخة بأن طلقة نارية قد لامست ساقها دون أن تستقر فيها ، شارحة أن تلك الرصاصة قد جاءت من مصدر مجهول أثناء اشتباك حصل بين كتيبتي مسلحين أصوليتين .

سارعت الزوجة أوديت لكي تضمد لها جرحها وطلبت الغجرية حليباً لترضع طفلها ،والذي لم يكن متوفراً في المنزل وتوجب على أحد ما المخاطرة بنفسه كي يجلب الحليب المجفف من الصيدلية التي تبعد مسافة مئتي متر عن المنزل .

نهض عندها أرتين وأصر على أن يذهب بنفسه ،لكن زوجته حاولت منعه مترجية بأن تذهب هي ،لكنه ظل مصراً وربما كان إصراره هذا رغبة جدية منه بأن يقوم بما هو واجب ولو للمرة الأولى في حياته وبقناعة ومسؤولية تامتين ،أو رغبة منه بأن يختبر تجربة الأب الذي يبحث عن قوت لأبنائه .

حمل عكازه وراح يقفز على قدم واحدة ،والعرق يقطر من شاربيه الأشيبين ،ماراً بجانب الدكاكين المغلقة التي تحولت إلى مخازن للأسلحة بعد رحيل أصحابها عنها .وعندما دخل الصيدلية التي كان صاحبها ذو اللحية الشعثاء نائماً ،مد يده المرتجفة لسحب علبة حليب إلا أنه فشل في ذلك وسقطت علبة الحليب من يده فاستيقظ إثر ذلك الصيدلي ذو الملامح القاسية والغير لطيفة بتاتاً ،وراح يصرخ عليه ويشتمه ناعتاً إياه بالأعمى ،وقبل ان يبيعه علبة الحليب صار يستدرجه بالكلام ليعرف موقفه السياسي .

حمل أرتين علبة الحليب دون حتى أن يسمح له بأن يكمل جملته التي لم يسمعها أصلاً ،وراح يقفز مجدداً بما تبقى من جسده من طاقة متعثراً بالحفر التي صنعتها القذائف .

ولما وصل المنزل كانت الغجرية تخرج منديل رأس لتضعه لزوجته وطلبت منه بأن يسرع بالدخول ويغلق على نفسه باب الغرفة ،ثم حكت له أنها سمعت ثلة من المسلحين وهم يتحدثون عن حملة لجلب كل من كان قريباً من القس الفقيد كي يتم تصوير فيلم وثائقي عن موته للإدلاء بأقوال مفادها بأن القس مات تحت القصف.

لذا طلبت منه ومن زوجته الاختباء ،و قالت بأنهم عندما يأتون لجلبه ستقوم هي بفتح الباب ،و اختبأ كل من أرتين وزوجته في غرفة حفظ المؤن .

إلا أن أحداً لم يأتي للسؤال عنهم ، الأمر الذي دفع أرتين بأن يتمتم :

(( يبدو أن رجلاً صامتاً ومبتور الساق غير مرئي أيضاً بالنسبة لأي أحد )).

واستحقت تلك الغجرية ثقتهما ،فاحتفيا بها طوال المدة التي قضتها في منزلهم ،إلى أن جاء ذلك اليوم الذي قتلتها فيه طلقة قناص وهي في طريقها لشراء الحليب لطفلها .عندها احتفظ أرتين وزوجته بالطفل الرضيع واعتنا به بكل شغف ،وصار أرتين يستجمع قواه يومياً لشراء مستلزماته بينما ملأ وقت أوديت بكامله .

إلا أن فكرة الرحيل عن البلاد والبحث عن حياة أفضل بقيت تشغل بالهم ،وبما أنهما لم يكن يملكان جوازي سفر نظاميين ،وممنوع عليهما مغادرة المنطقة باتجاه المناطق التابعة للدولة بسبب حصار المجموعات المسلحة .

لذا تحتم عليهما أن يعبرا الحدود السورية اللبنانية في المناطق التي يسيطر عليها التنظيمات المسلحة الإسلامية،إلا أن الطريق سيكون صعباً للغاية وسيتم ذلك عن طريق أحد المهربين الذي سينقلهم في سيارة مغلقة في طريق عبر الجبال الوعرة للوصول إلى لبنان .

وجاء الموعد المرتقب شتاءً ،وراحت أوديت تحوك السترات الصوفية للطفل ولأرتين ،وتحوك لها نقاباً شتوياً كي يتسنى لها المرور عبر حواجز الأصوليين ،وفي اليوم المحدد كان الثلج يهطل بشدة والبرد قارس ،ورغم ذلك استطاعا بعد ساعات طوال أن يعانقا بعضهما احتفالاً بنجاح تمردهما الذي تمثل في الهروب ،إلا أنهما لما انتهت لحظة نشوتهما ونظرا صوب طفلهما الرضيع الذي كان مزرقاً من البرد ،أدركا أنهما خسراه للأبد .

بعد دفن الطفل في أرض مهجورة قريبة من الحدود ،دخل كل من أرتين وأوديت مدينة بيروت وقد اكتنفهما شعور لم يعرفاه من قبل ،وكأن الموت الذي شهده هذا الطريق جعلهما لا يكترثان بأية حياة قد يصلان إليها بعد اجتيازهما لذاك القبر متغاضين عن كل ما حصل ،كان ذاك القبر سيشغل ذهنهما دوماً ،وسيكون بمثابة خوف متجسد ،خوف من الحياة نفسها .

كانت بيروت مدينة غريبة عنهما ،لأنها مثلت الحياة لميت قام ،وكأنها الملكوت لسيدنا المسيح ،بجرأة الألوان التي تزخر بها ،والعمارات التي تسبح في السماء .

وعند وصولهما إلى المنزل الذي استأجرهم لهم قريبهم الواقع في حي فقير وغير منظم ،وربما كان الأسوأ في بيروت كلها ،تبدلت مشاعرهم على نحو مفاجئء ،وتساءل كل منهما في نفسه فيما لو كان مرورهم بأحياء بيروت وتوحدهم مع كل هذا الجمال الذي أعاد إليهما ذاك الحماس للبدء من جديد ،ولو بغرفة صغيرة مبنية على سطح بناء مؤلف من ثلاثة طوابق ،في حي ذي شوارع ضيقة وأناس كثر ،يمرحون قليلاً وكثيراً ما يتشاجرون ويرمون بعضهم البعض بأصص الأزهار الكثيرة التنوع في حيهم ،أو عندما تأتي الأيام إليهم بما يشغلهم ويسليهم أو يعينهم على احتمال طباع بعضهم البعض المتغيرة باستمرار ،كما يحدث كل أربع سنوات في فترة نقل المونديال ،حينها يشهد الحي ولادة جديدة له ،ويمتلأ ببهجة طفل اكتشف للمرة الأولى كم أن ألعابه مسلية .

وقد جحد\ث هذا بعد فترة قصيرة من وصولهما الحي ،حيث صعد الحي بأكمله إلى أسطح الأبنية مصطحبين التلفزيونات والشاشات ليتجمعا حولها يصرخون ويضحكون ،عدا أرتين وزوجته أوديت اللذين لم يملكا أي وسيلة لمشاهدة المونديال ،كانا سعيدين لسبب آخر ،بالرغم من أن النقود التي كانت تتحصل عليها أوديت من عملها في إحدى متاجر ملابس الأطفال لدى سيدة سورية مهاجرة قديمة إلى بيروت ،لم تكن تغطي على إيجار المنزل لولا النقود التي يحصل عليها أرتين من إصلاح الأدوات الكهربائية لأهالي الحي وهو جالس في غرفته ،إلا أن الزوجين كانا سعيدين بتأمل سماء بيروت البعيدة عن سماء بلادهم الضيقة والمكبلة بالقيود .

كانت قمة سعادتهما تتمثل في قضاء إجازة ما معاً وهما يتناولان البوظة على شاطئ الروشة ،تحت وهج شمسها الحارقة ،بوضوحها وصفائها ،هكذا بكامل جرأتها دون أي تردد أو حياء .

وبالرغم من أنهما كانا مدركين في أعماقهما أن تلك السعادة كانت تنسل منهما كما ينسل الماء من بين الأصابع ،وأن ذاك الطفل الذي دفناه هناك سيظل يربطهما بطريق العودة ،وأن نقص وسائل المعيشة كان يوقظ الجوع في أحشائهما ،وحيث ينمو الجوع ينمو الضعف والاستسلام ،ونبدأ برؤية الأشياء باهتة ،حتى ولو كانت شمساً .

لكنهما كانا على ثقة تامة أنهما قادران على الاحتمال من أجل شيء من الحياة بمقدورهما أن يعيشاه ،حتى ولو بأعين نصف مغمضة أو منهكة ،أو مع وجود تلفاز لمشاهدة المونديال أو بدونه ،أو مال لشراء البوظة والوصول إلى الروشة أو بدونه ،إلا أن ذاك الطفل الذي دفناه هناك عند بدايتهما الجديدة كان من ينغص عليهما ويزرع الإحباط في داخلهما ،لذا قررا بأن يحاولا مجدداًإنجاب طفل يربطهما بتلك المدينة ،طفل يولد في بيروت ليحمل لوالديه الشجاعة والرغبة في المقاومة ، وليمنحهما الحلم لكي تبقى أعينهم مفتوحة لتواجه الشمس وتميز لونها الصارخ بوضوح ،وعندها سيملكان الحرية ،ومن يملك الحرية يملك القدرة على النسيان ،والقدرة على تجاهل الذكريات التي تشد المرء نحو الماضي ونحو جلد ذاته مجدداً بعذابه القديم .

وبالرغم من أنهما استطاعا رسم حلمهما وعاشا على أمل تحقيقه ،وراحت أوديت في أوقات فراغها أثناء عملها في متجر ألبسة الأطفال ،راحت تختار الألبسة الأجمل لطفلها القادم ،الذي جعلت من قدومه حقيقة حتمية في ذهنها ،إلا أن ذاك الحلم وتلك الحقيقة تعبا في صراعهما مع جسديهما اللذين كانا يضعفان شيئاً فشيئاً علاوة على الشعور بالغربة والانفصال عن كل هذا العالم الذي أمسى غريباً عنهما ،وكان من الواضح أن الواقع أقوى بكثير من الحلم ،وأنهما كانا يحتاجان لقوة عظيمة ،لطمأنينة داخلية كتلك التي اكتنفت قلبيهما عند مشاهدتهما للأبنية الشاهقة لأول مرة .

كانا يرغبان أن يظهرا عجزهما وخفتهما أمام وجود هائل ،لذا قررا أن يقصدا سيدة حريصا ،وأخذا يدخران المال اللازم للوصول إلى هناك .

وفرض هذا عليهما شهراً قاسياً للغاية ،عادت فيه نوبات غضب أرتين السابقة جراء الفزع من الخيبة مجدداً ،أو ربما بسبب تأنيب الضمير الذي كان يتأجج في فترات نومه التي طالت كي يمضي الوقت بسرعة ،تأنيب الضمير الذي كان يتأجج في فترات نومه التي طالت كي يمضي الوقت بسرعة ، تأنيب الضمير بسبب طفل مات لأنه جبن وزوجته وفقدا العزيمة بين ليلة وضحاها ،والأنكى من ذلك كله أنهما دفناه في مكان جعل من ميتته ميتة حائرة ،وكأن الطفل كان يرغب أن ينشأ مع والدين أكثر شجاعة ،والدين يتشبثان بأرضهما حتى آخر رمق ولم تغره كما أغرت والديه البديلين جرأة شمس الروشة ،بل فضل جرأتهما ،لأن الشمس أصلاً كانت شيئاً يجهله ولايهمه بتاتاً .

أما أوديت فضميرها لم يؤنبها طوال شهر المعاناة ذاك ،إنما كثر شرودها وكانت تطرد من عملها إثر ذلك ،وبقيت خيالاتها عن مستقبلها برفقة طفلها تشغل أحلامها في النوم واليقظة وتراوحت مابين خيالات ربما تتحقق بعد فترة وجيزة كأن تتخيل ولادته في مشفى فخم في بيروت ،وأن يحظى بعناية أبناء الأغنياء فيها أو قد تأخذها خيالاتها إلى ماهو أبعد ،إلى تخيله مثلاًيتلقى تعليمه في مدرسة فخمة تدرس على الطريقة الفرنسية وأن يصبح صحفيا مشهوراً ،وأن يرتدي الملابس ويتصرف بالطريقة التي تعجبه دون أن يوصف بالسمج أو يتعرض للتنمر لأنه حاد عن طريق الصواب واختلف عن أقرانه وعارض قانون الواحدية .

وجاء اليوم المخصص للصعود إلى سيدة حريصا ،اليوم الذي أيقظت فيه أوديت أرتين ولم يستيقظ ،حسبته ميتاً بداية ،لكنها بعد أن نادت على جارهم الوحيد الذي يعاملهم بلطف ودون عنصرية في الحي كله ،نقل معها زوجها إلى أقرب مستشفى خاص ،علمت من الطبيب هناك أنه على قيد الحياة ،وأنه كان قد مرض منذ عدة أسابيع بالتهاب القصبات الحاد وأنه من المحتمل تأزم الحالة وتطورها إلى ذات الرئة والتي من المحتمل أن تودي بحياته إن لم يبقى في المستشفى ،ويحظى بعناية ممتازة .

لذا بقيت أوديت بقربه طوال فترة بقائه في المستشفى وكان هو لا يكف عن وعدها بزيارة سيدة حريصا كما خططا .

وعندما خرجا من المستشفى لم يكن في جيبيهما مايكفي حتى لدفع إيجار المنزل ،فقررا أن يحققا حلمهما بالنقود المتبقية ،مدركان أنه عليهما بعد تلك الرحلة ،المضي حتماً باتجاه الحدود السورية .

وعندها لن يهمها مطلقاً سواء رزقا بطفل أم لا ،وسيزوران قبر طفل الغجرية ،للصلاة فوقه وإعلامه بانتصاره عليهما ،إلا أن رحلتهما إلى سيدة حريصا حملت لهما ما لم يكن في الحسبان وذلك عند لقائهما بريمون ابن أخت أوديت هناك عند أعلى نقطة من مقام السيدة حريصا .

كان ريمون قد بلغ الثانية والعشرين لما قرر أن يعبر الحدود السورية اللبنانية بمساعدة أحد المهربين ،بعد أن ضاق ذرعاً من حياة الوحدة في غرفة بائسة كان قد استأجرها في اللاذقية بعد أن غادر بلدته التي سيطرت عليها جماعة من المتطرفين برفقة والده بداية قبل أن تعاد له جثته من القتال مقطعة ومعدومة الملامح .

جمع أغراضه التي يطلق عليها بالمهمة في حقيبة صغيرة كان يحملها عادة على كتفه ،والتي هي عبارة عن أوراقه الثبوتية وبدون تلك الأوراق سيكون حتماً في نظر الدولة دون أي حقوق ،وهو كان يحتاج هذه الحقوق بعد أن سلبت منه الحرب كل شيء ،والده ،المنزل والحقل الصغير الذي يملكه والده في بلدته بعد أن حول القصف المنزل إلى هباء منثور ،وقطعت أشجار الحقل في أقل من يوم لتنقل في شاحنات يقودها ملثمون من اجل تهريب الخشب عبر الحدود وجني ثروة .

حتى ماضيه وذكرياته سلبت منه بعد أن احترقت ألبومات صوره والأشياء التي تربى معها في منزله في البلدة ،واختفت بذلك من الوجود معالم طفولته بعد أن أخفى والده نصفها في الماضي بإخفائه كل مايتعلق بوالدته ،والتي فرت من المنزل تاركة ريمون رضيعاً بعد أن قرعت والده و اعترفت له بأنها لم تعد تحتمل نظامه في المنزل وصمته المستفز ونظرات عينيه المبهمة والتي من المحال توقع فحواها .

وحتى وهو يغادر البلاد لم يحمل معه من ذكرياته سوى صورة واحدة تجمعه مع والده لما حصل ذات مرة على ميدالية ذهبية في التايكواندو ،وكانت الصورة الوحيدة التي بدت فيها عينا والده لامعتان من شدة فخره به .

لذا بقي يتأمل تلك الصورة لساعات قبل أن يغادر غرفته السيئة نهائياً ليستمد منها التفاؤل ،فقد عوده والده منذ صغره على العودة إليه دوماً ليستمد منه القوة عندما يضعف أمام مواقف الحياة المعقدة التي يواجهها ،ونصحه دوماً بعدم اللجوء لخالته أوديت التي كانت المرأة الوحيدة التي عرفها في حياته حيث كانت تأتي إلى منزلهم عندما يغيب الأب من أجل مهمة طويلة كي تعتني به ،وبالرغم من أن والده كان يحذره من الثقة بالنساء وعدم أخذ قراراتهن على محمل الجد ،إلا أنه وثق بخالته أوديت ،ربما لهيئتها التي تميل نحو الذكورة بزنديها الثخينين وحاجبيها السوداوين المقطبين دوماً ،وجسدها البدين والعريض العظام ،واختبر معها مشاعر لم يكن ليعيشها مع والده العسكري المحب للروتين والجدية ،مثل تلك المشاعر المبهمة التي كان يعيشها عند مرافقته لها إلى الحقول وفي يد كل منهما سلة من القش لقطاف التين حيث كانت تطعمه بيدها مما تقطفه ،وتأكل معه أيضاً وهما يضحكان ،فكان ذاك الشعور القريب من المتعة ولكنه مختلف عنها ،والذي عندما كبر ريمون خمن بأن يكون شيئاً مما يشعر به الابن نحو والدته ،لكن لم يستطع أن يجزم بذلك لكونه يجهل تماماً ما تعني كلمة والدة ،إلا أن تلك المشاعر سرعان ما كانت تمسي غير مهمة بمجيء والده من مهمته وسحبه من بين يدي خالته باستعجال ودون أن يشكرها ،ليعود إلى دروسه التلقينية عن عدم الثقة بالنساء ،والقيام بعدة اختبارات للتأكد من حفاظ ريمون على رشاقته بأن يحمله فوق كتفيه أو يرمي به في الهواء ويلتقطه مرات ومرات ليحرق له الدهون الزائدة التي اكسبته إياها الاطعمة الدسمة التي كانت تحشوها عادة في فمه الخالة أوديت .

وإن كانت تلك الرشاقة التي واظب الأب على الحفاظ عليها لولده قد نفعته لما تخلى عنه المهرب بعد قطع مسافة قليلة بعد عبور الحدود اللبنانية وطلب منه أن يركض بأقصى قدراته كي يبتعد أكثر فأكثر بين الأحراش لكي يصل إلى طريق عام حيث ينتظره رجل آخر سيتكفل بنقله إلى بيروت ،إنما إصرار والده على عدم ثقته بالنساء حال عندما كبر إلى نوع من الخجل المرضي منهن ،وقاده عدم فهمه لأبسط الحركات والطباع الأنثوية إلى اعتبارها تصرفات تندرج تحت خانة العهر !

مثلما حصل معه ذات مرة مع إحدى جاراته التي تملك صوتاً رفيعاً لم يعتد عليه من قبل ،حين جاءت إليه تطلب منه أن يحمل لها أسطوانة الغاز ،وهي تلوك علكة ضخمة في فمها .يومها سرحت به أفكاره نحو تخيلها تطلب منه أن تلتهم عضوه .

إلا أنه كان ينفر من اللواتي كن يردن التقرب منه حقاً ،ويرتبك أمامهن مما جعل منه فاشلاً في العلاقات ،وحال ذلك إلى جانب انشغاله الدائم بالعمل في المقاهي والمطاعم لجمع النقود اللازمة لتغطية مصروفه ،حال دون أن يحظى بحياة جامعية صاخبة .

وإلى اللحظة التي غادر فيها البلاد لم يكن قد مارس أي علاقة مع أية فتاة ،وحتى بعد وصوله إلى منطقة برج حمود حيث من المفترض أن يلتقي هناك بصديقه هوفيك ليصحبه إلى المنزل الذي سيستأجر فيه غرفة ،ولقاءه بصاحبة المنزل ،فرح من كل قلبه أنها كانت امرأة ستينية ،فقدت كل ما له علاقة بالأنوثة ،لأنه بوجود تلك السمات فيها سيتمكن من التعامل معها بكل راحة ودون أي ارتباك .

قادت تلك المرأة الأرمنية الأصل والتي تدعى (ماغي ) كلاً من ريمون وصديقه هوفيك نحو غرفة ضيقة وقذرة ،مبررة قذارتها بأن المستأجرين السابقين كانا لوطيين !

واعتاد بعدها كل من ريمون وهوفيك على الاستيقاظ يومياً على صوت مشاجراتها مع رجال الحي التي غالباً ما كانت تفتعل المشاكل معهم لتثبت لنفسها قدرتها على مجابهتهم وليمنحها هذا صوتاً يخبرها أنها كانت على حق في العيش وحيدة دونهم .

بداية أسعدت ريمون هذه الطباع الخاصة فيها لكنه وفي يوم من الأيام وحينما كانت تجلس أمام المروحة بشورتها القصير وقميص الفانيلا في يوم صيفي حار ،شعر بشيء خمن بأنه قد يسمى الانجذاب الجنسي نحوها ،وانتصب عضوه .ولما أخبر صديقه هوفيك بذلك ضحك بشدة ساخراً منه وقال بأنه بالكاد تملك أثداء.

وذات يوم طلبت منه أن يدفع الإيجار المترتب عليه إلا أنه لم يكن قد عثر على عمل بعد في بيروت كلها ،فاقترحت عليه أن يدفع بطريقة أخرى بأن يضاجعها ،ولما أثار هذا استغرابه أخبرته أنها تحب مضاجعة الرجال لكنها لا تحتمل العيش معهم .

وتكررت تلك المضاجعات لاحقاً حتى أصبح ريمون بغنى عن دفع الإيجار وتكدست الدولارات في جيوبه فراح يصرفها في البارات وعلى مضاجعة أخريات بنفس الطريقة حتى أمسى يتغيب شيئاً فشيئاً عن الغرفة وعن ماغي ،التي علم من هوفيك لاحقاً أنها بدأت بمضاجعته بعد أن ضاق ذرعاً من نقص المال إثر طرده من عمله ،وبأنها رمت له اغراضه في الشارع .

عاش بعدها ريمون متنقلاً بين بيوت نساء قويات وضخمات الجثث ،يقضي ليله في مضاجعتهن بصمت تام ،ونهاره في النوم ،إلى أن يضجرن منه ويرمين به في الخارج ،ليبحث بعدها عن أخريات

وربما أخر النعيم المادي الذي عاش فيه معهن، أخر من فتور تلك العلاقات التي أصبحت مفهومة ومضجرة لاحقاً ، وراح إثر ذلك ريمون يبتعد عن قضاء وقته مع تلك النسوة ويستقل الباصات التي توصله إلى أبعد المزارات الشهيرة في لبنان مثل مار شربل وسيدة حريصا حيث كان يعتقد بأنه سيجد فيها إجابات شافية لما يحصل معه ، وحيث التقى عند مقام سيدة حريصا بخالته أوديت برفقة رجل غريب لا يعرفه يمشي على قدم واحدة والذي علم منها لاحقاً أنه زوجها وأنهما هربا من البلاد وجاءا ليستقرا في لبنان ،وأنهما في رحلة إلى حريصا للطلب من الرب بأن يحظيا بطفل ،وجعله هذا اللقاء في رغبة ملحة بأن يعود إلى منزله مع صديق له يدعى خالد ليجمع أغراضه ويغادر ليعيش برفقة خالته وزوجها .

وبالطبع تلك القصة لم يعرف أي من خالته وزوجها عنها شيئاً ،لأنه كان يجد فيهما فرصة أخرى منحته إياها الحياة للبدء من جديد ،وبما أنهما كانا بحاجة ماسة للمال ،وهو يملك هذا المال .

جعلته تلك الفكرة يطير من الفرح ،لكنه لما خلد إلى النوم في تلك الليلة راودته الكوابيس المليئة بصور العقارب والعناكب ،ورأى نفسه مكبلاً بالقيود وجميع النسوة اللواتي ضاجعهن مقابل المال وهن يخرجن رزم النقود من بين أثدائهن ويحشين فمه بها .

لذا سارع عند استيقاظه لإيصال المال إلى خالته وزوجها فوجدهم متأهبين للسفر إلى سوريا ،كانا قد حزما حقائبهما واتخذا القرار النهائي ،ولم تفلح محاولاته في إقناعهما ولا حتى عرض المساعدة المادية عليهما ،حتى أنه جرب البكاء والتوسل لهما إلا أنهما بدا مثل المخدرين،هكذا قاسيين بسذاجة وبلاهة .

ولاحظ شجاعتهما عندما ادارا ظهرهما للمضي وتعلق أحدهما بالآخر ،وكان على ثقة بان حباً عظيماً يجمعهما .

عاد بعدها إلى منزل خالد خائباً وعندما وصل كانت سيارات الأمن والناس متجمعين حول المنزل ،وشاهد مسعفين ينقلون جثة ما إلى سيارة الإسعاف ،ورجال الأمن وهم يسوقون برجل إلى سيارتهم وهو يردد :لقد نال مايستحقه لأنه أغواني في الماضي ودمر حياتي وعودني على الرذيلة !!!

عندما اقترب من رجال الأمن وسألهم عن المغدور ،أخبروه بأن صديقه خالد قد قتل على يد أحد المتطرفين ،والذي يدعى بجبر وهو كان على معرفة سابقة به كما بدا لهم مما صرح به القاتل .

تذكر ريمون أنه سمع بهذا الاسم سابقاً من خالد نفسه حينما قص عليه حكايته ذات يوم .

كان خالد قد نفي بقرار من جده صاحب أكبر مجموعة متاجر للحوم في مدينته بعد أن وجد في غرابة حفيده وسمعته غير النظيفة خطراً محتملاً على نجاحه في انتخابات مجلس الشعب ، وذلك بعد أن زج في جيبه رزماً من المال التي تكفيه لعمر بأكمله ،لاعناً ذاك الولد وأمه التي سبق وسببت له هي ايضاً فضيحة بطلاقها وعودتها بطفلها إليه .

وقد وجد في هذا النفي فرصة لبداية جديدة بعد أن سأم من محاولاته الفاشلة مابين الانتحار أو قتل جده أو أمه ربما ،بعد أن ضاق ذرعاً من ازدراء ذاك الرجل المرعب له ونظراته القاسية و رائحة البخل التي تفوح من جسده وفمه جراء الإفراط في الصوم ، وضاق ذرعاً من لامبالاة والدته ولعناتها المصبوبة على الرجال وفورات غضبها المفاجئة التي تدفعها لضربه دون أي سبب مقنع ،واصطحابها إياه إلى بيوت الفتيات الذي قرب زواجهن كي تحبطهن ،أو إرساله _عندما لاترغب في رؤيته _إلى دكان والدها ليلهو بين السواطير وعمال الملحمة عل عوده يقسو ويغدو رجلاً أفضل من والده !

وهناك في الملحمة بدأت أفكار الانتحار تراود خالد ،أو ربما في البداية كانت رغبة في الهروب من عدم الفهم مما يشعر به أو يراوده عندما يكون بقرب العمال الضخام الأجساد ،لما يحمله ذاك القرب من قوة ،قوة تجعله يحتمل كل عبارات جده القاسية ويضرب بها عرض الحائط غير مكترث ،وتمكنه من درء ضربات والدته اللئيمة وحتى دفعها بقوة أرضاً ،لتبدأ بشتمه ولعنه هو ووالده وهي تجهش بالبكاء .

ولكن تلك القوة كانت سرعان ما تخبو بعد زمن قليل ليعود إلى وحدته المعتادة ،وينام بعمق ليوم أو أكثر ،ليستيقظ ويعود إلى النسخة التي تعجب والدته ،تلك النسخة التي ترافقها برضوخ تام إلى حفلات الزفاف النسوية لتتباهى بها ،والتي تجلس لساعات لتنصت إلى محاضراتها عن تفوق عائلتهم على الجميع بالمال والجاه والمجوهرات والنظافة ،الشيء الذي يمنحه نوعاً من الغرور يمكنه من مواجهة أطفال العائلات الأخرى الذين يعيشون حياة طبيعية برفقة أهاليهم .

لكنه كلما كان يكبر ،كانت تلك القوة تتحول إلى شعور بالنقص و عدم الثقة بالنفس

دفع به نحو التفوق في دراسته إلا أنه زاد من تمرده على جده وأمه الذي قاد به يوماً ما إلى تهديدهما بفضح هويته الجنسية أمام الملأ كي يفسد على جده حملته الانتخابية ،إن لم يرسله إلى بيروت مع مبلغ محترم من المال ،مهملاً بذلك إكمال دراسته الجامعية ،فاراً من رحى حرب كانت لتطحنه في أي وقت ،وليضاجع هناك ريمون والكثيرغيره ،ثم ليموت بساطور موجه من ماضيه ،يدينه بثقة تامة ،ويصدر حكماً بتنظيف نفسه بدمائه كي يعود طاهراً دون خطايا !

مات خالد تاركاً ريمون متخشباً في سريره يفكر في سبب لوجوده بعد الآن ،إلى أن اتصلت به إحدى زبوناته السابقات ،فاشترط عليها مبلغاً هائلاً من المال لكي يرضى بمضاجعتها ،وارتدى ثيابه ومشى مثل شخص تعاطى كمية كبيرة من الكوكائين ،جعلته لايرى أمامه سوى هدف واحد وكان الهدف هنا هو المال ولا شيء غيره ،أما في القلب كان ثمة شيء أخر ،كان ثمة حزن كبير وحارق .

وبعد أن غادر بقليل وصل صديقه هوفيك حاملاً في يده ثروة ،لكنه لم يجده ، وكان قد اتصل به مراراً إلا أن رقمه كان مقفلاً .

فجلس على درج البناء هناك وراح يفكر بوجهة له يقصدها ،مستعيداً ما أوصله إلى هذه الحال بأن يغدو رجلاً ثرياً وضائعاً لا يعلم إلى أين سيمضي .والذي لم يتوقعه بتاتاً بعد كل ماحصل له في حياته .

فقد فر هوفيك من البلاد ، بعد أن فشل في دراسته وخسر فرصة الهرب إلى تركيا لإصرار والده الشديد عل كراهية الأتراك وعدم تنجيس قدميه بأرضهم الملوثة بالدم ،واستمر هكذا في عناده إلى أن شاهد ولده يفر الى بيروت مع جهله ونحوله .

وبعد فرار هوفيك كان والده قد توفي ونزحت والدته وأخوته إلى إحدى مدن الساحل ومنها إلى بيروت فأرمينيا ،أما هوفيك الذي استطاع دخول الأراضي اللبنانية دون أي أوراق أو جواز سفر تحتم عليه أن يبقى حبيساً لبيروت يتنقل فيها مابين عمل بعرق جبينه وبين تجارة المخدرات أو بيع جسده لمن تدفع ،مثلما فعل مع ماغي صاحبة الغرفة التي استأجرها وصديقه ريمون ،الذي لم يكن ليشجعه على السفر إليه إلا طمعاً بما يحمله من نقود ،بعد أن ضاق ذرعاً بعيش يملؤه القلق وعدم الفهم و عدم الاستقرارفي بلد التنوع فيه يزعج أحداً مثله الذي تربى على الواحدية في كل شيء في السياسة والدين والآراء وحتى في أسلوب العيش .وكان قد توصل إلى نتيجة مفادها أنه في غربة كغربته حيث لا انتماء ولاهوية يمكن تعليق الآمال حتى على أتفه الأشياء .

لذا استقبل ريمون بكل حرارة مع أنه لم يكن يستلطف الكاثوليكيين وينفر منهم وكان يجدهم محافظين هيستيريين وحتى هبلاً ،بمن فيهم صديقه ريمون الذي لم يكن يجرؤ في الثانوية على النظر في أعين الفتيات أثناء محادثتهن بينما هو كان قد متع ناظريه آنذاك بسائر أنواع الأثداء .

وللسبب ذاته ضاجع ماغي التي كان يتقزز منها ،واغتنم فرصة خيبتها بريمون ليعرش على أملاكها ونقودها ،فقد كانت تمثل له الأمان والواقع المضمون وسط مدينة الخوف والوهم التي أمسى أسيراً لها .

نعم المال والمضاجعة شيئان قد يمنحان الامان لأن كلاهما يملك تاثيراً حقيقياً كما تملك البغضاء والحقد ،هذا ما تعلمه من والده في الصغر الذي كان يردد دوماً أنه لا أمان لهم هم الأرمن سوى بمشاعر الغضب من تاريخ غير منصف والسعي خلف الواقعي والملموس ،بالعمل الدؤوب وتفريغ الهموم بنعومة ودفء النساء .

كانت تلك الأفكار التي حشاها الأب في رؤوس أفراد عائلته قد جعلتهم يعيشون دوماً في اضطراب دون أمان، منجرين خلف ما قد يسمى قدراً ،متقبلين بعماوة تامة كل الشعارات والأفكار الجاهزة،ربما لأنهم وجدوا فيها انتماء ما أو معنى لحيواتهم القلقة ،حتى بات الفقر و جلد الذات سعياً وراء المال بالإضافة للتمسك بالأفكار العظيمة والكبرى وتمجيد المأساة ومزارات القديسين الذين يخصون الأرمن فقط أشياء تسري في عروقهم .

وقد حمل هوفيك هذه الأفكار مع فوضى الحرب وجهله ونحوله إلى بيروت حيث الألوان كثيرة لكنها واضحة وجريئة ومدركة لاختلافها ،لذا بقي وحيداً فيها بالرغم من عمله لدى سوري يحمل الجنسية اللبنانية ويدعى نورس يشاركه شيئاً من المشاعر المشتركة ،إلا أنه وجد في تعامله معه نوعاً من الفوقية أو الشفقة ربما ،وفي نظرته نظرة من نجح في الخلاص من جحيم بلاده واستطاع بناء فضاء آخر تجاه من أنهكته أولى خطوات الطريق .

وربما ولأن نورس كان يجد فيه ماضيه ماثلاً أمام عينيه لم يتمالك رغبته في طرد تلك الشائبة المنثورة من ماضيه وحتى إذلالها والتقزز منها .

لذا رضخ لمصيره مع ماغي وراح يواسيها مقابل أن تبقيه في المنزل وتصرف عليه والتي أصرت على تمسكها بكره الرجال ،ولم تكن ترغب في أن يرثها أقرباؤها الذكور لما علمت بإصابتها بالسرطان لذا جمعت في ليلة ما لديها من مجوهرات و أموال وأعطتها لهوفيك وطلبت منه أن يغادر قبل أن يأتي أجلها لكي تبقى في خياله تلك المرأة القوية التي تتصارع مع الرجال ،وقالت بأنها فرصتها الأخيرة للانتصار على والديها والإثبات لهم أنها استطاعت العيش حرة وقوية .

وهكذا حمل هوفيك ما منحته إياه ذات صباح ،ومضى دون أي وجهة لكنه جزم أنه لن يحتمل الوحدة أبداً فبحث عن ريمون آخر من قد يتقاسم معه حياة ما .

لكنه لم يجد ريمون ، ودفعه التفكير في الماضي لمساءلة نفسه فيما لو كان ريمون أهل ثقة أم لا ،ألم يتخلى عنه بسرعة دون أن يكترث لصداقتهما ؟

ثم راح يفكر : ماذا عن نورس ؟هل يعود إليه ؟ ويطلب مجدداً العمل لديه رغم معاملته السيئة ؟

لا ،لن يبرر له ،لن يبرر تعجرفه وأنانيته حتى ولو كان يعلم بحكايته كاملةً ،

فقد عاش نورس مع عائلته في منزل مليء بالألوان والنباتات شأنه شأن منازل تلك الطبقة المثقفة التي يصفها البعض بالمتعجرفة ،أو الطبقة التي لايعجبها شيء وتسعى دوماً نحو افتعال المشكلات.

لذا ورث نورس عن والده الشيوعي تلك النظرة التي قد يجدها البسطاء متعالية ،وذاك الجهور في إدلاء آرائه والذي خلق له مشكلات بدءاً من مدرس الديانة في طفولته وصولاً إلى الحكومة عندما كبر .

ولعل تمرده قد زاد من شراسته بعد أن أودى الاكتئاب بوالده تاركاً له والدته مع نمط حياتها الروتيني الممل والمضجر ،والتي كانت تقضي معظم وقتها بين أقفاص الطيور التي تربيها ،أو خلف البيانو الخاص بها تكرر عزف مقطوعات تشايكوفسكي وهي عابسة .وقاد به هذا التمرد فيما بعد للخروج في المظاهرات ،وربما لم يكن التمرد وإنما كانت محاولة منه لكسر تلك الصورة الرتيبة لمنزلهم والخلاص من جحيم البارانويا التي عششت في حجارته ،فصارت تلك المظاهرات بمثابة قشة يتعلق بها لإنقاذ حياته الشخصية من قيود مبادئ والديه التي دفعوا أثماناً باهظة وهم متمسكين بها ،أو كرد اعتبار لوالدين لم يعيشا معه كما يجب أن يعيش أي والدين ،ولعل تلك الصرخات التي كان يطلقها كانت بمثابة تعويض عن ذاك الصمت الذي أحاط به لسنوات طوال في منزله ،صمت تخلله أحياناً عزف أو لعنات والدته ،وأحياناً أغنياتها الثورية المخذولة ،والتي كان يغني مقطعاً منها لحظة اعتقاله ،ولم يقتصر الأمر على تذكر أغنيات والدته وإنما راودته في لحظة الاعتقال جميع ذكرياته عن والديه وعن حياتهما الشيوعية المختلفة والتي جعلت منه شخصاً مختلفاً ومكروهاً منذ صغره حيث كان رفاقه يجدون فيه ذاك الطفل المدلل والجبان والمقيد بمعارفه الكثيرة التي لا يفهمون منها شيئاً مما قاد به نحو الانطوائية التي منحته مظهراً مختلفاً وشخصية استثنائية انجذبت لها الفتيات في الجامعة لكن دون أي جدوى ،فقد كان دائم الرفض لخوض علاقة كاملة وجدية ،لأن في ذلك خطر على اختلافه الذي كان ليدفع ثمناً قد يصل إلى حياته مقابل أن يحافظ عليه .لذا خرج بعبثية في المظاهرات دون أي هدف أو مبدأ يدافع عنه ، .

وحتى بعد خروجه من المظاهرات لم يستطع تحديد شعوره ،أو فيما إن كان سعيداً بذلك أم لا ،كما لم يعرف في أي وجهة عليه المضي ،ولما عاد إلى منزله كانت والدته قد أخرجت ثروتها الخبيئة و جهزت له أغراضه استعداداً لإرساله إلى بيروت برفقة توما ابن صديقتها والذي قرر هو الآخر مغادرة بلاده بعد احتراق مصبغته .

عند وصوله بيروت شعر بأن الحياة التي كان يرفضها أصبحت مهمة ،وراح يسعى إليها بحيوية وحماس كبيرين ،فأنشأ مطعماً صغيراً له في غضون فترة قليلة ،وهو العمل الذي لم يكن ليتوقع أن يخوض فيه بعد كل الكتب التي قرأها في منزل والديه .

شعر بنصر خاص وشخصي ،نصر يبعث على الاستعلاء والتمتع بالاختلاف من جديد ،حتى لو كان سبب اختلافه هنا هو المأكولات الدمشقية ،لذا كان يستقبل العمال القادمين من سوريا ثم يهينهم ويشعرهم بتفوقه عليهم بأنه استطاع الخلاص من واحديتهم وتشابههم وأسس كيانه الخاص المختلف عنهم والمختلف في البلاد التي لجؤوا إليها ،مثلما فعل مع هوفيك ذات يوم ،وترك فيه جرحاً من الصعب أن يلتئم .

لذا استبعد هوفيك أن يكون نورس وجهته المقبلة ،وقرر أخيراً أن يدفع جزءاً من المال لأحد المهربين لإيصاله عبر البحر إلى قبرص ومن هناك إلى تركيا فدولة أوروبية أخرى ليحصل على لجوء ما وأوراق تمكنه من ملاقاة عائلته في أرمينيا مع أن الأمل ضئيل للغاية بأن يقطع كل هذه المسافات دون أن يقبض عليه أحدهم .

كان يفكر في هذا تاركاً لقدميه الحرية التامة بأن تسيرانه كما تشاءان ،ووجد نفسه فجأة يمر من أمام مطعم نورس ،وشاهده جالساً خلف طاولة يتناول الشاي وحيداً ،ورأسه مسنود إلى الكرسي خلفه ،أخذ يتأمله فوجده سارحاً منشغلاً في التفكير بشيء ما ،ثم لاحظ بأنه قد تنبه فجأة وأخذ كأس الشاي بين يديه ،وسمعه يقول :

( لقد غدا الشاي ثقيلاً جداً ،ولم يعد طعمه مستساغاً ،ثقيلاً جداً كما الوحدة ).

القصة الخامسة

( اعترافات البومة القاتلة )

الإنسان يتطور باستمرار ،تلك مسلمة ،على الأقل بالنسبة لي ،لذا وجب علي أن أتخلى فوراً عن ارتداء ثيابي الداخلية السوداء واستبدالها بالصفراء أو البرونزية اللماعة .

قد يتوتر بعض الذين يؤمنون بتخمين العمر العقلي من خلال ذوقك في اختيار الألوان المفضلة ،وقد يعارض أولئك الذين ينسحبون من البارات فجأة ذات ليلة مقدسة قاصدين إحدى النسوة المباركات والتي تملك قدرة خارقةً على إمطار السقف ليرات من ذهب وفضة .

لكن هذا أمر طبيعي بالنسبة لمن لم يصغي بعد للنغم الذي في القصة ،ولم يذق أبداً مرارة الخزي الذي يسببه ارتداء الثياب الداخلية السوداء باختيار حر وانتحاري .

ربما تتساءل يا قارئي العزيز والنخبوي حتماً ،من هذه ؟بماذا تهلوس ؟

ها أنا ذا أتخلى عن متعة الترميز من أجلك ،وإليك قصتي ..

في الواقع لقد قتلت من أحب لذا الآن أهلوس مثل ظفل أنهى للتو لعبة للدوران حول الذات يهلوس ثم يضحك ضحكة حقيقية .

وأنا أضحك مثله وأرمي بثيابي الداخلية السوداء الملوثة بعرق الوحدة والشعور بالذنب والهوس وكبرياء من يقف في منطقة الدفاع عن نفسه أمام العالم كله في أقرب قمامة .

أي حبيبي ،قتلتك وأنا أبكي فرحاً ،ولأنني لا أؤمن بالتقمص ،ولا أعد نفسي بلقاءات لي معك في ملكوت أو جنة ،فأنا مطمئنة بجحود ونذالة ،وقلبي تثلجه الطمأنينة ،وعروقي تنبض بنشوة وقحة .

قتلتك ،بالرغم من أنك كنت لطيفاً معي في تلك المرة الوحيدة ،عندما قررت أن تصنع لي وشم الميزان الذي لطالما تمنيته ،إلا أنك حتى في هذا كنت بخيلاً معي وتسبب لي الوشم بالتهاب فظيع ،مخلفاً وراءه ندبة على شكل بومة ،وبما ان كليهما يرمزان إلى العدل ،الوشم الذي صنعه خيالك ،والندبة التي سببتها واقعيتك الفظة ،قد منحاني الفكرة والدافع بأن أقتلك .

من أنت كي تحققي العدالة ؟ سيعارض الليبراليون المدللون عند الله ،والمؤيدين للقانون الذين يثقون بوزارات العدل ،وسيحسدني المتدينون المتعصبون ويتحسروا على فرصة في القتل ضاعت منهم .

لابأس ،لنعذرهم ،فهم منشغلين حد العماوة في حيواتهم على الأرائك الوثيرة برفقة أجداد وأعمام وعمات مستمتعين بلعبة تصنيف البشر إلى جيدين وسيئين والتي تمثل زبدة الحياة في عيونهم .

لذا كان الناس ينتحرون أو يدمرون أنفسهم للهروب من شعور المرء بأنه حشرة وسط التشدقات المثالية وغثيان المقارنة بروعتك الأبدية التي لا مثيل لها .

أنت أيها الفنان القوي والثري ذو الوجه الفتان والمواقف البطولية التي تحظى بإعجاب الرجال والنساء ،المومسات واللواتي تتشقق كواحلهن جراء العمل المتواصل .

طبعاً فقط أولئك الذين يعيشون ضمن العالم الذي تباركه وليس أولئك النجسون أو الكلاب في نظرك الذي يحلل لك أن تدعس في بطونهم ،لتنال بعدها إحدى مكافآت السماء التي تطمأنك بأنك كامل ومفضل عند الله وبأن خصيتيك مباركتين ،وتهديك ضحكةً بلهاء وطويلة الأمد ،واعتذاراً ملحاً لأنها جمعتك ذات مرة بقريبك المسخ كما تناديه وجعلتك مضطراً لسماع صوته الحاد ورؤية أذنيه المشوهتين ،اللتين تشكلان خطراً على مرتبتك عند الله ،وعند أصدقائك وصديقاتك الأقوياء الرائعين ذوي الخلقة التامة والحيوات المشرقة الصامتة الراقية ،الرجال منهم مع فحولتهم وذكائهم وذوقهم الرائع في انتقاء الملابس ،وثقافتهم وصوتهم الكولونيالي الجبار ،والنساء منهم مع جمالهن الأخاذ وبياض بشرتهن وظلمة شعورهن وعظام وجناتهن البارزة وأنوفهن المقصوصة الحادة مثل سيوف ،وجديتهن اللافتة للنظر ،ونظرات احتقارهن المتعالية التي تجعلهن أكثر جاذبية بالنسبة لك ،إلى درجة تفوق جاذبية وشومهن التي صنعتها بنفسك فوق مؤخراتهن .

آه أيها الفحل العلماني الذي يصافح مساء من وصفهم بالنجاسة صباحاً لأنهم ليسوا من طائفته المباركة ،ويوقع معهم عقود البيع والشراء ،ويشرب معهم نخب الصداقة والنجاح المشترك .

مثلما فعلت ذات مرة مع صديقك تاجر الصديريات الذي ابتعت منه صديرياتي السوداء وأهديتها لي في عيد ميلادي عندما وبختني ولمتني عن عدم إقامة حفلة صاخبة في إحدى الملاهي الليلية التي يرتادها أصدقاؤك الأثرياء ،ذوي الشوارب العثمانية وزوجاتهن الكئيبة المحتشمات اللواتي يلتزمن الطاولات دون أي حراك بينما تعرض أنت مواهب خصرك النحيل وجركاتك الرشيقة وجسدك المشدود ذي العضلات المتناسقة والتي ماهي سوى ميزة أخرى خصك الله العظيم فيها ،والتي تمنحك الثقة مجدداً بخلقتك التامة وبأنك غير ملعون عند الله مثل أحمر أو مخنث ،وأنا لابد لي هنا أن أعلمك بأنني لم أتحمس يوماً لحماسك المبتذل في إظهار طائفتنا على أنها بارعة ومتفوقة في كل الأمور ،ولا لاهتمامك الزائد في إظهارنا بأجمل حلة ،وإصرارك على اللون الأسود للثياب السوداء التي أرتديها ،لأنها تبرز بياضي الفارسي الناصع كما كنت تنشد لي قبل كل مضاجعة وأنا لم أستغرب يوماً إصرارك على اللون ذاته ،لأنك كما كنت دوماً تعلم جيداً ماتريده ،إلى حد بائس ومقيت ومقزز ،على عكسي أنا القطة الجبانة التي تفر فزعاً من الجرذان .

أذكر كم كنت معجباً بوصف القذافي لثوار ليبيا بالجرذان ،وراق لك ذاك الوصف إلى درجة حسدت فيها القذافي عليه مع أن القذافي نفسه لم يرق لك يوماً .

فأنت وإن كنت تعلم جيداً ماتريده في جميع الأمور إلا أنك في السياسة تكاد تختنق عندما تفصح عن مواقفك السياسية المشرفة لأن حدتك ومحاولة هزيمة الطرف الآخر تجعلك تنسى أنه على المرء أن يحافظ على معدل شهيقه وزفيره حتى ولو كان في حلبة مصارعة .

نعم ياحبيبي ،أنت مصارع يربح دوماً ،لأنك وبكل ما أوتي لطاغية من طاقة وقبل أن يقوى خصمك على النهوض أمام ازدرائك الذي يشله في أرضه ،تمد يدك على نحو مباغت لتخنق صوته ،سابقاً في ذلك إلهك الأشد رأفة منك ،والذي من شأنه أن يمنح الفرص على نحو أفضل منك ربما .

(الفرص تعيق تحقيق العدالة ،يافاطمة ،كنت تقول لي .

أقترح عليك : ( ولكن الإنسان قد يصلحه النصح ،فلكل داء دواء )كنت ترمقني حينها بنظرة قرف وتصرخ في وجهي : (ما إن تخطر الفكرة لأحدنا تفسده وعلينا نحن أن نتدخل لنكبح جماح الفعل الذي ستقود إليه الفكرة حتماً ).

لذا فعليك هنا مسامحتي على قتلك ،لأنك معي تجاوزت الفكرة منذ زمن بعيد ،وكنت تقوم بفعل قتلي منذ زمن وعلى نحو بطيء ،فاعذرني ياحبيبي أنني قتلتك ،فإنك لما كنت تكبر ويتعاظمة شأنك بدأت أنا بالتلاشي ،وانتقلت إلي هواجسك على نحو رغبت فيه بأن أتخلص من ثيابي الداخلية السوداء وأقتلك لأبدأ رحلتي في تحقيق ذاتي .

فمنذ كنت قد ولدت ،قمت بسلب هذا الحق مني ،عندما صهرت بالضرورة ذاتي في ذاتك العظيمة ،كما كنت تفعل روتينياً مع كل من تستقبلهم هذه الحياة كما لو أنك هيرودوس الرؤوف الذي لايذبح ولايسلب الأطفال حقهم في الحياة ،إنما يجعلهم أحياء دون الحق في أن يعيشوا .

وأنا كسائر المولودين ،وجب علي أن أحبك بإخلاص تام ،مع أول شهيق ،وأن أصرخ صرختي الأولى بعفوية كمن يهتف ،أو يتلو صلاة ما .

ثم عندما حملتني والدتي بين ذراعيها وقربت فمي من ثديها الضخم ،الذي يفيض خيراً بفضلك ،كان علي أن أشكر الله على منحك قوتك المبجلة التي منحتني نعمة التمتع بمثل هذه اللحظات باستعمال لغة ما .

وما إن استقرت الحلمة في فمي ورحت أرشف منها ،تباركت بماءك الطاهر ،الذي تدفق في زمن سرمدي في أثداء الأمهات ،حاملاً معه سر العظمة وقوة الخجارة ،ونباهة الملوك القدامى .

وبعد زمنٍ قصير ،وعندما خطوت أولى خطواتي في الفسحة أمام منزل جدي ،ركضت نحوي وقد كنت حديث المشي ،لتنزع عن رأسي بكلة شعري ،لتمارس بذلك سلطتك علي للمرة الأولى ،جئت وخلفك تلهث والدتك الأنيقة المتشحة بالسواد دوماً والتي لم تبتسم لنا يوماً ،وسحبتك من يدك دون أن تلقي التحية على والدتي لتصحبك إلى منزلكما المقابل لمنزلنا ،لكن المختلف كلياً عنه ،فمنزلك الحجري الكبير المغلق النوافذ ،ذو اللون الواحد المضجر ،لم يكن ممتعاً للفرجة بالنسبة لرضيعة مثلي ،بالرغم من أن ظله كبير بما يسمح لنا بالجلوس في فيئه بعد ظهر كل يوم ،إلا أن بيت جدي كان بألوان وروده الصاخبة والضجيج المسلي الذي ينبعث منه ،كصوت جدتي وهي تغني لإديث بياف ، أو صوت خالي وهو يلقي قصائده البوهيمية كان اكثر ظرافة من منزلكم الصامت ،الذي يرتاده رجال أقوياء بملابس قبيحة وشيوخ مطأطئي الرؤوس على نحو كان يصعب علي كطفلة تمييز ألوان أعينهم .

وحتى والدك الضخم الجثة والذي لم أميز لون عينيه هو أيضاً لإخفاءهما بنظاراتى شمسية سوداء دوماً ، كان لايبدو بوداعة وظرافة والدي ذو الشعر المجعد والوجه المتعرق دوماً ،ورائحة شعر الصدر المميزة التي تشبه رائحة العشب الأخضر في الربيع .

وهنا لا بد لي أن أوضح لك قبل أن تلتمس في كلامي نزعةً بروليتارية تجعلك تطلق لخيالك الخصب العنان وتظن بأني أعاني من عقدة نقص ، لتمنحك تلك الفكرة فرصةً لنفش ريشك أمامي ثم التعاطف معي وكأنك قدمت تنازلاً حثتك على تقديمه أخلاقك العظيمة ،وحكمة الزاهد الهندي التي تتحلى بها .

إلا أننا وإن كنا لا نؤمن بحقيقة مطلقة ولا نثق بها ،فقد وجب علينا أن نحرر ماتمليه علينا دواخلنا ،وأن نقول أو نكتب ،بثقة أو بتردد مانتذكره من تصوراتنا الأولى النقية .

لذا ياحبيبي عليك أن تحمي نفسك من الصدمة عندما سأعلمك بأنني كنت أسمع تأوهات والدتك وعرير والدك أثناء مضاجعاتهما الفجائية التي لا تعرف لها وقتاً محدداً ،والتي تتبع إلى مزاجية والدك ونوباته الهيستيرية .

التي كنت أرقد في سريري أخمن النتائج المترتبة عنها وأخال حينها نافذة غرفتي تتحرك لتغدو في مركز السقف وينفتح فيها ستار ليبرز خلفه بطن والدتك المدور العاري والمتورم ،ثم يمتد كف والدك الضخم ليرسم بسبابته دائرة من مسحوق الفليفلة الحارة في سرتها ،ليختفي كل شيء ولتخرج أنت مثل ومضة في لاوعيي وحذاء والدك القبيح فوق رأسك مثل قبعة .

كنت عادة سرعان ما أغفو قبل أن يغلق الستار على الهلاوس الانتهاكية الغير طبيعية بالنسبة لطفلة مثلي ،وما إن أستيقظ في اليوم التالي وأخرج لأرى استمرارية حياتكم على نفس الوتيرة ،كنت أقلق وحتى أغضب .

مثلما كنت أغضب من دوام تردد أولئك الملتزمين بالمواعيد الكنسية إلى منزلكم عقب انتهاء التزاماتهم الكنسية .

وربما بقدر ماكانت تقززني هيئة المعلمات اللواتي وضعهن والدك في مناصبهن

الأنيقة مع مسحة من الشحوب المحير ،وكأنهن تعرضن للغسل المتكرر بكل مافيهن ،وكنت أتقزز من تقدم سيارتكم اليومي بوحشية وحماس مثل سيل عكر يستحوذ عليه شبق ورغبة عظيمة في لعق الطرقات والبشر والتي على الأغلب كبرت معك ودفعتك ليس فقط إلى لعقي لأجف مثل حجر ،إنما إلى تناولي مثل شطيرة لذيذة ،ثم تغليف فتاتي في صديرية سوداء أو خلف ستار من صور مميزة ملتقطة من أفلام إباحية باهرة ،قمت بتمريرها من وراء ظهر شيخك المفضل الذي تتباهى بأبوته مثل عربي جاهلي .

وهذا طقسٌ من الطقوس التي ورثتها عن والدك ،الذي كان يشرف بنفسه على الصعود الأنيق لقطيع الخراف والماعز فوق لوح خشبي مائل مسنود إلى شاحنة الشيخ كمكافأة له على تولُيه مهمة ترسيخ كرم وعظمة والدك في أذهان الجموع على نحو يجعل منهم يتقبلون رائحة زنخة الذبائح المقدسة برحابة صدر كما لو أنها عطر فرنسي ،معصور بأسلوب ميتافيزيقي رثٍ وهيستيري .

أيُ حوتٍ والدك ؟ومن هو ؟وماذا يعمل ؟

سيتساءل القراء ،ولهم كامل الحق في ذلك ،لكنني لن أتمكن من ان أسعفهم بالإجابة ،لأنني أنا نفسي لا أعرفها ،ولم تثر فضولي يوماً ،وكل ما كنت متأكدة منه كطفلة هو ان كل ما يتعلق بوالدك يثير في الفزع والقرف والرغبة في التغوط .

إلا أن هذا لم يكن ما أكنه لك ،بل على العكس ،كان التقرب منك أمراً لا يستحق العناء ،والذي لن أدعي بأن الدافع لذلك كان الشعور بالشفقة ،لأنني كنت أجدك إنساناً تعيساً رغم قوة وسلطة والدك ،وإنما دفعني لذلك رغبةٌ في إحلال العدل بيننا ،أنا وأنت ،وكل تلك المعضلة الوجودية التي جعلتنا نخلق هكذا متناقضين ومنقوصين وحكمت علينا خوض صراع طويل انتهى بتدمير كل منا للآخر في نهاية المطاف ،وجعلتني أستنزف جميع فرصي في أن أكون ودودة لأقتلك بعد حكاية ثقيلة الوزن .

القصة السادسة

مدينة

1

اللاذقية /2015

كانت الشمس في أقصى درجات غضبها عندما ترجل نجيب من باص النقل الداخلي المكتظ، وقد بلل العرق قميصه ذا المربعات الكرزية اللون والتي ماإن ظهرت لشمس هذه المدينة حتى بدت أشد توهجاً و صخباً، لون صارخ متوهج اعتاد عليه السوريون في السنوات الأخيرة. كانت الحقيبة الثقيلة المحشوة بالكتب والمجلات قد أنهكته وجعلت من تنفسه سريعاً وقصراً إلى جانب الزفير الدافئ للشبان والشابات الذين التصقوا به داخل الباص والذي منع عنه ما احتاجه جسده من أوكسجين، لكنه وهبه شعوراً جميلاً من المساواة المؤقتة، سوريون يتشاركون زفيراً واحداً مجهول الهوية !

عندما لامست قدمه أرض ساحة الشيخ ضاهر تنفس بعمق هواءً محملاً برائحة البشر الذين ملؤوا شوارع الساحة الضخمة بالألوان المختلفة والتي تكفلت شمس هذه المدينة الخاصة بجعلها أشد وضوحاً، ألوانٌ تمشي، ألوانٌ تتحدث، تجادل، تساوم، لا يمكنك مهما بلغت من فطنة أن تخمن اللهجة أو حتى اللغة التي تحملها الألوان الصامتة، المندفعة بشراسة نحو الحياة .

الحرب جعلت من هذه المدينة مادةً خام لصنع تعايش .

هذا ما فكر فيه نجيب وهو يحرك برأسه يمنةً ويسرة لكي لايضيع عليه أي مشهد، الأطفال الذين جعلوا من البركة الجافة لعبةً للتزحلق، النسوة اللواتي يحملن الرضع بيد و يمددن اليد الأخرى للكرماء، يمكنك بسهولة ملاحظة الفقر في المدينة .

بإمكانك أن تجد كل ماتريد ابتياعه في هذا الشارع الطويل الذي يتوجب على الجميع سلكه لأنه يصل بين الأسواق وبقية المدينة، الملابس، الحلويات، القلادات التي تحمل رموزاً دينية والتي أصبحت رائجة أكثر بعد الحرب حيث أصبح الجميع جريئاً بإشهار انتماءه، أشرطة السي دي، حتى أشرطة الأفلام الإباحية التي قل السؤال عنها بعكس القلادات .

(الحرب هذبت البشر ياصديقي، لم يعد يكترثون بالجنس ) قال البائع لزبون يرتدي قميص فانيلا وشورت قصير لحظة مرور نجيب بجانبهم .

ابتسم نجيب ابتسامةً ساخرة، وواصل طريقه باتجاه مقهى قيثارة، الذي كان من المقرر أن يلتقي فيه بصديقيه كيندال و جرجس لإضافة اللمسات الأخيرة إلى مشروع تخرجهم، وبعدها سيتوجهون إلى المسرح القومي لمشاهدة مسرحية كانوا يجزمون تماماً بأنها لن تعجبهم، وبأن ما سيحدث في كل مرة سوف يتكرر، ستبدو المسرحية تنويرية في البداية، لكنهم لن يحتملوا إنهائها لأسلوبها المبتذل، وإن استطاعوا إنهائها فإنهم لن يتحولوا لأغبياء يصفقون ويهللون لأبطال مبتسمين بسذاجة ‘مقتنعين للغاية بفنهم، حيث سيقوم المخرج مثل كل مرة بابتكار شخصيات ساخرة عن رجال دين ومسؤولين يضحكون الجمهور بتصرفاتهم الساذجة ولهجتهم المحلية دون أن يستطيعوا فهم مايريد المؤلف أو المخرج قوله من خلال هذه الشخصيات، مستعملين في إنجاح مسرحيتهم مجموعة من الشباب القرويين الذين وجدوا في الخوض في هذا الوسط المسرحي الرديء طريقة للتمرد على الكبت الجنسي والتسلط الأسري في القرى .

وبالرغم من ذلك، كان نجيب وصديقيه نشطين دوماً في أية فعالية ثقافية، لأنه ببساطة كانت تلك هي الثقافة المتوفرة بالمجان في المدينة .

يمكن تلخيص الحياة الثقافية في هذه المدينة في بضعة مكتبات متناثرة في شارع واحد الذي يعتبر شارعاً محافظاً، حيث يختلي بعض اليساريون القدامى بأنفسهم والذين جعلوا من مكتباتهم انتماءات، ومن الصمت طريقةً في العيش .

وكالجميع في هذه المدينة، اتخذ اليساريون وجوهاً متعددة، فمنهم من انسحب تدريجياً من ذاك المجتمع الذي كافح طويلاً لتغييره جاراً خيبته ومحولاً إياها إلى إنطوائية قد تبدو استعلاءً للبعض، كطريقة أخيرة للتعبير عن الرفض، وهؤلاء ستجدهم يرتدون دوماً معاطف وقبعات تشبه ما كان يرتديه رؤساء الاتحاد السوفييتي، ويلوحون بنظاراتهم الطبية الكبيرة وهم يشرحون لزبون ما عن أهمية كتاب بأسلوب قارئ نخبوي، وغالباً سيخذلون من عدم فهم الزبون لما يقولونه .

يمكن القول بأن هذا النوع من اليساريين كان الأشد إلحاحاً، والأكثر تصالحاً مع الذات .

النوع الآخر هو أولئك اليساريون الذين استيقظوا يوماً فجأة واكتشفوا أنهم كانوا في غيبوبة، وأنهم كانوا مخطئين بما يخص أهمية الثروة، ثم سرعان مايحملهم جوعهم للثروة التي حرموا نفسهم منها طوال سنوات غيبوبتهم إلى الخوض في مشاريع تجارية تدر عليهم أنهاراً من ذهب، مثل صالة ألعاب كمبيوتر، أو مقاه عصرية تناسب الأذواق الرائجة .

النوع الثالث هو أولئك الذين قبلوا بشيءٍ بسيط من الرأسمالية مع الاحتفاظ بإلحادهم وأسسوا مشاريع صغيرة ليست إلا مصغرات عن رؤيتهم الجمالية للعالم، كتأسيس مقاه ثقافية تطرح أسعاراً مقبولة، وتعرض فيها صور فوتوغرافية لنجمات ونجوم السبعينيات، حين كانت النساء تحببن حتى النهاية، والممارسات الجنسية أكثر رومانسية وأقل حيوانية .وخلق عبارات لاستمالة الزبونات من أمثال :أنت تشبهين مارلين مونرو !).. عندها لن تحتمل الزبونة شغفها الدائم للقدوم إلى المقهى لمقارن ة نفسها بصورة مارلين مونرو المعروضة على الحائط.

هؤلاء غالباً ينسون خلفهم نسوة حزينات صامتات ذوات أعين متورمة وكئيبة من جراء تعرضهن لخيانات متكررة .

كل تلك الأصناف من اليساريين لم تدهش نجيب لكن ماصدمه حقاً هو نوع لم يستطع مقاومة ذاك الحنين الخفي لتربيته الدينية، ليعود إسلامياً ويحمل مسبحة والده القديمة .

قد تجد الكثير من هؤلاء في ذاك الشارع المحافظ ‘شارع أنطاكية، الذي كان على نجيب عبوره للوصول إلى المكتبات التي يمكن أن يجد فيها ما يقرأ .

كان موعده مع صديقيه مازال باكراً، لذا قرر أن يمر على العم (نشوان ) وهو يساري سابق أسس مشروعاً ثقافياً صغيراً جعل منه انتماءً، مكتبةٌ جيدة في مدينة قراؤها قلة، تقع في نهاية شارع تختبئ النسوة القاطنات فيه وراء جدران منازلهن، وينتشر في أزقته ذكوره المتشابهين في كل شيء، التكلم عند الضرورة فقط، طريقة السلام الواحدة، الشعور بالرضا ذاته، أو ربما الخدر ذاته ‘وهذا ماأثار استغراب نجيب دوماً، لكنه رغم ذلك كان يحب تأمل الحياة التي تسري فيه بكل بساطة واعتدال .

فكر نجيب مجدداً وهويتأمل المحال التي تبيع بضاعة متوسطة الأسعار، بذاك التنوع الغريب في هذه المدينة، سوريون من كافة المحافظات نزحوا لأسباب متباينة إلى اللاذقية، أغلبيتهم حلبيون وأدالبة ومن المحافظات الشرقية، بالأمس استوقفه روسي ليسأله عن موقع دوار الزراعة، واليوم رجل يتحدث عبر الهاتف باللغة السريانية، صديقه كيندال نازح كردي أيضاً .

لم يكن نجيب قد قابل أي كردي من قبل في تلك المدينة التي جاء منها نازحاً أيضاً، فقد كان ينتمي إلى إحدى العائلات العلمانية القليلة التي قطنت مدينة متطبعة بالطابع الديني الإسلامي هي جسر الشغور، حيث كان العلمانيون فيها متقوقعين على ذاتهم، وخصوصاً المستقلين منهم عن أي حزب، وكان نجيب يعتقد دوماً أن العلمانيين منبوذين فقط في مدينته، لكن بعد نزوحه أدرك بأن التقوقع والوحدة هو مصيرك كعلماني في هذه البلاد، الناس هنا لا يتمتعون بالعلمانية التي كان ينشدها.

هنا، في شارع أنطاكية، ستجد عاطفةً تجاه تركيا، ولكن ليست تركيا العلمانية، بل العثمانية .وهناك في الشارع المجاور وفي أي شارع، في أي مكان في هذه المدينة، لن تجد علمانية حقيقية .

(مكتبة العم نشوان ستنسيك كل هذه الخيبة يافتى )تمتم نجيب وهو يدفع باب المكتبة بحماس متنفساً بعمق .

كانت المكتبة مزدحمةً على غير عادتها بالزبائن وضيوف العم نشوان، مجموعة من المثقفين المتقاعدين من وظائفهم كانوا قد جعلوا من المكتبة مكاناً مناسباً لاستعادة ذكرياتهم النضالية في السعي خلف الثقافة .

سلم نجيب على العم نشوان، ثم أعطاه الكتب التي بحوزته وقبض ثمنها، كتب قديمة يبيعها نجيب ليشتري بها كتباً جديدة، سمع عند ذلك إحدى الزبونات وهي تخاطب العم نشوان 😦لا نريد كتباً لشيوخ إرهابيين، نريد لمحمد شحرور، قيل لنا أن كتبه مفيدة ).. كانت امرأة في الخمسين تقريباً وبصحبة ابنتها، وكلاهما محجبتان .

في اللحظة ذاتها دخل شابٌ المكتبة وطلب من العم نشوان فرصة عمل، وشرح له حاجته الماسة لأي عمل يجني منه مالاً بعد أن جاء هو وعائلته من مدينة أخرى هرباً من الموت، فاعتذر منه العم نشوان .

كان على جميع النازحين من محافظات أخرى بما فيهم أولئك الذين ينحدرون من عائلات ثرية كنجيب، أن يملكوا القوة اللازمة لبناء حياة جديدة .

سأل نجيب العم نشوان عن كتاب صدر حديثاً لأدونيس، فأخبره أن الكتب التي تصدر في لبنان من الصعب جداً أن تصل كشحنة، تحتاج لتوصية بنسخة واحدة إذا رغبت باقتنائها، طبعاً إن لم تكن ممنوعة من قبل الرقابة السورية .

كل شيء يتغير في الحروب حتى الرقابة على الكتب، فكتب سلمان رشدي التي كانت ممنوعة في الماضي، أصبحت متوفرة، هذا ما اعتبره نجيب نقطةً إيجابية، لأنه لطالما تشوق لقراءة ذاك الكاتب الذي أثار غضب الخميني وجعله يصدر فتوىً بهدر دمه .، والشعور نفسه تجاه رواية أولاد حارتنا التي أحرقت في ساحات الأزهر .

كان نجيب يقلب بين كتب سلمان رشدي عندما سمع تلك المرأة المحجبة تسأل: هل في هذه الرواية مشاهد غير محترمة ؟ ابنتي تصر على شرائها .

كان الصمت هو الرد الذي اختاره العم نشوان على هذا السؤال .

شعر نجيب بدهشة مضاعفة عند سماعه سؤال المرأة، ومشاهدته لرجال ذوي عضلات مفتولة ينقلون كتباً ضخمة مجلدة إلى سيارة جيب سوداء وهم يقولون :يريد المعلم تزيين مكتبة الصالون !

سرعان ماتبعت هذه الدهشة المضاعفة دهشة أخرى عندما علت أصوات ضيوف العم نشوان وهم يختلفون في احتمال تورط غورباتشوف في إنهيار الاتحاد السوفيتي.

كان من الواضح على هؤلاء محاولتهم الدؤوبة لإغلاق أعينهم عما يحدث من حماقات خارج العالم المثالي الذي كانوا ينشدونه، ليستعيدوا تلك النقاشات القديمة من ذاك الزمن الحار .

راودت نجيب ذكرى عن نقاشات والده وأصدقائه العلمانيين حول أشياءٍ كهذه، وشعر بالحزن ككل مرة يتذكر فيها والده المريض، الذي سافر ووالدته وشقيقه جبران إلى بيروت ليتلقى الوالد العلاج الضروري للسرطان الذي غزى رئتيه، كانت العلاجات الكيماوية نادرةً في البلاد وباهظة الثمن بعد الحرب .

بقي هذا الشعور بالحزن يتملكه حتى بعد خروجه من المكتبة، وأثناء عبوره للأسواق الرئيسية في المدينة حيث شاهد العديد من البضائع المستعملة المسروقة معروضة للبيع، كانت تلك تجارةٌ جديدة أفرزتها الحرب، والتي أدت إلى صعود أثرياء جدد نتيجة انخراطهم في هذه التجارة المشروعة للمسروقات !

ما لاحظه أيضاً أن مرشحو انتخابات مجلس الشعب قد بدأو بإلصاق صورهم على الجدران، ولفت انتباهه وجود صور لمرشحين من رجال دين ملتحين، ومرشحة ترتدي غطاء رأس أبيض ورداء أسود وقد كتب تحت صورتها شعار:معاً لتطبيق الشريعة الإسلامية .

ذكرت هذه الصور نجيب بترشح والده لمثل هذه الانتخابات قبل الحرب في مدينتهم جسر الشغور، ولم ينجح فيها .عندها قال خاله عثمان الكريه لوالدته :وكيف سينجح زوجك المخبول إن كان مستقلاً عن أي حزب أولاً، وعلماني ثانياً؟.

كان خاله مسؤولاً مهماً في جسر الشغور ومن أولئك الذين يملكون وجوهاً متعددة ويجمعون لأنفسهم الولاءات من قبل جميع الأطراف سواء من العلمانيين أو من المتدينين وحتى من أشد الإسلاميين تطرفاً، وكان لديه صديق متطرف ثري يزوره مع زوجته المنقبة ويقيمان معاً الولائم العارمة بأصناف اللحوم، ويخططان سوية لدعم شعبية كل منهما، لكن بعد الحرب وعندما سنجت الفرصة للإسلاميين بالتحرك ورد اسم خاله على رأس قائمة المحكوم عليهم بالموت من قبلهم والتي كانت قد وضعت من قبل ذاك المتطرف بعد أن استلم قيادة إحدى الجماعات الإسلامية، لذا اضطرت العائلة بأكملها أن تلوذ بالفرار من المدينة منذ أول اضطراب حدث فيها، ولم يحاول نجيب أبداً أن يتواصل مع خاله الذي كان متأكداً بأنه وجد طريقة أخرى لكسب المال مجدداً، لأن هذا كل مايهمه .

غيرت تلك الذكريات من مزاج نجيب وأنهكته، فحاول استعادة قوته من جديد بتأمل الأبنية القديمة في الشوارع .

مر بجانب كنيسة اللاذقية للروم الأرثوذوكس، ولاحظ مجموعة من النساء الأنيقات يشرعن بالدخول إليها .كان جميع المسيحيون في المدينة وحتى اليساريون منهم يحافظون على ذاك الارتباط بالمؤسسات الدينية، لكونهم أقلية، وخصوصاً بعد تصاعد التطرف والعنف في البلاد.

على بعد شارعين، تقع كنيسة أخرى للكاثوليك، مبنية على الطراز الروماني، وكانت قد امتلأت بالنازحين من المسيحيين الهاربين من المدن المشتعلة .

مارك صديق نجيب كان كاثوليكياً نازحاً من بلدة في الشمال، خسرت عائلته كل ما تملكه، وأصيبت والدته بسرطان الثدي، فلاذوا بالكنيسة الإنجيلية لمساعدتهم، التي قدمت لهم المال والمسكن، ودعتهم للالتزام بالصلوات والاجتماعات الدينية في الكنيسة، وبعد مدةٍ ليست بالطويلة، قررت العائلة أن تنضم إلى الإنجيليين وبرر مارك ذلك لنجيب بأنهم على اقتناع تام بالعقيدة الإنجيلية .

كانت تلك ظاهرة جديدة أفرزتها الحرب، سواء بين صفوف المسيحيين أو المسلمين، حيث قامت بعض المؤسسات والمساجد الشيعية، بتقديم مساعدات مادية للنازحين واستطاعت أن تقنع العديد منهم باعتناق المذهب الشيعي، وخصوصاً طلاب الجامعات .

بعض أصدقاء نجيب نصحوه بارتياد المسجد الشيعي، لكنه لم يقبل، وأخذ يبحث عن عمل يجني منه مصروفه بعد مغادرة عائلته للبلاد، لكنه لم يجد.

الكثير من النازحين اختاروا كنجيب أن يعملوا حتى ولو أعمالاً متعبة، كان منهم العم (إدريس) الحلبي الذي خسر دكانه في أحد شوارع حلب القديمة، وجاء إلى اللاذقية ليفرش الكتب على بسطة ويبيعها بسعر الجملة .

مر نجيب بجانبه فشاهده يلملم كتباً مرمية بشكل فوضوي فوق الرصيف، سأله نجيب مستفسراً عن سبب هذا، فقال: جاءت البلدية وأخذوا قطعة الخشب التي أضع الكتب عليها لعرضها، و رموا بالكتب هكذا كما تفعل الثيران .

شاهده نجيب وهو يحاول أن يخفي دمعته محدقاً نحو الأرض، وفهم أن العم إدريس لا يرغب أن يراه في هذا الموقف الضعيف. فلاذ بالصمت وتابع سيره باتجاه مقهى قيثارة الذي أصبح على بعد خطوتين، حيث سيضطر لمقابلة صديقيه بوجه عابس ومزاج مكتئب، لأنه لم يملك القوة اللازمة للسيطرة على ذاك الحزن الذي فرضه عليه ماشاهده في طريقه .

شعر نجيب أمام باب المقهى أن الألوان التي أظهرتها الشمس تبدلت في عينيه، وبدت رغم لمعانها، قبيحة للغاية !

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان ؛ مجهولين

الفصل الأول

أنا كتوب اللص

لم أعد قادراً على تمييز ماحولي ،كلُ ما يحيط بي ضبابٌ كثيف …. أتساءل إن كان ذاك هو الموت ؟لكنني لم أشعر بعد بقبضة الروح التي كلمنا عنها الشيخ زكاء في خطب الجمعة ودروس الدين الأسبوعية لا لا لابد أنني مازلت حياً ،أسمعهم يرشقونني بوابلٍ من السباب والشتائم ،ذاك الأعجمي ذو العينين الوحشيتين ،لابد وأنه أسيرٌ دخل في الإسلام ،وهاهو ينتقم لنفسه بي ،كان سوطه يتفنن بضرباته السريعة واللاذعة ،كما لو أنه ريشةٌ في يد (سليم ) أمهر الخطاطين في الوراقة لدينا ،وأشدهم غروراً وتعجرفاً كلاهما بلا رحمة ، سليم الذي حولني من خطاطٍ بسيط إلى لص كتب . كنت خطاطاً أقصى سعادته أن يغرق بين الورق والحبر يخط الأحرف بأناقة ،وتتراقص أصابعه على لحن الكلمات .

والآن أنا لصٌ قذرٌ بين يدي الدرك يخطون بسوطهم ندباً على جلدي .ذاك الأعجمي الذي لا يشبه بني آدم بقناعه الأسود وأسنانه الكبيرة الصفراء كأسنان حيوانٍ متوحش أنهى وجبته للتو .

إذا كان دخوله في الإسلام خوفاً على نفسه قد حوله إلى هذا الوحش الماثل أمام عيني فكان من الأفضل أن يبقى كافراً . أتساءل مارأي الشيخ زكاء في هذا ؟ لابد وأنه كان سيؤنبني لو سمع مني هكذا كلام ،إذاً مارأيه بما يحدث لي ؟ ألم يقل لنا أن الإسلام دينٌ جاء ليحرر العبيد والضعفاء .

إذا كان ديننا الذي دافعت عنه دوماً جاء لينشر العدل ، فلماذا يحدث معي هذا في بلادنا التي تدعي بأنها تطبق الدين على أكمل وجه ،وأن حاكمها المبجل يستمد قوته وحكمته من الله سبحانه وتعالى . لا بد وأنني أهلوس الآن ،الآلام التي أشعر بها تفقدني عقلي .

كنت في طريقي إلى معلمي لإيصال مسروقات الكتب التي حظيت بها اليوم عندما توقفت عربة الدرك بجانبي وترجل منها أربعة مقنعين بأجسادٍ هائلة ،وانهالوا عليّ بالضرب والجلد ،ثم قاموا بحملي ورميي في قفص العربة المزخرف من الداخل بعبارات (( الله هو العدل )) ، (( الله هو الحق )) مخطوطة ً ربما بخط الثلث ،أحبُ الخطوط لدي ،أوربما لم تكن مخطوطة بذلك الخط وأن مارأيته مجرد هلوسة إثر الضربات العنيفة التي تلقيتها فوق رأسي .

تعجبت لهذا الاهتمام البالغ بتذهيب وتأنيق قفصٍ صنع أصلاً لتعذيب العباد .

أدرك الآن أنني مازلت حياً ،أشعر باهتزاز العربة وهي تعبر ذاك الجسر المؤدي إلى ساحة المحكمة الشرعية الكبرى ،أيعقل أنهم سينفذون حكم السارق بي فور وصولنا إلى هناك ،هل سيقطعون يدي مباشرةً ودون موافقة المفتي ؟ سأرجوهم عندها أن يقطعوا لي يدي اليسرى ،لايمكنني العيش دون أن أخط الحروف ،سأقول لهم أنني أخط المصاحف الشريفة للمساجد ،سيشكل هذا سبباً مقنعاً ليدعوا يدي اليمنى وشأنها ! ثم أنني الأكثر براعةً في خط الثلث فيالبلاد كلها ،الفضل في ذلك يعود إلى والدي رحمه الله .

كان والدي خطاطاً بارعاً ،لم تسنح له الفرصة لتعليمي جميع الخطوط العربية فقد كنت صغيراً جداً عندما سيق به للقتال في صفوف جيشنا الإسلامي العظيم ضد المتمردين في القسم الجنوبي من البلاد ،ذاك منذ زمنٍ بعيد قبل أن تنقسم البلاد وينفصل القسم الجنوبي ليشكل دولةً مستقلةً كافرة .

كان والدي يصحبني بعد صلاة العشاء في الأمسيات الصيفية الحارة إلى وراقته المتواضعة في أعلى تلةٍ قريبةٍ من منزلنا الريفي الطيني القديم ،الذي دمرته العواصف بعد استشهاد والدي لاحقاً ،يخرج المفتاح الفضي الكبير من جيب سترته المصنوعة من الجوخ الأحمر ،يدير القفل اللامع والمنظف بعناية ثم يمسكني من يدي اليسرى _والتي سيقطعونها ربما بعد قليل _ويشد عليها بعزيمة متمتماً بعباراتٍ غير مفهومة : هيا للولوج في عوالم اللغة ،هيا لنفهم الحياة ..لنفهم ذواتنا .

ثم يقوم بفتح أدراج الخزانة الضخمة التي تحتل صدر الغرفة بكامله درجاً درجاً ليخرج من الأول زجاجات الجبر الاثني عشر ،حبرٌ بجميع الألوان المميزة التي تنبض بالحياة ، ومن الثاني يخرج الورق المصري الجميل ذو الرائحة الزكية ،ومن الثالث وهو الدرج الأكبر يخرج بكرةً ضخمةً لجلدٍ مدبوغ ونظيف لصنع أغلفة الكتيبات .لم يكن لدى والدي كما كان لمعظم الخطاطين درجٌ رابع فيه زجاجات لماء الذهب والفضة لتذهيب وتجميل الأغلفة أو لتذهيب العبارات المخطوطة على الجدران والأبواب وأسقف المساجد والبيوت ، لم ينعم عليه الله بالمال الكافي لذلك . لكنه وبتحيزمني كان الأمهر في عينيّ .

كنا نمضي الليل بأكمله هو يخط ويلون ويصنع الأغلفة ،وأنا أتأمله تارةً، وتارةً أقلده على ورقةٍ تالفة وأفشل في تقليد حركات أصابعه عندما يقوم بفتلها لرسم انحناءة ألفٍ مقصورة ، أو هاءٍ في آخر الكلمة .

بقي والدي لسنواتٍ يحتمل فشلي وعندما أدرك أنني لاأملك موهبته ، قرر بأنه لا يناسبني أن أكون خطاطاً بارعاً وماهراً ،لكن يمكنني أن أكون خطاطاً مختلفاً وهكذا قرر والدي أن يصب اهتمامه في تعليمي خط الثلث ، قال بأن ابن قطفة كان مبدعاً عندما اخترع هذا الخط ،وبأنه التمس في أسلوبي أنني لا أحب التقليد وأسعى دوماً للابتكار وبما أن هذا مكروه في ثقافتنا الإسلامية ،لذلك وجد أنه من المناسب تعلم خط الثلث والتميز فيه وهكذا أصبحت أمهر الخطاطين في هذا الخط وغدوت مختلفاً عن أقراني في الوراقة ،مما ولد عداءات لي وخصوصاً من قبل (سليم)أمهر الخطاطين في البلاد ،الذي يفخر بزخرفته للعبارات المكتوبة على جدران وأسقف قصر الحاكم أدامه الله ..

ولكونه الأمهر في البلاد ،لم يخالفه (نور الدين) صاحب الوراقة عندما أدلى بقوله: (( من المستحسن طرد هذا الخطاط ،فهو لايملك الموهبة ولايتقن إلا نوعاًواحداً من الخطوط ،على الخطاط المسلم أن يكون كاملاً ولاننسى أن الكمال لله وحده )) !

وهكذا خسرت عملي في أهم وأعظم وراقة في البلاد ، وشعرت بالضعف والظلم ذاته الذي شعرت به عندما حملنا أنا وأمي ماتبقى من أغراضنا بعد أن هدمت العواصف منزلنا الطيني في الريف ،واتجهنا صوب المجهول إلى المدينة حيث قضينا ليالٍ باردة وحالكة بين الجبال وفي المغاور العميقة الموحشة ،حيث يعيش ((المعزولون )) تلك الفئة من الهاربة من السلطة الإسلامية الحاكمة لأسباب تاريخيةٍ أجهلها إلى الآن ..

هل يعقل أن يكون الحكم أشد قساوةً وأن أنفى إلى الجبال كالمعزولين بعد أن تقطع يدي ؟!!

لا أريد التفكير في هذا ،ألا يكفي ما أصابني ،رأسي ثقيلٌ للغاية ركلني ذلك الأعجمي الأخرق على خصيتي ،لم أعد أشعر بهما ،لابد وأنهما محتقنتان الآن . ربما فقدت ذكورتي ؟! كيف سأستمر إذا حدث هذا ؟! لن يرزقني الله بالبنين التي هي زينة الحياة الدنيا .وقد تطلب (شريفة) أن أطلقها .ربما تخلعني هي ،لكن يمكنني الاطمئنان فيما يخص هذا فهي لاتملك المال ،لكن أمها الخبيثة (أمينة) قد تساعدها ،إنها تعيرني دوماً بقلة مالي وحيلتي ،فكيف إذا أمسيت مخنثاً كالملعونين عند الله !

من الجيد أنني لن أخسر (( نينار )) الفاجرة التي يرسلني إليها معلمي لإيصال قصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ،كانت تقول بأنه لاشيء يستحق أن نعيش من أجله كما تستحق القراءة ،إنها فاجرة لكنها تنطق دوماً بعباراتٍ تعجبني وتذكرني بعباراتٍ أبي غير المفهومة .

لم أرتكب معصية الزنا معها ،حتى هي لم تطلب ذلك ،قالت بأنه يكفيها أن نجلس معاً نرشف شراب الورد والنارنج وندخن النارجيلة وأنها مللت من الرجال العراة الذين قابلتهم في حياتها ،(كانوا بغالاً وليسوا رجالاً) كانت تهمس بصوت طائرٍ يحتضر .

من الأفضل لي أن أكف عن التفكير بها الآن ،قد أنطق بشيء ويسمعوني ،لاأريد أن أحاكم حكم الزاني أيضاً!

لم تعد العربة تهتز ، لابد وأننا وصلنا ،أشعر بقبضاتهم الوحشية تجرني من كتفي ،مازال الضباب كثيفاً حولي ،بالكاد أقوى على المشي ،لا أعرف وجهتي ،أمشي لدقائق معدودة ،ثم أقف فجأة ،أحاول فتح عيني بصعوبة ،أرى رجلاً وسط هذا الضباب يجلس خلف طاولة ويحمل في يده ريشةً مغموسةً بالحبر ،يسألني بتجهمٍ:ما اسمك أيها اللص ؟وما اسم والدك؟

_(( كتوب ….اسمي كتوب ابن عبد الغفور ..))… أجيب بتلعثم

اللاذقية /2015

يقع مقهى قيثارة في زقاق شعبي تتسلق جدرانه أغصان العنب، والذي بإمكانك ملاحظة الفارق الكبير بينه وبين داخل المقهى، فعند ولوج نجيب إلى المقهى شعر بأنه انتقل إلى نموذج مصغر عن الثقافة الأوروبية، صوت إديث بياف وهي تغني لافي إن روز يصدح في المكان، صديقه جرجس يشاهد فيلمه الإيطالي المفضل مالينا على الشاشة الضخمة في صدر المقهى، أمل تصب الويسكي لزوجها نهاد صاحب المقهى، وهو مخرج غير معروف في الخمسين من عمره يقضي معظم وقته في إخراج أفلام وثائقية صامتة يصور فيها ابتسامات أطفال مشردين، والوقت المتبقي في مواساة نساء مضطهدات من قبل أزواجهن على مرأى من زوجته الشاحبة (أمل) ذات الشعر المجعد و المصبوغ بالأحمر، و الوجه الكئيب دوماً.

حيا نجيب وهو يخطو نحو طاولته المعتادة نزيهة وصديقاتها، مجموعةٌ من النساء الناجحات في أعمالهن، الفاشلات في العلاقات العاطفية، اللواتي يلتقين يومياً في المقهى يناقشن مقالاتهن الصحفية عن العلاقات الزوجية الناجحة والمرأة بعد سن اليأس المنشورة في الصحف الرديئة .

ولم يلاحظ في البداية وجود عزام الصحفي اليساري الذي اتخذ من طاولة تقع في نهاية المقهى مكاناً لانفراده بنفسه كعادته .

كان (عزام ) من أولئك المثقفين الذين انسحبوا من المجتمع مؤمنين بأنه لم يعد لهم دور بعد أن أصبحت ثقافة الإقصاء هي الثقافة المتداولة في البلاد، والذين شعروا بصدمة كبيرة عندما اكتشفوا أنهم كانوا أقلية في مجتمع تسري الأصولية في عروقه .فاختاروا أن يغلقوا على أنفسهم أبواب المقاهي والبيوت، يقرأون ويدخنون .

هذا ما اعتقده نجيب قبل أن يعلم من صديقه جرجس، النشاطات الجديدة التي انخرط فيها عزام، حيث استقبله جرجس بخبر جديد عن نشر عزام لمقالات في الصحف الرسمية يمدح فيها الأعمال السينمائية التي تعرض في المراكز الثقافية، والتي أدت إلى صعود مخرجين ممن اختاروا عدم الحيادية وإتخاذ موقف ثابت مما يحدث في البلاد لبناء ثروة.

فوجئ نجيب بهذا الخبر، وابتسم لقهقهات جرجس وهو يخبره بالتتمةالتي وصفها بالقنبلة، قال له أن عزام هو من سيغطي مهرجان الأفلام القصيرة(شبابيات) الذي سيقام في المسرح القومي، وسيلتقي مع مجموعة النقاد والمخرجين غير المعروفين الذين أرسلوا من العاصمة لتقييمه، والذين سيثرثرون ككل عام سبعة أيام متواصلة عن الأفلام المشاركة، ليأتي في اليوم الأخير ضيف شهير من الوسط الفني ويمنح الجائزة للفيلم الذي يراه خارقاً من وجهة نظره هو فقط‘ وعندها سيكتفي النقاد الممتعضين خلفه بالتصفيق وتسليم الجائزة .

كان جرجس قد شارك بأحد الأفلام القصيرة، لكن إدارة المهرجان قامت بحذفه من الأعمال المقترحة، ووصفته بالمذبذب .ولم تكن المرة الأولى التي ترفض فيها أعماله، فقد كان جرجس يصنع أفلاماً قصيرة منذ عمر صغير جداً بمساعدة عائلته التي يملك جميع أفرادها موهبة التصوير الفوتوغرافي، ويدمنون على مشاهدة الأعمال السينمائية وخصوصاً الإيطالية، ويهتمون أيضاً بالفن التشكيلي، كانت عائلة يتملكها الفضول أن تخوض في أي مجال، يعزفون على العود، ويغنون مبتسمين دوماً، محولين كل الأمور السلبية إلى فكاهة.

وقد ورث جرجس من عائلته حس الفكاهة هذا، حيث كان يقضي أوقاته منخرطاً في كل الأمور، ساخراً بجرأة مما يدعو للسخرية، باثاً روح الحياة في لقاءاته مع أصدقائه، وكان نجيب يجد في صداقته سلواناً لوحدته، وحنينه لعائلته .

وبالرغم من الفكاهات التي أطلقها جرجس عن تورط عزام في صحافة التهليل والتعظيم، لاحظ نجيب أن كيندال لم يبتسم لأي منها، وبقي عابساً دون أي تفاعل.

فسأله عن سبب تجهمه، وعلم منه أنه أضاع النسخة الثانية من الوثيقة التي تثبت أنه طالب جامعي والتي كان عله تقديمها للأشايس في مدينته القامشلي كي لا يساق إلى صفوف المقاتلين من أتباع حزب العمال الكردستاني، وهذا يعني أنه لن يستطيع السفر إلى القامشلي ورؤية والديه بعد الآن، لأنه سيساق عند أول حاجز من حواجز الأشايس لعدم وجود إثبات بأنه مازال يدرس.وكانت النسخة الأولى من الوثيقة قد قدمت لشعبة التجنيد في اللاذقية.

(عليك دوماً دفع ثمن هويتك المزدوجة ) قال كيندال ساخراً ثم التفت إلى نزيهة التي غادرت طاولتها و جاءت تستمع إلى مايقوله واضعةً يدها فوق كتفه، ومصغية باهتمام أم .

فوجئ نجيب بهذا التقارب، وراح يفكر بما قال له جرجس ذات مرة وكانت ردة فعله يومها الغضب من جرجس ووصفه بالخيالي والمبالغ، إذ قال له جرجس أن كيندال وبسبب غياب عائلته وافتقاده للجو الأسري وجد ما ينقصه في أحضان نزيهة في شقتها حيث تعيش وحيدةً بعد أن خلعت زوجها السكير وطردته من المنزل .(احذر دوماً من المرأة المستقلة مادياً ) قال جرجس وهو يقهقه .

وماجعل هذا الأمر محسوماً بالنسبة لنجيب، هو نهوض كيندال لمرافقة نزيهة وتبادلهما لنظرة متعاطفة، ثم مغادرتهما المقهى تاركين جرجس ونجيب في دهشة محيرة .

راقب نجيب مسيرهما، ولاحظ كيف أمال كل منهما رأسه باتجاه الآخر لحظة خروجهم من الباب، في الوقت الذي كان صوت داليدا المغنية الفرنسية يملأ المقهى، وهي تغني (أنا مريضة) الأغنية التي بدا إيقاعها منسجماً للغاية مع خطوات نزيهة وكيندال البطيئة والمترددة .

قاطع النادل تلك الرومانسية الرثة، بإغلاقه المسجل، ليرفع صوت الشاشة الضخمة التي في صدر المقهى ويستمع إلى النشرة الإخبارية على القناة الوطنية .

لم يكترث أحد من المتواجدين في المقهى بتلك النشرة، كان من الواضح أن أبناء هذه المدينة لم يعد يكترثون بالإعلام المرئي مهما كان توجهه، إذا كان المحور الذي يدور حوله هو الحرب في سوريا .

في بداية الحرب قبل سنوات، كان الناس منقسمين في مشاهدتهم للإعلام وكان من السهل وصف أحدهم للآخر بالخائن أو الشبيح لمجرد مشاهدته لقناة لا تروق للآخر، أو تشعره بالتوتر عند متابعتها .وكان كل طرف منهم يتتبع أبطاله من المحللين السياسيين المتقنين الثرثرة والذين منحت الحرب لهم فرصة ثمينة لجمع المال .

أما اليوم، أصبحت الحكايات اليومية هي أصدق النشرات الإخبارية، والناس العاديون هم أبطالها .

بالنسبة لنجيب كان الأولى لعزام أن يلتفت لهذه الحكايات ويكتب عنها، بدلاً من ولوجه عالم الصحافة المصفق . وكان يحلم دوماً لو سنحت له الفرصة بالكتابة عن كل ما يراه في هذه المدينة، كأن يكتب عما جرى مع العم إدريس اليوم، أو عن خيبة المثقفين اليساريين، أو عن ظاهرة جذب المؤسسات الدينية للشبان وإغرائهم بالمال .

كانت الكتابة هو شغفه الدفين الذي تكفلت الحرب في إظهاره .فهو على الرغم من دراسته في مجال علمي بحت، كان يرى نفسه صحفياً في المستقبل، وقد أخبر عزام عن هذا وأسمعه بضعةً من المقالات التي كان يكتبها ويتردد في نشرها .

وبينما كان نجيب يتأمل عزام ويشعر بأنه مثير للشفقة حالماً بأن يكون صحفياً أكثر مصداقية ونجاحاً منه، نهض عزام عن طاولته، وسار باتجاهه ليقدم له على طبقٍ من فضة أداةً لتحقيق حلمه .

أخبره أنه استطاع أن يجد له عملاً في صحيفة الكترونية سورية ترغب في توظيف عدد من الشبان ممن يجدون في نفسهم المقدرة على كتابة مقالاتٍ وتحقيقاتٍ صحفية، وليس شرطاً أن يكونوا من خريجي كلية الإعلام .

لم يفرح نجيب بهذا العرض لكونه بداية تحقيق حلم، بقدر ما فرح به لأنه سيمنحه الفرصة بكسب المال بعد بحثه الطويل والغير المجدي عن عمل .

شعر نجيب بالندم وهو يرى السعادة في عيني عزام خلف نظاراته السميكة أثناء إخباره بهذا النبأ السار، لأنه قبل برهة كان عزام يبدو له مثيراً للشفقة .

صفق عزام بقوة بعدها، وأدهش الزبائن بحماسه، حتى أنه أيقظ بتصفيقه نهاد صاحب المقهى الذي كان قد انطفأ من الشرب فوق طاولته، وتدلى شعره الطويل المجعد والأشيب أمامها ملامساً الأرض .

(لاتلوموني على طريقة حياتي العبثية، بل لوموا هذا المجتمع الغارق في جهله)! صرخ نهاد ثم عاد بسرعة إلى وضعيته السابقة .

أطلقت مجموعة من الشبان والشابات الجالسين حول طاولةٍ منزوية قهقهات وتبادلوا تعليقاتٍ ساخرة عن نهاد باللغة الانكليزية، كانت تلك الشلة ترتاد يومياً المقهى، مجموعةٌ من خريجي الأدب الانكليزي العاطلون عن العمل، المرتدون دوماً لملابس عليها رسوم جماجم ومصاصي دماء .

إحدى الفتيات في الشلة كانت تضع حلقة معدنيةً في أنفها وحلقةً أخرى في شفتها السفلية، وقد صبغت شعرها باللون البنفسجي، وارتدت حذاءً عسكرياً ضخماً .علم نجيب من جرجس أن تلك الفتاة هي مخرجة أفلامٍ قصيرة وقد شاركت عدة مراتٍ في مهرجان شبابيات للأفلام القصيرة بأفلام موضوعها المرأة، ولم تفز .وأخبره جرجس أنها تعيش وحيدةً بعد أن فرت من منزلها إبان طلاق والديها و أن اسمها هو ياسمين لكنها تحب أن تنادى ب(جاسمين )في الوسط الذي تعيش فيه حيث يعرفها الجميع ويلتفون حولها لقوة شخصيتها وجرأتها ووضوحها التام .

وكانت جاسمين هذه قد شاركت بفيلم العام الماضي أثار غضب المتدينين لتصويره المرأة المحجبة بأنها غبية ومتخلفة وأنها عندما خلعت الحجاب وصبغت شعرها بالأشقر وتحدثت بالإنكليزية أصبحت مثقفةً وحرة .

وقد عارض النقاد أيضاً الفيلم وقاموا بحجبه عن قائمة الأفلام المرشحة للفوز قبل إعلان النتيجة، وكتب عزام عن هذا السلوك الذي اعتبره غير ديمقراطي .

لكن هذا العام وبعد أن تغير توجه عزام، قال لجرجس ونجيب وهو يحملق بجاسمين 😦 هناك خلل ما في تلك الفتاة ).

تذكر نجيب ماحدث في العام الماضي عندما عرض فيلمها، وكيف تشاجر مع صديقه مصطفى شريكه في المسكن في تلك الشقة التي يستأجرها نجيب في إحدى الضواحي، عندما نشر نجيب تعليقاً عن الفيلم يبدي فيه إعجابه بالسيناريو، وكيف ينسى تلك الحادثة التي بدأ عندها صديقه مصطفى بالتغير الجذري .

فقد كان نجيب ومصطفى صديقين منذ المرحلة الثانوية ودرسا معاً في المدرسة نفسها في مدينة جسر الشغور، وقلدا معاً أستاذ التربية الدينية وهو يتكلم عن تحريم العادة السرية عند الشبان، وعن ضرورة تربية اللحية .

وبعد انتهاء المرحلة الثانوية درسا معاً في الفرع نفسه في الجامعة، وكان مصطفى يساعد نجيب في فهم مايستعصي عليه فهمه، ويتولى أمور نظافة المسكن، وكان يتقن الطبخ، وخصوصاً المأكولات الشرقية، وبالرغم من ذلك تمتع بقوام رشيق والذي جعل من معظم الفتيات في الصف يعشقنه إضافةً إلى طلته البهية وشعره الذهبي المصفف بعناية، وهندامه المرتب والنظيف دوماً ..

ومنذ عام بدأ نجيب يلاحظ تغير مصطفى في تعامله معه ومع الجميع، وانتقاده لتصرفاته وإعجابه بالملحدين والشخصيات التي تنتقد الإسلام، وكانا قد تشاجرا عدة مرات من أجل تعليق أو منشور على الفيس بوك يمدح فيه نجيب المثقفين اليساريين أو العلمانيين، ويندد بالأصولية ويدعو إلى إقامة مجتمع مدني .

وشيئاً فشيئاً بدأ مصطفى يهمل حياته، وانزوى بنفسه في المنزل وقاطع الجامعة والناس، وأخذ جسمه في الهزال، وطال شعر لحيته، وبدأ نجيب يرى في عينيه حزناً غريباً تارةً، وتارةً أخرى يرى ثقةً جامحة .

ودأب على قول جملة: (الإسلام ليس هكذا، ليس كما يصوره إعلامك الصهيوني الذي تنغر به يا نجيب، أو روايات المخنثين الغربيين التي تقرأها ).

وقبل تغير مصطفى كانا يرتادان معاً مقهى قيثارة، ويقلدان طريقة (جاك بريل) في التدخين الظاهرة في صورته على الحائط، ويلاحظان وحدة أمل زوجة نهاد، ويضحكان معاً عندما لا تحتمل غضبها من زوجها السكير فتجره وترميه خارج المقهى وهو ثمل .

لكن بعد ذلك صار مصطفى ينعت أولئك الذين يترددون على المقهى بمثيري الشفقة، ويدعو لهم بالهداية وينصح نجيب بعدم الاختلاط بهم، مبرراً أنه من واجبه تحذير أخيه في الإسلام، فعلى كل مسلم دعوة أخيه المسلم إلى سلوك الطريق المستقيم .

واليوم عندما سأل جرجس نجيب عن مصطفى وسبب غيابه عن المقهى، كذب عليه وأخبره أنه منشغل في مشروع تخرجه مع أصدقائه .

سببت تلك الكذبة لنجيب ارتباكاً واضحاً على ملامحه، واستمر هذا الارتباك طوال اليوم حتى بعد مغادرتهم المقهى باتجاه المسرح القومي، لحضور حفل افتتاح مهرجان شبابيات الذي تضارب مع موعد المسرحية المتفق عليها، وكانت الأولوية لمديرية الثقافة إلغاء المسرحية وافتتاح ذاك المهرجان الذي سيشهد أحداثاً غريبة بكثرة .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الثاني

أنا نافع المترجم

عرفته ، إنه كتوب ، صبي المعلم عروة ناقل الكتب الثمينة ، كتب الافرنج المنقولة بالسر ،وكتب الفلاسفة العقلانيين الممنوعة من قبل مجلس العلماء الأعلى ، مما لا شك فيه أنه قد كشف أمره ، ياللمسكين ينتظر المصير نفسه ،النحر أو قطع الرأس بتهمة الإساءة إلى الإسلام والأمة الاسلامية ،أذكر أنني قابلته من فترة وجيزة ، نعم تذكرت ، قابلته في المخبأ السري ل(( تمام )) الفيلسوف الهارب من السلطة ، كانت بحوزته أعمال منقولة لرامبو ودانتي وبودلير ، تلك الأعمال التي لم تسنح لي الفرصة بإنهاء نقلها إلى العربية ، أتمنى وأنني أنهيتها قبل أن ألاقي هذا المصير لكلن الموت شيئاً سخيفاً ولكنت تركت لهذه الأمة شعاعات نور تضيء عتمتها ز

تسنى لي في أيامي المنصرمة أن أنقل الوافر من الكتب عن الافرنج ، نقلت أشعارهم المختلفة كلياً عما نكتبه نحن ، لغتهم المتمردة ، تحررهم من قيود الشكل ، انسلاخهم عن الواقع ، عومهم بعيداً عن كوننا هذا ، رؤية العالم بعدة منظورات ، عذاباتهم ،طرقهم الجميلة في خط المشاعر ، التوق ، الألم ، الحرمان ، الشغف ، الطبيعة المتجددة الحية الغريبة أحياناً ، البعيدة تارةً عن المنطق ، الصاخبة ، المجنونة والعاقلة في آنٍ واحد ، اللامبالاة وعدم الاكتراث الذي يتصف بهم الشاعر أو الأديب الافرنجي تجاه ماهو سارٍ وشائع ومحتوم ، تلك الرغبة في القول للعالم بأن الشاعر أو الأديب من حقه أن يخلق كوناً وكوناً ، أن يملك اللغة التي في يديه ،أن يكذب أو يصدق ، أن يزلزل ويهدم ويبني ، لأن اللغة وحدها هي المجرمة البريئة ، هي الحياة بكل تفاصيلها .

هنا في بلادنا ، أن تملك أسلوباً مختلفاً يعتبر أمراً مكروهاً غير مألوف ، كفر ، زندقة ، إساءة إلى الأمة ، عليك فقط أن تكتب من أجل الأمة ،أنت تكتب لهذا السبب فكتابتك لامعنى لها إذا لم تصب في بوتقة الأمة التي تصهر الجميع ،ديننا يفرض عليك ذلك ،أن تكون شابهاً لأقرانك ،لكي تحفظ قوة هذه الدولة ،أنت وإن أنعم الله عليك بتلك الملكة إنما لسبب واحد هو أن تمضي بأخوتك المسلمين قدماً ، دوماً إلى جانبهم ونسخة ً مماثلةً عنهم ، فالجميع يسير لغايةٍ واحدة تحت ظل حاكمٍ واحد ، ولمعنىً واحد ، لذا لايسمح لك بالتلاعب بالمعنى ، بامكانك زركشة الشكل كما ترغب ، والشكل هو الأهم في ثقافتنا لكن إياك أن تجلب معنىً آخر ففي ذلك تمردٌ على إعجاز ديننا ، رسالة ديننا العظيم ، الذي جاء بكل الإجابات ، وجعلك تدرك الصحيح من الخاطئ دون أن تبذل مجهوداً ، فأنت ماعليك سوى أن تعيش مطبقاً لهذه القوانين الإلهية ، لأن في ركودك ، في طمأنينتك سوف تبقى قوياً ، سيكون الجميع أقوياء لأنهم في صف واحد ،أشكالهم متنوعة ، لكن المعنى في قلوبهم واحد .

لذا أنا هنا الآن ، في السجن ،لأن طفولتي ومراهقتي منحتني الاختلاف ، أسفاري ووالدي ، ترحالنا الدؤوب في بلاد الافرنج ، في شرقها وغربها ،لقاءاتنا مع شاعرإيطالي هنا ، وفيلسوف فرنسي هناك ، مسرحيات شكسبير في مسارح البندقية ، سهراتنا الطروبة في غرناطة ، الصور ، الأفكار الحرة ، الألوان الحية ، العالم المشرق هناك ، كان هو بداية مصيري المعتم هنا، بين جدران زنزانة قذرة ، جسدي فقط ، لكن روحي تسبح هناك حيث تطير كما ترغب وتغرد كما تشاء .

أعلم تماماً ما ينتظرني سيقف سجان مثيرٌ للشفقة ، يحمل سيفه ، وسيلته الوحيدة للرزق ، للحياة ‘ للوجود ! ويفصل رأسي الكبير كما كانت تصفه أمي ، ولاأدري إن كان سيردد عبارات يمجد فيها عقابي هذا ، سيلوث دمي وجهه ويديه ، وسيظل وجهه مخزياً بدمي ، ولن يزول مهما توضأ ، ومهما زادت قناعته بأنه ليس عليه طلب المغفرة ، لن يفكر بهذا أصلاً فهو لايفكر ، هو يقترف فقط ، النسخة الميتة منه الملازمة لظله دوماً هي من تقترف ، لأنه لاوجود له (( هو )) لا وجود للنسخة الأصلية له ، تلك النسخة وأدت دون ذنب عندما أبصرت عيناه الظلام ,.

سيعيش الحالة نفسها التي عاشها سجانٌ آخر من ألد أعداءه ، سجان حمل فأسه أو ربما سيفه أيضاً وقطع رأس مفكرٍ انتقد سياسة ((مقداد )) الحاكم العظيم للقسم الجنوبي للبلاد ، ذاك الثائر الذي خلص قومه من ظلام حاكمنا ، ليرمي بهم تحت عباءته التي تبث ظلاماً من نوع آخر ، بوتقة مختلفة يصهر الجميع فيها ، تماماً كبلادنا ، لإعلاء قوةٍ واحدة ، قوة مقداد العظيم ، الرجل الأكمل ، الأقوى ، الإله الآخرالذي يسكن الأرض ، المعنى الآخر الذي لا يجب أن يتم نجاوزه ، ألا يتم التلاعب فيه ، عنده أيضاً ، بإمكانك التلاعب بالشكل كما تريد ، لكن تحت عيني مقدام المبجل ، وبما يضمن أن يبقى المعنى مصوناً ن غافياً في عرشه ، مزيناً بأبواق ٍ تصدح ، بمدائح البطل الأفضل والأكرم والأشد حكمةً بين البشر أجمعين .

سجان مقدام قطع رأس صديقي ، إنسان مختلف آخر ، عينان وجدت نورهما الضال في بلادٍ ما ، بين سطورٍ متمردة أخرى ، صديقي الذي كنت أختلف معه ، في الكثير من الأمور ، ، في لقاءاتنا الشتوية السرية ،مخبأ ((تمام )) الضيق المساحة ، الواسع الفضاء ، حيث كنا نتجادل ونثرثر ونقرأ ونغني ، وفي دواخلنا كنا على أشد المعرفة بمصائرنا القادمة ، لأنه كتب على من يرى النور لمرة واحدة أن يسير باتجاهه قلقاً متخبطاً ، إلا أن يصل إليه ويحترق .

اللاذقية /2015

عند وصول نجيب وجرجس إلى مبنى المسرح القومي، شاهدا عزام الذي سبقهما إليه وهو يصور مجموعةً من الممثلات الثانويات اللواتي تبرجن كالملكات وارتدين ملابس توحي بثراء فاحش، بالرغم من أنك لو بحثت في جيوبهن لن تجد قرشاً واحداً .

قال جرجس لنجيب: (يعتقدن بأنهن قادمات إلى مهرجان كان ).

لم يضحك نجيب على هذا، لأنه كان منشغلاً بتأمل فتاة محجبة وهي تمر بجانب الممثلات وترمقهن بنظرة استعلاء وكأنها تقول : (كم هن ضالات ومثيرات للشفقة ).

لاحظ أيضاً إحدى الممثلات وهي ترمق الفتاة المحجبة بنظرة شفقة .ثم سرعان مااختفت الفتاة بين الزحام، وشعر نجيب بالدهشة عندما جلست بجانبه في مدرج المسرح، عندما بدأت العروض .

تأخرت العروض ربع ساعة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي وتجاوزه المدة المحددة من قطع الكهرباء للتقنين، وخلال هذه المدة ازدحم المكان بالوافدين ولم تتسع المقاعد لهم، فاختاروا مشاهدة العروض واقفين .

وزع المتطوعون لخدمة المهرجان بطاقات المواعيد، وقرأ جرجس اسم فيلمه من بين الأفلام المقرر عرضها في أمسية اليوم، فابتسم لعدم حذفه من قائمة الأفلام هذا العام أيضاً .

بدأت العروض بفيلم قصير يدعى (الفتنة)، وهويصوررجل دين ملتح، في لقاء تلفزيوني، تحاوره مذيعةٌ محجبة ترتدي تنورةً قصيرة عن موضوع الفتنة واجتنابها، وكان الشيخ طوال الفيلم يسترق النظر إلى سيقان المذيعة .

في البداية أعجب الجمهور بالفكرة وامتلأ المكان بصدى لقهقهاتهم، حتى أن نجيب لاحظ الفتاة المحجبة وهي تضحك .

كان هناك طفلٌ يجلس في المقعد المجاور للفتاة، يبكي بطريقة مزعجة، ولم تكن ردة فعل الفتاة سلبية بل كانت تداعبه محاولة تهدئته .

لكنها غيرت معاملتها عندما عرض الفيلم الثاني (ظلام) الذي يصورفتاة ريفية محجبة في أول حادثة طمث لها، وبسبب جهلها لهذه الحادثة راحت فتاة الفيلم تصلي لربها بأن يغفر لها ظناً منها أنها اقترفت ذنباً بعد أن حبست نفسها في الحمام .

هنا، بدأت ملامح الغضب على وجه الفتاة المحجبة تبدو واضحة، وفشلت في محاولة إخفاء ما تشعر به، وعندما أطلق الطفل بجانبها صرخةً مدوية، انهالت عليه بصفعة لئيمة وفرغت كل غضبها، ثم انتفضت عن مقعدها وهمت بالخروج من المسرح وهي تهرول .

راقبها نجيب بتمعن، واضطر إلى مقاطعة تأملاته عندما نكزه جرجس مشيراً أن فيلمه سيبدأ وعليهما الاستعداد لذلك، لكنهما أصيبا بالخيبة عندما عرض الفيلم الذي يلي فيلم جرجس في القائمة، فيلم (عودة الطيور )، وهو فيلم صامت يصور طيوراً عائدةً إلى مدينة حلب المدمرة حيث الألوان قاتمة والظلام حالك، والذي يزول بقدوم تلك الطيور التي تجلب النور معها .

تغير مزاج جرجس هنا، وبدأت تجاعيد جبينه تظهر نتيجة للعبوس، وساد الصمت بينه وبين نجيب .

تساءل نجيب في سره عن سبب عدم عرض الفيلم، فهو يحكي قصة شاب أصيب في الحرب وفارق الحياة نتيجة نقص في الدواء، وليس فيه ما هو غير محبذ كما في أفلام جرجس السابقة .

انتهى عرض الأفلام مع انتهاء فيلم (عودة الطيور)، ليتصدر الخشبة مجموعة المخرجين والنقاد القادمين من العاصمة، وأخذوا يدلون بآرائهم حول الأفلام المعروضة وأشاروا إلى جرأة الطرح في الفيلم الأخير وترشيحه للفوز، لأن فريق العمل قد واجه صعوبات في تصوير مناطق خطرة من مدينة حلب، و إلى إعجابهم بشخصية الفتاة في فيلم (ظلام) التي تعبر عن التخلف في القرى !

وقرروا منح من قام بدور الشيخ جائزة أفضل ممثل في أفلام اليوم الأول من المهرجان .

وعندما طلب أحد الحاضرين مناقشة أمر يتعلق بما عكسه الفيلم الثاني (ظلام) من صورة قاتمة عن الفتاة القروية وأن الفيلم لم يقدم سوى السخرية لا أكثر، دون أي نقد بناء، كان جوابهم هو أن تلك الأفلام جيدة ولا بأس بها لجمهور ثانوي في إحدى المحافظات الثانوية وليس في العاصمة !

كان من بين النقاد مدير المهرجان الذي شاهده نجيب وهو يحدق بوقاحة بجرجس مبتسماً ابتسامة منتصر .

انسحب جرجس حينها من المسرح بطريقة تشبه انسحاب الفتاة المحجبة، لحق به نجيب، وعندما وصل إليه خارج المسرح، شاهده يدخن بالقرب من عمود مشيد على يمين باب المسرح الضخم، وبالقرب من العمود الأيسر المناظر له شاهد الفتاة المحجبة وحالة الغضب لم تزل عنها .

قرر نجيب أن يقترب من الفتاة ويسألها عن سبب غضبها وصفعها للطفل المسكين، وعند سؤاله لها ردت : (( لأن جميع هؤلاء سذج، يشوهون دوماً صورة الفتاة المحجبة، ألن يفهموا أن الفتاة المحجبة بإمكانها أن تكون علمانية في الوقت ذاته، ثم ماهذا النقد الذي غرضه الوحيد هو الإساءة فقط)).

توقفت في هذه الأثناء سيارة جيب سوداء كبيرة ونزل منها شابٌ ذو شارب يشبه شوارب السلاطين العثمانيين، واقترب من الفتاة وسألها إذا كان هناك من يزعجها، فهزت رأسها بالنفي، وصعدت معه إلى السيارة .

عاد نجيب حينها إلى صديقه جرجس الذي لاذ بالصمت وبقي مكتئباً طوال الطريق إلى المكان الذي تركن فيه الحافلات التي يتوجب عليهم أن يستقلوا إحداها للوصول إلى منازلهم .

ولم يجرؤ نجيب على فتح موضوع الفيلم لجرجس طوال الطريق، وقرر أن يتحدث إليه عن العمل الجديد الذي ينتظره، وسأله عن رأيه فيما إذا كانت فكرة جيدة جعل مقالته الأولى في تلك الجريدة الالكترونية حول مهرجان شبابيات وعن الإشادة بالأفلام التي لاقيمة لها .

ومع ذلك لم ينطق جرجس ببنت شفة، إلا عند وصولهما إلى مكان تجمع الحافلات المزدحم بالبشر، فقد تشاجر مع أحد السائقين الذي رفض أن يقل أحداً بحجة أنه سيغير طريقه لتعبئة الوقود .

فقد كان سائقو الحافلات العمومية دائمو التذمر من غلاء الوقود، وكانوا يطالبون الركاب دوماً بنقود إضافية وسيضطر الراكب لأن يدفع ما يرغبون به لأنه لن يجد ما يقله بسبب الزحام والعدد القليل للحافلات .

وعندما حالف الحظ نجيب وجرجس بالجلوس بشكل عكسي في إحدى الحافلات عاد جرجس إلى صمته، أما نجيب أخذ يتأمل الشوارع من زجاج السيارة وخيل إليه أنه رأى مصطفى يمر بجانب الحافلة حاملاً حقيبةً على ظهره .

فكر نجيب فيما إذا كان مصطفى قرر أن يرحل عن مسكنهما، وأنه بدأ يعتبره كافراً بعد أن كانا صديقين حميمين .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الثالث

أنا صهيب العظيم

من يجرؤ على قض مضجعي ؟ .. ومن غيره ذاك الأعجمي الجبان .. كم أنا نادم لعدم قتله عندما وقع أسيراً بين يدي هاتين ،لو كنت أعلم أنني أمنح الحياة لأخرق سيغدو سجاني في يومٍ من الأيام لسحقته ولينقص عدد المسلمين واحداً .

خيرٌ انشاء الله ! سجينٌ آخر يضاف إلى الخمسة ، الحبس لايسع لستة سجناء خصوصاً وأن صهيب العظيم الذي هو أنا لم يوافق بعد على هذا ! يكفيني ذاك المخنث الذي يداعب شعره المصفف اللامع كشعر الحريم ،وذاك الرسام الكافر الذي جلب لبلادنا بدع الافرنج الكفار ،آه وماذا عن هذا الأخرق ذو الألسن المتعددة الذي ينقل الشعر واللغو عن شعراء الافرنج الكفار ، ويبيع الكتب دون موافقة مجلس العلماء الشريف وختمه ، كلهم في كفة ميزان ، وذاك الخائن في كفة ، كيف يجرؤ على التجسس على جيشنا الإسلامي العظيم لصالح القسم الجنوبي من البلاد ،لصالح (مقدام) الكافر العاصي .

لو أنصتوا فقط لصهيب العظيم لما نجح مقدام وأتباعه في بناء دولتهم تلك ، كنت دوماً أملك الفراسة فيما سيحدث في المعارك ، ، والفضل عاد لي في جميع انتصارات جيشنا الإسلامي العظيم ، كان الحاكم حينها يصدقني ولم يكن أحدٌ ليجرؤ على وصفي بالمنجم والمجدف ، أنا صهيب البطل أنتهي هكذا ، ذو الحنكة والدهاء ، الفاتح والغازي والغانم ، أزج في حبسٍ ضيقٍ مع حثالة المسلمين ن والأسوأ من هذا كله ، أنني أرى في عيونهم الحياة من جديد ، أراهم خارج هذا الحبس ،كلٌ على دربٍ مختلف ، نعم ، نعم ، الكل هنا سينال صفح الحاكم ، عداي أنا ! لأنني لن أعود في كلامي ، هذه البصيرة لا تخطأ أبداً ، الحاكم سوف يسقط قريباً ، أحمد الله أنني لم أمت في غزواتي السابقة ‘ في شبابي كنت أحلم بهذا ، وأطلب الشهادة من الله عز وجل في سبيل نصرة ديننا وحاكمنا المبجل .

لكنني أحمد الله أنني لم أمت من أجل هذا الحاكم الذي يتهمني بالجنون ،لربما كنت مجنوناً كما يدعون ،لكنكم ستصدقونني حتماً إذا أخبرتكم بأن هذه البلاد في الأصل ،يعشش فيها الجنون ،الجنون يلوث هواءها ،يتنشقه الجميع ،المصلون العائدون من المساجد عند الفجر ، يأخذون جرعتهم اليومية من الجنون ،من الظلام ‘من القهر ‘من الوهم ‘من الخدر ..

كان علينا صعود ذلك الجبل وتطويقه لحصار المتمردين ،مقدام وأتباعه الذين ثاروا ضد حاكم المسلمين والدولة الإسلامية العظيمة ،يريدون هدم الإسلام والإتيان بنظام حكم ومصادر تشريعية وقوانين غريبةلا تشبهنا وتحط من قيمة ديننا ومكانتنا وقوتنا ،عندما أعمى الله قلوبنا _ولابد أنه كان ذاك فيه خيرٌ للمسلمين _ووقعنا في كمين وتأخرنا في الإقرار بوجوب الفر ،تلقيت طعنة سيف في كتفي غدراً ،كان أعجمياً من المرتزقة التي استعان بها (مقدام) في ثورته ،باغتني ونشل مني سلاحي ،جمعت قوتي ،قوة مقاتلٍ مسلمٍ عظيمة وأحكمت قبضتي على رقبته إلى أن قبض عزرائيل روحه .

سرت وأنا جريح حذراً بين الصخور ،وجرحي ينزف دماً،والدم يغسل روحي من خدرها وجبروتها .. إلى أن غبت عن هذا العالم ولم أعي ما حصل معي إلا بعد أن استيقظت فوق سريرٍ أبيض أمام ابتسامة حرمةٍ سافرة ،ترتدي ثياباً غير شرعية وقد جمعت شعرها الناري الافرنجي إلى الوراء كاشفةً عن رقبة ناصعة البياض أشد بياضاً من أرداف حريمي (صديقة ) و(عادلة ) ،اعتنت تلك الافرنجية بجرحي إلى أن التئم وقضيت أياماً لا تنسى من حياتي في ذاك القصر ،قصر والدها الافرنجي النبيل ،وعندما عدت إلى بلادنا لاحظ الجميع بأنني أصبحت شخصاً آخر ،منذ ذلك الوقت وهم يدعونني بالمجنون ،كم هم حمقى؟ لايعلمون بأن ما شهدته في ذلك القصر هو ما شفا روحي من جنونها الحقيقي،هو ماجعل الإنسان الذي في داخلي يطفو إلى السطح ..

اللاذقية /2015

لحظة دخول نجيب منزله الواقع في حي المشروع السابع، نادى على مصطفى لكي ينفي شكوكه، لكن ما من أحد أجابه.

بحث عنه في الغرف، الحمام والمطبخ الصغير جداً والذي يعم بالفوضى، وشاهد شفرة حلاقة فوق المغسلة مع بقايا شعرٍ قصير، خمن بأنه شعر شارب أو لحية .

وعندما لم يجده على الشرفة المطلة على دوار الزراعة المكتظ بالناس، أقر نجيب لنفسه أن مصطفى قد رحل بالفعل، وأن مارآه لم يكن وهماً بل حقيقة.

لقد غادر مصطفى المنزل الذي تعبا كثيراً حتى وجدوه بما يتناسب مع دخلهم البسيط، فقد استغل ملاك البيوت نزوح البشر من مدنهم لطرح أسعار خيالية مقابل تأجيرها .

فسكان هذا الحي كانوا متواضعين في الأصل، مؤمنين دون تدين، وبالرغم من ذلك كان الله هنا قاسياً للغاية، إله قوي وباستطاعته أن يغضب على الأشرار ويهلكهم، وقد تمثل هذا الإيمان بذاك الإله الجبار في محاولة تشبههم به وبقوته، حيث تحتم على جميع الشبان أن يمتلكوا أجساماً قوية، وأن يكونوا أصدقاء حميمين للسلاح، وكأن إلههم يفرض عليهم تحويل شوارعهم إلى ثكنات عسكرية .

أما الضغفاء الذين لم يمنحهم الله القوة، فلاذوا بالواقعية منهجاً لحياتهم، فصارت كل الأمور مخيفة بالنسبة لهم، وغير مضمونة، إلا الأشياء الملموسة، لذا ستجدهم كلهم يرتادون الجامعات ويسعون نحو وظيفة حكومية مضمونة، كان الخوف هو عقيدة هؤلاء، وكان نجيب يرى تلك العقيدة مخيفة أحياناً، فذاك الخوف جعل من بعضهم يتحول إلى شخصية حذرة مستعدة للردع دوماً واستخدام العنف حتى أمام مشكلة بسيطة، فقد كانت القوة أساس كل شيء، من الإله إلى الملابس حتى!

كان نجيب يرى أن أسلوب الحياة هذا خلق أناساً قلقين دوماً، مضطربين وغير سعيدين، وأنها لن تخلف لهم سوى المزيد من التعاسة، فكل الاشياء هكذا ستتحول إلى لحظية وعابرة ولا قيمة لها .

وكانت عقيدة القوة والخوف تلك، قد جعلت من النساء يخشوشن ويلهثن خلف تقليد الرجال في الأزياء العسكرية وتطوعت بعض منهن في فرق التفتيش على أبواب المؤسسات الحكومية .وجعلت تلك العقيدة من المال شيئاً مقدساً لصعوبة الوصول إليه ولإمكانه تحقيق كل الأمور المجردة التي طغت على تلك الطريقة في الحياة .

فأصبح المال هدفاً لاوسيلة، وصارت الناس تحسد بعضها بعضاً، واقتصرت الأحاديث عليه فأصبح الفقر أو حتى يسر الحال مسوغاً لمخالفة القانون والوصول إلى المال الذي يحقق لهم السعادة القصوى بطرقٍ غير مشروعة .

وتسلل الإيمان بذلك الإله الجبار الغاضب دوماً، إلى الأشياء اليومية، إلى الأحذية الصلبة، والعروق التي ترتعش في رقاب الشبان، وشرار النار الذي يقدح من أعينهم .تماماً كالشرار الذي أطلقته عينا مصطفى قبل رحيله .

شعر نجيب فجأةً بالخوف عند تذكر ذاك الشرار، وساورته الشكوك حول احتمال ترك مصطفى لمتفجرات في البيت، فراح يفتش المنزل شبراً شبراً لكنه لم يعثر على شيء، ورغم ذلك رافقته تلك المخاوف طوال تلك الليلة، فقرر ان يستحم عله يخفف التوتر عنه، وعندما خرج من الحمام، كانت اطرافه ترتجف ولم يعلم فيما إذا كان السبب هو استحمامه بماء بارد نتيجة انقطاع الماء الساخن لانقطاع الكهرباء المستمر، أم بسبب مصطفى .

وفكر وهو يخطو بتثاقل نحو السرير، كم أن انقطاع الكهرباء والبرد ومصطفى أشياءٌ متشابهة.

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الرابع

أنا كتوب

دخلنا المدينة أنا وأمي بعد آذان العصر من يومٍ سديمي مغبر ،كانت أسراب الحمام تحوم بقلق وانزعاج حول قبة المسجد الكبير البراقة ،تماماً مثلنا ،أنا وأمي ،طيران ضعيفان يتخبطان خوفاً من المجهول ،لا قبة يحومان حولها وهما مطمئنان أنها لن تخذلهما وتقع .. لم تكن المدينة كما تخلينا ،لم ينعم الجميع فيها بحياةٍ رغيدةٍ ومال وفير ،كانت تلك هي الصورة التي رسمتها عنها ،أن المدينة هي تلك المحارة الكبيرة التي كلُ مافي داخلها يتلألأ ،الحيوات ،الدروب ،العباد ألوان تتمازج وتتراقص ،كأصابع تخط بشغف ،لم يخطر لي البتة أن أسمع تأوهات كتلك التي ملأت أذني في الريف بعد أن عرت العواصف البيوت والأطفال وشردتهم ، كنت آملاً بأن تكون تلك المدينة ملاذاً لنا ،حيث يعيش الجميع في رغدٍ مرزوقين آمنين .

ولجنا المدينة من جهة الشرق ،عرفت ذلك من بوصلة والدي التي ورثتها عنه ونجت معنا من الفيضان ،كانت بوصلة؟ً فضيةً مرصعةً بلؤلؤتين زرقاوتين كبيرتين ،أهداها له صديقه (فارس ) بعد أن خطَّ والدي له كتاب الرحلات الذي ألفه بعد أن جاب البلدان في الشرق والغرب ورأت عيناه مارأت من غرائب البشر والحجر .

استشهد كليهما في الحرب ضد المتمردين في جنوب البلاد ،رحلا دون بوصلتهما وكتابهما ،دون أشياء يستدلون بها عن الوجهة الصحيحة ،لأن وجهتهما كانت مكتوبة ومقدرة ،كتبها الله عز وجل لهما .

لم تلمس أمي البوصلة بعد وفاة والدي ،ولكنها عندما وصلنا المدينة وقبل أن يسمح لنا الحراس بالدخول ضغطت على يدي بقوة مشيرةً لي إلى البوصلة ومعبرةً عن رغبتها في حملها ،وكأنها بالنسبة لها أداة لمعرفة الوجهة الصحيحة للمصير ، لا الوجهة .

وقفنا في الرتل بانضباط خلف مئات العباد ،تجمعنا رغبةٌ واحدة ،بالرغم من اختلاف قصصنا ،كنا جميعاً غرقى يتعلقون بقشة

كان الحراس متشابهين في كل شيء ،الطول نفسه ،الثياب السوداء المقلمة على ظهورهم بنقوش عبارات (الله أكبر ) وسيوفهم المشهورة والمتوازية المثبتة بقبضاتهم المصطفة إلى جانب بعضها البعض كالبنيان المرصوص .. فهم الحماة الاقوياء ،رجال الإسلام ولنصرة الإسلام .

عندما جاء دورنا ،أنزلنا متاعنا من على ظهر حمارتنا البيضاء التي أنهكها التعب ،وبدت وكأنها ستفارق الحياة للتو ،خمنت ذلك لكنها كانت قويةً أكثر مما توقعت وبدت وكأنها ستفارق الحياة للتو ،خمنت ذلك لكنها كانت قويةً أكثر مما توقعت وماتت بعد ذلك بنحو ساعتين ،أي بعد آذان المغرب بقليل .

-(( هل لديك ذوي قربى في القسم الجنوبي في البلاد ؟)) سألت أحد الحراس ..

-((لا نحن من الريف الشرقي ))

-((حسناً ، هيا اقرآ الفاتحة وانطقا بالشهادتين وادخلا ))

– ((أنا سأتلوها لكن أمي لاتستطيع ،هي بكماء ))

-(( حسناً ،اتلوها أنت ،فهي منقبة إذاً هي مسلمة !))

رفعت كفيّ نحو السماء وتلوت سورة الفاتحة بتجويد تام وبصوت جهور ،ثم رفعت السبابة ونطقت بالشهادتين .

عبرنا جسراً طوله بضعة أمتار ،حافظت أمي على وضعيتها فيما يخص البوصلة ،ضغطت عليها بشدة وكأنها تمنحها القوة لعبور ذاك الجسر .

فكرت فيما إذا كانت الحريم الأخريات قد جعلن من الاشياء القديمة الغالية على قلوبهن مصدراً للقوة كأمي ،أتخيل حرمةً تضغط بيديها على ريشة كتابة ،وأخرى على مصحفٍ صغيرٍ في علبةٍ خشبية صغيرةٍ ،وثالثة على منقشٍ خشبي لنقش المعجنات .

وفيما منت سارحاً في خيالي ،كان العم (نور الدين) صديق والدي رحمه الله ينتظر عند نهاية الجسر ،بجانب عربته الفاخرة التي يجرها حصانين أشهبين ،بطلته البهية ،طلة رجلٍ منعم بالمال والجاه ،مرتدياً بذةً تركيةً فخمة ،صفراء ومزركشة بالأحمر ومنتعلاً حذاءً من الجلد البني اللامع . اقترب منا فاتحاً ذراعيه مردداً بصوتٍ جهوري : (فليرحم الله والدك عبد الغفور ،مامات من ولد )

ركبنا العربة في المقعد الأمامي المخصص للرجال ،وأرسلت والدي إلى المقعد الخلفي حيث تنتظرها حرمتيه ،وخلال رحلتنا لم يترك العم (نور الدين ) يدي ،كان يضغط عليها بقوة ويتلو آيات من سورة الاعلى (( وأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ،واما بنعمة ربك فحدث ).

اللاذقية / 2015

استيقظ نجيب على أصوات طقطقة أخشاب، وصراخ عمال يتكلمون باللهجة الحلبية، وهم يحملون قطع الخشب الطويلة إلى الطابق الأعلى في البناء المجاور .كان العمال النازحون من حلب الخيار الأوفر لمن يرغب في البناء، لرخص يدهم .

وعندما صعب على نجيب أن يجزم فيما إذا كان هو من نسي النافذة مفتوحة، أو أن مصطفى قد عاد ليلاً وقام بفتحها، راح يتخبط في سريره محاولاً محو صورة مصطفى من خياله.

قرر أن يفكر بعمله الجديد، وعن الموضوع الذي سيجعله موضوع مقالته الأولى، لكن هذا لم يساعده على الهدوء .

أمسك بمحموله وقرأ رسالةً نصيةً أرسلتها صابرين، وكان محتواها :(( فيما تغط هذه الأيام ؟ لا حس ولا خبر )).

كانت صابرين واحدة من أولئك الناس الذين لطالما تمنى أن يختفوا من حياته، كانت سطحية ً وفارغة، وتنتمي لإحدى العائلات المتواضعة في الأصل، لكن المتحولة إلى الثراء الفاحش إبان الحرب .

ولاحظ نجيب دوماً محاولة تشببها بالأثرياء المبتذلين والذين كانت تنقدهم من قبل، ولم يكن ذاك النقد سوى تعبير عن عجزها في أن تصبح مثلهن .

وبعد أن سنحت الحرب لوالدها أن يملأ جيوبه بالذهب، راحت تصرف أموالاً باهظة على مساحيق التجميل، والثياب الخالية من الذوق وتتقصد فتح محفظتها وإظهارها للعلن ليبرز ما في داخلها من رزم نقود.

وإن أنصت جيداً إلى حديثها، ستجده زاخراً بعبارات من قبيل (الأثقل )، (باهظ الثمن)، (الأفخم )، وستلتمس كرهها للفن التشكيلي واعتبارها إياه فناً غبياً .

وفي آخر موعد لنجيب معها اعترفت له أن جهازها الخليوي حصلت عليه بطرق غير مشروعة، وأنه بضاعةٌ مسروقة .

كانت تعلم أن والدها فاسد، وتعلم أن نجيب يعلم بذلك أيضاً، ولكي تثبت له أن العدالة الاجتماعية والمساواة أمور تهمها، استوقفت أحد الأطفال ممن يتسولون في الطرقات ودردشت معه حول وضعه الاجتماعي وزجت في جيبه قطعة نقود من فئة الألف ليرة، ورغم ذلك كان تصنعها واضحاً، ولم يصدق نجيب تلك التمثيلية .

لهذا لم يكن لدى نجيب أي رغبة بمقابلتها، وخصوصاً في تلك الظروف التي يعيشها الآن .

شعر نجيب أنه لو وافق على لقاءهما، سيشبه في ذلك كل ساذج يهلل في هذه المدينة، سيغدو مثل عزام الذي ماإن فتح نجيب جهاز اللاب توب الخاص به واتصل بموقع الجريدة التي يعمل بها ليقرأ مقالة عزام عن فعاليات مهرجان شبابيات حتى أصابته الدهشة لذاك المقال المبتذل، الذي يشيد فيه عزام بالفيلم الرابح ويتكلم فيه عن انزعاج بعض الجماهير_ الذين سماهم بالمتخلفين والرجعيين _من العروض السينمائية التي تعكس تخلف البعض في القرى وتشدد الأصوليين .

ولاحظ التعليقات على المقال الزاخرة بالشتائم والقدح والذم .

وفي تلك الأثناء اتصل به جرجس ليخبره أن عزام في المشفى نتيجة تعرضه لضرب مبرح وهو في طريقه إلى عمله صباح اليوم، وأنه غائب عن الوعي حتى الآن .

وعندما سأل نجيب جرجس عن خطورة وضعه، أجابه جرجس مازحاً: ((طمئننا الطبيب عن حالته الجسدية لكن حالته العقلية أشك في كونها سليمة، لأنه يهلوس بعبارات غير مفهومة، ( شوارب تركية، شوارب عثمانية حطمت نظاراتي، نعم العثمانيون الأصوليون )) ثم أطلق جرجس ضحكةً هستيرية .

فكر نجيب باحتمال أن يكون المعتدي هو الشاب الذي رافقته الفتاة المحجبة الغاضبة التي رآها في المسرح اللبارحة .

وبينما أصبحت قصة الشوارب التركية تلك شاغله، أخذ به تفكيره نحو مصطفى وقال في سره : (( غير ممكن، يبدو أن مصطفى حلق شاربيه قبل أن يغادر))!

وراح يبتسم وهو ينظر إلى نفسه في المرآة .

قاطعه صوت الجرس، كان خاله المقيت خلف الباب، جاء ليطمئن عنه ويمنحه مبلغاً من المال، لم يفتح له بعد أن رآه عبر الثقب، كان يرغب في حياة صادقة، ولم يكن يريد هذا الرجل في حياته، ولاثرثرته عن التحزب والبطولات، ونظرياته الحياتية المليئة بالمغالاة .وما أدهش نجيب دوماً هو كيف اجتمعت كل الثقافات الشعاراتية في هذا الرجل نفسه، روح التعصب القبلي التي تجعله يعطي اهتماماً جماً للأقارب والعائلة، وتمسكه بالطائفة والحزب، ورغم ذلك كان يحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة تحدث في البلاد، كما لو أنه ذرة غبار لها القدرة على أن تتواجد في أي مكان، لتعمي أو تلوث .

لا يريد نجيب منه شيئاً، لا أرطال اللحم التي يحملها بين يديه، ولا النقود الجديدة البراقة التي تخلو من أي خدش، والتي تفيض بها جيوبه .

وإن كان نجيب يرمي باللحم في القمامة كل مرة، ويحتفظ بالمال لحاجته له .فاليوم لن يقبل منه أي فلس، فقد وجد عملاً وسيعيد هذا العمل له كرامته، وينظفه من الرياء .

لاحظ نجيب عبر ثقب الباب كم أن هذا النوع من الأشخاص لا يتغير، حتى من ناحية المظهر، تلك الكتلة المعتدة بنفسها، الحليقة، الأنيقة المتشبهة بالتجار الأثرياء، والتي تزين أصابعها بمسبحة فخمة، كانت تبدو كذهب يلمع، لدرجة أن ذاك اللمعان قد يزعج النظر .

وعندما استسلمت الكتلة اللامعة وغادرت، راقبها نجيب من الخلف ليستمتع بانكسارها !

وراح يخمن كم من النور سينطلق إذا تفتتت تلك الكتلة .

لكن ما النفع في ذلك، فما حدث قد حدث، العدالة لن تجلب لوالده رئتين سليمتين، ولن تعيد له مصطفى القديم، ولن تعيد عزام إلى صحافته النخبوية، والأهم من ذلك هذا الخوف الذي يجلبه إنقطاع الكهرباء والبرد ومصطفى لن يزول بسهولة من بين الأضلع .

وتساءل نجيب :هل يمكن الكتابة عن ذلك ؟ .بالطبع لا .فعزام ضرب رغم تهليله، ولم تعد تدرك ممن ستأتيك الضربة .الشوارب العثمانية قادرة على الضرب، والحليقون أيضاً قادرون، حتى الذهب اللامع، المحجبة والسافرة، الزوجات الكئيبات والزوجات التي تخلعن .

فقد كان الخوف يسري حتى في الورق، في الروايات وفي قبعات اليساريين، في كف قادر على صفع طفل، في قطعة نقود جديدة لامعة، في بقايا شعر يخص شارب، في عقل علماني، وفي وثيقة ضلت طريقها إلى الأشايس، وفي نافذة مغلقة بإحكام على إمرأة تقطن بيتاً في شارع محافظ، وحتى في اعتناق سريع لعقيدة .

محاولة روائية خائفة لنجيب

الزمان والمكان :مجهولين

الفصل الخامس

أنا يسر وينادونني بالمخنث

عندما جاء ذاك الأعجمي بسجينٍ سادس إلى الزنزانة ، أدمعت عيناي من شدة الغبطة ، فهذا يعني أنني لن أجلس بعد الآن منزوياً يأكلني الضجر في زوايا الحبس ، أستمع إلى شتائم صهيب المجنون ن سيكون لدي صديقٌ بعد الآن ، نتحاور ونشكي حالنا لبعض ، لكن ربما سيتجنبني كالجميع ، ويشعر بالغثيان عندما أجلس بجانبه ، ثم يشتمني وينعتني بالمخنث .

كان الجرح في رأسه عميقاً ، وينزف بشدة ، أخرجت منديلي المطرز من جيب سترتي وسارعت إليه ، لربط الجرح وإيقاف النزف ..

_ (( ها ، هل هو من النوع المفضل لديك ؟ لايمكنه مضاجعتك هنا !ها ها ها )). صرخ صهيب المجنون ثم ضحك ضحكةً بلهاء .

كان السجين الجديد فاقداً للوعي ، لم يسمع شيئاً مما قاله صهيب ، حمدت الله على ذلك .لا أريد أن ينبذني كالبقية ، هنا في الزنزانة وخارجها ، أبي ، أمي ، فتيان حينا المكتظ بقساة القلوب ، الشيخ زكاء ، المصلون في الجامع الكبير أثناء صلاة الجمعة ، صديقات والدتي البدينات بقهقهاتهن المزعجة . الجميع نبذوني دوماً ، تقول والدتي (( لأن كل مافيك ليس طبيعياً كبقية بني آدم ، حتى ولادتك كانت غريبة ومثيرة للريب ، لم يصدق أحدٌ أن أضع أنا سكينة الممتلئة ،بنت العز والجاه ، ولداً هزيلاً يبكي بصوتٍ يشبه نحيب الأرامل ، والآن منذ أن بلغت سن الرشد ،لم يتغير صوتك بل أصبح أسوأ ،صار كصوت الفاجرات )).

لم تدرك أمي قسوة تلك الجمل التي تنطق بها ، لكنني لم أكن لأكترث بمثل هذه الأقاويل ، لأنني اعتدت على مايشابه ذلك في كل مكانٍ أقصده ، كان والدي يجلدني بالسوط إلى حد الإدماء ، لكي أغدو رجلاً قوياً ، ويغادر البيت بعدها ولا يعود البتة إلا بعد أن أنهي بكائي تماماً ، يجلس بقربي ويتمتم : (( لا أريدك أن تكون كالحريم يابني ، لا أريدك ان تكون منبوذاً بين المسلمين ، فكل من يتشبه بالنساء ملعون في الإسلام ، أريدك أن تكون رجلاً كوالدك )).

وفي صبيحة أحد الأيام أيقظني باكراً واصطحبني إلى حانوت العطار زهير لكي أساعده وأتعلم مهنة العطارة منه ، ((إنه فتىً ضعيف ، لذا من الأفضل أن يتعلم مهنةً على قياسه ، نظيفةٌ وغير متعبة )) قال والدي للعطار زهير وهو يمسك بيدي ويشد عليها .

عند العطار (( زهير )) شهدت نوعاً آخر من الإذلال ‘إذلالاً أشد لباقة ، كان يحضر خلطاتٍ جديدة لعطور نسائية ، ويطلب مني أن أدلي رأيي فيها ، ثم يردد ضاحكاً : أنت الأدرى بما تحبه الحريم ، بما أنك الأقرب إليهن وتشبههن ))

عندما توفي العطار (( زهير )) لاحقاً عاد ولده ستار من أسفاره ليرث العطارة عن أبيه ، طردني فوراً منها ، وقال بأنني سأسيء لسمعتهم ، (( أتريد أن تقول العباد علينا أننا نعشق الغلمان ؟!)).

ذهبت يومها إلى الشيخ زكاء وقد أنهكني البكاء ، قال بأنه يجب أن أتصرف كالرجال وأنه من الأفضل أن ألازم البيت حتى ينبت شعر لحيتي ، وأنتظر بلوغي الذي تأخر أربعة أعوام ، وأوصاني بقراءة القرآن الكريم والصلاة وطلب المغفرة من الله ، عله ينعم علي كبقية الشباب المسلمين بالقوة الجسدية والرجولة الكاملة ، (( من المستحسن ألا تزور المسجد عندما يكون مكتظاً بالمصلين ، فلا مكان لك بينهم )) قالها كجملة وداع .

سرت وحيداً بين سراديب المدينة الموحشة ، بحثت في جيبي فوجدت مالاً ، تذكرت بأنني ادخرته لشراء بذة العيد وجلبته معي اليوم لذلك ، فقررت أن أستخدمه لقضاء الليلة في خان من خانات المدينة ، لم أجرؤ على العودة إلى المنزل ، والدي سيجلدني وأمي ستهزأ بي وتندب حظها وتستلقي صامتة على فراشها ثم تدير ظهرها لي ، صديقاتها سيجلبن بناتهن للعب معي ، وربما يعلمنني التطريز ، ويدلكان شعري المسترسل بالزيوت والعطور مثلهن .

لذا قصدت أقرب خان مني ، لم يكن خاناً واسعاً ، فيه فسحةٌ واسعةٌ فارغة تخلو من البشر سوى رجلٍ عجوز منهك ، كان قد غفا على كرسيٍ من الخيزران الدمشقي .

اقتربت منه بخطواتٍ متعبة ، وربتت على كتفه لإيقاظه . وأنا أتمتم : السلام عليكم ، أيها العم )).

عندها فتح عينيه بصعوبة وأخذ يدلكهما بقوة .

(( ماالذي تفعله في هذه الساعة المتأخرة أيها الفتى ؟ هل تبحث عن عمل ؟)).

فتح لي هذا السؤال طريقاً جديداً لحياتي ، فضاءً آخر لبداية أخرى ، حسناً هذا ربما ماظننته في البداية .

اللاذقية /2015

كان على نجيب أن يسير مسافةً لابأس بها للوصول إلى الجامعة، عبر النفق المؤدي إلى كليته، مجتازاً حاجز الشبان المفتشين دون أي تفتيش، حيث حدق فيه أحد الشبان، وبدت له هيئته غير مثيرة للرعب .

اجتاز النفق بعد أن حبس أنفاسه لتجنب رائحة البول المعتق المنطلقة من دورات المياه، واصطدم بسبب عجالته بفتاة منقبة التي انسحبت بسرعة دون أن تترك له الوقت للاعتذار .

وعند وصوله إلى الكلية، عبر الممر المؤدي إلى القاعة المخصصة لصفه الدراسي، أدار مقبض بابها الذي كاد أن ينفصل عنه، ولم يطرقه أو يستأذن للدخول، في الماضي كان يقوم بهذا، لكنه صدم عندما علم أن تلك الأمور التي تلقن في الصغر تعتبر مضحكةً هنا .

وكما هو معتاد، شاهد القاعة الكئيبة ذاتها، بستائرها الحشيشية اللون، والرسومات والعبارات التي تعبر عن آراء الطلبة بالمدرسين تملأ قطع السيراميك الملبسة للحائط مثل أحجار دورة مياه، والتي كانت ناصعة البياض في زمن ما، والبخار المنطلق من أجهزة التدفئة المركزية البارزة في السقف والتي تتقشر زواياها باستمرار ويتناثر غبارها فوق الكلمات على صفحات كتب الطلبة، وتزين الأحرف بلمعان فضي غريب .

المروحة التي تدور بلاتوقف في إحدى الزوايا، و التي من المحال وضع حد لثورتها ضد البخار المنتشر نظراً للكلس المتجمع حول مفتاح التحكم بها .

كانت أجنحتها تصفق البخار العنيد بضراوة وإلحاح، وتقذف به نحو أنوف الطالبات الجالسات بحذر فوق الكراسي الرطبة ذات الأقدام المتخلعة، فيسعلن بحدة ويتأكدن من سلامة رموشهن من عاصفة الرطوبة تلك .

يوقف البخار قهقهة مرهف وأصدقائه الذين اعتادوا أن يجعلوا من حصة الأستاذة سهى فيلماً كوميدياً، لم تكن تعجبهم لاهي ولا بروشورها الفرنسي الذي على شكل وردة وقد خط تحتها عبارة بالفرنسية .

كانت متعجرفة بالنسبة لهم لا لشيء، فقط لأنها تشبه الغرب بأسلوبها ومظهرها،

ودأبوا على نعتها بغريبة الأطوار، لثقافتها الغريبة البعيدة عن الثقافة الإسلامية .

كان على العلم أن يبدوا مرتبطاً بالتراث، وإلا فلا يجب احنرامه بالنسبة لهم.

كان البخار والقهقهة وانعكاس اللون الحشيشي القبيح للستائر قد جعل من نجيب يغيب عما حوله، ويعود مجدداً للتفكير في مصطفى .

انطلقت بجانبه قهقهة لسبب آخر وامتزجت بالقهقهة الأخرى، كان مصدرها عبير وهي فتاة فائقة في الجمال تصبغ شعرها دوماً باللون الأسود الفاحم، وترسم عينيها بالكحل الأسود، حيث كانت تتهامس مع صديقتها حول أذني أحد الطلبة الكبيرين.

كانت عبير من صديقات نجيب المقربات يوماً ما، لكنه نفر منها بعد تحويلها لنقاش بينهما إلى حلبة مصارعة، لتقنعه بأن الله يعاقب الناس بهذه الحرب، لأنهم غير قنوعين بما ينعمه عليهم، وعندما سألها عن الأطفال الذين يموتون ويشردون، قالت له بكل ثقة أنهم كانوا في الجيل السابق سيئين، وعندما تقمصوا أراد الله أن يعاقبهم !

وكانت قبلها قد تشاجرت معه فيما يخص وجوب الشعور بالشفقة تجاه المعذبين والمشلولين، لأنهم حتماً غير أبرياء، أوحتى ذوي الأذنين الكبيرتين، أو ذوي الشعر الأحمر أو المخنثين، لأننا بذلك نعتدي على حكم الله، والله عادل !

توقفت القهقهات فجأة، لحظة دخول سيف عضو الهيئة الإدارية الطلبية، أحد أفراد الشلة الغريبة التي تشبه تلك التجمعات التي تملأ القرى ذات الطابع الواحد والمصالح المشتركة والولاء المطلق لكل فرد للآخر .

وعلى الرغم من مظهر سيف المدني، إلا أنه لم ينجح في إخفاء ذاك الحنين القبلي الذي يكتسحه، والقناعة التامة بتلك الأسطورة عن ذاك الشاب الخارق الذي يصلح لكل شيء .

لاحظه الجميع وهو يتشاجر بحدة مع الأستاذة سهى فيما يخص المنهاج الضخم، كان يردد :الله ما قالها ولا يرضاها .

((حتى عبارات الاحتجاج يجب أن تصاغ بلغة دينية ؟!)) تمتم نجيب في سره .

كان يتحاشى دوماً التعامل مع سيف أو أي أحد من الهيئة لأنه كان يجدهم ميليشيا دينية ولكن ضمن مؤسسة علمية .

نهض مرهف فجأة وراح يشارك سيف في معركته ضد تلك المتعجرفة التي تريد فرض طريقتها الافرنجية الغريبة في التعليم علينا كما كان يراها .

غضبت الأستاذة سهى وارتجفت أوصالها، وراح بروشورها يهتز يمنةً ويسرةً، فهي على مدى تلك السنوات التي علمت فيها أجيالاً عديدة، لم يسبق وأحد أملى عليها مايجب القيام به، حتى يقفز لها هذا الجيل الأصولي الوقح ليطيح بثقافتها النخبوية .

بالنسبة لنجيب كان الأمر شديد الغرابة، أن تجتمع امرأة مثقفة وناجحة وحرة على طريقة الغرب، مع طلبة شغوفين بالماضي مؤمنين بخزعبلات عن انتقامات إلهية هيستيرية، ومع قبضات باب على وشك السقوط، ومراوح ثائرة، وقهقهات يسكتها بخار منطلق من أجهزة تدفئة صدئة ، وأين؟ في كلية نخبوية تنتمي إلى الكليات الطبية .

وبما أن إغضابها كان الهدف من كل هذا، والوسيلة الوحيدة لجعلها ترضخ، فقد انسحب سيف ومرهف بعد وصولهما إلى الغاية المرتجاة .

شعر نجيب عندها كعادته بعدم الانتماء لكل هذا، وحنين إلى غرفته الصغيرة وجلساته مع جرجس وكيندال، وحتى إلى تلك النقاشات المتوترة التي كان يخوضها مع مصطفى . وتعزز هذا الشعور بعدم الانتماء عندما حان وقت محاضرة الدكتورة منال التي كانت تردد دوماً طوال الحصة عبارة ظن دوماً أنها تقصده بها، كانت تلك العبارة : (هناك أشخاص وجودهم في المحاضرة مثل قلتهم )!

كان أسلوبها تقليدياً لا يعجبه، بالرغم من محاولة إضحاك الطلاب بسردها لبضعة مواقف مما يحدث معها في المنزل مع زوجها وأطفالها المشاغبين جداً.

انتهى هذا الاغتراب المؤقت وانسحب نجيب دون أن يلاحظه أحد من القاعة وراح يفكر في جعل موضوع مقالته الأولى في الجريدة الالكترونية هو سيطرة الطابع الواحد على الحياة الجامعية، والضجر والخيبة التي ترافقها .ولكنه عندما عبر النفق الجامعي من جديد و شاهد صور مرشحي انتخابات مجلس الشعب وتوقف عند صورة المرشحة ذات غطاء الرأس الأبيض والرداء الأسود الطويل والحاجبين الكثيفين، اتخذ قراراً سريعاً بجعلها موضوع مقالته الأولى، لكن يتوجب عليه في البداية البحث عنها، ومحاورتها .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل السادس

أنا كتوب اللص

الحر شديد ، والزنزانة لا تحتمل هذا العدد من السجناء ، عفوك يامولاي ، لا بد وأنه عقابك ياإلهي ، وتذكرةً منك بالسعير الذي ينتظرني في الآخرة .

ما الذي فعلته بنفسي ؟ أنا كتوب الخطاط المرهف ، الرجل المؤمن الذي لايقطع صلاةً في موعدها ، يهزمني الشيطان ويخضعني لأوامره ، فلتسرق يا كتوب ، ليس لديك خيارٌ آخر سوى العمل مع عصابة الكتب تلك ، لا تنسى حرمتك الحبلى والتي تشتهي الزبيب والعسل في كل ليلة ، سليم المتكبر حكم عليك بالشقاء وقلة الحال ، نور الدين الذي تظاهر بحبه لك كأولاده ، وما كان يريد منك سوى ان يتخذ من امك المسكينة زوجاً ثالثةً له ، والتي فضلت أن تموت بعد ليلتين على أن تعيش ما كتب الله لها من أيامٍ برفقة ذاك المنافق .

نعم ، إنه الشيطان ، أو ربما ليس الشيطان ن إنما الضرورة ، القهر والظلم ن هذه البلاد الغريبة ، يخبرونك فيها ان الحاكم هو ظل الله على الأرض ، وأنه عادلٌ مثله ، والعدل أبعد ما يكون عن بلاده .

لم أكن يوماً متطلباً أو متذمراً ، ورضيت بحالي ودوري البسيط ، كنت سعيداً بعالمي الحبري ، خط الثلث الذي لا أتقن غيره ، كيس النقود الذي أكسبه في نهاية كل أسبوع ، أستر به نفسي وحرمتي ، وأدفع ثمن مكوثنا في منزل أجره لي نامق أشد الأثرياء ثراءً وأكثرهم بخلاً ونجاسة .

كانت أقصى سعادتي أن أعود مساءً إلى شريفة الطيبة ، الزوجة الصالحة ، التي لم تملك من جمال الوجه إلا القليل ، لكنها ملكت من جمال الروح الكثير والوفير ، الصامتة دوماً تذكرني في هذا بأمي البكماء ، نتعشى معاً مقالي الباذنجان ونشرب شراب النارنج ، ثم نأوي إلى الفراش ، أداعب شعرها الفاحم ، أنكحها بصمت ، تتألم هي بصمت ، وتهدأ عند النشوة ، وتسيل قطرة العرق من جبهتها ، لتستقر على حافة شفتها العلوية الموسومة .

كان هذا قبل أن أغدو لصاً وقبل أن أتعرف إلى نينار ، قبل أن أضل طريقي ، نينار التي لم أفهم إلى اليوم ما الذي كان يجمعنا ، كنت مدمناً على رؤيتها والحديث معها بالرغم من أننا لم نتضاجع يوماً ، جمعنا شيء مختلف ، مجهولٌ ، معطلا ، مغلفُ بنشوة حقيقية ، نشوةٌ بعيدة كل البعد عما ينتهي به النكاح .

آه ، ماالذي سرحت فيه ؟ ، نسيت نفسي وحالي التي يرثى إليها ، جروحي توقفت عن النزف ، بفضل ذاك الفتى الطيب يسر ، أقسم أنه رجلٌ بكل ما للكلمة لامن معنى ، ضمد جراحي واعتنى بي حتى استيقظت ، على الرغم من شكله المثير للعجب ، شعره المسترسل والمرتب والطويل كشعور النساء ، وشعر لحيته الذي لم ينبت بعد ، عيناه اللامعتان المكحلتان كعيني نينار ولسانه الذي لايتوقف عن الثرثرة ، لكن هذا أفضل من الصمت القاتل ، الجميع هنا صامتون ، ينتظرون السيف أو الفأس الذي سينهي حياتهم ، يحلمون بعالم البرزخ ، ويتساءلون عن حجم الألم الذي سيتألمونه عندما ستطبق القبور فوق صدورهم .

يذكرني يسر بشقيقي الأصغر عثمان الذي باعه والدي لعائلة نصرانية كانت قادمةً من الإسكندرية ، هذه الصفقة التي أودت بصوت أمي إلى الأبد ، وجعلتها تعتزل الناس ، وتكتفي بمراقبتهم بوجه حزين .

حدث ذلك في أحد أعياد الأضحى ، حيث أيقظنا والدي عند صلاة الفجر ، ووهبنا بذتين متماثلتين ، كان قد أخاطها لنا خصيصاً عند صديقه ((عبده)) وقام بنفسه بخط اسمينا عليها فوق كل جيب ، بخط الثلث الأحب إلى قلبينا.

عشنا معاً طقوس العيد ، وقمنا بواجباتنا ، ثم حملنا أموالنا وانطلقنا إلى الحوانيت لنصرفها على الحلوى والذرة ، طلبت من أخي أن يكون شجاعاً وأن يجرب الابتعاد أكثر إلى الحانوت الكبير الذي كانت أمي تحذرنا منه ، وسمعت والدي ذات مرة أن صاحبه يعشق الغلمان ، ولم أدرك حينها ما تعنيه هذه العبارة.

عندما وصلت إلى الحانوت الكبير ، شعرت برغبةٍ في التبول ، وأخبرت أخي ينتظرني ريثما أفعلها خلف شجرة قريبة ، لكنني عندما عدت إليه لم أجده وكان باب الحانوت مغلقاً ، فجأة ، فتح الباب وخرج منه عثمان متعرقاً خائفاً ، وأغمي عليه فور وصوله إلي ، حملته بين ذراعي وركضت .

عندما وصلنا إلى المنزل صرخت أمي صرخةً ملأت الحي ، حملني والدي وخرج بي من البيت ، أغلق الباب بإحكام وقام بقفله ، جلس على التراب سانداً ظهره إليه ، واحمرت عيناه واغرورقت بالدموع ، وأخذ يتمتم : (( إنه لعار ، إنه لعار )).

في تلك الليلة لم ينم أخي في المنزل ، وإنما في العربة المتجهة نحو الاسكندرية والتي تخص هيلانة وزوجها توما الذين رحلوا بأخي إلى الأبد معهم ، بعد أن دفعوا ثمنه ، الثمن الذي رماه أبي في النهر ، ورمى معه بذة أخي الممزقة ، والمغطاة بدماءه ودموعه .

تلك كانت المرة الوحيدة التي لم أحب أبي فيها ، والمرة الوحيدة التي تبدل وجهه فيها ، حكمته ، صبره ، ضحكته وهو يخط المصاحف بشغف ، تغير فيه كل شيء ، وفرغت أدراجه شيئاً فشيئاً ، واتسخت وراقته ، إلى أن جاء الدرك وساقوه إلى القتال في الحرب ضد المتمردين ، ومرت عشر أعوام ولم نسمع عنه شيئاً ، تغيرنا في غيابه ، إلا أن زف لنا خبر مقتله .

عندما كبرت قليلاً ، أدركت ما فعل صاحب الحانوت الكبير باخي ، سألت عنه ، أخبروني بأنه قد مات إثر سقوطه من رأس التلة ، ثاني أيام عيد الأضحى منذ سنوات ، كان حادثاً غريباً لم يلقى له تفسير ، لم يعلم الجميع بأن التفسير يدركه شخصان فقط ، شخصٌ صار بين يدي ربه وأنا ، الحي الذي يرزق ويترحم على والده .

مقالة نجيب الأولى (حوار مع مرشحة مجلس الشعب السيدة ع.م.و)

نجيب :_ ما السبب الرئيسي الذي دفعك للترشح لانتخابات مجلس الشعب ؟

السيدة ع :_تعلم أن البلاد أصبحت في الآونة الأخيرة أكثر مرونة وديمقراطية، وأن الإسلاميين استطاعوا أخيراً الخلاص من الكبت الذي عانوا منه على مدى عقود من الزمن، هذا ما شجعني على البدء بمشروعي السياسي، تعلم أننا أكثرية، أليس من الديمقراطية أن يكون للأكثرية التواجد الأكبر في مجالس القرارات السياسية !

_ هل تؤيدين فصل الدين عن الدولة ؟

بالطبع لا، دولتنا دولة إسلامية، الأكثرية فيها مسلمة، إذاً يجب أن يطبق فيها حكم إسلامي، ففي هذا تحقيق للديمقراطية!

_ ما الذي يجعلك متأكدة من أن جميع المسلمين في البلاد يؤيدون تطبيق الشريعة الإسلامية ؟

طبعاً إذا كنت مسلماً حقيقياً ينبغي لك أن تكون مع الحكم الإسلامي، إن هذا من أصول الدين، ثم هل هذا سؤال ؟!

_ لكن البلاد تضم الكثير من الأقليات كالمسيحيين مثلاً ؟

أهل الذمة محفوظة حقوقهم في الدولة المحكومة حسب الشريعة الإسلامية، هذا ما أوصانا به الله عز وجل .

_ لكن أليس ذلك مخالفاً لمبادئ العدالة والديمقراطية والمساواة أن تطبق أحكام شرعية خاصة بدين معين على أناس آخرين يعتنقون ديناً آخر ؟

نحن نريد الديمقراطية لذلك نطالب بحكم إسلامي، وسبق وذكرت حقوق الأقليات محفوظة، لا يمكن التخلي عن طموحاتنا في بناء بلد ديمقراطي من أجل مشاعر لاتقدم ولا تؤخر !

_ لكن ألا تشبهون بذلك نظام داعش ؟ هو يدعي أنه يطبق الشرع ؟

داعش لا تمثل الدين الإسلامي السمح، هم مجرد حثالة ومجرمين .

_ لكنهم ينظرون إلى الأقليات كما تنظرون أنتم ؟

نحن سنحكم بالقانون الذي يأخذ تشريعاته من الدين الإسلامي، وليس بفوضوية وبربرية كداعش، وأعود وأقول لك داعش لا تمثلنا لأنهم أصلاً غير مسلمين ! مجموعة من الحثالة والسكارى والعاطلين عن العمل لا أكثر !

_ لكنهم يدعون أنهم يطبقون الدين الإسلامي على أكمل وجه، سأغير الحديث قليلاً كما ترين، ماهو مشروعك ؟ماالذي تتطلعين لتحقيقه ؟

أريد بداية عودة نظام الفصل بين البنين والبنات في المدارس، سوف نجنب بذلك الفتيات من الأذى الجسدي و النفسي الذي يمكن أن تتعرضن له !

_ لكن ألا يمكن أن يؤدي هذا إلى العكس ؟ كل ممنوع مرغوب !

بالطبع لا، أتكلم عن تجربة شخصية سواء في جمعية تدريس الفتيات أصول الدين التي أملكها، أو تجربتي الخاصة بنفسي عندما كنت في عمر الصبا، كنت سافرة، وحاول احد الشبان في المدرسة أن يمس جسدي، لكنني نجحت في الإفلات منه، منذ ذلك اليوم تغيرت حياتي، وأنا الآن هنا بفضل تلك الحادثة .

_ لكن هل تعتبرين هذا صائباً أن تحولي ردة فعلك تجاه حادثة جرت معك إلى مشروع تتبنينه سياسياً وباسم الدين ؟

لا ليست ردة فعل، الله وضعني في هذا الموقف لكي أحمي الأخريات !

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل السابع

أنا والدة كتوب البكماء

لو كنت أعلم ماينتظرني عند نهاية ذاك الجسر لرميت بنفسي ، كما رميت بوصلة زوجي المرحوم ، شعرت برغبةٍ في رميها مع جميع الذكريات المؤلمة التي خلفتها وراء ظهري في منزلنا الريفي ،ظن كتوب أنني مهتمة جداً بتلك البوصلة ‘ لأنها آخر ما تبقى من والده ، لكنني على العكس كنت أبغضها بغضاً شديداً ، والآن أبغضها أكثر ، لأنها وجهتنا إلى هذا المصير البائس ، إلى نور الدين ، الرجل المقيت وحرمتيه اللتان لا تعرفان الذوق والحياء ،أجلستاني بينهما في العربة المتجهة إلى بيتنا الفارغ من الذوق تماماً مثلهما .

رفعت إحداهما الملاءة لتكشف عن وجهي ، وقرصت وجنتي الممتلئتين وكأنها تختبر نضج ثمار ترغب في ابتياعها ،وراحت الأخرى تنهال بالأسئلة علي من قبيل (( أنهيت عدتك ، أليس كذلك ؟! يمكنك الآن أن تزفي لرجلٍ آخر ؟)). (( كيف ترتدين كل تلك الملابس تحت النقاب ؟، ألا تعانين من الصمات تحت ثدييك؟ ))، ثم تطلق ضحكةً أشبه بصوت جري الحصانين امامنا ، .(( إنها بكماء أيتها الجدباء ، لا يمكنها أن تجيب على أسئلتك التي تحتاج ثرثارةً مثلك للإجابة عليها )). تردد الأخرى بصوت يملؤه الخبث .

شعرت حينها برغبةٍ في البكاء على ما آلت إليه أحوالي ، وطرقت بابي ذكرياتي المنصرمة ،وكيف رسمت بنفسي حياةً لا أرغب بها لمجرد قراري بإطاعة والدي الذي أحبني حباً جماً .

عشت وحيدةً مع والدي تاجر الأقمشة الهادئ حياةً هادئة مطمئنة بعد أن رحلت أمي عن هذا العالم ، كان كلٌ منا يمثل الحياة بالنسبة للآخر ،وحتى بعد زواجه من جميلة المرأة التي لاتستطيع الإنجاب ،والتي عاشت وحيدةً في منزلٍ لاحول له ولا قوة ،بقيت الأولوية لي عند والدي ،وكان يردد دوماً (( لاشيء سيقسم لي ظهري سوى إن أصابك مكروه يا ابنتي )).

عندما كبرت وبلغت سن الزواج ، صارت فكرة تزويجي شاغله الشاغل ،يجلسني بقربه كل ليلة ،يطعمني بيديه الدراق والتمر العراقي .

ويشكرالله على نعمة الجمال التي منحني إياها ، ثم يتحدث لي مطولاً عن أهمية الزواج للفتاة وروعة الإستقرار وبناء عائلة ،وأنه لاشيء يمكن أن يحدث للمرأة أفضل من أن تنجب ،وتكون أماً صالحة ،ترضي الله والرسول .

كنت أعي كل كلمة ينطق بها ،فقد كنت في العمر الذي تبدأ فيه الفتاة بالتوق إلى دورها الأنقى في الحياة ،وملأ قلبي حينها شوقٌ دائم لشابٍ يزور والدي في الأمسيات ،يجلب له الأقمشة المميزة والباهظة الثمن من البلدان الأخرى ،حيث يجوب في ترحاله .

كنت أسمع صوته عندما يتلو لوالدي آيات من القرآن الكريم ،صوته كان رخيماً إلى الدرجة التي جعلتني أعشقه ،أولاً ،ثم سنحت لي الفرصة بأن أشم عطره عندما تناول مني كؤوس التمر الهندي عند زيارته لوالدي في مرضه ،وهكذا اكتفى قلبي بصوته وعطره لما يقارب العام .

بعد ذلك تسنى لي رؤية وجهه لمرة واحدة عندما قام بحمل والدي المغمى غليه بين ذراعيه ونقله إلى الطبيب ، كنت وقتها خائفة وحزينة لمرض أبي المفاجئ .

ساءت حال والدي بعدها وأخذ بالهزال والذبول ،وذات مرة ،بينما كنت أسقيه الماء ،شرب عدة أكواب وطلب المزيد ، وقبل أن يتابع الشرب طلب مني أن أضمه ،ضممته بقوة وشعرت بعظامه النافرة ورائحة الرحيل في جسده ،بعدها حدثني عن شاب ريفي كان يعمل في حانوته منذ صغره ،وأخبرني بأنه شاب ابن حلال وموهوب ،يخط بمهارةٍ فائقة ،لكن الله لم ينعم عليه بالمال ،وأوصاني بأن أتخذه زوجاً لي وأن أشتري له بماله دكاناً صغيراً ليتمكن من ممارسة العمل الشغوف به ،وتمنى أن أقبل بطلبه هذا لأنني لن أجد ابن حلال وطيب مثله بين المسلمين جميعهم .

لم يكن أمامي سوى الموافقة ،وبدون أن أمنح عقلي أو قلبي وقتاً،كان على والدي أن يسمع مني إجابةً ترضيه ،وتفرح قلبه في آخر أيام حياته .

وهكذا ،جمعت زوجة أبي في صرة علب كحلي ومجوهراتي وثيابي الجديدة التي طرزتها لي خصيصاً لزواجي ،وشرحت لي عما ينبغي للفتاة فعله في سرير زوجها لتعيش حياةً رغيدةً وهانئة .

ما أذكره أن تلك الليلة كانت الأولى التي بدأت فيها جملي تقزم وتتلاشى ،وبدأت أقع في حب الصمت ،وأتخذه أسلوباً لعيش الحياة .

عندما جاء كاتب العدل مع الشهود وضعت الملاءة على وجهي ووقفت عند باب الغرفة لأدلي بالموافقة عندما سيسألني ،وفوجئت بمن عشقته وملأ عشقه كياني شاهداً على زواجي ،ولرأيت وجهه للمرة الثانية ،لكن هذه المرة كان يجب أن أغض بصري ، ولم أكن أعلم حينها أن الفرصة ستسنح لي كثيراً برؤيته ، لكونه الصديق المقرب لزوجي ، وأنه سيجمعهما كتاب أسفارٍ وبوصلة ، وستنتهي حياتهما معاً في حربٍ ملعونة ، بعد زمنٍ ليس ببعيد .

علمت لاحقاً من زوجي باسم من أهواه ،فارس الرحالة المحب للمغامرة ، الصديق الأقرب له ‘ الأخ الذي لم تنجبه أمه ،والذي اكتفيت بعطره وصوته مرةً بعد مرة، في سهراته مع زوجي ، يتبع ذلك دموع ولعنات أصبها على نفسي ،شعورٌ بالغثيان والقرف مما يدور في خاطري ،ثم أنهي ذلك كله بلعنة الأقدار التي عبثت بحياتي ،وحكمت علي بقضاء عمري بأكمله في الريف الفقير ،بعد أن رزقت زوجة والدي بذكرٍ ورث مال والدي ،والدي الذي توفي في صبيحة عرسي قبل أن يحقق حلم زوجي بامتلاك وراقته الخاصة والعيش في المدينة .

حصلت على ورثتي من مال والدي حسب ماجاء به الشرع ،لم تمانع زوجة أبي بمنحي نصف ثروته ،لكن زوجي رفض ذلك وقال بأنه لن نصرف إلا ما يحلل لنا الشرع ، ( أتريدين أن يقول العباد علينا أننا نريد أكل مال اليتيم )،واكتفيت بالصمت حينها ووجدته الأجدى والاكثر تعقلاً.

قبلت بحالي المتواضعة ،وبزوجي الطيب الذي كان والدي محقاً في الحكم عليه ،وانتظرت مولودي الأول بشغف وطلبت من الله أن يكون ذكراً لأسميه عثمان على اسم والدي ، لكن زوجي أراد أن يسميه (كتوب) لأنه حلم دوماً بولدٍ ذكر يعلمه كيف يخط وكيف يكون الأمهر بين الخطاطين في البلاد كلها .

رضخت لرغبة زوجي بصمتٍ كعادتي ،لكن الله رزقني بذكرٍ آخر ببشرةٍ بيضاء كالثلج ، وعينين سوداوتين لامعتين كوالدي رحمه الله ،فأسميته عثمان واهتممت به بأنانية ،وفضلته على كتوب وأعترف بذلك ،لم أكن عادلةً ومنصفةً في حقه ،ستقولون بأنه لايمكن لأم أن تفضل أحد ولديها على الآخر ،ربما لم يشعر أحد بهذا ،لأنني أخفيت حب عثمان في قلبي كما أخفيت في الماضي حب فارس ،ولأجله فقط عادت جملي تتألف بكلماتها القديمة ،لأجل ذاك الفتى الناعم الهادئ ،ذو الشعر المسترسل الفارسي نذاك الفتى الذي كان يخطط ببطء وحنكةٍ لأخذه مني ،لقتل روحي مجدداً ،والحكم علي بالصمت الأبدي .

اللاذقية /2015

بعد أن نضد نجيب مقالته الأولى التي تتضمن الحوار مع المرشحة ع، وكان على أتم الاستعداد لإرسالها عبر البريد الالكتروني للجريدة، اتخذ قراراً سريعاً بأن يعكف عن ذلك .

قد تصبح هذه المقالة بمثابة دعاية للمرشحة، وقد يعجب بموقفها البعض بدلاً من نقده، وهو لا يرغب في أن تتحول تجربة شخصية إلى رمز للبطولة، و أن تتخذ طابعاً شعبياً .

مزق بعنف المقالة، ورمى بها في سلة المهملات حيث توجد شعرات مصطفى حتى الآن .

فكر بموضوع آخر، كان من المحال الكتابة عن خيبة اليساريين، أو عن الطابع الواحد الممل للجامعة، الجريدة سترفض ذلك حتماً .

وبينما هو غارق في تفكيره، رن جرس الباب، وكانت الطارقة هي جارته الخالة أم ذو الفقار، وقد وضعت على رأسها منديلاً أبيضاً مثلث الشكل، وقامت بربط طرفيه تحت شعرها، وحملت بين يديها وعاء مملوءاً بالفطائر الساخنة، ذات الرائحة الشهية .

اعتاد نجيب على ذلك، فقد كانت الخالة أم ذو الفقار تتذكره يومياً بصحن مماتطبخه لأهل بيتها، وزاد اهتمامها به خصوصاً بعد أن فرغ منزلها من ولديها ذو الفقار وحمزة بعد مغادرتهما سوية، كل إلى صوب، ذو الفقار الذي تطوع في إحدى الفرق التي تقاتل إلى جانب الجيش النظامي، وحمزة الذي التحق بالخدمة الإجبارية .

(( حمزة هنا، إذا أردت أن تراه وتسهر معه )).قالت الخالة أم ذو الفقار فقد كانت تعلم كم نجيب وحمزة مقربان على عكس العلاقة المتوترة بين نجيب وذو الفقار .

كان الفرق بين ذو الفقار وحمزة كبيراً، فحمزة ذاك الفتى الضئيل الحجم، ذو الوجه النحيل، والابتسامة التي تصنع خطوطاً متعرجة على جانبي فمه، والهدوء الذي يغمره، كان لا يشبه أخاه ذو الفقار، النزق دوماً، ذو التصرفات الطائشة، والولع بالوشوم، التي امتلأ جسده المنحوت بها، حيث تمتع بجسد رياضي ضخم على عكس أخيه، واختلفا حتى في طريقة اللباس، التي كانت غريبة الأطوار بالنسبة لذو الفقار، والأشد غرابة منها حمله السلاح دوماً على خصره، واستعداده الدائم لاستعماله وقت الحاجة، مع سائق متذمر، أو مع جار مزعج .

وقد تسبب ذلك ذات مرة بأزمة قلبية لدى الخالة أم ذو الفقار، وتم نقلها إلى المستشفى الذي عولجت داخله في ممر خارجي، لعدم توفر غرف خالية من المرضى .

كان حمزة من نقلها عندها إلى المستشفى ورافقه نجيب، ومنذ ذلك اليوم وهي تعتبر نجيب بمثابة ولدها .

مازال نجيب يذكر ما جرى معهم عندها، وكيف انتظروا قرابة الساعة حتى جاء أحد الطلاب المتدربين لمعاينتها، وكادت أن تفارق الحياة لولا تدخلهم في اللحظة الأخيرة .

ومن يراها اليوم بهذا النشاط وهي تخبره بقدوم حمزة، لايصدق أنها ذاتها، فقد بدت بكامل نشاطها وألقها، وزرعت السرور في قلب نجيب.

قضى نجيب الليلة بكاملها عند حمزة، الذي كانت الشمس قد غيرت لونه، وأضفت عليه رونق الذهب، وأخفت بين التجاعيد خلف فمه كتلاً من الظلمة الجذابة .

نسي نجيب بين ضحكاته وحمزة ونهفات الخالة أم ذو الفقار و طعم النارجيلة الفخم والفطائر اللذيذة، ما يعتريه من قلق و خوف وضياع، وقص على حمزة ماحدث معه فيما يخص المقالة، فنصحه بإرسالها إلى الجريدة موضحاً :

)) إذا لم نجازف وننشر ماهو غيرمرغوب بنشره، كيف سنكسر القيود في المجالات الإبداعية ؟)).

كانت تلك الجملة كافية لتشجيع نجيب على إرسال المقالة، وبالفعل ما إن عاد إلى منزله حتى سارع بفتح اللاب توب وإرسالها، ثم خلد إلى النوم ولم يشعر بتاتاً بأي خوف من مصطفى طوال تلك الليلة، حتى بزوغ الصباح .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الثامن

أنا يحيى الرسام

حتى في السجن يمكنك العثور على أشياء تستحق أن ترسم ،كالطابع الأنثوي ليسر مثلاً ،أو الغرابة التي تحيط بصهيب ،ملابسه ،تعابير وجهه المتحجرة ،الحالة الصادقة للسجين الجديد وهو يغفو من شدة ألمه ،حتى الحشرات الغبية التي تتجول هنا وهناك ،كل تلك الأشياء تستحق أن يكون بحوزتي الآن ريشةٌ وألوان .قالوا عني دوماً أنني ألتمس الجمال حتى في المزابل ، (( ذاك الرسام الضحوك الذي يحول المآسي إلى عذاباتٍ لذيذة)) ،كان قوم والدي يتناقلون عني ،أحب ثرثرتهم وأحب نساؤهم أيضاً ،وسذاجتهم التي منعتهم والحمد لله من معرفة كم أبيت في مضاجعهم بدلاً عنهم ،وأستمتع مع نسائهم العاريات الحسان .

كانت أمي تقول لي وهي تحممني في الصغر ،أن جلدي الأبيض وعيني الخضراوتين ،وابتسامتي ستجعل الفتيات العذارى تلاحقنني في الأزقة ،ولم تكن لتتوقع أن النسوة المتزوجات سوف تسبقهن .

ستقولون عني مغرور ،لكن خذوا مني هذه ،أنا لا أجيد في هذه الحياة سوى أمرين ،الرسم والمضاجعة ،أما الرسم فلأنني أحب أن أعبر عن الأشياء بصمت ،ولا أجيد الثرثرة ،فهي من اختصاص النسوة و الفاجرات ،أما المضاجعة فهي وسيلتي لأختبرالجمال ولأتعلم كيف ألتقطه في أي موضع ،وأتلذذ به وأغسل به عقلي وجسدي .

الزاني ، العربي الافرنجي ، تربية افرنج كفار ، كلها عباراتٌ أطلقت علي ،ولم أكترث ،حاولوا البحث عن أدلة في مضاجعهم ، في شعور فتياتهم ، في المغارة التي جعلت منها مرسمي الخاص ،ووجدوا ماأثار فيهم غرائزهم المكبوتة ،لم تستوعب عقولهم الساذجة رسومي ،النسوة العاريات ذوات الوجوه الغريبة والحزينة ،وكانت ردة فعلهم كما توقعت ، إحراق المرسم بما فيه ، ولكن حتى هذا لم يغضبني .

هربت ،لذت بصديقي الإيطالي (جيوفاني ) وطلبت منه أن أعود معه إلى البندقية حيث نشأت ،فهنا أروع مافي الحياة محرم ،وبقائي عاقلاً خلوقاً في نظرهم سيخنقني حتماً

لم يكتب لرحلتنا أن تمضي على خير ،رأينا رجالاً يحومون بخيولهم ،ويتخبطون حولنا ويصرخون )إنها الحرب ، مقدام جمع قومه واعلن الثورة ،سوف يخلصنا من ظلم الحاكم .

قفلنا راجعين أنا وجيوفاني ،فمقدام ثار وسيجعل الحياة أجمل وأكثر حرية في جنوب البلاد حيث أعيش ،اعتقدت ذك في البداية .

بعد عودتنا ،أنشأت مرسماً جديداً لي وعدت إلى رسم النساء العاريات ،الجبال المشرقة ،الغيوم المكبلة بالقيود،الأطفال الذين يتهافتون على السباحة في النهر ،ثوار مقدام وهم يحملون راية النصر .

لكن سرعان ماتغيرت الأمور ،نص مقدام قوانيناً جديدة على البلاد قوانيناً تنصبه إلهاً على الأرض ،الشعر ،الكتب ،الرسوم كلها يجب أن تهدف لشيء واحد ،هو تمجيده وتعظيمه ،ساق بالرسامين ومن ضمنهم أنا إلى قلعته ،وجندنا لرسم لوحات لانتصاراته ،كما ساق بالفتيا ن والشباب في مقتبل العمر لحمايته ، وزع البنادق والسيوف عليهم ،وأرسلهم لمجابهة المخاطر ،ليصبحوا أقوياء ،جمعت النسوة للعمل في الحقول والمزارع التابعة له ،المحاصيل ،الثمار،وكل خيرات البلاد كان عليها أن تجمع وتقدم له ،وهو وحده له الحق في توزيع ما شاء من ثروته ،لأنه المخلص الأقوى والأعظم ،الأشد ذكاءًوحكمةً،لأنه مقدام العظيم .

عندما ساءت الأوضاع أكثر ،ودمرت قرى وبيوت فوق رأسها ،لرفضهم لسياسة مقدام ،قررت الرحيل عن هذا الجحم ،وهذه المرة نجحت في الهروب مع جيوفاني والعبور إلى القسم الشمالي من البلاد حيث الناس لايختلفون في التعاسة كثيراً مع حاكم من نوع آخر .

قصدت وجيوفاني خاناً لنبيت فيه مؤقتاً ،ريثما نجمع المال اللازم للعودة إلى البندقية ،سرنا في شوارع المدينة باحثين عن عمل ،وكان من المفاجأة أن نسمع أن الحاكم الإسلامي يجمع الرسامين والنقاشين لتجميل الجانب الغربي من قصره الذي يجهزه لاستقبال زوجته الرابعة .

سارعت وجيوفاني إلى القصر وهناك قابلت أنجيليكا الجارية الافرنجية ،المرأة الأكثر روعة وقضيت معها أجمل أيام حياتي ،ولو أن الثمن كان ما أنا عليه ،سجيناً ينتظر حكم موته .

اللاذقية/ 2015

اتصل جرجس بنجيب في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي، ليخبره أن عزام قد نقل إلى مستشفى الأمراض العقلية، لأن عقله لم يحتمل قساوة تلك الحادثة، وعاتبه على عدم السؤال عن سبب تغيبه عن الجامعة، ثم مزح قائلاً : (( أنا منشغل في تحضير أوراق السفر للخارج، قبل أن يكون مصيري كعزام ! )).

ثم قص عليه كامل الحكاية، كيف اتخذ قراراً بالسفر في أقل من دقيقة واحدة، وأقنع والدته ببيع عقدها وأساورها الذهبية التراثية التي ورثتها عن جدتها، الأمر الذي جعلها تنزوي في غرفتها حزناً على تلك الثروة القيمة، وعندما سأله نجيب مندهشاً عن سبب هذا القرار السريع قال : (( السينما هي حياتي، وهنا ليس فقط لا يكترثون بالأفلام التي أصنعها، إنما يقفزون من فوقها كما لو أنهم يجتازون مستنقعاً من القذارة )) .ثم أطلق ضحكته المعتادة .

انتهت المكالمة بعدها بعد اتفاقهما على اللقاء في مقهى قيثارة، لإكمال هذا المشروع المنحوس كما عبر جرجس عنه، ومن هناك سيتوجهان سوية إلى مهرجان رأس السنة السورية المقام في إحدى الحدائق العامة بدعم من الحزب السوري القومي الاجتماعي .

سارع نجيب بعدها إلى اللاب توب، وخاب أمله عندما شاهد رد الجريدة الالكترونية بعدم الموافقة على نشر المقالة، وإبلاغه باعتذارها عن توظيفه لأن عدد الكتاب قد اكتمل . أغلق اللاب توب بعنف ثم خطرت في باله فكره، عاد وفتح اللاب توب مجدداً، دخل إلى صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك، نشر المقالة عليها، ثم أغلق اللاب توب مجدداً، وهرع إلى الشرفة ليتأمل الغيوم الصيفية العابرة.

لمح على الشرفة المجاورة الخالة أم ذو الفقار، كانت تغني بصوت حزين، وهي تخيط بذة حمزة العسكرية .

وعلى الشرفة المقابلة شاهد الجار السكير الذي يجهل اسمه الحقيقي، لم يكن يعلم سوى اسم (الديك الرومي ) الذي تناديه به زوجته السكيرة هي الأخرى، كان الديك الرومي يشخر في كرسيه وأمامه زجاجة الويسكي الفارغة، وتلوح يده الممدودة نحو الأسفل من الشرفة بحرية، يمنة ويسرة .

وكانت زوجته راكعة على ركبتيها وتاركة نصفها الأعلى يرتاح بعنف فوق صدره، ضامة رأسه بكلتي يديها، متمسكة به بشدة، حتى أن إحدى أظفارها غرزت بعمق في جلد رقبته .

في هذه الأثناء مر سرب من السنونو وحلق فوق رأسيهما، ونعق غراب كان قد حط فوق سيخ حديدي بارز من عمود بناء حر في الهواء .

ثم سمع نجيب صوت صراخ قادم من منزل الخالة أم ذو الفقار، كان ذو الفقار وحمزة يتشاجران كالعادة، أيقظ صراخهما الديك الرومي وزوجته من ثمالتهما.

شعر نجيب كما لو أن الزمن يمر ببطء شديد، والنسيم اللطيف الممزوج بالصراخ ورائحة الخمر يحمل معه حزناً من الأزل، من آدم وحواء، وقابيل وهابيل، إلى هذه الشرفات الثلاث، شرفته، شرفة الديك الرومي وزوجته، وشرفة الخالة أم ذو الفقار .

وكلما كان الصراخ يعلو، وإيماءات الزوجين الجنسية لبعضهما تتوضح، كان الحزن يجتاح قلبه ويتبعه الخوف والحيرة، ويلح عقله بالسؤال : (( هل سيعود مصطفى يوماً ما لقتله ؟!!)).

محاولة روائية خائفة لنجيب

الفصل التاسع

أنا صهيب العظيم

أما زلتم تجزمون بجنوني ؟ لا يمكنني لومكم على هذا ، لكن لترموا بكبريائكم هذا جانباً ،ولاتدعوا بأن ثرثرتي لا تعجبكم ، إنني أستطيع أن أؤكد لكم بأنها تعجب الحاكم بشخصه ،هو يبتسم لثرثرتي ،ويصدقها في داخله ،لأن الحقيقة لا يستطيع أحد إنكارها .

الحاكم سيزول وسترقص جواريه على سطح قصره ،وكل من في الزنزانة هنا سيخرج ،عداي أنا لكنني لاأستطيع البت في حريته التي سيحظى بها في الخارج ،سوف يقفز الجميع في الهواء من شدة الغبطة ،بمافيهم ذاك المخنث ((يسر)) وستتمايل ضفائره يمنةً ويسرةً كالفاجرات ،أما انا فلا أريد شيئاً من هذا ،فقط دعوني أغفو، لأكون بين يدي كلير .

أتخيلها الآن وهي تصر على أن أنهي كوب الدواء الذي صنعته بنفسها لي ،شراب ٌ أخضر قذر ،كريه الرائحة ،ذو طعمٍ مقزز كوجه ((عادلة )) زوجتي الثانية ،هاهي كلير تمسح لي شفتي بمنديلها الناصع البياض ،ذو رائحة الخبز ،وتنهض إلى الكرسي خلف ذاك العجيب الذي تسميه ((بيانو)) تجلس عليه بعد أن تجمه طرفي ثوبها المخاط بصعوبة وإتقان ،ثم تحرك أصابعها برشاقة وبراعة كمحارب يتقن فنون السيف ،ولكن بحركاتٍ أقل خشونة وأشد هدوءاً .

أثبت عيني في شامتها البنية الكبيرة في مركز رقبتها من الخلف ،لونها غريب علي ،لم أرى في حياتي كلها سوى الشامات الغامقة ،والتي تقوم النسوة لدينا بطمسها بالكحل لتصبح أشد قتامةً برأيهن .

ينطلق صوت البيانو ،إنه صوت غريب ،هادئ إلى درجةٍ لا تصدق ، صوتٌ جديد على أذني التي لم تعرف من الأصوات سوى صليل السيوف وصهيل الخيل ،صرخات المهزومين ،وأنين السبايا .تلك كانت هي الموسيقى الوحيدة التي حركت جوارحي ،موسيقى الحروب ،وأوجاع العباد .

تقول كلير بأن الموسيقى ستساعدني على الشفاء ،وهي لم تعلم بأن موسيقاها قد كشفت لي عن جروح دفينة كنت قد تجاهلتها ،كانت موسيقاها بمثابة صفعة ناعمة أيقظت روحي من خدرها ز

تنهي كلير معزوفتها وتذهب إلى غرفة والدها لتحضر لي ثياباً ،تقول بأنه علي أن أبدو أنيقاً في حفلة ميلادها ، وبأنها مضطرة لتركي وحيدا بضعةً من الوقت ،ريثما تهتم هي بمتطلبات الحفلة ونظافة قاعة الاحتفالات .

ترسل خادمتها البدينة ذات الشعر الأحمر و الجلد المتعرق دوماً ،تقدم لي إبريقاً من الشاي مع كوبٍ نظيف لامع وفطائر القشطة والعسل وتخبرني بأنه علي إنهاؤها ومحاولة تحمل الضجر تناولها ريثما تأتي سيدتها ((كلير)) .أتناول فطيرة واحدة وأحتسي كوباً من الشاي في دقائق ، ثم أشعر بالملل من النوم في السرير كالحوامل ، أتخبط في الغرفة ذهاباً وإياباً ،أحاول إصلاح النافذة التي تصدر صوتاً مزعجاً عند فتحها وإغلاقها ،أنظر عبر النافذة إلى الحديقة الجميلة ونباتاتها المنظمة بعناية ،أتذكر كلمات الشيخ زكاء ،((ما نفع التحضر والتمدن والمظاهر البراقة إذا كان المرء كافراً ،إنه لشيخ لعوب وأخرق .

يمر الوقت وأنا حبيس غرفتي كامرأةٍ في عدتها ،أسمع فجأة صوت (كلير) تتحدث بلغتها الافرنجية تشبه ثرثرة أطفالي في الصغر ، تدخل علي وفي يدها زجاجة من العطر ،تطلب مني أن أستخدمها بعد أن ألبس ثيابي ،وأن ألحق بها إلى قاعة الاحتفالات بعد نصف ساعة .

أرتدي تلك الثياب الغريبة ،بذةٌ تشبه بذة والدها النبيل ،أنظر إلى نفسي في المرآة ،أطلق ضحكةً ساخرة ،أنا صهيب الغازي والفاتح أرتدي ثياب الافرنج الكفار ،لكنني لأبدو أنيقاً بها .

في طريقي إلى قاعة الاحتفالات أشاهد لوحات معلقة على الجدران ،تتضمن رسوماً لبشر حقيقيين ،بتفاصيل وجوههم الواضحة تماما أتذكر ما قاله الشيخ زكاء ذات مرةٍ أن هذا محرمٌ في ديننا .

عندما أصل إلى قاعة الاحتفالات ،لا أرى أحداً من المدعوين ،ما أراه فقط أولئك السجناء الحثالة الذين يحيطون بي ،وذاك الأعجمي الغبي الذي أيقظني من حلمي بصوت سلاسله ،لا بد وأنه جاء لجر ذلك المخنث ليلاقي مصيره ،عقابه الإلهي بأن يحرق أمام أمة الإسلام جميعها .

اللاذقية /2015

هاقد مر أسبوعٌ على سفر جرجس، ولم يتبدل شيء في هذه المدينة، كان التغير حكراً على مشاعر نجيب .

فبعد أن كانت الألوان التي تضج بها الشوارع والناس قبيحة في عينيه، صارت مبهمة بالنسبة له، كأنها غير موجودة .أما ذاك الشعور بعدم الانتماء إلى مقاعد الدراسة والمراوح الثائرة قد حال إلى نوع من الغياب.

حتى أن نجيب نفسه لم يعد يعي من هو، صار هجيناً بشرياً يجمع كآبته وغموض مصطفى وخيبة جرجس .

وكان من الواضح أن ذاك الهجين لم يعد مرئياً من قبل من حوله، بل أضحى سراً غامضاً، من غير المثير محاولة كشفه .

الكل يتابع حياته اليومية بالطريقة ذاتها، عبير التي تصبغ شعرها باللون الاسود دوماً، قد جددت لونه الأسود، ومازال الله يستمر في عقابه للبشر بالنسبة لها .

والدكتورة سهى مازالت مزعجة ومتعجرفة في عيني مرهف وسيف، ومازالت تضع ذاك البروش الفرنسي الغريب بالنسبة لهما .

الستائر الحشيشية مازالت ترمي بظلها القبيح على جدران القاعة ، وصابرين كعادتها متغيبة ومازالت ترسل له رسائل ساذجة ومزعجة، وتشتري الملابس الفاخمة وتبدل أجهزتها الخليوية المختلسة، ومحاولاتها في أن يعودا صديقين مازالت قائمة .

وفي هذا اليوم الحار الذي هاجم الصيف فيه المدينة دون استئذان، قبل بعرض قدمته له، بأن يذهبا سويةً إلى مقهى قيثارة.

وبينما كان يفكر في مدى صحة قراره، منصتاً دون وعي إلى جمل الدكتورة سهى البطيئة والمنتقاة بعناية، ومراقباً محاولاتها الفاشلة في نيل استحسان الطلاب مستعملة في ذلك أسلوبها النخبوي دون أي استسلام، اقتربت منه إنجي مستفسرة عن سبب عدم تسجيله لما تقوله الدكتورة، مانحة له ابتسامة من تلك الابتسامات التي مردها أنني أشعر بك، وأدعمك، وقد جعلت تلك الابتسامة من عينيها تتضيقان خلف نظاراتها، ورسمت عند زاوية كل عين ثلاثة خطوط من تجاعيد حرة كخيوط شمس ، فبدت عينيها مثل شمسين خجلتين مختبئتين خلف ضباب النظارات .

وفي تلك اللحظة وبما أن المراوح لم تزل ثائرة، ومازال تصليح مقبض التحكم بها غير ممكن، أرسلت المروحة تياراً من الهواء ليحرر خصلة من شعر إنجي الذي كان قد جمع نحو الخلف وربط بإحكام، وقد تزامن ذلك مع صرخة أطلقتها الدكتورة سهى، وضحكة أطلقها مرهف وأصدقائه .

توقف ذاك الصمت بين نجيب وإنجي، وراحا يراقبان ما يجري للمرة الاولى مع الدكتورة سهى، وينصتان إلى صراخها الثائر وإدلائها بعبارات من قبيل: ((عليكم بالسفر إلى أوروبا لتروا كيف يتعلمون هناك )).

كان صوتها يحمل معه انفجاراً لشيء ثقيل حملته في صدرها، و كانت نتيجة ذاك الانفجار اهتزاز أطرافها بالكامل وجحوظ عينيها وتطاير بروشها الفرنسي كشظية .

ثم وبشكل فجائي، هدأت وصرحت بأنها لن تستمر في عملها هذا وأنها بغنىً عن تلك النقود التي تدفعها لاحتمال طلبة غير محترمين، وأغبياء .

عندئذ تدخل سيف وحاول إصلاح الموقف، وعندما نجح في تهدئتها راح الطلبة يرددون ساخرين بأصوات عالية : يعيش سيف يعيش، الله يديمك ذخر لهذه الأمة المسكينة .

ذكر هذا المشهد نجيب بذاك اليوم الذي عاد فيه برفقة جرجس من احتفال رأس السنة السورية الذي أقيم بدعم من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكيف ظلا طوال الطريق يبتسمان من قلبيهما على الرقصات الهيستيرية لبعض الشبان والشابات الذين جعلوا من المهرجان حفلة للرقص الشعبي والدبكة، وتكسرت أيديهم من الدق على الطبول، وكيف قادت نشوة إحدى الفتيات بها إلى رمي الكتيبات المشروح في داخلها مبادئ وأهداف الحزب في الهواء الطلق دون أن تعي ما فعلته، وراح الأطفال الذين يشكلون ثلاثة أرباع الحاضرين، يصفرون ويتشاجرون، والأمهات تسأل بعضهن عن جمال أبنائهن، ويتخلل تلك الفعاليات كل ساعة ترديد نشيد الحزب للتذكير بالقومية السورية، ثم ترديد شعار يحيا سعادة مرات ومرات ، بينما هو يمرر ابتسامات خفية من صورته المعروضة على جدار ضخم بأكمله، معبراً عن فرحه بفرحهم ، مرسلاً لهم وعوداً بحيوات أجمل وأفضل إذا حفظوا عهد تبجيله للمئة سنة المقبلة أيضاً! وبجنة على الأرض سورية بطابعها دون شوائب عربية إذا حصل منهم على وعد بقراءة كتبه المخطوطة بلغة عربية نخبوية.

وعند انتهاء تلك الطقوس كانوا يعودون مجدداً للاستماع إلى المغني المخصص للاحتفال وهو يشدو موشحاته الأندلسية .

مازال نجيب يذكر جيداً جمل جرجس حينها، فقد قضى طوال الطريق وفي المنزل عندما اجتمعا على العشاء مع عائلته في تقليد رقصاتهم التبجيلية مثل طقوس قبيلة بدائية تبجل زعيمها، كما عبر جرجس وقال أيضاً: (( لربما كانوا في حديقة أخرى يبجلون صورة أخرى، فهذه المدينة مهووسة بالشخصيات الخارقة)).

كان ذاك اليوم هو الأخير الذي يسمع فيه نجيب ضحكات بسيطة وعفوية وحرة، كما لو أن جرجس كان يرغب بضحكة أخيرة له واضحة وجريئة كشمس صيفية لاذعة، لونها صارخ جميل لكنها تحترق من الغضب، كما بدت الدكتورة سهى اليوم، وليس كشمسي إنجي الخجلتين خلف نظاراتها.

ومثلما فر جرجس خارج البلاد من ثقافة التبجيل والشعور بعدم الانتماء، فر نجيب وإنجي من القاعة التي صدحت بالشعارات، واحتدم فيها الصراع بين ثقافتين .

وسارا معاً صامتين، بعد أن علما أن طريقهما واحد، ومثل نجيب اكتفت إنجي بصمته كدعم معنوي لها، فقد كانت تملك النظرة عينها إلى ما حولها، وتراقب الشوارع والسيارات والمحال بذات الخيبة والانكسار.

ولما وصلا إلى مقهى قيثارة، ودعته واستدارت لتغير طريقها في اللحظة التي لوحت فيها صابرين لنجيب من داخل المقهى لتعلمه بوجودها، عندها تمتم نجيب بوهن : هل تحتسين القهوة معي؟

استدارت نحوه، وهزت رأسها بالموافقة، وعندما دلفا المقهى مرا بجانب صابرين وصعدا السلم المؤدي إلى الطابق الثاني دون حتى أن ينظرا إليها بتاتاً.

محاولة روائية خائفة لنجيب

الفصل العاشر

أنا يسر المخنث

الشيء الذي أثار دهشتي من نفسي لحظة دخول ذاك الأعجمي المتوحش حاملاً سلاسله التي للوهلة الأولى تظنها خصصت لسوق كلب ،هو التجرد التام عن أي شعور أو فعل ،لاخوف ،لا كراهية ،لا تعلق لابد منه بالحياة عندما تدرك حتماً إقتراب نهايتها .

((الحياة لاتستحق العيش إن كنت مقيداً بقيودٍ وسلاسل )) تلك جملة صاحب الخان الجد يعقوب التي كان يرددها علي في كل سهرةٍ من سهراتنا ،حيث كنا نجلس في فسحة الخان الواسعة الفواحة بعطر النارنج ،نتبادل الأحاديث والآراء المتناقضة ،كان الجد يعقوب أول من يسمعني وينظر إلي نظرة إنسان وليس كمسخ ،منحني عملاً شريفاً في خانه عندما قصصت له حكاية معاناتي مع البشر ،أخبرني بأنه يمكنني البقاء في الخان والعمل كصبي توصيل لطلبات الزبائن في الطوابق العلوية ،بالإضافة إلى المهمة اليومية الأصعب بالنسبة له والتي أشاخته مبكراً كما كان يؤمن بشدة ،وهي تنظيف الخان المبني على الطراز الروماني والتي لا تشبه أبداً أي بناء هنا في الدولة ،بل كانت تعتبر للملتزم بالعمارة الإسلامية ،بصمةً غريبةً غير مرغوب فيها .

كان الجد يوقظني يومياً بعد أن يستيقظ سرب الحمام الذي يجمع نفسه في طوقٍ حول بركة الخان ،في اللحظة التي ينفض الحمام أجنحته وكأنه ينفض ما تركته الأيام المنصرمة في روحه من أحزان ،آملاً بيوم يطير فيه بحرية ،بأجنحة نظيفة .

في تلك اللحظة تماماً ،كنت أنفض عن ذاكرتي ما أرهقها من ذكرياتٍ مؤلمة ،تماماً كالحمام وأحلم بتجربة طيران من نوع مختلف ،بجناحين منحني إياهما الجد يعقوب ،الرجل السبعيني ذو الشارب الأبيض المعقوف ،والهندام النظيف والمرتب دوماً ،المختلف عن أزياء رجالات البلاد ولم يتوقف الأمر على الزي والهندام بل تعدى ذلك إلى عادات غريبة يقوم بها يومياً كمسح جلد جسمه بالكامل بالكحول ثم بالعطر الأندلسي ‘أو بالزيوت المباركة المجلوبة من الأبرشيات البعيدة ،حيث يتجول في خريف كل عام ،كان يقول دوماً أن لديه احساساً بأنه سيرحل في يومٍ خريفي مريضاً في سريره اللعين ،لذا كان يمضي الخريف بأكمله متجولاً في أبعد المناطق ،باحثاً عن وقت أطول للعيش ،هارباً من فراشه ،من علائم يوم قيامته .

لم يمت الجد يعقوب في الخريف كما شعر دوماً ولم يمت في فراشه إثر المرض أيضاً ،مات بعد أن سحقته عربة الدرك المتلهفين للقبض على المطالبين بتخفيض الجزية عنهم ،مجموعة من العباد ضيقو الحال ،الذين ضاقوا ذرعاً من جزية الحاكم التي لا ترحم ،سحق الجد يعقوب تحت عجلة العربة قي يوم صيفي حار وغاضب ،وانطفأت عينيه ،كما أطفئت نار الغضب بين المتجمعين ،أخمدها الدرك بالسياط والهراوات، بلغةٍ تشبه سواد ملابسهم ،لغة لن يفهمها إنسان .

واليوم دون أي كراهية ،أو حتى ألم جسدي لقيود أدمت قدمي ،لم أعد أرغب في فهم أي لغة للعنف ،أنا الآن أجرب احساس الفراغ،احساس اللاعالم ،اللازمن ،أنا الآن أساق لأسحق ليس بعجلة عربةٍ فوضوية ،إنما بسيفٍ منظم ،طريقةٌ أخرى لإزالة وباء ..

يسوقني الأعجمي في سردابٍ لا لون له ولا ملامح ،،سوى أصوات بشرٍ يتألمون ،وكأنه سردابٌ مبنيٌ من صوت ،حجارته حناجر بشرٍ تطلق صرخات أرواحهم ،أسمع صوت أيزيدي يجلد لينطق بالشهادتين ،وأنين أحدهم قبل أن تقطع يده ،وصوت السرداب يصرخ :ماذنبي انا لأحتضن كل هذه الوحشية ؟

يقاطع صوت العذابات صوت الأعجمي وهو ينطق لي : ((والدك دفع الكثير من المال ليتم ترحيلك إلى البلاد الجنوبية حيث مقدام النذل ،علهم يسمحون بأمثالك هناك ،حظك وافر لأنه لم يتم حرقك كبقية المخنثين )).

اللاذقية /2015

جلس كل من نجيب وإنجي إلى طاولة بجانب نافذة خشبية صغيرة تطل على فسحة فارغة محاطة بأشجار السرو ، كان تيار من الهواء الدافئ يعبر النافذة ببطء ليدفن نفسه في وجهيهما ،بعد أن يسلك طريقه القصير من مكان ولادته بين أغصان أشجار السرو والتي تطلقه للحياة ، حتى يمتزج بتقاطيع وجهي نجيب وانجي ،كانت تلك ثورة الأشجار دافئة ولحظية .

نجيب وإنجي يتهامسان عن الأشياء المخيبة للآمال ،والمقهى يضج حولهما بخيبات البشر .يغدو الهمس مثل سر ملون يدور بين الطاولات والكراسي ،يزور المنافض ليشعل من جديد بقايا السيجار المنطفئ ،ويمر بين أسنان نزيهة وصديقاتها ليمحو وهم تلك الابتسامات ،ثم يعبر أذن كيندال محرراً فيها أغنية كردية حزينة بعد أن كانت حبيسة ،ثم يتقطع ذاك السر إلى جزئين تحت حد سكين أمل وهي تقطع الخس ، محولاً جزءاً منه إلى مرآة تعكس غضب شعرها الأحمر ،ليخبرها بحقيقة تعاستها . بينما يتحول الجزء الآخر إلى يد تربت على شعر نهاد وتصبغ الشيب بالضوء .

يقرر السر أن يعود أدراجه ليعبر إلى سماعة الهاتف النقال لنجيب ،ويسافر إلى حنجرة أم جرجس وهي تخبر نجيب : منذ يومين ولا نعلم عنه شيئاً ،لايرد على اتصالاتنا ،لقد اختفى جرجس يا نجيب ،ضاع جرجس في الغربة .

فر السر الملون هنا من حنجرة أم جرجس قبل أن يختنق كصوتها ، واصطدم بالخطأ بوجه صابرين المكشر ،ليجد نفسه داخل قفص .

وهكذا خرج ذاك السر الملون مع صابرين عند خروجها من المقهى ،وصعد معها إلى سيارة ذاك الرجل ذو الشوارب التركية الذي شاهده نجيب أمام المسرح ،عندها ، ابتلعت الشوارب السر مع قفصه ، وسيق به نحو جوف مظلم حيث يجلد عقل عزام ،وحيث والد صابرين يقطف الثروة من أشجارأغصانها رؤوس لبشر منهكين ،كالعم إدريس و إنجي .

سمع السر داخل الجوف أصواتاً متناقضة ،آذاناً بصوت مصطفى ،وقهقهات عاهرات ،صوت الفتاة المحجبة التي شاهدها نجيب في المسرح تغني تارةً وتارة تتأوه .

في المقهى لم يعد هذا السر مهماً ،كان على الأيادي أن تتشابك ،نزيهة وكيندال ،إنجي ونجيب ،وكان جرجس هو الأهم الآن ،ولم يكن أحد ليكترث بالشوارب التركية ،كان شاربا سلفادور دالي على حائط المقهى الأجمل في عيون الجميع .

تجمع الكل في سيارة نهاد ،وانطلقوا إلى منزل جرجس ،عابرين شارع أنطاكية ،وبالرغم من الظلمة التي اكتسحت المكان ،لمعت قبعة العم نشوان خلف زجاج واجهة المكتبة حين مروا بجانبها ،وخلف القبعة شاهد نجيب شاربان غريبين ،ليسا تركيين ،إنما أشبه بشاربي ستالين . وقد كانا يراقبان باهتمام من تقل تلك السيارة من مثقفين .

ومن بين الظلمة انبثقت صورة مصطفى وقد لمعت ناصيته الذهبية ،وراح يراقب السيارة بلحيته ،لأن عينيه كانتا غائبتين .

أدمعت نزيهة لحظة مرورهم بجانب حديقة الاحتفالات التبجيلية وتذكرت ضحكات جرجس ،كان أنطون سعادة مازال مبتسماً في صوره المعلقة ،وتغير شيء واحد هو أن أحدهم رسم له شامة وصليباً على جبينه بقلم الشينيار الأسود .

كانت الشوارب التركية وصابرين قد مروا من الطريق ذاته ،لذا التأوهات مازالت مسموعة ،تأوهات ممزوجة بتهليلات قادمة من خلف جدران لمسجد بني من أعين خمينية .

وإلى الأمام من ذاك المسجد سمعوا جميعاً تأوهات جرجس قادمة من مكان ما وقهقهات صور ،وشاهدوا عينيه على شكل قطعتين من البروش الفرنسي الذي يخص الدكتورة سهى ، لكن سرعان ما غابت تلك الصور وراء ظلي مرهف وسيف اللذين كانا يكبران ويكبران حتى غطيا المدينة بأسرها .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان: مجهولين

الفصل الحادي عشر

أنا يحيى الرسام

لا شيء يخفف عنك ضيق زنزانة كهذه سوى العيش مع ذكرياتك واستعادة حكايتك تارةً مع ابتسامة وتارةً مع وجوم ،أنجيليكا وجيوفاني هما بطلا حكايتي ،إن كنت أود أن أبدأ من هناك ،من ذلك القصر الغريب حيث يحكم رجلٌ غريب الأطوار ،قصير القامة ،ذو عينين حمراوتين ،وذراعين تحوطان بالجواري ،وعقلٍ فارغ .

قصدنا أنا وجيوفاني القصر واضعين أمام نصب أعيننا هدفاً واحداً ،غير مكترثين بما يدور تحت سقفه من ظلم وإسفاف . جربنا احساس ألا تنتمي سوى لهدفك ،وأن تغلق عينيك عن أغلاطٍ عظيمة ،ماكان باليد من حيلة سوى ذلك ،كان علينا أن نرى بأعيننا جوارٍ يهدين إلى قادة جيوشٍ متوحشين ،والحاكم يرفرف بعينيه دون مبالاة وهو يتسلى بسحق حبات العنب ،أو وزراء يمشطون بترقب لحاهم الطويلة والمؤنقة وهم يطلبون من الحاكم أن يختم على رزمة من الأوراق التي تخص الضرائب والأحكام القضائية ،ويبتسمون خباثة عندما يختمها وهو يلهو بسيقان جارية دون أن يلقي ولو نظرةً واحدة إلى مابين يديه من أحوال شعب بأكمله .

شيوخٌ وعلماء يصدرون الفتاوى الاجتهادية على مسمع الحاكم المبجل وهو يبكي من ألم في خصيتيه .

سنحت لي الفرصة بتتبع الحياة اليومية لحاكم دولتنا العظيمة عندما كلفنا أنا وجيوفاني بنقش الزوايا في مخدعه ،وتسنى لنا أيضاً حضور سهراته مع تمايل الجواري وموسيقاهن ،كان يصيح بأعلى صوته :ما المانع في أن تسهرا معنا ؟،هيا أنا لا أحب أن أملك جواريَ،لا مانع عندي من مشاركتهن معكم ،ها،ها ،ها.

كانت أنجيليكا مختلفة عن البقية ،بجدائلها العسلية ونظرتها الجريئة التي تدل على قوة الشخصية والدهاء .

في البداية ،أعجبتني كبقية النساء ،أردافها العريضة ،صدرها الأبيض ،مؤخرتها الممتلئة البيضاء غالباً،ورسمتها سراً في مضجعي .

وفي ليلة انطفأ فيها الحاكم من النعاس ،غادرت الجواري مخدعه باتجاه مضاجعهن ،مرت أنجيليكا بجانبي وداعبت ذقني ،وهمست :أنت أشد وسامةً من حتى من حاكمنا .همست بسخرية واضحة .

انتهت تلك الليلة بنشوة في سريرها ،وتكرر ذلك في الأمسيات التالية .احتفظنا بسرنا لنفسنا حتى جيوفاني _وهذا ما اعتقدته في البداية _لم يعلم بشيء،وكان غريب الأطوار في تلك الفترة .

قضينا أنا وأنجيليكا الليالي الطويلة مفعمة بكل ماهو جميل ،ممارسة الحب ،الحديث عن الحكم الظالم والسخيف للبلاد ،والاستهزاء بالفتاوى الغريبة التي يصدرها مجلس العلماء الأكبر.

في أحد الأيام تجرأت أن أقترح عليها رغبتي في رسم مايدور في القصر من ظلم ،علني عندما أغادر أعرضها هناك على الجمهور الأوروبي ليرى حالنا التي يرثى لها ،رفضت الفكرة أولاً ثم صارت تصحبني معها إلى أماكن مظلمة في القصر حيث البشر المقهورون والجواري المعاقبات ،وتمضي ساعات في وصف مضجع الحاكم وتفاصيل جسده وطريقة تعامله مع الجواري ،تناوله الخمر سراً ،الأوضاع الجنسية الغريبة التي كان يطلبها من جواريه .

مرت الأيام على هذا المنوال إلى أن دخل علي في مضجعي أربعة ملثمين ذات صباح ،وأنا أجهز أدواتي كبلوني بالقيود وساقوا بي إلى الحاكم بعد أن بحثوا عن لوحاتي التي رسمتها بمساعدة أنجيليكا ورموا بها من شرفة القصر في النهر .

وفي اللحظة التي رميت بها أمام قدمي الحاكم جاءت عيني بعيني أنجيليكا،التي غضت بصرها عني ،وتابعت ماكانت تقوله للحاكم 😦 كنت أشاهده وهو يتسلل إلى المناطق المحظورة في القصر ثم أتبعه إلى مضجعه حيث يشرع في رسم ما شاهدته عينيه الجاحدتين )!

شعرت بدهشة موجعة عندما سمعت مانطقت به أنجيليكا وكان أشد ماآلمني أن تصف عيني بالجاحدتين ،عيني اللتين لطالما قبلتهما بحب .

لكن سرعان مافهمت كل شيء ،أمر الحاكم بمنح أنجيليكا حريتها والصدمة الكبرى كانت من ينتظرها في الممر ،لقد كان (جيوفاني)الذي قررت أن يشاركها حريتها ،كان كل شيء مخطط له بعناية وقذارة من قبلها ،نظرت إلى جيوفاني نظرة استغراب ،واستطعت أن أدرك أنه لايعلم شيئاً،لقد كانت تنام في مضجعه أيضاً،وتسقيه من كأس الغرام نفسه ،وتخطط لنيل حريتها والعودة معه إلى البندقية موطنها.

عندما عانقت جيوفاني التفتت ورائها ونظرت إلي نظرة حزينة وتمتمت بشيء ما ،خمنت أنها اعتذرت مبررة أن الحرية أثمن مافي الوجود ،حتى أنها أثمن من الغرام الحقيقي .

لكن لم ينل أي منا حريته ،فأنا بين جدران زنزانة قذرة أنتظر الموت وأنجيليكا التي توجهت بفرحتها العارمة بصحبة جيوفاني نحو البندقية في عربة قديمة كانت مخصصة لنقل الموتى ،وكانت هذه المرة وسيلة لنقل أنجيليكا إلى قاع البحر.حيث ستتحول فيه إلى حورية بحر تسبح حرة في عالم واسع الأرجاء ،نعم ،سقطت العربة في البحر ،تعلق جيوفاني بصخرة ،ببداية جديدة ،أما أنجيليكا لفظت اسمي مبتسمة قبل أن تتابع هبوطها نحو القاع المضيء .

اللاذقية /2015

استلقت والدة جرجس فوق سريره الكرزي اللون و وضعت كاميرته فوق بطنها وضغطت بشدة ،ولم تنطق ببنت شفة منذ وصولهم ،كانت تحدق في عدسة الكاميرا كما لو أن جرجس سيظهر منها في أي لحظة .

نزيهة وإنجي كانتا بجانبها ،بينما جلس كل من نجيب وكيندال ونهاد على الشرفة بصحبة والد جرجس ،الذي وقف مستنداً إلى درابزين الشرفة وفي يده إنجيل صغير ،كان مؤمناً ولم يرث جرجس عنه هذا .

ارتشحت صلواته تحت عينيه الزرقاوتين وبدت مثل زيت لامع ،وفي الشارع المقابل للشرفة كان ثمة إله آخر غير الذي يصلي له يواصل تدريبه الناس كيف يمشون بالأحذية الثقيلة .

عبرت مجموعة من السيارات السوداء بجانب الشرفة وقدمت عرضاً خطيراً في القيادة أمامهم ،بينما كانت طبول أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي مازالت تضرب بقوة ،وكلما كانت الضربات تقسو ،كان نهاد يرفع من جرعة الويسكي التي يتجرعها من زجاجة قرر أن يخصصها للحزن على جرجس في هذه الليلة .

في دين أنطون سعادة كانت القرابين تقدم على شكل رقصات ،أما الإله الآخر القاسي فلم يكن الرقص يليق بجبروته كقربان له ،بالنسبة له من يقترب من الوصول إلى قوة الحجر وقسوته كان الأشد ثواباً .

ومع الحرارة المنبعثة من قرع الطبول و غضب الأحذية ،وزجاجة الويسكي شعر نهاد بحمى جعلته يحرر ضفائره الشيباء المجعدة التي جمعها في ربطة سوداء نحو الخلف ،مطلقاً إحدى عباراته اللاذعة : (( كل هذا لأن حزبهم حظي أخيراً بقيمة ما )).

ثم ابتسم بتكشيرة متعمدة .

ابتسم كيندال للجملة بعد أن كان سارحاً بأم جرجس ، ذكرته بوالدته التي سيمنعه عن رؤيتها خوفه من الأشايس ،وذلك لمدة عام كامل حتى يحصل على تأجيل جديد .

وعندما راوده الحزن لذلك ،أخذ يتأمل نزيهة عبر زجاج باب الشرفة ،التي لم تشعر به بل استمرت في سقاية أم جرجس كوباً من الماء .

ولأول مرة شعر بأن من يشاهدها ليست نزيهة وإنما امرأة خمسينية مبتذلة الأناقة ،تحظى بكل ماترغب به باستغلال الفرص ،وتعيش حياة مزيفة مع ذاتها ،ولم تعجبه طريقة مواساتها التي تشبه على الأرجح مقالاتها الفارغة ،ونجاحاتها الوهمية .

وللمرة الأولى أيضاً لم يحتمل صوتها الأجش من جراء التدخين المفرط ،لذا كان عيه النهوض والمغادرة معتذراً .

شعر نجيب عندها أن كيندال على وشك أن يلحق بمصطفى وجرجس ،سوف يختفي هو كذلك ،لذا كان عليه أن يمنعه ،وفكر في اللحاق به ،لكن إنجي أوقفته ،عليه أن يبقى لأجلها ،من أجل إيصالها إلى منزلها حيث تعيش مثله وحيدة ،بعد أن غادرت عائلتها البلاد .

في هذه الأثناء أطلقت في الشارع المقابل عيارات نارية في الهواء ،وفي اللحظة ذاتها وصلت لنجيب رسالة على هاتفه الجوال كتب فيها : (( ستكون هذي الرصاصة في رأسك قريباً ! التوقيع : مصطفى )).

إلى البعيد من منزل جرجس ، كانت سيارة ذو الشوارب التركية وصابرين لم تبتعد بعد ،وكانت لحية مصطفى بارزة مثل أشواك تغرز نفسها في صدر المدينة .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الثاني عشر

أنا كتوب اللص

يسر سوف يعيش ولن يطبق الحكم عليه ،إن هذا ليسر القلب وينعش الروح ،فهو رجلٌ طيب لايستحق الموت في ريعان شبابه ،هذا ما أخبرني به ذاك الأعجمي بلهجته الثقيلة ،((ذهب إلى حضن مقدام ،فليهنأ))قال مقهقهاً.

العيش في أحضان مقدام ليس بأفضل من العيش في هذه البلاد الظالمة ،فقد سنحت لي الفرصة أن أزور البلاد الجنوبية في إحدى مهماتي ،ولم أشهد تلك الحرية التي نشد إليها ثوار مقدام ،إنما طغياناً من نوع آخر ،،إلهاً آخر يعوض نفسه على العباد ،وفق قانون أشبه بقانون الغاب.

أرسلني المعلم (عروة )إلى رجلٍ يعتكف بنفسه في إحدى القرى المغضوب عليها من قبل مقدام ،تلك القرى تثور بين الفينة والأخرى احتجاجاً على سياسة مقدام ،كان الطريق صعباً إلى هناك ،وكان علي أن أثبت ولائي للمحتجين المسيطرين هناك ،بالرغم من مروري في بعض المناطق التي تستظل بمقدام العظيم .

قضيت ليلتين بين البيوت العشوائية المبعثرة ،الفقيرة الحال،وعشت بين أهلها الذين تطبعوا بصفاتٍ متشابهة ،نحول شديد،وأجسادُ منهكة ،حيث كانوا يعملون من الفجر حتى المغرب ،دون كلل مقابل مالا يسد قوت يومهم .كانت الأعمال التي كلفوا بها من أشد الأعمال قسوةً وصعوبة ،والجميع عليهم بالعمل دون توقف ،حتى النساء والأطفال،هذا هو النظام هناك ،الكل يعمل لأجل الجميع ،لأجل العدالة والمساواة،والكل لديه القدرة ذاتها على العمل ،والويل لمن يخالف .

من يخالف سيكون عليه مواجهة جنود مقدام ،وهم رجال هائلون في الحجم ،يأكلون بوحشية ونهم ،يرتدون ملابس تكاد تتمزق من هول اللحم تحتها،يتكفلون بمراقبة الناس وهي تعمل،وبترديد الهتافات لمقدام العظيم .

عملت يوماً في الحقول لمساعدة العائلة التي فتحت لي دارها ،عدنا منهكين بعد أن أخذتا حصتنا من الطعام اليومي ،تخليت عن حصتي للأطفال الصغار لكوني متطفلاً بالأصل،ولا يحق لي أية حصة .

حملت كتبي تلك الليلة بعد أن كانت مخبأة في وعاء البئر _وكانت هذه فكرة ربة المنزل _فالكتب المسموح بها في بلاد مقدام أقل حتى من الكتب المباحة هنا،ولاشيء ذو أهمية سوى مايضمن قوة البلاد وحماية مقدام .

سرت ليلاً باتجاه منزل الرجل المعتكف الذي يقع في الجبال،وفي طريقي مررت بمبنى قذر حيث يبيت فيه جنود مقدام ،كانت إحدى الشبابيك مفتوحة ،نظرت منها بفضول ،فذعرت لما شاهدته ،كان جنديان ضخما الجثة،يمارسان اللواط بعنف.

لاحظت أن حجارة المبنى بكامله منقوشة باسم مقدام العظيم ورسوم انتصاراته ،حتى أنني لحظت رسماًيفخر به رسامه بمجزرة رهيبة لبلدة عاصية،أبادها مقدام بالمناجيق والنار.

من شباك آخر ،شاهدت غرفةً مليئة بالكتب المتماثلة،كتب توزع على العباد فيها قانون العيش في كنف مقدام ،كان على كل طفل حفظها صماً،كي يرسخ في ذهنه منذ الصغر،الأسباب التي وجد لأجلها أصلاً،وهي عبادة الإله الآخر،مقدام العظيم.

تابعت طريقي منهكاً بين الجبال ،وشاهدت قبوراًعظيمة مزينة بالورود الهائلة ،كتب عليها شهداء مقدام العظيم.

عندما وصلت إلى كوخ الرجل المعتكف ،استقبلني بالحفاوة ،وبدا رجلاً رزيناً بعمامته البيضاء وجسده الهزيل وقامته الطويلة .عرضت عليه الكتب التي جلبتها معي ،أمسك بها وتنشقها،فتح إحداها وحاول القراءة،لكن فجأة أغلق الكتاب وحدق في الفراغ ،لاحظت دمعةًتسقط عند زاوية عينه ،كبيرة وبراقة ،قال بغصة:لن أقدر على القراءة بعد الآن فقد فقدت بصري ياولدي عيناي لم تحتملا ما تشهده هذه البلاد ،ومن الأفضل ألا تريا شيئاً بعد الآن.

اللاذقية /2015

كان على نجيب إيصال إنجي إلى منزلها ،لذا توجب عليه أن ينسى موضوع الرسالة نهائياً ،ويحاول التظاهر بأنه على أحسن حال ،لأنه لم يرغب أن تزج إنجي في الموضوع ،فهذا سيشكل تهديداً لها .

وهكذا عبرا من أمام دوار الزراعة وولجا حي الزراعة حيث تقطن إنجي ،كان المكان يضج بالشبان والشابات الذين يهرولون في كل الاتجاهات ،تحركهم طاقة عظيمة ،بدا الشارع بهم مليئاً بالحرارة والحيوية ، كل شيء مبتذل وحاد وعنفي ،أجساد منحوتة على أكمل وجه بما يناسب الجنس تماماً ، العيون البارزة والحادة تتوسط اللون البرونزي الذي منحته الشمس للوجوه ،مانحاً لها جاذبية جنسية صاخبة . شبان ضخام يرتدون ملابس مصحوبة بإيماءات جنسية ،تكشف عن صدورهم اللامعة البرونزية الحليقة الشعر ،و فتيات يرتدين ملابس لامعة تكشف عن صدورهن المنتفخة بالبوتوكس وبنطالات ضيقة تبرز عجيزاتهن الممتلئة وأردافهن العريضة ،وكن قد تبرجن مستعملات مساحيق وحمرة شفاه ذوات ألوان صاخبة وجاذبة .

كان الشارع بمثابة معرض جنسي بإمكان أي أحد فيه اختيار مايحلو له من شبان أو شابات لمضاجعة جيدة ،شبقية بامتياز ،مجردة ، حيوانية ،مثالية لإشباع الغرائز ،سريعة مثل كل التفاصيل التي يضج بها هذا الشارع ،صارخة ،مادية للغاية ،واقعية إلى حد الإزعاج .

على جانبي الشارع ،تزدحم المطاعم والمقاهي ،بالمئات ، وتفوح روائح معسل النرجيلة منها وتختلط بروائح العطور الأجنبية ،ووبر الكلاب والقطط التي تصطحبها بعض الفتيات المدللات .

التصفيقات مستمرة في كل شبر من الحي ،ولكن تختلف أسبابها ،وتعلو أصوات الدراجات النارية وانزلاقات السيارات ،وشتائم وسباب بعض الشبان السكارى القافزين من نوافذ السيارات ،و لا تمنع تلك الأصوات أصحاب المقاهي من إطلاق مكبراتهم التي تصدح بالأغاني الشعبية الصاخبة ، ورغم ذلك كان ذاك الإله القوي مازال يحوم فوق رؤوسهم ،مانحاً لهم القوة والدعم ،ولن يقبلوا بأن تصفهم بالإلحاد لأن إلههم علمهم بأن القوة وحدها تجلب التحرر ،الأمور إما أن تتم أولا تتم ،والقوة التي منحهم الله إياها هي التي جلبت لهم هذه السعادة ،لأنه حتى السعادة والحياة الرغيدة لا تجلب إلا بالقوة ،هذا درس إلههم القوي القاسي الذي يعاقب عندما تقتضي الضرورة ،لكنه الثائر الساعي لتحررهم .

كان نجيب سارحاً بأفكاره عن ذلك الإله وعن رسالة التهديد،إلى درجة أنه نسي نفسه عند وصوله وإنجي إلى منزلها ،وظل واقفاً أمام الباب صامتاً مما أثار استغراب إنجي ،ودفعها لسؤاله : الوقت متأخر ،لكن إن أردت احتساء القهوة ،تفضل .

قالت إنجي ذلك بتردد ،و أيقظت جملتها ذاك المتخدر ،فاعتذر منها بإلحاح وودعها .

وراح يفكر وهو يسير بشكل غير متوازن ،نحو وجهة مجهولة ،أين سيذهب ؟ لا يمكنه العودة إلى المنزل ،هذا خطر عليه ،هل يخبر الشرطة ؟،لكن ماذا لو كانت مزحة ،ليس أمامه سوى منزل خاله ،ذاك الأخطبوط الذي له يد في كل حدب وصوب من هذه البلاد .ثم إنه المكان الوحيد الذي لا يعرفه مصطفى.

شعر بالتقزز من فكرة أنه سيلجأ لخاله المقيت ،ذاك الفاسد الذي هو سبب كل البلاء ،ليحميه من أقرب الأصدقاء إليه .

وبينما هو يتخبط في حيرته ،وصلته رسالة على الهاتف الجوال من قبل والد جرجس ،يطمأنه فيها أن جرجس قد اتصل بهم أخيراً ،وقال لهم :

((لا تقلقوا علي ،لست سعيداً ،لكنني أشعر بشيء أفضل مما كنت أشعر به عندما كنت في مدينتكم ،التقيت بمخرج سوري مغترب هنا في ألمانيا ،سنعمل معاً ،هنا يوجد مستقبل ما يمكن الاتكاء عليه .)).

هذا هو جرجس . قال نجيب في سره ثم ابتسم لأقل من برهة .

عاد بعدها الخوف من مصطفى يحتل عرش أفكاره .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الثالث عشر

أنا يسر المخنث

سارت العربة بنا باتجاه الجنوب ،كان علينا السير في طرقٍ سرية شديدة الوعورة ،لدرجة جعلت من تركي سائق العربة الأبرص يتصبب عرقاً ،ويتلون جلده بلون شعره الغريب .

كان والدي قد أوصاه بإيصالي إلى المكان المتفق عليه بعد أن زج في جيبه كيساً من النقود يزن رأسه ،تكلم معه عني دون أن ينظر إلي ،وكأنه يوصي بالعناية بشبح .لاحظت ارتباكه ومحاولة كبت عطفه .

لم تطمئن نفسي أولاً لتركي ،له عينان كخرزتين في مسبحة ،وشعرٌ مشتعل كالقرود الحمراء ،ولم أدع عيني تغفلان عنه حتى منتصف الطريق ،لكن عندما شهدت جهده الصادق في إيصالي في الموعد المحدد إلى الحدود مع البلاد الجنوبية ،بدأ قلبي يرق له .

عندما توقفنا لنريح جسدينا ،قال لي بأن والدي خلصه من سوق العبيد حيث كان من المقرر بيعه بأبخس الأثمان لقباحته ولكونه بخصيتين معطلتين .

ثم أسر لي بما يقوم به والدي يومياًمنذ رميت في السجن ،كان يقوم بتحرير عبد كلما جمع مايلزم من المال ،ويسعى له عن عمل ما ،ثم يدعو الله أن يحفظ ولده ويشفيه من خنوثته .

كان يتكلم إلي وهو يدلك ندبةً سوداء مثل وشم على شكل غراب،موسومةً على رقبته ،سألته عنها،قال أن والدته كانت تجره في الصغر إلى الشيوخ والرجال المباركين لتزول لعنة الله الحمراء عنه ،حيث قام أحدهم بكي رقبته لحرق الجني الذي يسكنه .

((تؤلمني دوماً عندما أتحدث عن مشاعر صادقة ))قال وهو يبتسم لامبالياً.

عندما تابعنا سيرنا ليلاً،لم أستطع أن أكف عن التفكير بما قصصه عن والدي ،شعرت بنوع من الطمأنينة والتصالح مع الذات .

راقبت السماء بعيني طفلٍ وليد ،راودني شعور غريب بأن العربة تسير بي نحو عالم جديد ،تأرجحاتها أشبه بمخاض ،وكأن ألواناًأخرى تنتظرني في النهاية البعيدة .

لم يدم حدسي طويلاً،فسرعان ماأوقف تركي العربة فجأة، ترجلت منها ظناً مني بوصولنا ،ظهر لي أربع رجالٍ بأزياء ملونة بكافة الألوان تقريباً،كانوا مثل فرسان من قصص ألف ليلة وليلة.

طلبوا منا أن نصعد إلى عربتهم ،كانت العربة كبيرة جداً،وتشبه مايحكى عنه في القصص الخيالية ،أحدهم كتاباً من تحت سترته ،وسرح في سطوره،بدت عليه علائم المعرفة الوافرة .

القلق جعل من تركي يتلون بلونه الغاضب ،لاحظ أحدهم ذاك الاحمرار الفاضح فقال مطمئناً:نحن أصدقاء الشاعر تمام ،قائد الثورة المقبلة لتوحيد البلاد من جديد والإطاحة بحاكمي البلاد ،وبناء دولة كالأزياء التي نلبسها ،ملونة،مضيئة بالجمال الأكمل.

حملقت فيه مستغرباً فتابع موضحاً:والدك يعمل بشكلٍ سري معنا،ونحن وعدناه بأن تكون معنا في أمان وكرامة.

حدقت بنجمٍ بعيدوأنا مضرج بمشاعر مبهمة ومتداخلة،شعرت بوالدي يلوح لي متأسفاً عبر ذاك النجم.

التفتت إلى تركي ،فابتسم لي وبرزت أسنانه القبيحة كنجوم تتلألأ.

أغمضت عيني لغفوٍ لذيذ،شعرت بالعربة تسير بكل رزانة ،انتهى مخاضها العسير ،والطريق صارت سوية ،لم تعد وعرة

اللاذقية /2015

كانت جدران منزل خال نجيب المنقوشة بنقوش تخلو من الذوق ،زاخرةً بصور ضخمة لشخصيات سياسية هامة ،وفوق سطح ذاك البناء الموحش يرفرف علمان بقوة ،أحدهما لحزب سوري وآخر لحزب لبناني .

وبدلاً من أن يزول شعور الخوف عن نجيب ويحل مكانه نوع من الأمان باقترابه من المنزل ،إلا أن الخوف كان يكبر في داخله ،كلما اقترب خطوة من ذاك المنزل الذي كان كئيباً و بدا وكأنه مهجور ،تسكنه مجموعة من الأشباح .

الهدوء الذي ينبعث منه ليس صمتاً ،وإنما ثمة مايشير إلى وجود صوت ما خنق دون رأفة .

كانت الأعلام المرفرفة تصدر صوتاً محذراً بعدم الاقتراب .

ولم يتأخر المنزل عن فتح بابه على مصراعيه عندما رن نجيب الجرس ،لتظهر له امرأة قروية ترتدي رداء عليه رسوم أزهار ،وكان شعرها مبللاً بالعرق ،وعيناها جاحظتان لا نبض فيهما ،لم تتفوه بأية كلمة وبقيت جامدة الملامح إلا أن عرفها نجيب على نفسه عندها سمحت له بالدخول واستدارت عائدة إلى مطبخها .

عندما دخل نجيب أصبح صالون المنزل مكشوفاً بالنسبة له ،كان جميع أفراد الأسرة قد اجتمعوا للعشاء ،ولاحظ نجيب أن عشاءهم لحم مشوي .

رحب خاله به مطلقاً عبارات لم يفهم منها شيء لأنها ضاعت بين الطعام الذي يملأ فمه ،كان هذا مقززاً ،أما زوجة خاله وابنتاها فتابعن تناول الطعام بعد أن ألقين نظرة غير مبالية به .

كن مثل دمىً براقة ،كل شيء فيهن حظي بالاهتمام اللازم ،وبالرغم من ذلك بدون مثل قطع أثاث باهظة الثمن لكنها ساكنة لا روح فيها .

كان من الواضح أن مهندس ديكور قام بتصميم ديكور المنزل بعد أن اختار خاله هذا التصميم المبتذل مثل بيوت الغجر .

جلس جرجس صامتاً بعد رفضه لعرض خاله بمشاركتهم الطعام ،وراح يفكر بما حوله من أشياء مثيرة للقرف ،وضحك في سره لفكرة أن الخوف قد حال إلى غثيان .وشعر أن الغثيان يقود لشجاعة ما في بعض المواقف .

عادت المرأة القروية حينها من المطبخ واستأذنت للمغادرة فطلب منها خاله أن تجلس لتأكل معهم فابتسمت مدهشة نجيب الذي ظن أنها لا تعرف كيف تبتسم .

دعت المرأة وهي تأكل بنهم لخال نجيب بطول العمر والصحة والرزق الوفير وأن ينصره الله على أعدائه .

شكرها الخال وهو يرد على جواله ،مفسراً لها كم هي غالية على قلبه كأمه ،وبأنه أبو الدراويش أمثالها ،ثم طمأن من كان يتحدث معه على الهاتف بأن ابنه يمكنه البدء بالعمل في اليوم الذي يحب ،وأن لا يخشى شيئاً ،قال تلك العبارة وهو يقهقه بما يثير الاشمئزاز،وراح بطنه يرتفع ويهبط وتطاير البصاق من فمه .

قامت إحدى بناته برفع صوت الشاشة الكبيرة المعلقة على الحائط المقابل لمكان جلوس نجيب ،وصدح المكان بصوت رديء لمغن يزمجر بحماس ،ثم تابعت طعامها دون أي ردة فعل .

انسابت الأغنية لتكمل اللوحة التي يرسمها المكان ،وغاصت في عمق الأشياء لتتوحد بها ،فأمسى المكان بمثابة جسد متماسك منسجم ،يكتسحه العفن والقذارة .

في هذه الأثناء وبينما القذارة بدأت تعدي نجيب ،وصلته رسالة تهديد أخرى بتوقيع مصطفى على جواله ،فارتبك متخبطاً في أريكته .

ثم راح يفكرفيما سيقوله لهذا الرجل الموتور ،وكيف سيلجأ لمساعدته ،سيصبح حتماً بعدها كالطرطور بين يديه .

راودته تلك الأفكار و هو يراقب تكشيرة خاله ،والخواء الذي يحيط ببناته وزوجته ،وما فاجأه حقاً تحول كل هذا المشهد الغبي إلى مبارزة كلامية مشحونة بالغضب لحظة وصول نضال ابن خاله وولوجه الصالون ،ثم الإجابة بالنفي على سؤال والده فيما إذا كان قد طلق تلك العاهرة التي يتزوجها أم لم يطلقها بعد .

وكانت تلك الإجابة بالنفي كافية أن تجعل من خاله يتصبب عرقاً ،ويثور ويهدئ مراراً ،معلناً بأعلى صوته أنه قام بإنجاب حمير وليس رجالاً ،ثم طرده لولده دون أن يمنحه أي فرصة ليتكلم .

بعد ذلك ،التفت الخال إلى نجيب ليصب كل غضبه عليه ،وصرخ في وجهه: ((وأنت لا أعلم لم تزوجت أمك بأحمق كأبيك ،لا يعرف كيف يعيش ،علماني ،غير حزبي ،ويقترب أن يكون شحاذاً ،ورغم ذلك أنفه في السماء )).

عندها لم يعلم نجيب من أين أتى بكل القوة اللازمة للرد عليه بالأسلوب ذاته ،وأين اختفى كل خوفه من مصطفى وتبددت حيرته .

(( تزوجته لأنه إنسان ،وليس بغلاً مثلك )).

قال نجيب ذلك وأسرع باتجاه الباب مشبعاً بالكبرياء .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الرابع عشر

أنا صهيب العظيم

نعم ،أنا صهيب العظيم ،ذائع الصيت في كل أطراف البلاد ،المحارب القوي البنية والقلب ،الحاضر دوماً في كل حدث ،الذي لا يتخلف عن عزاء أو تشييع لشهيد مسلم ،يجمع مقاتليه ويدربهم على رقصات ومنافسات بالسيوف ،لكي يعلو صوت الصليل إكراماً لشهداء الإسلام ،والويل لمن يتذمر ،والرحمة على من تأتيه ضربة سيف مخطئة.

صهيب الذي كان يسخر حرمتيه صادقة وعادلة في كل مصيبة تحل بأشراف البلاد ،تحملان الصرر المليئة بالنقود واللحوم فوق رأسيهما ،وتمضيان بخيري لتوزعاه على العباد.

حاولت صادقة بخبثها الملعون ذات مرة أن تتملص ،وكانت حجتها انتفاخ بطنها اللعين بفرخ على صورتها ،قمت بجلدها بالسوط إلى حد الإدماء ،حتى قبلت قدمي وهي تطلب الصفح وتحلف بأن تعمل كالحمارة كل مايطلب منها.

كنت أجلب أفضل النعاج دون أي ثمن من الاسواق التي تهابني وتحترم صيتي ومكانتي،وأذبحها أمام أبواب البيوت التي ستشهد زيجةً جديدة تكثر المسلمين وتشحذ قوتهم ،ثم أغطس أصابعي بدمها المبارك وأخط الشهادتين بالدم فوق جدار.

بعد كل معركة ،يبحثون عني ويوكلون إلي مهمة توزيع الغنائم لكوني معروف بعدلي ،وكياستي في انتقاء النساء لمن تلقن لهم ،أجر من تبقى منهن وأهديهن إلى الشيوخ العجائز الذين فقدوا حريمهم.

نعم ،لذا أنا عظيم،ولن يتمكنوا من محو اسمي من تاريخهم ،أنا صانع هذا التاريخ ،هم يعتقدون بأنني مجدف وأنتم تقهقهون الآن من جنوني ،أما أنا فأنعت نفسي بالغبي الذي استيقظ فقط على يدي كلير الجميلة رغم سفورها ،الحكيمة رغم كفرها ،لا لا لايوجد جنةٌ إلا بين يديها ،أعيدوني إليها ،صهيب الحقيقي هناك في عينيها ،كلير التي تجعلني كمن يقابل الله بصوت موسيقاها على تلك الآلة الملعونة ،والتي تضرجت بدماءها الغالية ،لم تعد أصابعها تتحرك برشاقة،لأنها لم تعد موجودة ،قطعها سيف أحد المقاتلين الذين دربتهم ،لم أعي ذلك ،أقسم بالله العظيم ،كانت ذاكرتي القحبة غائبةً دفينة في الوحل،لو عرفتهم لسحقت عظام فكوكهم قبل أن يلمسوها ،هاجموا المنزل وقتلوا كل من فيه ،،قطعوا الأرجل والأيادي ،وصرخوا :الله أكبر ،جر أحدهم كلير بعد أن ربط يدي ،وتعرف علي لذا لم يقتلني ،حاولت كلير الفرار ،صفعها أحد الحثالة وحملها من شعرها ،تكوم شعرها الناري بين يديه القذرتين كشمسٍ محجوبة،رفسته بكل قوة قدميها،مزق سترتها البيضاء التي أحببتها ،سقط صليبها الذهبي فوق البيانو ،باعد المعتوه ساقيهاودفن رأسها بين مفاتيح البيانو ،تكسرت أسنانها وضاعت بين المفاتيح ،صرخت وقضيبه يغرز في روحها،عزف البيانو تحتها مقطوعةً رافضة،صراخاً موسيقياً اخترق السماء،كانت الموسيقى تبتلع رأس المعتدي ،لم أقوى على فعل شيء ،كنت أغني خلف الموسيقى ،وتنسج دموعي رقصة حزينة.

رسمت الدماء وجهاً أحمراً كشعر كلير ،بال الحقير على شعرها ،وبكت الشمس بولاً ،سكتت الموسيقى وأغلق البيانو فوق شمسه ،التي أغمضت عينيها واستدارت نحو الغرب حيث جلست مشلول الحركة والعقل .

غاب عقلي وكان غيابه ما منحني القوة ،مزقت الحبال التي طوقتني ،وركضت باتجاه المغتصب اللعين ،حملته من قدميه ورحت أضرب رأسه على البيانو الذي عزف برأسه مشجعاً،تكسر البيانو حطم نفسه لأجلي ،أطعمته عيني ذاك الأخرق ،لفظ البيانو أسنان كلير ،وأصابعها ،كمن يرمي بنقود فوق نعش ،تناولت سيف هذا الحقير وفجرت نبعاً من الدماء في أصدقائه ،حملت كلير بين يدي ومازالت الشمس تبكي فوقها ،فتحت عيناها بصعوبة ،سحبت بشعاع عينيها مافي رأسي من حكمة ،وثبتت تلك النظرة العاتبة إلى الأبد في عينيها ،بعد أن حكمت علي بالجنون الأبدي.

اللاذقية /2015

إنه اليوم الرابع عشر من نوفمبر عام 2015 ،وقد أشرقت الشمس فيه كالمعتاد على مدينة اللاذقية حيث يعيش نجيبة ،مع خوفه وأحلامه ،واليوم يتم نجيب شهراً من الإقامة في مقهى قيثارة الذي يملكه نهاد ،المثقف السكير بعد أن وافق على طلبه بالعمل لديه مقابل أن يسمح له بالمبيت في المقهى وحكى له عن رسائل التهديد التي تصله .

ومنذ ذلك الحين ونجيب يعيش حياةً يوميةً متشابهة ،فها هو اليوم يبدأ ككل الأيام ،جاء موزع الجرائد راكباً دراجته الهوائية ورمى بالجرائد عبر الباب المشرع على درفتيه ،الذي اعتاد نجيب على فتحه كل صباح لتجديد هواء المقهى ،ثم الشروع في تنظيف المكان ومسح صور السبعينات ثم اعتاد أن يقف عند صورة جاك بريل وأن يخال مصطفى حاملاً ذاك الغليون الغريب الأطوار .

لم يكن يعلم لم اختار هذا المكان للهرب من مصطفى مع أنه يعرفه جيداً ،لكنه خمن بأن مصطفى الجديد الذي يرسل رسائل تهديد ويمتلأ رأسه بالظلام سيكون بعيداً كل البعد من أن يخطر له بأن مكاناً بهذا الجمال قد يمسي ملجأً لضحيته .

وكالمعتاد اتصلت إنجي بنجيب لتلقي عليه تحية الصباح ،وتخبره بأنها تشعر به ،ثم احتسى نجيب فنجاناً من القهوة بعد أن جلس إلى طاولتهما المعتادة ،تأخر نهاد وزوجته اليوم عن موعد وصولهما المعتاد .

حمل نجيب الجرائد فشعر بأنها أثقل من المألوف ،وخمن أن فيها ماهو ثقيل للغاية ،ثم عاد بها إلى طاولته وإنجي ،بجانب النافذة المطلة على الفسحة الفارغة المحاطة بأشجار الكرمة التي ترسل أسراراً ،لكنها اليوم كانت صامتةً ،ساكنةً وموحشة .

راح يقلب في الجرائد بعد أن تنبه لهذا السكون المخيف الذي يحيط بالمقهى ،وشعر بخوف ما لم يشعر به منذ آخر رسالة تهديد وصلته حين كان في منزل خاله غريباً عن كل ماحوله .

تبدد هذا الخوف حينما حلت الدهشة مكانه ،عندما قرأ خبراً في الجريدة عن هجمات إرهابية شاملة على مدينة باريس تشمل إطلاق نار وتفجيرات انتحارية في مسرح باتاكلان وشارع بيشا وشارع أليبار وشارع دي شارون ومحيط ملعب فرنسا ،وأن حصيلة ضحايا هذه العمليات تصل إلى مئة وثلاثين قتيل ،وجرح الكثيرين . كانت الصور المنشورة في الجرائد توحي بأنها قادمةً من حرب عالمية لم يشهدها العالم بعد ،ولم يكن لأحد ليصدق أن تلك المدينة هي باريس ،مدينة بودلير وسارتر .

وما أن أنهى قراءة الخبر ،حتى أرسلت له أشجار السرو نسيماً حاراً ،وشعر بلطمة ساخنة على جبينه ،ثم أخذ يتأمل الصور المعروضة على الجدران ،ولاحظ أنها للمرة الأولى تبدو بأنها جماد ،مجرد صور للحظات مندثرة في حياة مشاهير عاشوا في زمن ما ،أصبح اليوم غير ذو أهمية ،وحتى تافهاً .

مامعنى غليون جاك بريل أو شاربا دالي ،تلك رموز لا تنتمي لثقافة هذا العصر ،كان دخان النيران الذي ينبعث من صور الجرائد هو الذي يلون هذا العصر ،هو رمزه السرمدي ،وهو ماترسله أشجار السرو ليلتطم بجبين نجيب ،ليوقظ خوفه من مصطفى ويشله في كرسيه ،صامتاً محدقاً في اللاشيء ،إلا أن جاء نهاد وزوجته لإيقاظه من غيابه ،كانا قد علما بما جرى لكنهما بدا غير مكترثين ،وتوجه كل منهما إلى مكانه وحياته الروتينية .فتح نهاد زجاجة بيرة ولم يتخلى عنها رغم توبيخ زوجته أمل له ،وصراخها الممزوج بالوهن ،وتوهج شعرها الناري بعد أن يعبر بين خصله شعاع وضاء أرسلته شمس غاضبة ،تصر على مقاومة عتمة الدخان المنطلق من الجرائد .

في الخارج ،كان الدخان قد أعلن انتصاره على الشمس عندكا تجمع على شكل غيوم سوداء حجبتها ،ثم راحت تلك الغيوم تفجر غضبها في حبات برد كبيرة وقاسية وكأنها من رصاص .

واصطدمت حبات البرد تلك بكل ماظهر في طريقها بقوة ،مفجرة نفسها بين شقوق الجدران ،وفي الزوايا ،لينضح منها الماء الذي يقتل الغبار،مذكراً الناس بأنه لا بد دوماً من وجه جديد للحياة .

عندما راقب نجيب حبات البرد عبر نافذته الخاصة ،فهم لعبة السماء ،والسر التي ترسله شجرة السرو ،فسارع إلى جواله ،وقام بفتح صفحته على الفيس بوك وقرر أن ينشر عما شعر به تجاه تلك الأخبار والصور التي جاءت من مدينة لم تعتد يوماً على الدخان ،من باريس حيث غنى جاك بريل أغنية نجيب ومصطفى المفضلة ،والتي غدت اليوم تخص مصطفى بعد أن ماتت داخل نجيب منذ رحيله .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الخامس عشر

أنا تمام الشاعر الثائر

الخزي هو ماستشعر به عندما تملك ديمةً محتجزةً في رأسك ليس بوسعك تحريرها منه ،وإن حررتها أمطرت ماءً تجعله العقول الضيقة وبالاً على العشب .

ديمة الأفكار تلك عليها أن تبقى محتجزةً تكبر وتكبر لتنفجر نوراً يسطع كشمس ستحرقك أنت في البداية .

لتملك تلك الديمة عليك أن تولد ولادةً مثيرةً للريب ،قدمٌ عرجاء ،مسخٌ ‘عقابٌ إلهي ،لتصير بالضرورة مسلماً غير مرغوب فيه ،أمهاتٌ يشتمن حظهن ،وآباءٌ يجلدون قدميك أو يحجبونك عن أنظارهم متناسين تلك الوصمة التي عكرت صفو أيامهم .

السذج من أئمة المساجد سيجزمون بانك ممسوس بجني ،أو أن ماتتفوه به من تساؤلات وثرثرةٍ غريبة هو اختبار من الله لإيمانهم ،قد يكتفون حينها بالدعاء لك بالهداية ،أو قد يسمح لهم وقتهم بمحاولة طرد الجن من جسدك الملعون .

تمر أيامك وأنت تثرثر كلاماً أشبه بوساوس الشيطان الرجيم ،يشيحون بوجوههم عنك كمن يغلق باباً في وجه ريح .

زوجاتٌ مترفات يضجرن منك ويخلعنك ثم يهربن نحو النسيم ،ليعشن مع رجالٍ ذوي أقدام دببة ،وعلماءٌ ينعتونك بالمجدف ،ويقرون بحرق أفكارك المهرطقة ، ويدلون بشفاههم الغليظة الغائرة في لحاهم الشيباء ،لتهتز كتل اللحم تحت ذقونهم غاضبةً .

قد تحرق أنت ،وإن حالفك الحظ بأبٍ مؤمن يجعل اللحى تسجد ،والشحم يهدأ ،ستقذف إلى المنفى ،أو السجن ليتم العدل ويعلو صوت الحق .

تمر عليك السنون وأنت تحاول تذكر متى فقدت انتماءك ؟ الأمر أشبه بتذكر لحظة اختفاء جرح ز

تجر عارك وغرابتك ،وتعتكف في مكانٍ ما ،يمر الوقت طويلاً لتكتشف بعدها أنك لست الغريب الوحيد ،يقذفون إليك بمن يؤنسون وحدتك ،تشعر بأنك تحتاج لذاك الآخر الذي يشاركك عارك .

تغدو الأمسيات توحداً مع شركائك ،إلا أن تغدو لغتكم واحدة ،تنطق بألوان كثر .

شيئاً فشيئاً تتلاشى الحدود وتتمازج الالوان ،تذوب النقاشات والأسماء والمشاعر لتزركش لوحةً تمثل ربيعاً غريباً .

يمضي الحماس بكم نحو رتق كل فتق ،وطلاء كل صدأ ،فتصطدم أصابعكم بأقدام الغيلان ،وتوقعكم رمال الماضي المتحركة في فخاخها .

تدمي اصابعكم أشواكُ تبرز من حروف كتاب ،أو سيفٍ مشهر بين فخذي رجل دين ،أو منجل بين يدي جاهل أعمى .

يغدو الخوف والأمل هنا صديقيكم المفضلين ،يجران عربة حماسكم نحو ذاك الربيع الغريب ،لتمطر السماء الحالكة فوق طرقاتكم ،فتوىً من هنا وحكماً من هناك ،لعنةً من إله ،أو إقصاءً من بشري .

في تلك الطرقات لامجال للعودة ،عليكم ان تتابعوا نحو الأمام أو نحو الأسفل حاملين معكم الكتب فقط دروعاً للحياة .

اللاذقية /2015

تفاجأ نجيب بردود الفعل الغريبة إزاء منشوره على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك ،فقد نشر كل من سيف وعبير ومرهف تعليقات سخروا فيها من ذاك التعاطف الزائف كما وصفوه ،واعتبروا أنه من الأفضل لتلك المشاعر أن تمنح للسوريين ،وأن تلك البلدان لا تستحق حتى أن نحزن لأجلها ،بل تستحق أن تذوق من المر الذي تذوقناه .

أثناء قراءته لتلك التعليقات كانت ثورة البرد قد انتهت ،وأطلقت الشمس شعاعاً لطيفاً وشرع الزبائن بالتوافد إلى المقهى . جاءت جاسمين المخرجة المتمردة وقد صبغت شعرها بالأحمر هذه المرة ،وراحت تخبر نهاد بحماس عن ضرورة صنع فيديو جيد تظهر فيه وهي تعبر عن تضامنها مع الشعب الفرنسي ،كان نهاد يهز رأسه بالموافقة وبدا أنه غير مكترث بحديثها ،وراح يدخن السيجار ويتلمس خصله الشيباء كل هنيهة ،ثم نادى على نجيب ليسأل جاسمين عن طلبها ،وفشل في تشكيل جملة مفهومة فقال لنجيب وهو يتلعثم ويدور كأس البيرة أمامه كطفل يلهو : جا..سمين جا….سمين شوفها

ازدحم المقهى بعد ذلك بالزبائن لدرجة أتعبت سكين أمل من التقطيع المستمر ،والتي عرف عنها بأنها سكين نشيطة ،لا تتوقف بتاتاً مثل تجهم مالكتها ،وكانت تلك السكين بمثابة رمز لاستمرار الحياة في عيني أمل ،كانت أداة لتبديد الحزن وخلق الصبر .

لاحظ نجيب بعد أن امتلأ المكان بزبائنه المعتادين ،أن شاغلهم الوحيد كان حديث فرنسا ،وأن موقفهم جميعاً كان هو إدانة هذا العمل الإرهابي ،لكن ما اختلفوا فيه هو الحماس ،فالبعض كان متحمساً للغاية مثل جاسمين لجعل تلك الحادثة مادةً لطرح أفكاره الثورية والتحررية ،معتبرين أن ما حدث بمثابة تأكيد على صحة أفكارهم بوجوب تغيير هذا المجتمع ومساءلة الدين والسياسة وزعزعة كل مفاهيمه .

وشعر نجيب بأن بعض اليساريين قد عمتهم نشوة الانتصار،وشاهد في عيونهم نظرةً شامتة لهذا العالم ،وقرأ فيها :

((نحن كنا مدركون لما يخبئه المستقبل ،ورغبنا في تغيير هذا العالم نحو الأفضل ،لكننا كنا خطائين في نظر الجميع ،فليذق هذا العالم نتائج تعجرفه وعدم اكتراثه بالمثقفين وإنصاته لهم )).

وسط تلك المشاعر وروائح القهوة والخمر والكبرياء ،شعر نجيب بالوحدة ،فجرجس وكيندال ومصطفى ليسوا هنا ،وهو لم يناقش ماجرى مع أي أحد ، سوى ذلك المنشور الذي كتبه ليقرأه أناسٌ غارقون بالإجابات الجاهزة والحادة .

حتى العم نشوان الذي تواجد في المقهى ،انضم إلى أصدقائه اليساريين القدامى وتلحف بالكبرياء نفسه ،وشربوا معاً نخب انتصار فراستهم .

ونزيهة التي بدت غير آبهة بانفصالها عن كيندال ،ثم سفره إلى القامشلي لعدم احتماله شوقه لعائلته وأمه ،والذي ما إن وصل إلى أول حاجز للأشايس حتى سيق في صفوفهم لفترة قصيرة ريثما استطاع أن يثبت لهم بأنه طالبٌ جامعي .

اتصل بنجيب بعد نيل حريته ،وأخبره بسعادته وهو بين عائلته أخيراً ،وبأنه سيعود قريباً .

وقد عاش نجيب بعدها بصمت ،ولاذ بإنجي معيناً له ، والتي كان يرى فيها الوحدة والاغتراب ذاته .

لكنه لاحظ تغيراً ما فيها منذ فترة ،وفشل في العثور على ذاك السر المشترك بين عينيهما ،حتى أن جملة (أنا أشعر بك )غدت أشبه بتحية صباح أو مساء اعتيادية .

كان يشعر أن الرياح التي حملت مصطفى وجرجس وكيندال بعيداً ،قد بدأت بالتسلل للإحاطة بإنجي وحملها معها نحو مكانٍ ما ،لتكتب لنجيب من جديد صفحةً أخرى من صفحات خيبته .

كان هذا ما يشغله ،ولم تسبب له رسائل التهديد أي قلق ،حتى أن الخوف الذي شعر به بعد قراءته لها ،كان نوعاً من المشاعر المختلطة ،ولعل أكثر ما ضايقه هو عدم الفهم في هذا كله .

وتساءل بعد أن زارته تلك الأفكار ،عما إذا كان سبب عدم الفهم هذا نابعٌ مما حوله ،من هذه البلاد المبهمة أصلاً ،أم من خوفه الداخلي من أن يفهم ،وخوفه من الوحدة .

محاولة روائية خائفة لنجيب

المكان والزمان :مجهولين

الفصل الأخير

أنا الأعجمي حارس الزنزانة

لست وحشاً ،لأن الوحوش غير موجودة ،من أنا إذاً؟..ربما فوضى من الانفعالات تتخبط في شرك الضعف ،شخصٌ ما انفصل عني ،نسيت متى ،لكنني أرجح لحظةً معينة ،حيث كنت أنا الحقيقي ،أمزق بلا رحمة ،وبسرعةٍ كالبرق ،لا وقت لديك لتفكر ،كما لاوقت لديك لتستوعب ،عليك دفن كل شيء في برهة ،عليك محو ذاتك كما لو أنك تسحق حشرة .

كل الأشياء التي اعتبرتها معنىً لحياتك ستتحول إلى خراء ،تزوجت من ذات العيون الوحشية وأنجبت طفلاً قوياً ،عليك نسيان ذلك ،أين الزوجة ؟وأين الطفل ؟ لاتتساءل ،لاوقت لذلك ،كم اللحظة قصيرة ؟عليك استيعاب ألمك وجهلك وفوق كل ذلك ذاك السوط اللعين ،من أنت ؟ هل أنت حيوان ؟ ماذا تركت وراء ظهرك ؟ لكنك لم تقرر تركه ،لماذا تسير نحو الأمام ؟ ثياب طفلك ،وابتسامة زوجتك ،الفراش ،السعادة ،أنت الآن تجر من رقبتك وتلك الأمور لاوجود لها .

لم تكن إنساناً منحوك هم الإنسانية ،وليس عليك أن تستوعب ذلك ،هذا ليس من شأنك ،لا ماضٍ لديك ،الزوجة والطفل والسعادة ،كانواعندما لم تكن موجوداً اصلاً .

نطقت بالشهادتين ،متى حصل ذلك ؟ وماهي الشهادتين ؟تلك اللحظة اخترعوا فيها سيراً آخر للزمن ،وأصبحن مثل طيرٍ يسقط بعد اصطياده ،أنت تسقط ،لا أنت تعزز الآن ،حشوا رأسك بتلك العبارة ،أي عزةٍ هذه ؟

بأي ذنبٍ أضرب ؟ أين قذفتم بحياتي ؟ هم غير مهتمون بذنبك وبحياتك ،أنت خلقت الآن ،أنت وليد السوط ،وليد دماءك ،لا تلتفت إلى الخلف ،لا شيء وراءك ،كانت كذبة ،خدعة !

تم تحريرك من خدعتك ،أنت الآن تفيض بالنور ،أي نورٍ هذا ؟ لاشيء براق ،يمر الوقت لتدرك أنك معصوب العينين ،مازلت تفكر بالطفل والزوجة ،لا يمكن استيعاب كل هذا الكم ،أنت إنسان ،لا تستطيع النطق بها ،اللسان أبطئ الأعضاء ،تحرك أيها الأخرق ،تكلم ،ثم لا ، لا ذنب للسان ،كلامك لا شيء ،اختفى وراء ظهرك ،مع الزوجة والطفل ،مع خدعتك .

أنت الآن رجل للحق ،عليك ان تشبههم ،اضرب بالسوط ،كما تلقيت ضربات منه ،افعلها ،اشتم واهزأ،تغمرك الحقيقة الآن ،أي حقيقة يا غبي ؟الدم لايشع أبداً ،الحيوان يدرك حقيقته ،تماماً كما تدرك الآن أن الإنسان الذي خلقت عليه هناك ،في خدعتك ،في حقيقتك.

الحقيقة قادمة ،لم تخبو خلفي ،لحقت بي ،النور ليس كما يدعون ،الجميع سيدرك الحقيقة ،أي إله يقبل بالدم نوراً له ؟

لن تعود تلك السعادة ولن تعود الزوجة والطفل ،لكنك ستتحرر،وستحرر سجنائك ،الذين لم تكن سجانهم يوماً ،ستفتح باب الزنزانة ،خط الثلث ينتظر من يبرع فيه ،الزوجات ،سأحرر كل شيءٍ من هذه الزنزانة ،الجميع ،لن تهمني السماء المزيفة ،وحقيقة الدم المفبركة ،لا حاكم باسم إله ولا حاكم باسم نفسه ،ولن أكون وحيداً ،الجميع لن يصدقهم ،لا إله للضغينة ،ولا نور في الركود .

نعم أنا لست وحشاً ،لكن العبودية أشد قتامةً من العتمة .

ولا مكان لخدعةٍ في طريق شمس ….

اللاذقية /2015

غادر نجيب المقهى قاصداً منزل إنجي ،بعد أن خدعته شمس المدينة التي راحت ترسل أشعتها الحادة وكأننا في يوم صيفي حار ،وبدا من الصعب التصديق بثورة البرد التي تفجرت في الصباح ،وما إن وصل إلى بسطة العم إدريس وتوقف للحديث معه ،حتى أطلقت السماء ذخيرتها مجدداً .وكانت حبات البرد هذه المرة صغيرة الحجم واصطدمت بالطرقات بنعومة ،وكأنها تقبلها .

احتمى نجيب والعم إدريس من المطر تحت شرفة ما ،وتأملا الإيقاع الهادئ الذي أصبح يحرك الأشياء حولهما ،مر نهاد وزوجته أمل بجانبهما ،وقد حملت أمل في يدها مظلةً حمراء اللون في يد ،وضمت زوجها لها باليد الأخرى ،لتصبح المظلة قادرة على حمايتهما معاً ،لكن نهاد كان ثملاًورفض مبادرتها ،ثم راح يرقص تحت حبات البرد ،أمسك المظلة من يدها ورماها جانباً ،ودعاها للرقص ،أطلقت أمل ضحكةً ما لم تطلقها منذ سنوات ،وانطفأ شعرها الناري بعد أن بللته قطرات المطر .

ركض طفلٌ يبيع الجرائد واحتمى تحت الشرفة إلى جانب نجيب والعم إدريس ،خلع سترته ولف بها الجرائد لكي لا تتبلل ،اقترح عليه نجيب أن يشتري منه هذه الجرائد ،وطلب منه أن يرتدي سترته من جديد ،حتى لايمرض .

وعندما هدأت ثورة البرد اللطيفة ،انشغل العم إدريس في فرش كتبه على لوح خشبي ،ولم يلتفت لنجيب عندما ودعه متابعاً طريقه تجاه شارع أنطاكية ،ليشتري كتاباً من مكتبة العم نشوان ،وعندما خطا أولى خطواته في ذاك الشارع الذي امتزجت فيه رائحة الحياة مع رائحة المطر ،وأسرعت النسوة فيه إلى الشرفات لنشر الملابس مجدداً بعد هدوء السماء على حبال الغسيل التي نظفتها حبات البرد .

وانهمك رجال الحي من جديد في أعمالهم ،وكسائر الشوارع كانت الأمور تجري بإيقاع هادئ ،والغيوم تنحسر عنه ليعود الضوء الخافت للشمس التي خففت من حدتها تماماً كشعر أمل زوجة نهاد .

في مكتبة العم نشوان ،لم تخف حدة النقاشات القائمة بعد ،ونشوة الانتصار والحماس مازالا مسيطرين على المشهد كله .

كان العم نشوان منهمكاً في محو أسعار الكتب عنها واستبدالها بأسعار أعللى ،وعندما سأله نجيب عن سبب هذا ،أخبره بأن الدولار قد ارتفع وارتفع معه كل شيء ،والكتب لم تأخذ حقها من هذا كله إلى الآن ،قال هذا ورفع رأسه نحو الأعلى فبدا أنفه مثل عمود ارتفع عن مستوى وجهه .

في اللحظة ذاتها سأله أحد الزبائن عن إمكانية حسم على كتاب ما ،فأجابه : ((نحن لا نساوم لانساوم )) وهو محافظ على الوضعية ذاتها .

تأمل نجيب عندها الكتب بصمت ،وام يشعر بالرغبة في ابتياع أي منها ،ثم خرج من المكتبة مهرولاً .

قلب في الجرائد التي ابتاعها من ذاك الطفل المسكين ،دون أي مبالاة لكونها جرائد اجتماعية وفنية تنشر أخبار المشاهير وفضائحهم .

استقل إحدى الحافلات المتجهة صوب حي إنجي ،وعندما وصل إلى منزلها ،رن جرس الباب مراراً ،لكن أحداً لم يجبه . وفجأة ،فتح باب المنزل المجاور ،وظهرت منه امرأة في الأربعينيات وأخبرته أن إنجي قد اضطرت للسفر منذ ساعات قليلة لعند والدتها للوقوف بجانبها بعد وفاة والدها ،وأنها لم تحتمل إخباره بهذا ،لأنها لن تملك القوة اللازمة لوداعه .

بدت تلك القصة لنجيب غير منطقية ،وشعر بأن إنجي قد هربت منه للسبب ذاته الذي جعل مصطفى يفر منه ،ثم تساءل فيما إذا كان مخطئاً في تعامله مع كل من حوله .

وعندما استدار للمغادرة ،نادت عليه المرأة مجدداً وقالت له : ((لن أكذب عليك يافتى ،إنجي قد تزوجت وجاء زوجها في الصباح وأخذها معه ،وهو رجلٌ له قيمة ووزن في البلاد )). ثم همست له اسم ذاك الرجل في أذنه .

(( ولكن الكل يعلم أنه مجرم خطير )) . أجابها مندهشاً.

ثم غادر المبنى بخطوات مترددة ،واتجه صوب منزله ،حيث عاش برفقة مصطفى .

فقد توازنه فجلس على حافة إحدى الأرصفة ،وراح يقلب في الجرائد التي بين يديه ،وشاهد بالصدفة خبراً عن فضيحة أثارتها فتاة عندما رأت خطيبها مع إحدى عشيقاته ،وتأمل الصورة المنشورة فعرف كل من فيها ،كانت تلك الفتاة هي الفتاة المحجبة التي شاهدها في المسرح ،وخطيبها الذي كتب في الصحيفة عنه أنه ابن رجل أعمال معروف ،لم يكن سوى ذاك الشاب ذو الشوارب التركية ،أما عشيقته فلم تكن سوى صابرين صديقته السابقة .

وعند قراءته للخبر نسي كل ماعرفه عن إنجي ،وكل ماحدث في فرنسا ،ونسي حتى تغيير العم نشوان لأسعار الكتب .وعاد مصطفى ليحتل كل تفكيره ،وبعد سكون دام لأكثر من خمس دقائق نهض نجيب بعد أن أمسى متأكداً من عدم وجود صلة بين مصطفى ورسائل التهديد ،وأن تلك الرسائل لم تكن إلا انتقاماً سخيفاً لصابرين منه .

عندما وصل إلى منزله ،كانت السماء قد أمطرت مجدداً ،التقى بالخالة أم ذو الفقار أمام المبنى ،نادت عليه ليحتمي بمظلتها ،وعندما ولجا المبنى دعته لتمضية الوقت مع حمزة والسهر برفقته بعد كل هذا الغياب عن منزله ،فوعدها بالمحاولة .

اندفع بعد ذلك نحو باب منزله وأدار القفل دون أي تردد أو خوف ،ونظرت إليه الخالة أم ذو الفقار مستغربةً ،وكأنها تشاهد شخصاً آخر .

عندما دخل نجيب ،طرق الباب خلفه بكل اطمئنان ،وابتسم لمن كان ينتظره في الصالون ،جالساً على إحدى الأرائك ،يدخن غليونه مثل جاك بريل .

تأمله نجيب ولاحظ أنه حليق الذقن والشاربين ،ثم سأله بنبرة معاتبة : أين كنت ؟

_ قضيت تلك الأشهر متنقلاً بين منازل أقربائي هنا.

_ أيعقل؟ كل هذه الأشهر من أجل مشاحنة كلامية بسيطة واختلاف في وجهات النظر ؟

في تلك الليلة ،جزم سكان المبنى بأن النوم لم يزرهم ،لكنهم لم يغضبوا لذلك ،بل كانت آذانهم تطرب للأصوات المنطلقة من منزل نجيب .

كانت تلك الأصوات تخص صديقين يغنيان أغنية فرنسية جميلة ،هي المفضلة لهما.

انتهى

القصة السابعة

(( أرمينيا ))

الإهداء

إلى عمتي التي هي أمي الثانية..

وأبي وإلى من نزح أو بقى من أهالي بلدتي القنية ..

وإلى مادري جنة ..

أتعهد بأنني لم أعرض هذه المخطوطة على أي دار نشر ولن أعرضها قبل أن أتلقى من لجنة القراءة تقريراً بشأن نشرها .

_ 1 _

التأمل في عقارب الساعة يبدو مضجراً ، نجدها تدور وتدور منذ قرون دون أي توقف ،أترانا خدعنا بمقولة ( الحياة) وما نحن سوى عقارب ساعات تضمن استمرارالزمن ؟!!!

آه ، لابد أن أثرثر دوماً !!

كان والدي محقاً بنعتي بأفلاطون الأرمني.

لأعد إلى الواقع الآن ! تروق لي تلك النقوش الملونة لتلك الساعة الساذجة ، لا أعلم من أين جاءت ، لا بد أنها تخص زوجتي ، أقصد تلك الفتاة المستلقية على السرير بثوبها الأبيض وخيبتها الصفراء.

هل تراها أمي محقة ؟ أفكر كيف نظرت إلي في الكنيسة كمن يساق ابنها إلى المشنقة!

لا ، بالنسبة لأرمني حقيقي ، التراجع مرفوض !،سمعت والدي مرة يقول شيئاً من هذا القبيل .

ولكن هل أحبها ؟

ذاك غير هام بالنسبة لي ،لطالما اقتنعت بأن الحب ليس أسلوب حياة الحياة واجبات ، كما تعلمت دوماً !

واجبي الآن أن أحقق العدالة ، أن أتزوج من الخادمة التي طردتها جدتي فقط لأنها تعطرت بعطرها .توفي والدها ، ولن تتمكن المسكينة من إعالة أخيها الصغير .

لن أدع أرمنية ضعيفة تجابه قساوة العيش بمفردها .

آسف لطباع جدتي القاسية تلك ، طباع مسنة ثرية ،عاشت حياة مضطربة ومختلفة ،فجدتي من عائلة كاثوليكية ملتزمة ، باستثناء والدها المهووس بالجنس ، الأمر الذي دفع بوالدتها للهرب مع رجل آخر ، تاركة ابنتها المراهقة في خدر دائم .جاء حب ذلك الشاب الأرمني لها كشفاء ، كان يعمل في الجوار في منزل آغا البلدة، صنعت لأمه المريضة ضمادات عشبية لعلاج الجدري السوداء ، لكنها لم تفلح في إبقائها حية ، لم تثمر تلك المحاولات سوى زواج المضمدة بجدي الأرمني .

لم تنجو أمه المريضة من الجدري كما استطاعت في الماضي أن تنجو من بنادق الجيش التركي في أضنة ،حينها هربت وهي حبلى بعد أن وضع زوجها على الخاوزق لمدة سبعة أيام ،التقت في طريقها بعربة تاجر حلبي ، لم تستطع كبح مخاضها ، وضعت في العربة صبياً دام صراخه لساعات ، اعتنت زوجة التاجر بها إلى أن استردت قوتها ، جاءت إليها الزوجة بعدها بحجاب و قالت : انطقي بالشهادتين وارتدي هذا . لم تقبل أم جدي أن تغير دينها ، حملت رضيعها واتجهت إلى الريف، لتعمل كقاطفة ثمار لدى آغا الشرفية.*

باندحار سلطة الآغا لاحقاً بعد وفاة أم جدي ، ولد غرور جدتي ، كان غرور زوجة الرجل الوحيد في البلدة الذي تجرأ على الخوض في عالم التجارة وافتتاح أول متجر في الشرفية .، منح جدي بافتتاحه المتجر فرصاً ملونة للجميع ، حمل معه إلى المدينة المؤن والمربيات المصنوعة يدوياً و الثمار المقطوفة ، وبالمقابل أتى بكل جديد إلى البلدة من ملابس وعطور و أدوات منزلية ، كان يقول : هذه البلدة لن تمضي قدماً إلا بفضل متجري . بالنسبة له ، حياته اتخذت وجهتها الصحيحة ، بطريقة ما .كان تفوقه التجاري يشعره بالطمأنينة، اعتقد بأن ذلك يرضي لغز أمه الذي دأبت على قوله : أهم ما فيك أن تبقى حياً ، ودورك النافع يأتي عندما يحين ذلك .

لم يتمكن بعض الرجال من الحفاظ على ذلك النفع الجامد الذي لا حياة فيه ،لذا قاموا بإهداءه لعاهرات البلدة ( اللواتي جلبهن الضباط الفرنسيون إلى البلدة و اضطررن لإغلاق مرقصهن و الاتجاه للعمل السري بعد رحيل زبائنهم)، مقابل الحصول على سعادة حقيقية معاشة ، ولو أنها مؤقتة . وذلك أسهم في اعتزال الكثيرات عن العهر نتيجة وصولهن إلى منزل الأحلام .

أما نساء البلدة ، فقد ترك الوضع الجيد للثروة تأثيراً مختلفاً في حيواتهن ، إنه طلاء جديد لبشرتهن ، و حلي و قلادات كالتي شاهدنها في عنق جدتي. .

كل هذا لم يهمني يوماً، هراء!!

حريٌ بجدتي أن تهذب طبعها الحاد والمزركش بكبرياء جنرال !

ذلك الجبين العابس يجب أن يغدو جبيناً بسيطاً ، كجبين أرمني !

من الجيد أن أمي لم ترث جبينها ، وكذلك أنا ، أملك جبيناً كجبين أبي . كان لأبي جبين طفل ، بدا ذلك غير لائق بضابط مقرب للشيشكلي رئيس الجمهورية . آه ، والدي والدي ، كم أجهل عنك .كل ما في الذاكرة ، رجل دخل غرفته ببيجاما بيضاء لم يكن قد خلعها منذ الانقلاب على الشيشكلي ، ولم يخرج!

في الواقع أخرجه خالي، جثة ببذة عسكرية ، وأوسمة .

هزيمة مشرفة ! ردد خالي لسنوات طويلة .

سرعان ما فهمت لاحقاً لماذا يقرر البعض إلغاء دور( أن تبقى حياً ) حينما تنتهي الأدوار الأخرى !!

أذكر أنني شعرت بالحزن حينها ، في الحقيقة لاأعلم إن كان ذاك حزناً بالفعل ،بالنسبة لصبي في الثانية عشرة تلك كانت مشاعراً غريبة .أجهل إلى اليوم شعور أمي ، بدت كالسكيرة في الجنازة ، فحيث كانت النسوة يضغطن على يدها بحنو مبتذل ،كانت هي تردد كمن يلقي قصيدة:

(( هذا شرف لنا أن يموت فداء لمبادئه السياسية ))

لاحقاً التزمنا بما أقرته أمي و أقنعنا أنفسنا بقصة الفداء تلك .و احتفظنا بها في المنزل كرزنامة .

ركلت ذات مرة صديقاً لي لم يقتنع بذلك ، عدت حينها إلى المنزل ببنطال ممزق محتفظاً بخيبة ما في جيبي ، طفل تذوق خيبة ، طفل صرخ في وجه أمه ، طفل عوقب بالبقاء منفرداً.

كان ذلك آخر ما مارسته من عدائية ،دفنتها هناك في الجيب الآخر ، أصبحت بعدها مطواعاً ، مرناً مثل بيجامة أبي .

التزمت الصمت دوماً ، صمتاً قنوعاً بحيادية شافية ومرضية .

من السيء أنني داومت على ممارسة هذا النوع من تمضية الوقت خصوصاً في اليوم الذي اصطحبتنا أمي فيه إلى منزل عائلتها للعيش هناك ،مع جدي الأرمني وجدتي الكاثوليكية وأخوالي، نسختي أب ،أحدهما بسماعة طبية وأفكار متشددة ، و الآخر بشعر مجعد وريشة رسم وهوس بالشرب ، وأفكار شيوعية.

امتاز خالي الشيوعي بأسلوبه الجيد في إقناعنا بضرورة ما قام به بصرفه أموالاً باهظة على احتفالات أعياد العمال وشراء اللافتات لحزبه ،في الوقت الذي كان الشرب يقتله ببطء ، و إثر تلك الفوضى دخل جدي يوماً غرفته ولم يخرج إلا بعد انتهاء دور ( أن تبقى حياً ) تماماً كوالدي .ما إن دفن جدي حتى أطلقت السلطة الدينية صرختها الأولى في المنزل ، بدا الاختلاف واضحا ًبشكل أولي في عنق جدتي الذي خلا من قلاداته الثمينة ليتم التبرع بها إلى الأديرة ، ثم تسلل إلى القوانين و الثياب الغريبة التي فرضت على أختاي ، طريقة كلامهن المنمقة ، زخم من وجوه عابسة من كافة أصناف المجتمع ، جاؤوا لحل معضلات سفسطائية على طاولتنا العتيقة . حظيت ذات مرة بشرف أن أكون مثيراً للجدل حول تلك الطاولة ،انتهى الاجتماع حينها بقرار ينص على التحاقي بكلية الطب .

( فكرة جيدة جاءت من رجل مرموق ) قال خالي في اجتماع اضطراري للعائلة ، لم تنطق فيه أمي ببنت شفة ، مشطت شعري بأصابعها بشكل مزعج ،لا بد أنها كانت تفكر ببطولة أبي ، شعرت لبرهة برغبة في الاختفاء ، ثم استسلمت للصمت كخيار أفضل .

كنت قد وجدت نفسي في اللغة العربية ، تعلقت بها كمخدر ، نسجت الشعر العمودي مرات ومرات ، لم يحظى إعجاباً من المدرس ،وصفه بالطفولي ،( الاحساس وحده لا يبني قصيدة يا بني ، على الألفاظ أن تكون جزلة ،قصائدك خيالية للغاية ).

شعرت بالخيبة حينها ، أخرجتها من جيبي حيث غفت ، اختارت لنفسها مخبأ في ظلي ، رافقت تغيرات جسدي في البلوغ ، بدوت بها كشبح يرتحل في هذا العالم .كبرت هكذا و أختاي معتادين على تقبل معاملتنا كطفيليين ،أما أمي عاشت في سكينة غيبوبية حملتها بعيداً عن قرع الطبول إلى برج مرتفع تراقب ماضيها ، وتتحسر على واقعها كأرملة شابة في منزل تعامل فيه و أطفالها كخارجين عن المألوف .كنت أجد وضعي أفضل من أوضاعهن ، إحدى أختاي ورثت أمي بكل تفاصيلها ، وحلمت بزوج كأبي ،رجل قوي يسجنها في خاتم و يطلبها متى يشاء مقابل أن يمنحها الأمان .

الأخرى عاشت بعيدة عنا ، في عالم يخصها ، كانت تخرج وتعود إلى المنزل محملة بالروايات الرومانسية ، حتى جاء يوم ظهرت لنا فيه لتخبرتنا أنها التقت برجل مسلم ، أحبا بعضهما وقررا الزواج ، قالت ذلك وطرقت الباب خلفها . وكالعادة لم تفلح أمي بالقيام بشيء ، فضلت سماع توبيخها وهي مطأطأة الرأس ، أقنعها خالي بأن أختي ابنة عاقة ، ( فلتذهب حيث ما تشاء ، فلنحمد الله أنها هربت قبل أن تفكر بقتلنا )! منذ ذلك اليوم لم تحظى جدران منزلنا بصدى ً لاسم أختي ، تلاشى ذكراها كقارب يغرق ببطء ، لكنه لم يستغرق مطولاً للوصول إلى القاع ، تاركاً لي و لأختي فقاعات تسلي حزننا الدفين. وبعد رحيلها ، بقينا كدمى شمعية لا يناسبها الخروج إلى الشمس ، جرى التعامل مع أحلامنا كأولاد زنا ، رميت فور ولادتها في أزقة الخوف ، حيث لا حياة سوى لمن تحميه جرأته ، و تلك الجرأة كانت على بعد أكوان منا ، من الصعب بل ومحال نيل حمايتها . من الجيد القول أنني حظيت بنوع من الحماية الشخصية ، عندما كبرت قليلاً ، عثرت عليها في كتب السقيفة ، تلك التي تخص خالي الشيوعي ، لم يشدني موضوعها في البداية ، كانت كتباً فلسفية بحتة ، كنت أفضل لو كانت دواويناً أو روايات ، قرأت في البداية بنوع من اللامبالاة ، لكن مع الوقت ، تعمقت فيها، وبينما كان شعر لحيتي ينمو ويقسو ، كانت بصيرتي ترسو على شاطئٍ ما، شاطئٍ يعبق برائحة ماركس ولينين ! منذ ذلك الحين وأنا أشعر بالحقيقة تغمرني ، شعار ( الأرض والخبز والسلام ) يلهمني ، تلك هي طريقة الحياة التي أردتها ! بقيت تلك الأفكار تخصني وحدي ،لحين التقيت بذلك الشاب الذي يكبرني بسنتين ، ويدرس الطب مثلي ، في البداية ، بدا لي غريب الأطوار لذا تجنبته ، كان يرتدي قميصاً بسيطاً ، واسعاً وطويلاً ، يغطي نصف بنطاله القماشي الرخيص ، وينتعل حذاءً من الجلد المهترئ ، سألت عنه في المقهى ، قيل لي أنه ابن تاجر ذهب معروف ، ، فتاة بمشية طاووس حذرتني منه : ما شأنك به ؟ ألا ترى بأنه مريض عقلي ؟! أهملت ما صرحت به ، أعجبتني فكرة كونه ابن تاجر ذهب ويخرج بهذا الهندام ، بين من يعرفونه جيداً ، دنوت منه كمن يعلق جبلاً في قدميه ، كنت قد جلبت الشجاعة من مكانٍ ما ،سألته بنبرة قوية : هل أنت شيوعي ؟ أدار رأسه ببطء كمن يهجئ ما سمعه اقترب مني محدقاً في عيني ، وكأنه يبحث عن ماركس فيهما أو ربما لينين !: لمَ تسأل ؟ _ ( الأرض والخبز والسلام ) شعاري يا أخي ! _ ثيابك لا توحي بذلك _ قالها وهو يشعل سيجارة _ حتى تكون شيوعياً حقيقياً ، عليك أن تفعل لا أن تثرثر تعال إلي عندما تقرر أن تفعل ! وأدار ظهره للمضي ، أسرعت في القول : ماذا علي أن أفعل ؟ قال دون أن يلتفت : ابدأ بثيابك .

سار في طريقه تاركاً سيلاً من الذهول في رأسي ، بقيت متسمراً في مكاني لفترة ، دمية منحت قدرة على الحركة ، فأصبح لوجودها معنى .منذ ذلك التحرر ، بدأت الشيوعية تتوحد بي ، لم تعد مجرد شعارات ، إنما سرعان ما اتخذت لنفسها صورة واضحة ، أثمرت في كل ما أملك ، ظهرت لي في وجوه من أحب و من أكره ، نضرة كوجه فتاة في عمر الصبا ، تماماً كوجه تلك الفتاة التي تستعمل اسم ( أرمينيا ) كاسم ٍ مستعار .كنت قد أوكلت مهمة السفر إليها ، لإنجاز لافتات لاعتصام ضخم ، كان الماضي قد منحني خدمة عندما أرسل لزوجة خالي صفحات ممزقة من كتاب تاريخها ، تلك التي مزقت عنوة من قبل عائلتها قبل سنوات لارتكابها حماقة الزواج بخالي ، فتاة تنحدر من عائلة يسارية تتزوج من مهووس ديني !أرسلت تلك الصفحات مع وعود بوجوه بشوشة متسامحة إلى ذاكرة يائسة ، وبمجرد قراءتها للرسالة الموقعة باسم جد العائلة بأن الصفح قد قرر و الذبائح قد جهزت ، كانت حقيبة سفر ضخمة قد حملت لسيارة خالنا العزيز (( ليس بإمكاني اصطحابك و أبناؤك فطريقة موت والدهما ستثير فضيحة نحن بغنىً عنها )) قالها خالي كجملة وداع .

لم أبالي و أختي بقسوة جملة فقد تعاملنا سابقاً مع قصر رهيب منها.

هرع كل منا إلى سماءه ،طيوراً حررت مؤقتاً لاختبار الحرية .

ارتدت أختي الكبرى أثواب نجمات سينمائية ،وتبرجت مثلهن ، وخرجت للقاء ماردها الوسيم ذو العضلات المفتولة والقمصان الملونة والعينين الفارغتين اللتين سرعان ما أقرضتا فراغهما إلى عيني أختي حتى اكتسحها الفراغ بكاملها ، فبدت كوعاءٍ لا ماء فيه.

في تلك الفترة ، لم أقدم على اختبار عيني في المرآة، شعرت بالخوف من ذلك ، اكتفيت بالسعي وراء أفكاري ، كنت شغوفاً بالتجربة ،أحلم بالانصهار فيها ،إلى أن منحت ذلك الشرف بإسناد تلك المهمة إلي ، قررت أن أفصح عن انتمائي إن أفلحت ،كنت مستعداً لنظرة احتقار الناس وهم يرددون :ملحد ،شيوعي ،الله يسترنا . كنت أرغب بها ، فقط لأكون مختلفاً ، الاختلاف يجلب لي القوة ويفتح لي دروب الحرية .تلك الدروب نفسها التي قطعها القطار الذي ركبته للمهمة، دروب مزهرة بشتى أصناف الأمل ، قطعتها لأصل إلى أرمينيا في جحرها المتمثل بكوخ بجانب البحر، كانت امرأة طويلة القامة بتسريحة شعر بالية وعينين مشرقتين ، ووجه يميل إلى سمرة عربية داكنة . بدت وحيدة مع نرجيلتها البسيطة القديمة ، كانت تجلس بجانب طاولة خشبية مدورة تزخر بإطارات صور قديمة لشبان وشابات يحملون الكتب و الآلات الموسيقية ،إحداهن ارتدت ثوباً طويلاً مزركشاً بأشكال زهور ياسمين ، بد مبتهجة للغاية وبيد واحدة ،ربما فقدت الأخرى في حادثة ما ، أيعقل أن الاختلاف هو ما جعلها سعيدة ! لا أستطيع التكهن ، ثم إن الصور الفوتوغرافية تشوه حقيقة الأمور غالباً. تأملت صورة أخرى لها ، بدت فيها غضة سعيدة لكن بشكل قهري ،لمحت في وجهها شيئاً مما يرافقني في ظلي ، لكن ما ارتسم على وجهها كان أشد قسوة و جدة ، بما يوحي بالخطر .

علمت لاحقاً أن هذا الاختلاف كان قد صنع في رحم أمها، وبأنها قبلت بهذا الاختلاف لسنوات طويلة ، وابتسمت له حتى في مرآتها ، وفي النهاية جاء اليأس من مكان ما ، ليقتلها ، كما فعل بأبي ، يوماً ما ، هكذا مخيرة أن تتخذ قراراً غيبياً بأن ترحل كما تشاء .

لم تبح لي ( أرمينيا ) عن تلك الصور شيئاً آخر، قالت بأن ما تبقى لايستحق الذكر ، أصدقاء خائنون ، قالت ذلك وهي تجهش ببكائها القصير المدى، حيث سرعان ما غفت مثل فراشة نفضت عنها الغبار، تأملتها قليلاً، هي والصمت بدا جميلين معاً ، شعرت بأن كل ما انتظرته هنا ،القوة والسكينة وربما الحب ! …….

لا أرغب في الاستيقاظأريد أن أحلم وأحلم و أغرق في الحلم ….

سوف أقنع نفسي أن أرمينيا هي زوجتي ، وليست الخادمة التي طردتها جدتي ، أخرج من حلمي الغريب ،يروق لي النوم الأبدي ، أفتح عيني ببطء ، لا أرغب أن أصحو . عقارب الساعة الذهبية تصدر صوتاً مزعجاً ، أسمع ذلك الصوت ،صوت الواقع ،هو الذي يخنقني ،يسوقني كمتهم ،تخر قواي وأنا أخطو نحو غرفة النوم ، دون أي نبض أو أي شفقة بإنسانيتي .

الشاب الشيوعي ، أرمينيا والشيوعية كلها محض أوهام ، ومازال الضعف يمنعني ….

( 2 )

غادرت زوجتي المنزل في يوم حار في شهر لم أعد أذكره ! قالت بأنها لن تقوى بعد الآن على احتمال ازدرائي الجنسي لها ، واحتقارها لذاتها بسببي ، وبأنني سببت لها ألماً أشد إيلاماً من جدتي .

وبمغادرتها تسللت الفوضى إلى المنزل بشكل فجائي ، مثل كارثة غير متوقعة، ثم عمت الفوضى حياتي بأكملها ،في العيادة ،في الشارع،في الجامعة (حيث حصلت على وظيفة مدرس لمادة التشريح في قسمها العملي)

وأدركت حينها أنني كنت أسيراً لشعور _ اكتشفت لاحقاً أنه مزيف_ حيث لطالما اعتقدت بأنني مدين لزوجتي بمنحها حياة جديدة وجميلة،بينما في الحقيقة كنت ألقي مهمة تنظيم حياتي على كاهلها !

في وقت لاحق ،بدأت حياة الفوضى تجد لنفسها فرصة لجعلي متأقلماً معها وحتى الوقوع في حبها ، وسرعان ماأحببت ذلك الأنا الذي غدوته ، طبيباً مطلقاً بثياب غير مكوية ،وأوقات طويلة للوحدة ،لا مسؤوليات ، لا جنس غير محبذ ،حياة رتيبة لكنها حرة إلى حد ما .

إثر تلك الفوضى ، عادت الشيوعية تطرق بابي بقوة ، جعلت منها رسالتي اليومية التي أحملها معي إلى الأماكن التي أرتادها والأشخاص الذين أقابلهم كطلابي في الكلية حيث أدرس ، حتى أن بعضهم أصبح يزرني في مكتبي للاستفسار عن الاختلافات بين ماركس ولينين أو شيء من هذا القبيل ، أعادني ذلك إلى الماضي ، إلى الضعف ، تساءلت كيف لذلك الشاب الذي نشأ حبيس أفكاره وأحلامه ، أن يمنح جيلاً آخر دروساً في حرية لم يعشها .

ذات يوم ، قام بضع شبان منهم بضرب مستثمر مقهى الجامعة لطرده نادلاً أثناء تواجدهم هناك ، ثم خرجوا يهتفون بشعارات الثورة البلشفية ،.

عندما أمسى الأمر بين يدي إدارة الكلية ، صرح الشبان بتورطي في ذلك ،

عندها لم تؤجل لجنة التأديب قرارها بطردي من التدريس في الجامعة بشكل نهائي .

برغم ما خلفه ذلك من سمعة سيئة منحني نوعاً من الانتصار الروحي .

ما جاء بعد القرار كان أعظم ، هاتفتني زوجتي لتخبرني بحملها ، وبأن الطبيب خمن أنهما توأم !

لم يترك الخبر في نفسي أي أثر يذكر ، بدا وكأنه وضع جديد علي التأقلم معه ، ماذا يعني أن تكون أباً ؟

وبشعور مختلف لم أختبره مسبقاً ، خمنت أنه ( الأبوة )استقبلت التوأم لحظة إبصارهما الكون ، كنت بحكم عملي كطبيب نسائي قد شاهدت الكثير من المولودين حديثاً ،لكن ما أحسسته هنا بدا مختلفاً ، كنت دوماً أشعر أنني أساعد كائنات في قدومها لهذا العالم لتعيش كدمىً تمنح حيواتٍ ومصائر يفصلها المجتمع على مقاس قوانينه وتناقضاته الغريبة .مع تلك الدميتين كان الوضع مختلفاً ، فهما ولدي وسأعلمهما كيف يهزمان المجتمع .

لكن وجبة خيبة أخرى لي كانت الحياة جاهزة لتقديمها ، قرار آخر ضدي ، قرار زوجتي بالسفر بالطفلين إلى لبنان لدى أقربائها ،عرضت عليها أن تقبل بتربيتي للذكر ،كي لا ينشأ دون أب مثلي وأن تحتفظ بالفتاة إن أرادت ، قالت أن هذا توحش رجولي مني ، ثم بكت ونعتتني بعديم الرحمة .

في تلك اللحظة شعرت بكره جذري للحياة ، كرهت القوانين ، الفيزيولوجيا التي جعلت من تلك المرأة حاملاً ، كرهت قصة فداء أبي ، لربما الخطأ بدأ من هناك ، من أدوارنا الرئيسية بأن نبقى أحياء ، من ذواتنا المبهمة ، تلك التي فرضت علينا حيوات غريبة عنا ، لا تمس لنا بصلة ، كنا ننمو مع القلق والخوف والفوضى ، ونظرتنا إلى الأمور تختلف مع تقدمنا في العمر ، لكن الماضي بقي مسيطراً على طريقة تعاملنا مع الأشياء ، من بينها هويتنا المفقودة المسيجة بذكرى أب طريقة موته قد تثير الفضائح إن أفصح عنها .

استطعت لاحقاً جعل حياتي معاشة بطريقة ما ، لن أخفي تعاستي ، لكن في النهاية ما السعادة ؟

ما جلبته أختي الصغرى عند عودتها كان سعادة غير محتملة ، قالت أن كل ما أرادته ، هو عيش حياة تتلاءم مع خياراتها، لكنها أخطأت في أمر واحد ، أنها تخلت عن جذورها .

أصبحت امرأة مختلفة كلياً عن تلك الفتاة الانطوائية الكارهة للضوضاء ،لم يعد شعرها الفاحم القصير ظاهراً ، إنما غطي بحجاب شرعي يحاكيه في سواده ، كانت عينيها حزينتين وغريبتين ، لفظ الجلالة يلمع فوق صدرها ، والخوف من الخيبة واضح في صوتها .

أمسكت يد ابنها بقوة ، كما لو أن أحدا ً سيسرقه منها ، فوجئت بمقدار الشبه بيني وبينه ، ذلك الجبين الذي ورثته عن والدي ، وتلك النظرة ، طائر مكسور الجناح يحدق بالسماء .

حيتني بالأرمنية ، وابتسمت ابتسامة كشفت عن تجاعيد لم أعرفها من قبل حول شفتيها .

ابتسمت لها مطولاً ، لم أعلم السبب ، إلقاؤها التحية بالأرمنية منح شيئاً ما في داخلي دفعاً بأن يخرج من القاع حيث غفا ، ثمة سكينة ما وراء فكرة صونها للغتنا .

هنا ضممتها بقوة ، أسندت رأسها إلى كتفي وبكت ، كان بكاؤها يثير حزناً غريباً ، نوعاً من القلق الموحي بالخطر ، والذي كان يزداد عندما ألقي نظرة على طفولتي بمجرد الالتفات لطفلها .

أختي الصغرى عدتي لنا ..

اشتقت إليك إيشبيسيس؟

بخير ، كم تغيرتي يا أختاه كيف حالك وأين زوجك ؟

رحمه الله انظر هذا طفلي ..

أشارت إلى الطفل الذي جعلني أعود بنفسي إلى أيام الشعر العمودي والمدرس المخبول والخيبة .

شعرت بنوع من الامتنان للقدر ، لمنحي أختي من جديد ، قبلتها بكل ما فيها ، كانت تدعو ابنها ليصلي ، يفعل ذلك خمس مرات يومياً ، ثم يجلس ليتلو الأذكار والأدعية ، كنت أراقبه وأفكر : ربما لايريد ذلك ، عليه أن يقرر بنفسه ، قد يختار أن يكون شيوعيا ً كخاله !

(3)

زال أثر السحر الأنثوي الذي طغى على المنزل وغير ملامحه ، حيث سرعان ما غادرت أنثىً أخرى المنزل ‘ لكن هذه المرة دون أي أمل بالعودة .

ونظراً لرغبتي العميقة في إرضاء أختي ، قررت أن أنفذ ما جاء في وصيتها بدقة ، وصية مدفونة في صندوق خشبي من الأبنوس كانت قد وضعته في خزانتها واحتفظت فيه بالوصية وصليبها الفضي الذي لم أره منذ الصغر . كتبت في الوصية أنها ترغب أن يكون مثواها الأخير مثوى جدنا الأرمني هناك في البلدة القديمة حيث بدأت قصة عائلتنا و أحلامها التجارية .

وبالفعل تم دفن جثتها حيث ما رغبت ، تساءلت : هل عاشت أختي حرة بطريقة ما ؟ وإلى أي حد ؟ وإن كانت دفعت ثمناً مقابل ذلك لا أعلم مدى كونه باهظاً .

في الليلة التي رقدت فيها أختي هادئة كما عاشت ، عدنا من المقبرة الواقعة في زاوية بعيدة عن مركز البلدة ، بالقرب من حي المسلمين ، حيث تعيش بضع العائلات المسلمة ، التي جاءت من البلدات المجاورة بغرض العمل في معاصر الزيتون المحيطة بالبلدة كسوار من أمان ، أمان يضمن استمرار البلدة ، وبقاء الناس فيها .

حين وصلت إلى منزل جدي القديم الذي بدا مختلفاً عن غيره ، اختلافاً ملحوظاً، كإبهام في كف ، وجدت الطريق الضيقة المؤدية إليه والمحاطة بشجيرات الورد الدمشقي و فم السمكة والدفلى ، تنحدر بانسيابية رقيقة بشكل نصف حلزوني ، مثل مسار أميرة قي قصة خيالية ، بدت ساحرة ، على الرغم من النمو العشوائي للشجيرات وتكاثر أشواكها بشكل مرعب ، هكذا هي الطبيعة ، حتى إن أهملت تبدي جمالاً ما .

وقد ظهر المنزل وراء تلك اللوحة التي صنعها الإهمال ، مهملاً أيضاً ،كانت جدرانه المبنية من حجارة البازلت الأبيض ، الكبيرة الحجم ، مشوبة بآثار لمسات الزمن القاسية عليها ، وقد نبتت بين شقوقها طحالب متنوعة ، بدت مثل جروح لمنزل مهمل حزين التئمت بنفسها ، وتركت آثاراً لتشهد يوماً على آلامه .

كان البا الخارجي الرئيسي قد غيَر حلته ،وبدت نقوش الأحرف الأرمنية غائرة وباهتة ، لم يعد بالإمكان فهم الجملة التي ألفها جدي في القدم وأوعظ للحداد بنقشها والتي كانت :(( نحن أرمنيون حقيقيون لذا سنحب هذه الأرض كما نحب أرمينيا)) .

في الرواق الخلفي للمنزل يقع المتجر الأثري للبلدة ، أول متجر تشهده البلدة ، يبدو الآن مهجوراً وكئيباً ، كأنما الزمن انتقم منه ولم يرأف به لارتكابه خطيئة التجديد !

كنا قد زرنا المنزل للمرة الأخيرة ، عند وفاة جدتي ، من بعدها لم تسمح لنا الحيوات الجديدة والبعيدة كل البعد عن الاهتمام بتاريخ العائلة ، والتي ترى في ذلك الاهتمام نوعاً من إضاعة الوقت لكون تلك الحيوات عملية وعصرية ، مثل خالي الذي هجر شكوكه السفسطائية وغادر إلى منزل عائلة زوجته ، دون اكتراث بأجوائه اليسارية ، ليرث مطبعة والدها بعد وفاته ، والتي غيرت اتجاهاتها جذرياً بقدومه .

وأختي الكبرى التي تزوجت من ذي العيون الفارغة انتقلت معه للعيش في الملهى الليلي الذي يملكه ، ونسيا نفسيهما بين مشاجرات ورهانات الزبائن على استمالة الراقصات .

بالنسبة لي لم أعلم تماماً كيف تبدو حياتي ، حياة مبهمة ، لاخطط فيها ولا مستقبل للمشاعر ، ليست إلا ارتحال لخيباتي مع ذاك الفتى الغريب النسب !

عندما وقفت أمام الباب الحديدي الضخم ذو النقوش الأرمنية ، أخرجت المفتاح الصدئ من جيبي وحاولت جاهداً أن أدير القفل ، لكنني عجزت عن ذلك ، كان القفل صدئاً بشراسة ، شعرت بأن التاريخ يرفض عودتي ، وأن ذاك المنزل الذي عاش سنيناً طوال مع ذكرياته اعتاد على طريقة العيش تلك لدرجة أن أصحابه أمسوا غرباء عنه ، أو أنه اعتاد على العيش في زمنه الخاص ويرفض بشكل قاطع أن يزوره الحاضر المليء بالمفاجآت .

في أعماقي كنت أؤمن أن الحل لكل شيء يبدأ من هنا ، من نقطة البداية ، وكنت أعي بأنني سأواجه صعوبات في العثور على حلول لحياتي ، لكنني لم أخمن أبداً أن تلك الصعوبات ستبدأ بقفل صدئ !

عندها وقفت عاجزاً أمام غضب التاريخ ! نظرت إلى ابن أختي علني أجد الراحة في وجهه ، لكن كل ما وجدته كانت ملامح خيبة ، تشبه تلك التي خبأتها يوماً في جيبي في الصغر ، وتلك التي عاشت معي في سنوات شبابي .

قبلت جبين ابن أختي الطفولي وهمست في أذنه : هيا بنا إلى كنيسة الأرمن لنمضي ليلة اليوم !

(4)

((الكنيسة مقفلة))…

أجابنا رجلٌ طاعن في السن ، وهو يعبث بشاربيه العريضين الأشيبين ، قالها بحدة تامة ، مثل طعنة سيف . مردفاً:

(( تغلق الكنيسة أبوابها باكراً حفاظاً منا على أمن المزار ، تنام هنا روح قديسة أرمنية طاهرة ‘ أولا تعلمان ؟!… ثم إن الشيوعيون يكثرون هذه الأيام وقد أرسل لنا تهديدات بإغلاق صندوق التبرعات ، وبالطبع لن نرضخ لمجموعة من الحاقدين الملحدين !))

(( لكننا نبحث عن مأوى لهذه الليلة فقط …. ثم أنت تعرفني وتعرف عائلتي جيداً ، انظر سوف يتجمد من البرد ، أمه توفيت …..))

قاطعني كمن يكبح جماح العواطف (( حسناً حسناً …. لا أحب القصص المؤثرة ، سوف أسمح لكما بلمبيت هنا لليلة ، هناك غرفة خارجية سقفها من التوتياء ، لا تستطيعان النوم في فناء الكنيسة ، تنام هناك الفتاة المسؤولة عن نظافة المزار )) .

انحنى برشاقة شابٍ عشريني على نحوٍ مثير للدهشة .

(( اتبعاني ، الغرفة بحالة مزرية ، ستنظفانها ‘ كان علي إصلاح السقف لكنني كنت ملازماً للفراش ، شعرت بوعكة ، إنه السكري ، سيقتلني في النهاية ، إن لم تقتلني قلة الإيمان والإلحاد الذي أمطر على هذه البلدة ! )) .

فكرت بأنه عليَ ألَل أكون ملحداً الآن ، سأهز رأسي بالموافقة على كل ما يقوله ، لربما ما نؤمن به من أفكار ليس له الأولوية دوماً ، أمام ضرورات العيش مثلاً .

توقفنا فجأة أمام مايشبه الغرفة المتواضعة ، شيء صنع من بقايا توتياء وخشب .

(( هذه الغرفة كانت كشكاً للعصائر والحلويات عندما كان للمزار أيامه ، قبل أن يغضب الله على عباده ! )) . قال الحارس باستياء وبدا وكأنه يعاتب نفسه على تقصيرٍ ما .

تساءلت في نفسي : كيف بغضب الله على الملحدين والشيوعيين ؟! ماذا يفعل لهم ؟ .

قاطع ابن أختي تساؤلاتي الصعبة ، حين أمسك بإحكام بسترتي ودفن وجهه بها وصاح قائلاً : (( أخاف النوم هنا )) . وامتقع وجهه .

قذف الحارس بسيجارته كمن أصابته هستيريا :

(( لم أحبذ يوماً التعامل مع الأطفال ، أشكر الرب أنه ليس لدي منهم )) .

نظرت إليه بدهشة وأنا أربت على كتف الصبي و أتمتم :

(( لا تخف يا بني …. لا تخف )) .

شعرت لبرهة أنني مربٍ سيء ثم تساءلت : (( هل يجب على من يتزوج أن يتقن التعامل مع الأطفال ؟ ماذا عن طفليَ ؟ كيف كنت سأعاملهما ؟!)).

سرعان ما انتابني الخوف ، هل يعقل أنني أسيء لابن أختي ؟! لكنني ضممته للتو ! .

(( هذا ما لدي لكما تدبرا أموركما )) . قال الحارس وهو يمشط ذقنه الشيباء بأصابعه ….. راودني شعور الدهشة ذاته بخصوص رشاقته ، من أين أتى بكل تلك القوة وهل سأكون مثله عندما أهرم ؟!

دخلت وابن أختي إلى ذلك المكان الغريب الأطوار ، كان ثمة كتب دينية اصفرت أوراقها ، وأقامت العناكب أعشاشاً فيها ، بدت الغرفة وكأنها تصديق لما أدلى به الحارس من إهمال سكان البلدة للمزار وعما سماه هو ( غضب الله ) .

كان ثمة أريكتان عتيقتان في صدر الغرفة ، اتخذنا منهما مرقداً لنا . وما إن حشرت رأسي في صوف الأريكة المهترئ ، حتى حشرت أرمينيا وجهها في الظلمة التي تتبدى لي في أول النوم ، وهذه المرة ظهرت لي محجبة بحجاب يشبه إلى حدٍ كبير حجاب أختي المتوفاة ، لكن عينيها كانتا مختلفتين مع أن العجز الذي يكتسحهما كان ذاته ..

تخبطت في الحلم لعدم القدرة على معرفة من هي أرمينيا ؟

أفقت . ماذا عن القفل الصدئ ؟ ما علي أن أفكر به فيما يخص الغد هو إصلاح القفل لأتمكن من ولوج التاريخ مجدداً ! … ثم ما المانع من التعرف على بضع من شيوعيي البلدة ؟! أو بالأحرى ما الخطأ في البقاء في البلدة بعيداً عن الطب والفوضى ؟!

توجد هنا طريقة مغرية للحياة ، شيوعيون ، وتاريخ ينتظر …. وفرصة لي لاختبار حرية ٍ ما ….

(5)

استيقظت صباح اليوم التالي ، ولم أجد ابن أختي …. نهضت بسرعة لم يكن الخوف سببها ،إنما كان شعوراً أشبه بما ينتاب المرء عندما يلتمس اقتراب فشلٍ ما

لم يدم ذاك الشعور لأكثر من برهة ، رأيته ….نعم إنه هناك !… تساعده فتاة في ربط حذائه ، تساءلت عن سبب ذلك التجهم والعبوس في وجهها ، كانت ملامحها قاسية كملامح رجل !

اقتربت منهما ملقياً التحية نظرت إلي وابتسمت، وسرعان ماتحول وجهها على نحوٍ غريب إلى وجهٍ آخر ..

أخبرتني أنها الفتاة المسؤولة عن تنظيف المزار ، وقالت أنها تتمنى أن تنجب بجماله عندما ستتزوج قريباً .

كان لها قوام رشيق كالحارس ! ،وتبدو قوية وسعيدة ، حتماً أنها لاتفكر في السياسة !

(( هيييه ، هل أنهيت عملك ؟)) … صرخ الحارس في وجه الفتاة بنبرة مؤنبة لا تخلو من خوفٍ ما .

انحنى صوبي ورمقني بنظرة عدائية ، كما لو أنني لص سلب منه شيئاً ثميناً

(( وأنت ؟ .. ألم تستيقظ ؟ ألم ينتهي دورك هنا ؟ هيا هيا …. إنه يوم الأحد والصلاة ستبدأ بعد قليل …))

تساءلت ما الذي جعله واثقاً من أنني لاأصلي ؟! ألم يخطر له أنني قد أكون بين المصلين ؟!

في طفولتي ، كان خالي يصطحبني معه لصلاة الأحد ، وكنت ملتزماً بها حتى كنت فخوراً بذلك …. لا لا الآن أنا ملحد !

(( حسناً حسناً سأغادر )) قلت .

(( هه كما توقعت أنت ممن لا يكترثون بالصلاة .حدسي لا يخفق ! )).

ابتسمت في سري نصف ابتسامة .. قاطعتها عينا الفتاة …. كانتا كما لو أنهما تشتعلان ، وهي ترمق الحارس بنظرات غير مفهومة لم ألتمس فيها أية مشاعر

أثناء معركة الأعين الغريبة بدأ المصلون بالتوافد ، لاحظت أن معظمهم من العجائز أو الحوامل ثمة سيدتان تتأبطان ذراعي بعضهما وتتوشوشان .. حدقتا باهتمام صوبي .. أشاحت إحداهما بنظرها عني كما لو أنها رأت شبحاً، حتى كادت باروكتها القصيرة النارية اللون أن تسقط من حدة الالتفاتة ، سرعان ما أمسكت بها مانعة إياها من السقوط والكشف عن شيبٍ بدت وكأنها تحاول إخفاءه لاعتقادها ربما بقبحه .

فكرت بأن المجيء إلى الكنيسة والصلاة هي طريقة حياة أيضا!

تذكرت فجأة ابن أختي .. التفت إليه فوجدته يقلب صفحات الكتب الصفراء باستمتاع !

تساءلت فيما إذا كان ولداي يذهبان إلى الكنيسة ؟ هل يصليان ؟أم أنهما بدأا يفكران ؟! كما بدأت بالتفكير منذ سنوات طويلة !

(( أعداد المصلين قليلة جداً )) … تمتمت لنفسي ، شعرت وأن الأمر أثار اهتمامي دون أن أعي ذلك

نظرت إلى السماء ، كان ثمة غيومُ ما ، هل ستمطر؟آه القفل الصدئ عليَ أن أصلحه المطر قادم وشوقي للتاريخ لم يعد يحتمل !

(6)

(( صانع الأقفال ليس بعيداً من هنا )) .. كان هذا آخر ما قدمه لنا الحارس من فائدة ، قبل ان يقول في سره ربما فلترحلا بلا عودة !

محلُ صانع الأقفال بدا كمقطورة صغيرة في قطار ..ز مقطوراته من دكاكين متنوعة لصنع الأدوات المنزلية ، بدءاً من الأقفال والمفاتيح ، والخزف والأثاث الخشبي . كان حياً ضيقاً حجارته قديمة الطراز ، تصطف على جانبيه دكاكين صغيرة بأبوابٍ منخفضة تتطلب ممن يرغب في الدخول عبرها ـن يخفض من رأسه قليلاً لينعم بالجمال الذي يقبع في الداخل .

هذا ما فعلته تماماً لدى عبوري أول الأبواب هناك ، ليظهر في الداخل رجلُ أصلع ، بذقنٍ سوداء حالكة ، أدركت طول قامته عندما نهض عن كرسيه الهزاز الضخم ليرحب بي

(( أهلً وسهلاً بك ، أقفال جاهزة ، سكب مفاتيح ، تصليح ، أدوات كهربائية ، صنابير ..)) ! .

(( في الحقيقة ، حاولت فتح أحد الأقفال اللبارحة ولم أستطع ، يبدو بأنه صدئ من الداخل ، لا أعلم كيف يمكنك مساعدتي ؟! )).

(( آه حسناً حسناً، إذاً هيا بنا ، علينا نحن أن نذهب للقفل ! ))

تناول من أحد الرفوف قفلاً جديداً وتمتم لنفسه : نحتاج إلى هذا ..

شعرت وكأنه ينتظرني منذ سنوات ! .. وبأنني أنهيت بمجيئي حالة جلوسٍ طويلة على كرسيٍ هزاز أخرق !

في طريقنا لولوج التاريخ ، سألني : ما عملك ؟

-(( كنت طبيباً ، كنت .. لكن الآن يبدو أنني سأعتزل ….!)).

-(( تعتزل ! … أمرٌ يبدو غريباً لي .. لم أفكر يوماً بالعيش دون أقفال !

هذه مهنتي ومهنة أبي من قبلي رغم كل ما يحدث في هذه البلدة ..

لازلت أجد أن دكاني هو حياتي بغض النظر عما أجنيه من مالٍ قليل..)) .

-((لم؟أقصد ما الذي يحدث ؟! )).

-(( هناك من أطاح بدكاكيننا وتجارتنا أرضاً كما أطاح بعقول سكان هذه البلدة ..وحولهم إلى مهربين عبر الحدود .. أتصدق ؟! حتى بعض الشيوعيون اللذين ملؤوا آذاننا بشعارات البروليتاريا ، قد سيطروا عليهم ، حتى العمال اللذين لا ينتمون لهذه البلدة جعلوهم يتورطون !…. الناس هنا أغراها الثراء بطرق غير مشروعة !)),

داوم : (( وما يضحك حقاً أننا بنظر الشيوعيين لا نستحق أموالنا وأننا نعيش على حساب الفقراء بتلك الدكاكين البسيطة ! ، بالأمس ، قام شيوعي متطرف بتكسير محل الهدايا والألعاب لتلك العجوز المسكينة ؟ مازالت في المستشفى حتى الآن من جراء الصدمة .أيعقل ان تتحقق العدالة هكذا ؟! … أنا لست ضدهم ، وهنالك الكثير منهم شبان واعون ومثقفون وأصحاب مبادئ لكن بعضهم يلبسون ثوب الشيوعية لإخفاء مقاصدهم .. الناس هنا نسيوا كيف يفكرون ؟! )).

دهشت لسماع كلامه وتساءلت : أيعقل أن تتحول الأفكار إلى وسائل تخدم الجهلاء ؟! لطالما بحثت في الفكر الشيوعي عن إجابات لتساؤلاتي ، كنت أسد بها جوعاً في داخلي ، لم أتخيل يوماً أن الأفكار قد تهدم .. أو أن تبيح العنف ! .

(( هيا بنا ، لنرى ذاك القفل العنيد ! )) قال صانع الأقفال ونحن نصعد نحو ذلك الصرح الذي بدا وكأنه عالم آخر مغلقٌ ومنسي

أعجبتني الأحرف الأرمنية المنقوشة ، أو بالأحرى شعرت بأنه علي أن أعجب بها كخطوة أولى للتصالح مع الماضي .

-(( يبدو أنه ينبغي استعمال عضلاتنا ، ما المشكلة ؟! من يصنع الأقفال عليه أن يستعد لتخريبها إن لزم الأمر ! )) قال صانع الأقفال .

سنكسر القفل ! … تحتاج أحياناً لقرارات حاسمة وسريعة لتفهم ذاتك !

(7)

( لا نتعامل بالدين ) …

بدا لي أن تلك العبارة لا تحتاج للوحة ضخمة كتلك المعلقة في صدر متجر جدي ، ربما حاول جدي الإلحاح على المعنى بذلك ! حقاً فإن إعطاء الأمور أحجاماً تكبرها يجعلها مؤثرة !

يقع المتجر في الرواق الخلفي ، ويمكن الوصول إليه عبر طريقين أحدهما من خارج المنزل والآخر عبر الحديقة الخلفية ‘ وهو يظهر اهتماماً بالغاً من جدي ، الرفوف الخشبية المتناسقة والمنقوشة بزخرفات عربية ، الأواني النحاسية المخصصة لحفظ الألبان ، والنباتات المتسلقة على جانبي الباب الخارجي والتي تسده الآن !

ابتكر جدي أسلوباً يخصه في العيش !

من الداخل ، المنزل يوحي بلمسة مختلفة عما رأيناه في المتجر ، لمسة كاثوليكية ملتزمة !

المكتبة المليئة بتماثيل المسيح والعذراء ، صور القديسين المؤطرة بإطاراتٍ نحاسية لامعة ، غرفة الطعام الواسعة ، الأغطية المطرزة بصعوبة وإتقان ، المائدة الضخمة والكراسي المصنوعة من الخيزران .

تساءلت : لم تخلت جدتي عن كل هذا عندما غادرت البلدة ؟

أحياناً يحدث أن ننسى عمداً أشياءً نحبها في أماكن نحبها لكي نثبت لأنفسنا أننا سنعود يوماً …. ربما هذا ما فكرت به جدتي .

كل هذا الجمال صنعه جداي بعد أن قبلوا بمسلمات المجتمع…. الخدر أحياناً بداية جيدة لبناء حياة !

لكن لننظر إلى النتيجة ، هل أرضتهما ؟!

-(( خالي لمن كل هذا ؟)). سأل ابن أختي .

-(( لنا حبيبي لنا )) .

ظننت أنني أجبت ابن أختي عفوياً على ذاك السؤال ، لكنني أدركت لاحقاً أن تلك الإجابة كانت قراراً اتخذته !

(8)

(( جميع أسطوانات المنزل بالأرمنية ، كلها كلها…)) . قال ابن أختي سائماً وهو يقلب بين أسطوانات الحاكي المنضدة على الرف العلوي للمكتبة. لم أدري كيف استطاع أن يطالها ؟ لابد وأنه فعل شيئا ما عندما كنت نائماً .. لاشك أن الصبي بدأ يتعلم كيف يتذمر !

أثارت جملته فضولاً في نفسي ، أسطوانات أرمنية ؟! ليس لدي أي ذكرى عن استماع جداي إلى موسيقى أرمنية ؟!

قادني فضولي نحو الحاكي ‘ كانت آداة مميزة تجعلك تنتمي معها إلى زمنٍ آخر إنه خردة ..حتماً لن يعمل ! تمتمت .

لم أستطع حسم كفاءة الحاكي ، إذ قاطعني صوت قرع الباب .. كان قرع رجل ..

توجهت نحو الباب ، كدت أتعثر بصناديق الجرائد الموضوعة تحت طاولة المكتبة ، ما إن فتحت الباب حتى ملأ ذاك الفراغ الواسع صوتُ أجش متحمس : ((مرحباً صديقي ، كيف حال القفل ؟ ، لم آت لهذا فقط !)).

إنه صانع الأقفال بقامته الممشوقة وحماسه لكن مع نبرة صوت أكثر جرأة ، وقف إلى جانبه شاب في العشرينيات كما بدا ، يدخن السيجار وقد ارتدى بذة رسمية أنيقة توحي بكلاسيكية تليق بالحاكي !

-(( آه ، هذا هو ياسيدي ، تكلمت لك عنه كثيراً ، ستتفقان ، سترى ذلك … )) قال صانع الأقفال للرجل مشيراً إلي .

-(( سنتفق سنتفق ،حتماً سنتفق ، يبدو لي ذلك )) قال الرجل بثقة .

_(( تفضلا )) قلت ذلك وأنا أفكر أن منزلي الجديد بدأ يزار ، إنها ولادة جديدة له !

جلسنا في الشرفة التابعة لغرفة الجلوس ، شعرت أن إطلالتها أشد سحراً من بقية الشرفات ، إنها تطل على حديقة الكنيسة .

_(( لم أكن أعلم أن كنيسة الأرمن تملك حديقة بهذا الجمال )).

قال صانع الأقفال وهو يبتسم ثم أردف 😦 أمزح طبعاً ، لكنها تبدو مختلفة من هنا )).

-(( أما أنا فلا أعرفها ولا أمزح في هذا! )) قال الرجل الكلاسيكي .

-(( صديقي لا يقيم هنا ، والداه من البلدة ، لكنه يقيم في العاصمة ، لم يتبق له هنا سوى خالته العجوز ، التي تعرضت لاعتداء الأسبوع الفائت ، حدثتك عنها ، مالكة متجر الألعاب ومايخص الأطفال ))قال صانع الأطفال .

(( آه ، تذكرت )) .وكيف أنسى تلك القصة التي أخلت بتوازن أفكاري .

(( المهم ، مانريد قوله أن العجوز لم تعد قادرة على العمل وإدارة ذلك المتجر ، ما نفكر فيه أنك جديد هنا ، ويبدو أنك قررت الإقامة ، وأخبرتني بنفسك أن مهنة الطب صارت من الماضي . فما رأيك ؟ فهمتني أليس كذلك ؟!)).شرح صانع الأقفال .

أنا ! متجر! ألعاب أطفال! صرخت بتلك الكلمات دون أن تخرج من حنجرتي !

أجبته بعد دقيقة صمت : ((حسناً ، ولكن …))

قاطعني الرجل الكلاسيكي : (( إن كان فيما يخص المال، 50% من الأرباح لك ، ويمكنك تغيير البضاعة ، وتحويل المتجر إلى متجر للحلويات مثلاً أو أي شيءٍ يؤكل ، كان هذا اقتراحي على خالتي ، الناس هنا تريد أن تأكل كأولوية! )).

شعرت أنني على وشك الصراخ في وجهه)) أشعر بالقذارة من أسلوبك في الكلام ، وأنا أكره المتاجر والأملاك، وأمقت مظاهر الترف التي تجتاحك كوباء ))!

لكنني فجأة شعرت باستسلام ما .. بدا وكأنني أغوص في حالة من الخدر تماماً مثل جديَ.

(( حسناً ، لنجرب …)) سمعت نفسي أقول هذا يبدو أن لساني لم يعد تحت السيطرة !

_(( رااائع ، قلت لك أنكما ستتفقان ! )) قال صانع الأقفال وهو يضحك بشكل هستيري .

انتفض الرجل الكلاسيكي بسرعة كالمجنون عن كرسيه قائلاً : ((حسناً ،لقد سوي الأمر ، سأترك لك المفتاح .. يمكنك البدء منذ الغد ، علي إخبارك بأمر.. هنالك بضعة دمى بشعة صنعتها خالتي ، كانت تسلي فراغها بتلك السخافات ، تعرف .. عجوزٌ وحيدة ، يمكنم التخلص منها إذا لم ترد بيعها .. والآن بالإذن الوقت ليس لصالحي )) !

ودعت الرجلين وحالة الخدر لم تزل بعد عني ، تذكرت الحاكي ، أيقظني فضولي مجدداً أسرعت نحو الحاكي ، اخترت أسطوانة عشوائياً ، وضعتها في مكانها وأدرت المقبض انطلق صوتٌ خافت ، كانت أغنية أرمنية فلكلورية الحاكي يعمل ! ..قلت بصوتٍ مرتفع .. (( جداي .. كنتما رائعين ، لكن أين سمعت هذه الأغنية من قبل؟! )).

(9)

إنه فجر البلدة …. بدا لي شيقاً خلف زجاج النافذة المائل للزرقة ، مما يحول ألوان الفجر عبره إلى ألوان قصة خيالية .

أذكر أن آخر ما رأيته قبل أن أفتح عينيَ هي أرمينيا تحمل عكازاً !

لم أعد أكترث في معرفة هويتها ..

جلست في السرير أتأمل البلدة عبر النافذة ، هناك عند الشارع الذي يشبه القطار سأبدأ كتاجر!نهاية لا بأس بها !

مرت الفتاة المسؤولة عن تنظيف المزار برفقة شاب وقد لين تبرجها من قسوة ملامحها الرجولية ، فتحت النافذة لأرى العالم بألوانه الحقيقية .

كان الشاب يحمل عوداً في يده ويرتدي ثياباً قديمة وباهتة ، وقبعة صوفية قبيحة .كانا يمشيان بخطوات مضطربة ، مثل أعرجين يحاولان الجري . خمنت أن تكون وجهتهما هي مخرج البلدة ، أو مايسمى شارع المسلمين حيث ترقد أختي . كان ثمة رجلٌ يرتدي ثوب إمام يقف أمام المسجد ذو القبة الكروية اللامعة والتي أضفى عليها لون الفجر بريق الذهب

حدق الإمام بدهشة وترقب كمن يشاهد آخر لقطة في فيلم سينمائي مشوق !

دخلا في زقاق ضيق يفضي إلى فسحة صغيرة تتناثر فيها بضعة بيوت بسيطة فتح باب أحدها لتخرج منه امرأة برداء صلاة أبيض ، استقبلت الثنائي بوجه بشوش ومنتظِر ، تأملتهما كما لو أنها منتصرة !

هرول الجميع إلى الداخل وأغلقوا الباب وراءهم .

سرعان ما رأيت الإمام يهرول إلى المنزل ذاته وفي يده مجلدين كبيرين ،لكنه توقف فجأة وأصابه الذعر ،وتغيرت ملامح وجهه كمن رأى قطةً سوداء !

تابعت في الإتجاه الذي صوبت عليه عيناه ،ففوجئت بحارس الكنيسة برفقة بقبعة صلاة بيضاء تخص المسلمين ، سارا كحصانين ثائرين صوب المنزل .

-(( والله لن تكون إمامنا بعد اليوم …. )) صرخ الرجل ذو القبعة في وجه الإمام عندما مر بجانبه

عندما وصلا إلى ذاك المنزل المتواضع طرقا الباب بعنفٍ شديد ، ففتحت المرأة ذاتها ، صعقت بما رأته وحاولت منع الرجلين من الدخول لكنها لم تفلح ، دفعني الفضول إلى النزول ، في الحقيقة لم أعلم إن كان الفضول أو شيئاً آخر لم أختبره من قبل !

وقفت على مسافة قريبة من المنزل ، مر الإمام بجانبي دون أن يراني .

بعد لحظاتٍ خرج الجميع من المنزل ، قام الرجل ذو قبعة الصلاة بتحطيم العود على ركبتيه ، بكى الشاب ذو القبعة الصوفية كالنساء وتخبط محاولاً منعه ، سارعت فتاة المزار بالجلوس فوق صخرة قريبة وراحت تمسح دموعها وتبعها الحارس ليجلس على صخرةٍ أخرى مرهقاً ثم وضع كفيه على عينيه ودلك وجنتيه .

لم أصدق أن تصرفاً كهذا قد بدر من رجلٍ كالحارس ، بدا ضعيفاً جداً ، أين كل تلك القوة ؟

-(( أغضبتني وأغضبت الله وأصبحت شيوعياً ملحداً ، فضلت انتماءك الشيوعي على عائلتك ودين الله والآن كنت على وشك أن تتزوج من فتاة دون موافقة والدها أنت ابن عاق ، عاق لاأرغب برؤيتك في حياتي فليغضب الله عليك .. )) صرخ الرجل ذو قبعة الصلاة في وجه من تبين أنه ولده ثم تابع صراخه متجهاً صوب المرأة المرتدية ثوب الصلاة:

-(( وأنت يا شقيقتي الحنون التقية ، تقبلين بهذا ؟ واليوم أتبرأ منك ، لست أختي …. )) .

انتفضت فتاة المزار بعد أن مسحت دموعها بقوة وصرخت :(( وأنت ،ألن توبخني ؟ أو أن ذلك يشعرك بالخزي ؟! … ياوالدي ! قل بأنك تخجل بأن يعلم الناس أنني ابنتك ، أو الابنة التي تشك بهوية والدها ، لأن زوجتك هربت بعد إنجابها مع سائحٍ أجنبي ، ألا تراني أشبهك؟! أو أبدو لك فرنسية ؟! هيا أخبر الجميع كيف نبذتني دوماً ووهبتني للمزار حتى عطف الراهبات عليَ وربياني ! قل أنك كنت تحرسني أنا وليس الكنيسة ! هيا !)).

نهض الحارس وهو في حالة من الجمود ومشى مثل ظلٍ وهو يتمتم:(( لم أرد أن تصبح كأمها ، لم أرد أن تصبح كأمها ))!

كان الجميع في دهشة صامتة، وكأن أصابعاً باردة ضغطت على مفاتيح بيانو خفي ، وأصدرت موسيقى حزينة أسكتت الجميع .

اقتربت من الشاب وربت على كتفه (( هيا إلى منزلي نحتسي القهوة )).

شعرت خلال مسيرنا نحو المنزل برغبة شديدة بأن أرى ولديَ.

(10)

(( أبي كان دوماً هكذا ، وسيبقى هكذا ….))

قال الشاب ذو القبعة الصوفية القبيحة عندما قدمت له فنجان القهوة وأردف (( جميع سكان هذه البلدة مثيرون للشفقة ، يعيشون حياة رتيبة وساذجة وينتظرون ما يجهلونه ! )).

-(( معك حق ، أقصد أعتقد ذلك )) قلت ذلك وفكرت مجدداً بأن لساني لم يعد تحت السيطرة !

-(( جميع الآباء سيتصرفون هكذا اهدأ )) شعرت بالدهشة من نفسي على هذا التخمين .

تأملته ، كان يحتسي القهوة بشراهة والعرق قد تصبب من جبينه واستقر على شفتيه الغليظتين ، ورطب شعر لحيته الطويلة والفاحمة .

-(( الدين أفيون الشعوب ماركس كان محقاً )) قال وهو يمسح عرق جبينه بمنديل قماشي مطرز أخرجه من جيبه .

لطالما أعجبتني تلك العبارة ز لكن الدين لدى البعض أسلوب حياة!

-(( ربما كنت محقاً )) …أجبته لرغبتي في حسم نقاش قبل أن يبدأ .

ثم أضفت كمحاولة ملحة مني على تغيير الحديث :(( هل تتقن العزف على العود ؟))

-(( العود !.. رحمه الله كما يقولون لن أبقى قي هذه البلدة بعد الآن ، سأغادر ، أصدقائي الشيوعيون سيمدون يد العون لي )).

-(( وفتاة المزار ماذا عنها؟)) قلت .

-(( لن تكون جزءاً من مخططاتي المستقبلية كما يبدو !)).

هنا شعرت برغبة بضربه ، وإخباره بأنه لا يستحق أن يحمل مبادئ الشيوعية على عاتقه !

انتفض فجأة كشخص ثمل ، وقال بعدائية :(( علي الذهاب )).

فتح الباب مثل مخبول ، وغادر دون إغلاقه ، سرعان ماظهر منه صبي صغير بشعر فوضوي ، يحمل في يديه رزمة جرائد . قال بعد أن طرق الباب بقدمه : ((هذه الجرائد أرسلها لك صانع الأقفال ،وأوصاني أن أخبرك بأنه قلق بشأن تأخرك عن المتجروألا تعطيني ثمن الجرائد ))

-(( قل له أنني قادم )) قلت وأنا أتناول الجرائد منه ، لاحظت أنه يرمقني بنظرة وقحة !

-(( ألن تعطيني بقشيشاً؟! )) .سأل .

-(( ولماذا لطرقك الباب بقدمك ؟!)).

جاء ابن أختي من غرفته في هذه الأثناء ، واقترب من الفتى مبتسماً له وسلم عليه بطريقة لا يتقنها سوى الأطفال :(( هيه ، أيها الفتى هل تريد اللعب معي؟))!

فكرت أنه علينا أن ننظر للأطفال وإلى بساطة التعامل لديهم لا لنتعلم منهم وإنما لنحاول إدراك العمر الذي لم نعد نتقن عنده هذا الفن !

لاحظت أن الشاب الشيوعي قد نسي منديله ، ثم التفت إلى ابن أختي وذلك الفتى فرأيتهما قد أصبحا صديقين !

تساءلت فيما إذا كانت فكرة صداقة ابن أختي مع فتىً يطرق الباب بقدمه صائبة !

-(( هيا هيا بنا قلت وأنا أباشر الخروج ))..

فقد تأخرت كثيراً على متجري !!

(11)

العجوز مالكة المتجر وراهبة إيطالية كانتا أول رواد المتجر بعد استلامي له .

دخلتا قلقتين وعابستين ، كما لو أنهما تودان أن تخبراني بأن ثقتهما لا تمنح هكذا ، وأن ذلك يتطلب وقتاً وأدلة واقعية ملموسة !

علمت منهما أنهما جاءتا لغرض إضافي ، تريد الراهبة مجموعة من الدمى لمنحها لفتيات الترتيل كمكافأة على كونهن مستقيمات كما عبرت ، وقالت بأنها تفضل الدمى المصنوعة يدوياً لأنها تؤمن بموهبة العجوز وأن ذلك سيشجعهن على العمل اليدوي وأردفت :(( دورنا أن نقدم الجهود والمال والنصح من أجل إنتاج مسيحيين صالحين )).

-(( حسناً جئت لإخبارك أنني لا أرغب أن يخلو المتجر من تلك الدمى ، إنها ابتكاراتي وماجعلني أستمر في العيش )) قالت العجوز المالكة وهي على وشك البكاء .

-(( تستطيعي أن تصنعي ما يحلو لك في المنزل وأنا سأتكفل بنقله وبيعه ، لا تقلقي )) .قلت.

ماذا لو علمت بأن قريبها كان يريد التخلص من كل تلك الدمى التي وصفها بالساذجة !

-(( لم لا تعلميه؟ نعم هو ما العيب في ذلك؟! )) قالت الراهبة .

فكرت: هل تقصدني ؟ لطالما اعتبرت نفسي أتعامل مع دمىً باكية لا أكثر عندما عملت طبيباً ، التعامل مع هكذا دمى سيكون أكثر طواعية ومرونة !

دخل صانع الأقفال مقاطعاً اقتراح الراهبة واتخاذي القرار ،كالعادة !

حيا الراهبة بحرارة

-(( يدو أن عقوبة الوقوف على قدمٍ واحدة في نهاية الطابور قد جعلت منك رجلاً صالحاً يافتى …)) قالت الراهبة وهي تتأمل قامة صانع الأقفال .-(( آه مادري مادري ، لك الفضل في كل هذا )) قال صانع الأقفال .

فكرت في أنني لم أعرفه كما يجب لأبت بكونه صالحاً ، ثم لا أعلم إن كانت (( صالحاً )) بالنسبة لي تتطابق مع تلك التي تظنها الراهبة !

-(( جئت لأعطيك هذه ، لقد نسيت إرسالها مع الفتى صباحاً ، إنها صحيفة لبنانية ، خمنت أن فيها ما يهمك )) قال وهو يضع صحيفة بين يدي ، سرعان ما عكرت صفو يومي .

كان هناك خبر في الصفحة الأولى عن انتشار مجموعة من القناصين في الحي الذي تقطنه عائلة زوجتي .(( ما يحدث في لبنان يثير الحزن ، تحولت الاختلافات إلى حرب مدمرة ، متى ستنتهي هذه الحرب متى ؟)) صرخت وأنا أتخبط في كرسيَ.

أمسكت الراهبة بالجريدة وقرأت الخبر ثم قالت باهتمام :(( لدينا رقم الدير هناك ، إنه دير كاثوليكي ، سأتواصل معه ، ويمكننا عندها أن نطمئن على عائلتك ، لا تخف …)).

هاهو الدين مجدداً يقرب المسافات !

-(( وماذا عن قبولك بتعلم كيفية صنع الدمى ؟)) قالت العجوز .

فوجئ الجميع بهذا الهجوم !

-(( حسناً ، سنجرب …)) تمتمت وأنا مطأطئ الرأس .

في المساء وبعد أن غادر الجميع كنت عائداً إلى المنزل ،مررت بجانب محل صانع الأقفال كان الباب موصوداً، وقد بدا منه نور في الداخل ، اقتربت وألقيت نظرة من شق الباب ، كانت فتاة في سن المراهقة تخلع ثيابها ، اقترب منها صانع الأقفال عارياً تماماً ، عدت إلى الوراء مدهوشاً

تساءلت وأنا أهرول : هل مارأيته قد يزيل امتياز أن يكون (صالحاً)؟ بالنسبة لي وللراهبة !

( 12)

(( هم أحياء وقد وصلوا إلى باريس منذ 20 ساعة )))….

قالت راهبة لي من دير بيروت حيث يقطن ولديَ عبر الهاتف بخشونة وكأنها ترمي على عاتقي مسؤولية ما جرى لهم !

(( باريس لقد ابتعدوا أكثر …. لكن يبقى هذا أفضل من الموت !)) قلت بصوت مرتفع وأنا أغلق سماعة الهاتف ، كانت الراهبة تحدق بي باهتمام وبنوع من العاطفة التي تخص النساء اللواتي لم يتزوجن تجاه موقف يتعلق بالآباء والأبناء ، وتلك المشاعر المتداولة ..

قالت وهي تمسك بكلتي يديها بكتفيَ وتضغط : (( إنها فرصة أخرى لك لتكن بجانبهم ، عد لزوجتك )).

العودة إلى زوجتي ! هذه ليست فكرة بل ضربٌ من الخيال ، ما يهمني الآن أن ولديَ مازالا موجودين ، وأن لدي فرصة أخرى لأكون أباً لهما !

ما إن أفلتت الراهبة كتفيَ وأقدمت على الخروج ، حتى ظهرت لي العجوز مالكة المتجر من خلف القرابين ، صلبت على جبينها بماء القربان بشغف واسترسال . أدهشني ذلك كما لو أنها المرة الأولى التي تقوم فيها بذلك .

صرخت وهي تتجه نحوي :(( آه ، تلميذي تلميذي ، الدرس الأول ينتظرك ))!

اقتربت مني وأمسكت يدي بقوة : (( هيا إلى المنزل ، قريبُ من هنا )).

قصدنا منزلها الكبير ذو الغرف المتعددة والفارغة ، والتي قالت أنها غرفُ لأطفالها الذين خططت لإنجابهم ولم ينجح الأمر .

-(( انظر هؤلاء أطفالي بالمئات …)) قالت وهي تشير إلى مجموعة من الدمى الملونة المرصوفة في مكتبة حائط مؤلفة من عشرة رفوف .

ابتسمت وأنا أفكر : (( ماذا لو بإمكاني صنع أطفال كولدي ))!

بقيت لساعات وهي تشرح لي ما عليَ فعله ، وكيف أتعامل مع الأقمشة والأزرار والخيوط ، ثم رسمت لي على ورقة تصميماً لدمية ، وقالت : (( افعل هذا ، دوماً، احلم بالطفل ، ارسم حلمك على ورقة ، ثم امنحه الحياة بأناملك !)) .

أحببت جملتها ، تخيلتها مكتوبة بالخط الذي كتبت فيه ( لا نتعامل بالدين ) تلك التي في المتجر ، كان سيليق ذاك الخط .

تذكرت فجأة أنني تركت ابن أختي يذهب لقضاء اليوم بأكمله عند صديقه ، ذو التصرفات غير اللائقة ، ودعت العجوز و وعدتها أنني سآتي في الغد .

سرت باتجاه منزل ذاك الفتى ، فالتقيت به قادماً صوبي برفقة ابن أختي والإمام .

-(( كنت أعلمهما بعض الأناشيد )). قال الإمام عندما اقتربنا من بعضنا.

-(( أشكرك إمامنا ، كيف الأحوال ؟)) .

-(( لم أعد الإمام ، قاموا باستبدالي بآخر )) . قال هذا بوهنٍ شديد .

وقبل أن أعبر له عن أسفي ، دقت أجراس الكنيسة موسيقى الحداد ، تساءلت : من يكون المتوفي ؟ وهل أعرفه ؟

لكن سرعان ما شاهدت الناس في البلدة يتجهون نحو منزلٍ كبير ، منزلٍ ستصبح غرفه كلها فارغة . أدركت بغصة أن العجوز مالكة المتجر قد رحلت !

( 13)

لم تكن جنازةً واحدة ، بل جنازتين ! وقد حارت البلدة في البت في المسبب الفعلي لرحيل المشيع الآخر ، أكان السكري حقاً كما خمن دوماً ،أم الفضيحة . ثمة كائن واحد فقط كان يعلم أن ذاك المسبب المجهول هو أمرُ آخر لا علاقة له بما يدور في رأسهم ، كانت ابنته ذلك الكائن الوحيد .

ساعةٌ واحدة فقط فصلت ما بين وداع العجوز لأطفالها الدمى الذين أحبتهم ومنحتهم الحياة ووداع الحارس لابنته التي خجل منها مدى الحياة !

تبين فيما بعد أن لتلك الساعة الفضل في رحيل الحارس وفي جعبته شيءٌ من الحب ، وشيءٌ من الغفران .

(( والدي كان جيداً ، خجل بي ولكن لم يتركني )) تمتمت فتاة المزار عندما كنت أمشي بجانبها في الجنازة .

فكرت فيما بعد عندما خلدت إلى النوم في مساء ذلك اليوم ، أن الحارس لم يخجل بابنته ربما ، إنما بما كان يعتبره سذاجةً منه أن تتخلى عنه امرأة من أجل آخر وعندما أراد أن يرد اعتباراً لإثبات نباهته ، قرر عدم التصديق بأبوته لابنته .

لم أقوى بعدها على الخوض في أفكارٍ أخرى حتى ذهبت في سباتٍ عميق ، زارتني أرمينيا فيه ، تذكرت هذا فور استيقاظي على صوت قرع أنثوي للباب !

عندما فتحت عيني بصعوبة ، شعرت بروح أرمينيا في الغرفة وتساءلت عن سبب إخراج ثديها في الحلم كامرأةٍ مرضعة ، مع أنها لم تحمل في يديها سوى دمية !

نهضت متثاقلاً صوب الباب ، (( الطارق أنثى ، أنا متأكد )). تمتمت.

وبالفعل كانت أنثى ، في الثلاثين من عمرها ترتدي سترةً فضفاضة وردية اللون و بنطالاً أسوداً ذو أكمامٍ واسعة ، وقد تحجبت بوشاحٍ ورديٍ حريري ،مطرز بالخرز الأبيض اللماع ، وقد تدلى أحد طرفيه على كتفها ، كطريقة في التحايل على الجمال مع الاحتفاظ بالحشمة .

-(( صباح الخير ، أنا ابنة الإمام في الحقيقة والدي مريض ،ولم يستطع القدوم إليك ، لدعوتك إلى تناول الغداء في منزلنا ، وهو يرجو منك ألا تخذله ..)).

-(( حسناً بالطبع سآتي، سآتي بالطبع )) قلت بتلعثم .

(( لكن مابه؟ هل حالته خطيرة؟)) تابعت بحماقة .

-(( الاكتئاب! … لاشيء سواه في الواقع نحن من قررنا أن نقيم هذه الدعوة من أجل والدي ، لم يعد أحد من مسلمي البلدة يرغب به كإمام ، وحتى كشخص لقد فقد ثقته بكل من حوله …)).

قلت في نفسي: (( ولماذا أثق أنا ؟ لم أنا بالتحديد ؟! أم لأنني الجاهل الوحيد عن أسلوب حياته السابق ،الذي قد يكون حافلاً بالمصائب ،من يدري ؟!

لكنني كالعادة تركت لساني ينطق بما يريد :(( حسناً سألبي دعوتك )).

(( وجهها جميل )) .تمتمت وأنا أغلق الباب .

تساءلت فيما إذا كانت حقيقة أن وجهها لفت انتباهي قد أوقعتني في تلك الحالة التي تصيب معظم الرجال أمام شخص الأنثى وتجعلهم يدلون بما لايعنونه ..

(( لا ….. تجربة واحدة مع النساء كافية ووافية )) .قلت بصوت مرتفع كان كافياً لإيقاظ طفل كابن أختي ينام وهو يحلم بالاستيقاظ!

(( خالي هل سنذهب للمتجر؟)). تمتم الفتى وهو يحك كعب قدمه .

بدأ الفتى ينظم حياته هنا ، صديق وحماس للعمل ، سيكون شاباً مسؤولاً يوماً ما !

فكرت بحجم المسؤوليات على عاتقي ، تربيته وحمايته ، ولدي البعيدين ، إرث العجوز ووصيتها .

والآن كيفية إخراج الإمام المقصي من اكتئابه واستعادة ثقته بالحياة !

(14)

كانت المائدة عامرة بالمأكولات الشعبية المزينة بعناية ، والحلويات المنزلية الصنع ، بما يوحي بأن ابنة الإمام من الفتيات اللواتي قبلن بالأنوثة على طريقة مجتمعهن دون أي اعتراض ، بل ومع اجتهاد ورغبة في التألق في سماء تلك الأنوثة الضيقة .

جلست حول المائدة أنوثة أخرى بسمائها الخاصة وعالمها الخاص ، وتحدثت بلكنتها الخاصة المميزة عن كل نساء البلدة كما وصغها زوجها ((زوجتي مختلفة لذلك اخترتها )).

-(( أعمل محامية وناشطة في مجال حقوق المرأة )).

أجابت الأنثى المختلفة على سؤالي لها عن طبيعة عملها ضاغطة بإصبعها على نظاراتها الطبية خوفاً من السقوط .

-(( قلت أنك تركت الشيوعية )).سألت زوجها البدين في اللحظة التي أحاط بيده حول زوجته وقربها إليه فخوراً .

سألت زوجها البدين في اللحظة التي أحاط بيده حول زوجته وقربها إليه فخوراً .

-( نعم في الحقيقة، لطالما كنت ماركسي النزعة على الرغم من ثراء عائلتنا وامتلاكها لأهم الفنادق والمطاعم في هذه المناطق لكنني وبالفعل تخليت عن جزء كبير من ثروتي لدعم الشيوعية لكن ما آلت إليه الأمور في النهاية لم تشجعني على وهب المزيد . قال وهو يحرر زر قميصه العلوي بعد وجبةٍ ساخنةٍ ودسمة .

التفت إلى الإمام عسى أن يتكلم لكنه لم يفعل وبقي كما كان منذ قدومنا .

-((صحيح أننا لا نذهب إلى الكنيسة ولكن أليس لدينا ضمائر ؟!)) قالت الزوجة.،ثم داومت :((وضع المرأة في السنوات الأخيرة في البلدة بات محزناً، في يدي مثلا قضية بيع فتيات قاصرات إلى أصحاب النفوذ والمال ،لا ينظر للمرأة في هذا الزمن إلا كأداة لإرضاء النزوات ،ياله من انحطاط!)).

-((صديقتي كانت تعزف في فرقتنا زوجت عنوة لأحد المهربين الأثرياء وهي الآن ممنوعة عن الموسيقا ،تذبل في قفصها ))قال الشاب ذو اللحية السوداء الذي عرف بنفسه في البداية على أنه عازف كمان في فرقةٍ شبابية انتمت لفترة إلى الشيوعية ثم غادرتها .

أردف :((نحلم ونحلم ثم لا شيء ، تمردنا على تقاليدنا البالية ، الظروف ، بعضنا كان من عائلاتٍ متزمتة ، وآخرون لم يكن لديهم عائلة ،بعد أن حققنا جزءاً من أحلامنا جاء اليأس ليأخذ كلاً منا في اتجاه ،. الفراغ جعل من صديقي يضع حدا لحياته ، هل بقي أكثر ؟!)).

-((بقي أن أمسي شخصا غير موثوق به وأن أمنع من زيارة المسجد ، وأن استبدل برجل تخلى عن ابنه لمجرد رأي مخالف له ،)) قال الإمام بعد صمت طويل .

علمت حينها أن الإمام الجديد هو والد الشاب الشيوعي ، العريس المفترض لفتاة المزار .

دخلت ابنة الإمام في هذه الأثناء وهي تحمل ثوباً مطرزاً بين يديها ، قالت مخاطبة المحامية : ((ما رأيك ؟! لم تريها من قبل ، انتهيت اللبارحة من صنعها .)).

-((تصاميمك ملتزمة لكنها مميزة ، أنت موهوبة )) قالت الزوجة .

أدركت أنني تسرعت في الحكم على ابنة الإمام والحد من قدراتها . ثم خطرت لي فكرة : لم لا نعمل معا بما يرضي الجميع ؟!

وبالفعل عرضت عليها اقتراحي أثناء تناول الحلويات ، واحتساء الشاي ، ثم دار بيننا حديث مطول أخبرتني فيه بسعادة من حظي اهتماماً عن دروس التطريز التي تقيمها لليافعات القاطنات في حيها تعلمهن أن يبدعن وليس فقط أن يلتزمن بالقواعد وبأنها وجدت فيهن من لديهن مشروع مصممات دفع بها إلى منحهن اهتماماً خاصاً ووقتا أطول لتصحيح رسومهن ومناقشتها .

-((لدينا طاقاتٌ جميلةٌ ومبدعة في هذه البلدة )) قالت وهي تقضم قطعة من البقلاوة بنعومة ، راقبت حركة ثغرها ، بدا صغيراً وناعماً ، أحببت رسمه .

إن وافقت على العمل معي فعلي ألا أتأمل ثغرها مجدداً!

قاطع الإمام إسهاباتي قائلا:(( تعلمون أن الشيوعية بعيدة كل البعد عن مبادئي وأنني فقدت ثقة مسلمي البلدة بأنني أجلس مع الشيوعيون وأفتح لهم منزلي ،لكن بالنسبة لي أمر يتعلق بعلاقتي بهؤلاء الأشخاص وليس بما يفكرون ، ماأردته أن أكون إماما يحبه الناس ويثقون به ويلجؤون إليه ، لطالما اقتنعت أن هذا هو دوري ) اغرورقت عينا الإمام بالدموع وتوقف فجأة عن الكلام ثم نهض عن كرسيه ودخل غرفته ثم لحقت به ابنته مخلفةً وراءها سؤالاً بلا إجابة وزمناً واقفاً . التفت إلى الزوجة المختلفة وزوجها ، كان الزوج يقدم عرضاللشاب العازف :-(( بإمكانك القدوم وفرقتك للعزف في فندقي إن أردت ؟)).

-((وأيضا في الجمعية عندي .. يمكنكم مثلا خلق أغنيات تتضمن القضايا التي أدافع عنها كالاغتصاب وبيع الفتيات ما رأيك ؟سمعت ما غنيتم من قبل من أغان ثورية ))أضافت الزوجة وهي تمسح نظاراتها بسترتها .

-((في الحقيقة يسعدني ذلك ، لكن لاأدري إن كان بمستطاعنا أن نحلم من جديد وأن نؤلف دون خوف أو يأس ،نحن شباب مخذول لم يعد يؤمن بشيء ،فقدنا انتماءاتنا ، لا قيمة لإبداعنا في مجتمع لا مكان فيه سوى لمن يبطش ،))قال الشاب وهو مطأطئ الرأس .

-((لكن ما كل هذا الاستسلام ؟انظر نحن موجودون ، وهناك الكثير منا يطمح ويرفض ما آل إليه المجتمع لكننا نعمل بقدر ما نستطيع ولم نيأس ،وسوف تعزفون في الفندق أيها الفتى ولم أطلب موافقتك !)).

تساءلت بعد الإنصات الجيد لأحاديثهم ومناقشاتهم الثقافية عن السبب في عدم مشاركتي فيها والإدلاء بآرائي ،فأنا ماركسي ولدي زخم من الأفكار لأعبر عنها ، فكرت بهذا أيضا بعد مغادرتنا منزل الإمام وفي أمور كثيرة أخرى كان أشدها إلحاحاهو قبول ابنة الإمام في جعل تلميذاتها يصنعن لمتجري الدمى والملابس المطرزة ،.

تمتمت عندما لذت بالفراش : كم أتمنى أن تعيش ابنة الإمام بقربي دوما“!

في تلك الليلة ،جاءت أرمينيا لي في حلم طويل هذه المرة على عكس أحلامها القصيرة المعتادة ، كانت ترتدي فستانا طويلا من الحرير الأبيض وتضع حمرة شفاه ، اقتربت منها ، شعرت بها ، قبلتها وتلونت شفتاي !

(15)

دلف رتل من الفتيات ذوات الأردية الطويلة المحل وفي مقدمتهم ابنة الإمام بزيها المختلف وقد وضعت وشاحاً أبيض اللون مطرزاً بنقوش طيور تتبادل القبل بمناقيرها .

كنت أنتقي دمى مناسبة لتحقيق ما ترنو إليه الراهبة في حفل تكريم فرقة الترتيل الذي تم تأجيله حداداً على وفاة الحارس والعجوز مالكة المتجر ، عندها قاطعتني ابنة الإمام بقولها :((هاهن الفتيات المبدعات،جئن ليتعرفن على ممول موهبتهن وعلى طبيعة العمل !)).

-((أهلا بهن .. )) قلتها بارتباك .

في الواقع لم أتعامل من قبل كممول! أو مع هذا العدد الهائل من النساء بالرغم من إحاطتي بنساءٍ ملوناتٍ ومختلفات في منزل الطفولة .

راقبت حركاتهن ، شعرت بأنهن أضفن على المحل نوعا من الإثارة اللبقة ، تبادلن الآراء بكل جرأة حول البضاعة ناقدات كل تفصيل ودون أي تساهلات .

لفتني قول إحداهن :(( تبدو تلك الدمى كائنات بشرية مقلدة !

فتاة أخرى دنت من طاولتي وهمست: (( لم يخطأ ذاك الصبي الصغير ابن أختك عندما تمنى أن يكبر ويغدو ذكيامثلك ، هو صديق لأخي …)).

انتابني مزيج من الحبور والرضا في دواخلي عندما أدلت بذلك .ما يعنيه هذا أنني أجيد التعامل معه .

-((هلا تقف هناك لالتقاط صورة تذكارية ))قالت إحداهن وأنا غارق في حبوري .

انتهت بعد ذلك الزيارة بعد أن أبدين إعجابهن بالبضاعة ،وتمنين تعاملا موفقا بيننا !

راقبتهن من باب المحل ،وراحت عيناي تصوبان نحو القامة الممشوقة لابنة الإمام وسحرها المختلف .لكن حدث شيء قلب الأمور رأسا على عقب ،شاهدت شاباً طويل القامة ذو عضلات مفتولة وبشرة سمراء لامعة ،بعينين كعيني النسر يقترب منها ويتبادلان الابتسامات الخاصة بمراهقين عاشقين .

علمت لاحقاً من صانع الأقفال أثناء طقس النارجيلة المسائي أن ذاك الشاب غريب عن البلدة وهو من أصل كردي ، وجد في هذه البلدة ملاذاً له من الموت تحت شعار الثأر العائلي .

يقال بأن شقيقه أحب فتاة من عائلة ذي نفوذ بين الأكراد وقام بفض بكارتها ثم تخلى عنها وعندما علمت عائلتها حكمت عليهما بالموت وبالفعل تم رمي العاشقين بالرصاص نصرة للتقاليد والقوانين العائلية وهنا بدأ الدم مسيرته الطويلة عندما قام شقيقه بقتل شقيقها ليتوجب على أبيها بالضرورة أن يخفي أي أثر للعائلة الأخرى فقام بإحراق المنزل بمن فيه وقد نجا ذاك الشاب من الحريق ليقصد بلدتنا وهو لا يعلم بأن الفارس المجهول الذي تنتظره ابنة الإمام !

روى لي صانع الأقفال تلك الحكاية بلكنة ساخرة وهو يوقد النار تحت فحم النارجيلة .

حملقت بالجمرات المتوهجة ورحت سارحاً فيها ،أفكر بذلك اللهب الذي يشبه ما يعتريني .

بعد لحظات أيقظني صانع الأقفال من سهوتي شارحاً ضرورة أن أنام مع امرأة ما من بائعات الهوى القاطنات في البلدة وأن

هنا لم أعد أسمعه جيدا ، سرحت مجددا ،عاهدت نفسي أن أتعلم من اليوم كيف أغض بصري عن ابنة الإمام .

(16)

غصت البلدة برواياتٍ مختلفة عن حقيقة ما جرى في المشاجرة الصباحية بين الشاب الكردي و المهربين الذين يتسكعون في شوارع البلدة بسياراتهم الحديثة والفخمة التي تعج برائحة الخمور يلقون الشتائم والكلام الإباحي على فتيات البلدة ونساءها .

فالبعض يروي أن ذاك المهرب نعت ابنة الإمام بالزانية وابنة الحرام وهؤلاء طبعا من هم ضد نفوذ المهربين والبعض الآخر لديه حكاية أخرى تقول أن المهرب هو فردٌ من عائلة الإمام وقد وجدها في وضع غير لائق مع الشاب الكردي في طريقه إلى مدرسة أطفاله !

أما أنا فلم يكن علي أن أفكر لأقرر أي روايةٍ سأصدق .

أدخل صانع الأقفال الشاب الكردي إلى متجري ليهدئ من روعك بينما مرت ابنة الإمام كمن اقترف ذنباً صوب منزلها .

-((هؤلاء البرابرة البوهيميون ،لا ينفع معهم سوى العنف )). قال الشاب الكردي وهو يركل إحدى خزانات المتجر ،سقطت إثر ذلك بضعة دمى ، لم يعتذر عن ذلك وخرج ثائراً من الغضب دون أن يتفوه بكلمة أخرى .

مساء ، وفي طريقي على احتفال الكنيسة لمحته يتجرع الويسكي على قارعة الطريق وعيناه كجمرتي نارجيلة .

أردت الذهاب إليه ومساعدته ، لكن صاحب الفندق أوقف سيارته بجانبي ودعاني للصعود ،ألقيت التحية على الزوجة المختلفة ولاحظت أنها تضع ربطة عنق نسائية غريبة الأطوار

أمضى صاحب الفندق الطريق بأكمله وهو يثرثر عن الفوضى والانحدار اللذين تشهدهما البلدة ، وأشار إلى اهتمامه بالوضع المادي لمتجري وعن ضرورة التفكير بتطويره في المستقبل ،عل مشروعي يتحول إلى مصنع للألبسة والعباءات المطرزة والدمى إن أحببت .(الدمى إن أحببت ) قالها بأسلوب برجوازي عتيد لم يظهره من قبل . وكالعادة كانت ردة فعلي هي الصمت .

عندما وصلنا إلى الكنيسة ،ترجلت من السيارة بحماس كمن يريد التنفس ،كانت عائلات أفراد فرقة الترتيل نجتمع في حلقات وهم على أتم الاستعداد في الملابس والابتسامات ،لاحظت فتاة وحيدة تدخن السجائر ترتدي بنطالاً من الدجينز الباهت وكنزة ًقصيرة لا تلاؤم كنيسة .

التصقت تلك الفتاة بعمود من الأعمدة المرفوعة أمام باب الكنيسة الضخم ، علق هناك لوحة رخامية نقش عليها باللغتين العربية والإيطالية تاريخ بناء الكنيسة وأسماء البنائين ،كانت معظمها أسماء فرنسية .

على العمود الآخر علقت صورة القديس مار جرجس إشارة إلى الدير الذي سمي باسمه (دير مار جرجس الكاثوليكي ).

كان بهو الدير واسعا كسماء ، وقد بنيت في منتصفه بركة كبيرة تعمل فيها أربع نوافير من الفجر وحتى منتصف الليل ،والفسحة المتبقية تكتظ ببائعي الأزهار والمسبحات والقلادات الدينية وكل ما يخص أمور الصلاة والتعبد .

فتحت أبواب الكنيسة لقاصدي الاحتفال وأذن لهم بالدخول ،وقف ثلاث شبان متأنقين ،يرتدون ربطات عنق متماثلة سوداء ومقلمة بصليب فضي ،وأخذوا يرحبون بالأهالي ويقدمون لهم كؤوس النبيذ والشوكولا .ظهرت الراهبة بعد ذلك واتجهت صوبي مباشرة ، بدت سعيدة جدا بقدومي ،رحبت بي وربتت على كتفي بقوة ،ونحن داخلان سقطت عينيها على الفتاة الغريبة الملتصقة بالعمود فاضطربت وارتجفت أطرافها .

جلسنا في المقعد الأول من مقاعد المصلين ،لكن اليوم كانت مقاعداً لجمهور سيستمع فقط للتراتيل ويشهد توزيع المكافآت .

تأملت عدد الحاضرين ،كان قليلا جدا بالنسبة لسكان البلدة ،تذكرت كلمات حارس الكنيسة ،واكترثت مجددا لتلك المسألة .

لاحظت أن الراهبة تغادر المقعد ، راقبتها ، كانت تتجه نحو الفتاة الغريبة التي وجهت نظرات عدائية لها ، بدا من منظرهما وكأنهما تتجادلان ،أو توجهان التهم لبعضهما .

عادت الراهبة بعد إخفاقها في تغيير وضع الفتاة فقد بقيت ملتصقة بالعمود تدخن السجائر ،لاحظت أنها غير متبرجة .

بدأ العازفون بالعزف ، ونظمت فرقة المرتلين وقفتها استعدادا للإنشاد .، كانوا جميعا يرتدون زياً أبيض ، ارتدى كل ذكر قميصا وبنطالاً أبيضين وعلق صليباً ذهبياً في رقبته ، أما الفتيات فارتدين فساتين حوريات بيضاء وتيجاناً من اللؤلؤ الأبيض في وسطها صلبان من الذهب الأبيض.

التفت إلى ردهة الدخول ، كانت الفتاة الغريبة قد دخلت الكنيسة ووقفت خلف الصف الأخير من المقاعد ، وراحت تنظر باهتمام وحنان إلى إحدى فتيات الجوقة .

كان الشاب الواقف في مقدمة الجوقة قد استهل الترتيلة ، لحظة جاءت عينه في عين الفتاة الغريبة فامتقع وجهه وتبدل صوته وتقلقل .

أشاح الشاب بنظره عن الفتاة وثبت عينيه في تمثال العذراء المتربع جانب المكان المخصص للترتيل .

في هذه اللحظة بالتحديد ،سقطت المرتلة التي تحملق الفتاة الغريبة فيها ،وراحت تتخبط . توقف العازفون عن عزف الموسيقى وصرخت المرتلات خائفات وهربن باتجاه الأهالي ،ركض الشاب رئيس الجوقة وجثى بجانب الفتاة وراح يداعب شعرها ، دفعت الفتاة من أمامها بعنف وهي تتجه صوبهما ،حاول رجل منعها فصفعته بقوة وقالت :((ابتعد أيها الحقير المنافق )).

مسح الشاب دمعة من عينيه ،وضم الفتاة الغريبة وشدها إلى جذعه بقوة كمن يفتقد للأمان ،خرج الزبد من فم المرتلة الجاثمة على الأرض ،وهدأت .

((هل من طبيب؟)).صاح أحدهم .

مازلت أذكر أنني طبيب ،من المبكر نسيان ذلك !لكنني سأنسى يوما ما .

((أنا)).. قلتها مجازا

(17)

((كم كان عمرها عند أول نوبة صرع ؟))سألت الشاب رئيس الجوقة الذي ركع يصلي أمام تمثال المسيح المصلوب في الغرفة التي نقلت إليها المرتلة المريضة ،كانت غرفة نوم مخصصة لإحدى الراهبات .

رفع رأسه بوهن وأجاب وهو يتقطر عرقا:

-((كانت في الخامسة ،هناك سبب لذلك ،أختي ليست مجنونة )).

اقتربت منه ، ضممته وأخبرته بأنني طبيب وأعلم أن أخته ليست مجنونة وإنما فقط مصابة بالصرع .

-((منذ اليوم الملعون )).. قالت الفتاة الغريبة التي اتخذت من طاولة في إحدى زوايا الغرفة كانت تذرف دموعها بصمت .

جمعت شعرها العادي إلى الوراء ،أشعلت سيجارة ،وتسمرت بالحائط .

-(( من تكونين لها أيتها الآنسة ؟)).سألت .

-((أختها العاهرة هه )).قالت بسخرية ثم بكت مثل طفلة صغيرة

دخلت الراهبة الغرفة وأسرعت متجهة صوب الفتاة الغريبة ،خمنت أنها ستطردها أو تصفعها أو شيء من هذا القبيل ،لكنني ذهلت بما رأيته ،عانقت الراهبة الفتاة الغريبة وهدئت من روعها ،ثم قالت :لطالما حميتكم لا تقلقي .. ثم تابعت موجهة حديثها لي :((ستساعدني في إيصالهم إلى المنزل )).

بعد أن أفاقت الفتاة ، توجهنا جميعا إلى المنزل الذي يقع خلف الكنيسة ،كان منزلاً متواضعاً لكنه مرتب ونظيف ،لاحظت مكتبة ضخمة في المدخل تزدهر بالكتب والأناجيل وتماثيل المسيح والعذراء .

دخلت الراهبة مع الفتاتين إلى غرفة المرتلة لتبديل ملابسها والسهر على راحتها وجلست أنا والشاب في الصالون صامتين .

لم يدم صمتنا طويلاً ،فقد بدا الشاب بأنه سعيد جداً لوجودي وقال بأنني أذكره بوالده الذي فقده منذ سنوات ثم أصر على أن يريني مكتبته ،دهشت للتناقض الواضح بين صغر سنه وكمية الكتب التي يقرأها ،كانت المكتبة مقسومة لنصفين ،نصفه هو ويشمل الأناجيل والكتب الدينية بالإضافة لروايات ديكنز وإميل زولا ودوستوفيسكي وتولستوي وتشيخوف وشارلوت واميلي برونتي وهمنغواي وألبير كامو والكثير

قال أن القراءة هي حياته ،منذ أن فقد والديه ومنحتهما الكنيسة هذا المنزل للعيش والهرب من …. لم يكمل كلامه هنا

بدا لي وكأنه يرغب في التحدث والإفضاء عن ذكرياته ،في الجانب الآخر من المكتبة وضعت روايات مكسيم غوركي وبقية أدباء الثورة البلشفية ،قال بأنها كانت لأخته الكبرى قبل أن تغادر إلى إيطاليا

-((وماذا قصدت أختك باليوم الملعون ؟)) .سألته .

هنا ارتجف وتلعثم وبدأ بالسعال بشكل اختناقي ،احمرت وجنتاه وبرزت عروق رقبته وتجهش بالبكاء ،ثم أمسك بقوة بيدي وفقد توازنه ،أسندته إلى كتفي ومشيت به صوب الأريكة .

سمعت الراهبة والفتاة الغريبة الصراخ وخرجتا هرعتين ..

-((ماذا حدث ؟))صرخت أخته بشراسة .

-((لاأعلم سألته عن اليوم الملعون ……!!)).

لم تدعني أكمل جملتي حتى قالت :((اليوم الملعون إنه اليوم الذي متنا فيه ثلاثتنا ..)).

سحبتني الراهبة من يدي وهي تتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئاسوى وعد بأنها ستحكي القصة كاملة..

فكرت في أن ما يهمني هو ما سيحدث للشاب وليس القصة !

جلست الفتاة الغريبة بعد أن اطمأنت بأن أخاها قد غط في نوم عميق ،تسرد لي قصة اليوم الملعون .

((كانت عائلتنا من العائلات ميسورة الأحوال في البلدة ، كان لأبي مصنعا صغيرا للنبيذ ومجموعة كروم للعنب ،كنا نسكن في منزل كبير نسبيا ،كان أبي غير اجتماعي من الرجال الذين يحبون قضاء أوقاتهم في العمل فقط ، ما زلت أذكره بلحيته السوداء الطويلة وقبعة رعاة البقر التي تخصه ،بنطاله البني المصنوع من الجلد الأصلي ،كان يقضي كل أوقاته مع عماله ،حتى أنه لم يكن لديه أخوة أو أصدقاء من رجال البلدة سوى عماله الذين كانوا بمثابة أخوته وصديق واحد ثري ، مات هذا الصديق مخلفا ديونا باهظة للعائلة ،اكتشفت زوجته أنه كان يبددها في الخمر والقمار ، ثم تم الحجز على ممتلكاتهم ،فجاء أبي بهم ،وأسكنهم في منزلنا في ملحق فارغ ،عاشت المرأة بيننا وكانت تعتني بجدي المقعد ولم تكن تناديه سوى بأبي ،ونحن بأولادي . كان لديها ولدان لا يعرفان سوى السكر وإيقاظ الناس بالأغنيات الرديئة والسباب.

كان أبي يهتم بتلك العائلة لدرجة أزعجت أمي ومرة اتهمته بقضاء أوقات ممتعة مع تلك المرأة وكلفها ذلك غياب شهر عن أطفالها وبيتها .. كانت المرأة تحتقر العمال وتعاملهم لفظاظة وتتعمد سماعهم لها وتتقزز من رائحتهم .

عندما توفي والدينا بحادث سير رهيب ،تحولت تلك المرأة اللطيفة الأم الثانية لنا إلى أخرى ،كانت تشتم جدي وتضربه إن رفض أن يأكل ،تحشر الملعقة داخل تجويف فمه بقسوة حتى تدمى لثته ويسيل خليط الدماء والحساء على ثيابه ،كان دوما صامتا ،عندما يراني عائدة على المنزل يضحك ببلاهة ويرقص قدميه ويشير إلى كأس الماء ، أعطيه إياه فيشربه بنهم كما لو أنه يشعر بظمأ أزلي .

كان ولداها يسكران كل ليلة ويرميان زجاج النوافذ بالحجارة ويصرخان : حثالة !برجوازيون!سنتبول عليكم يوما ما !

كنت أغلق جميع الأبواب وأضع خلفها أثقل الأثاث ،أضم أخوتي وننام كلنا في سرير واحد .

في ذلك اليوم الملعون كان جدي قد توفي حديثا،وعندما كنت عائدة من جامعة المدينة حيث أدرس الصحافة ،كنت قد أوصيت أخوتي بعدم البقاء قي المنزل ،وصلت وأنا أسمع بكاء وصراخا قادما من الصالون ،ركضت مسرعة ،شاهدت أختي مغمى عليها والعرق يتصببها ،كان أحد أولاد تلك المرأة قد عرى نصفه السفلي ووضع يد أختي الصغيرة حول ذكره ويصيح هائجا ((هيا افعلي ما أمليه عليك)).

والآخر كان يحاول الاعتداء على أخي واضعاً كفه على فمه ليمنعه من الصراخ . هرعت صوبه وقمت بعض يد المعتدي دون أي شفقة ،ركلني بقدمه.،فسقطت أرضانجحت في النهوض ،هربت كدجاجة خلفها ذئب وصرخت في الحي :إنهم يقتلون أخوتي ..

جاءت إحدى العاملات ونادت على زوجها الذي ولج إلى البيت لكن الحقيرين كانا قد أفلتا . شاهدهم وهم يغلقون أزرار بنطالاتهم ويهربان باتجاه المزارع .

في ذلك اليوم بقينا في الكنيسة ،نمنا في غرفة هذه الراهبة الطيبة ،كان أخواي صغيران تكفلت بتربيتهما ،كنت قد انتسبت للشيوعية مع أصدقائي في الجامعة ،قرأنا الأدب البلشفي وخرجنا مظاهرات ضد الليبرالية والطبقية .

كنت ساذجة وقتها ،أدرك اليوم أن الشيوعبة كانت مذهبا اقتصاديا بحتا ، ماذا فعلت الشيوعية أمام الظلم الذي وقع علينا؟،أي تحرر قدمت ؟،اليوم هم يتسكعون بسياراتهم التي تصدح منها ذات الأغاني الرديئة ،وأمهم ترتدي أفخم الملابس من نقودها غير المشروعة ومازالت تلوك بعلكتها بالطريقة البربرية نفسها .

وفوق ذلك أصبحت في نظر أهل البلدة عاهرة وبدأت القصص تؤلف عن هربي إلى إيطاليا برفقة ذلك الشاب الإيطالي قريب القس الذي جاء يقضي إجازة في بلادنا .

كان ذاك اقتراح الراهبة أن أسافر معه وأعيش في منزل أقربائها وأتابع تعليمي في روما لأعود صحفية جديرة ولأتخلص من مضايقات ذاك البائع الخرف الذي كان يريد الزواج مني . فوجئت به اليوم يمنعني من دخول الكنيسة بكل وقاحة ،صفعته .. تصبحت متأكدة أنه من نسج تلك القصة عني نظرت إلى الراهبة نظرة امتنان .

مسحت الراهبة دمعة من عينها على وشك السقوط وقالت : من تراهم أمامك هم تجربة أمومتي التي حظيت بها دون مخاض أودنس ، كنت أبتسم عندما يغطسن شعرهن في ماء القرابين ويتحدثن مع التماثيل ،أقبل ذاك الفتى عندما يجمع شموع الشعنينة ويضيئها سرا في غرفته ،كنت أراقب تلك الصغيرة الغافية وهي ترتدي ثياب الراهبة أمام المرآة وأبكي فرحا“.أعلم أن القوانين التي تفرضها الكنيسة عليهم قاسية لكنهم عندي مستثنون من كل شيء ، أعترف أنني من أجلهم فقط أتقمص وجهين إن لزم الأمر !

فكرت أنه لو كانت أمي كهذه الراهبة لتغيرت حياتي إلى الأبد

(18)

دقت طبول الحرب في البلدة ، لم يعلم أحد من بدأ بفتح النار على الآخر ،الشيوعيون وعصابات المهربين أم ما يسمون أنفسهم الجهاديون الإسلاميون ،يقال أن الإمام الجديد كان يجمع مناصريه من مسلمي البلدة في الفسحة أمام حي المسلمين ويخطب بهم عن أحلام دولة سياسية مسلمة وعن ضرورة الجهاد في هذه البلدة .وهكذا بين ليلة وضحاها ،أمطرت السماء سلاحا،الطرفان يفتحان النار والقذائف والرشاشات وينظمان عمليات القنص تجاه بعضهما ، يقال بأن الإسلاميون جاؤوا بأسلحتهم من القرى المسلمة المجاورة و العصابات المتدثرين بالشيوعية جاؤوا بالسلاح المهرب عبر الحدود .تسل المسلمون ممن هم ضد هذه الحرب ليلا ولجئوا بالأحياء المسيحية منهكين جوعا،فتحت بيتي للإمام السابق وابنته ،تغيرت كثيرا،ارتدت نقابا ،وزالت تلم البصمة التي تخصها في الملابس والتبرج .

كان والدها دائم الصمت ، قالت بأنه منذ اندلعت الحرب توقفن الكلام والمشي ،وبدأ بالهزال .

مات بعد أيام وقمنا بدفنه في الحديقة الخلفية لمنزلي ،كان من المحال الوصول إلى مقبرة المسلمين ،بكت ابنته بشده ،بدت ضعيفة ومكسورة ،الشاب الكردي كان يواسيها ،تمنيت لو أنني من قمت بذلك . تحدثنا عن مصير فتيات التطريز ،أخبرتني بأن واحدة منهم لاقت مصيرها إثر قذيفة سقطت على منزلها ،والأخريات تفرقن بين البلدات المجاورة ، واحدة منهن أضاعت طفلها .

في صباح يوم هادئ كأنما أعلنت فيه الهدنة، غادرا ودعاني بغصة، ضرب الكردي على كتفي وأخبرني أنني كنت رجلا حقيقيا معهما .

قالا بأنهما سيتزوجان ويعيشان في قرية بعيدة عن هنا وعن بلدته ،بعيدا عن الموت .

بقيت متسمرا لساعات في مكاني بعد مغادرتهما ، صنعت ساندويتشات الزيت دون الملح أو أي شيء آخر وأيقظت ابن أختي ،بدأت الدكاكين والمحال تخلو من بضاعتها .

دعاني صاحي الفندق وزوجته للمكوث في الفندق ،قالوا بأنه بعيد نسبيا عن ساحة المعركة ، انتهزت فرصة الهدنة وقبلت عرضهما ،عندما وصلت هناك شاهدت فرقة العازفين ،كانوا يغنون !تغيرت كلماتهم ،صارت خشنة والإيقاع بدا حزينا“. كانت أغانيهم في معظمها رثاء لمن ماتوا .

شاهدت هناك ابنة الحارس ،ازدادت قسوة ملامحها ،قالت بأنها جاءت لتعرف مصير قضية إثبات نسبها ،كانت الزوجة المختلفة من استلمت هذه القضية .

غادرت الزوجة المختلفة مساء إلى الجمعية ، قالت بأن عليها أن تهتن بقضية من تعرضن لتحرش جنسي خلال هذه الحرب ،لم تعد .

لحق زوجها بها لما تأخرت ولم يعد هو كذلك . اختفيا ولم يعلم بهما أحد .

ثمة مجنون يقضي كل وقته أمام الفندق ،كان يشير بإبهامه دومانحو الأرض ويقول : ((السيد والسيدة ذهبا إلى الأسفل ))!

بكت ابنة الحارس وندبت حظها،ثم التزمت الصمت وراحت تهتم بنظافة الفندق ، كانت آخر جملة قالتها:كنت دومابلا هوية ،وسأبقى هكذا .

غادرت وابن أختي الفندق وقصدنا الكنيسة في يوم هدنة آخر ، تغيرت الشوارع ،كأنها بلدة في الجحيم .

كانت الكنيسة هي المكان الوحيد الذي لم يتغير ،قالت الراهبة أن هذا نتيجة للصلوات المكثفة التي يقيمونها يوميا،سألتها عن الشاب رئيس الجوقة وأختيه ، أخبرتني بأن الصحفية غادرت إلى إيطاليا واصطحبت معها أختها الصغرى لتلقي العلاج ،الشاب رفض السفر،تشاجرا كثيرا ولكنه استطاع إقناعها بإخبارها أن حريته لا يمكن أن يجدها إلا في هذه الكنيسة .

ومنذ ذلك اليوم وهو يلازم كرسي الصلاة ،نصلي أحيانا معا لعودة السلام .

في تلك الليلة استيقظت على حلم مزعج كانت أرمينيا فيه تصلي وتذرف الدموع والقرابين تفيض بالدماء ،تشكل سيولا تجري في الكنيسة بين مقاعد المصلين وتلوث ثوب أرمينيا .

دخلت الكنيسة لأتفقد الشاب ، اقتربت منه ،لم يحرك ساكنا،تلمسته ،كان باردا، سقط بين يدي ، كان يهلوس بعبارات غير مفهومة ،مددته على أحد المقاعد ، بحثت في صيدلية الكنيسة عن ميزان حرارة ،قمت بقياس حرارته ، كانت (41) درجة ، بحثت عن أدوية خافضة للحرارة في الصيدلية ، ولم يتبق منها سوى حبة واحدة ،أعطيته إياها وصنعت كمادات باردة له ،تناقصت حرارته قليلا وتوقف عن الهلوسة ،نظرت إليه ،وقلت له :((عليك أن تبقى حياأيها الفتى ،ثم تذكرت عبارة جدتي الكبرى ( مايهم أنك حي ، ودورك الآخر يأتي حينما يحين ذلك ).

غفوت من شدة التعب على مرسي صلاة ، أيقظني صوت انفجار ،هرعت بسرعة خارج الكنيسة ،كان صوت قذيفة سقطت في البركة وسط الدير ، ركض الباعة مذعورين ،صار الماء يتدفق نحو الخارج وملأ فسحة الدير ، حاملا معه الأزهار والقلادات ،لاحظت أن أحدا لم يتأذى ،شعرت بيد تربت لى كتفي ،التفت إلى الوراء ،كان الشاب قد شفي ،ابتسم ابتسامة كلها اطمئنان وقال: صلواتنا مستجابة ،لا تقلق.

(19)

كان يوم الميلاد عندما استيقظت على حلم ستتغير معه الأمور من الآن فصاعدا .

لبست وابن أختي أجدد مالدينا من ملابس ونزلنا إلى الكنيسة ،كانت الصلاة قد انتهت ،أخبرت الراهبة أنني لم أسمع صوت الجرس بسبب القذائف والرصاص .لم أكذب ، لكن ربما لم تصدقني .اجتمعنا ظهرا على الغداء في منزل الشاب .

جلسنا بجانب الشجرة المزينة بعد أن فرغت الصحون من لحم الدجاج ، الذي خبأته ابنة الحارس خصيصالهذا اليوم ،تبادلنا الأحاديث كعائلة ،الراهبة وأنا ، الشاب رئيس الجوقة ،وابنة الحارس وابن أختي ، ناجون من الحرب يحتفلون بالحياة مؤقتا” .

-((ألم تسمعوا الأخبار اليوم؟ ، يقال بأنهم هدموا جدار برلين وأعادوا توحيد ألمانيا )) قالت ابنة الحارس .

كنت أنا والشاب نتناقش في شعر بوشكين وبودلير ،سمعت ما قالته وشعرت بشيء ما لم أستطع تحديده .

غفت الراهبة على الكرسي الهزاز ،أسرع ابن أخني بإحضار غطاء وقام بتغطيتها .

قمنا بوضع أسطوانة كانت قد نسيتها التخت الكبرى خمنا أنها لجان فيرا .

في المساء ذهبنا جميعاإلى الكنيسة لحضور القداس المسائي ،أوقفني رجل في الطريق ليخبرني أن قذيفة سقطت في متجري ، ذهبت والشاب رئيس الجوقة لتفقده .

كنت قد تلقيت رسائل تهديد تعود إلى ما قبل الحرب ،كتب فيها أن المبادرات الفردية غير محبذة ،لكنني لم أخبر أحداً بها .

وصلت إلى المتجر ،كانت الدمى جميعها قد سقطت وتشوهت ، بعض منها تفحم ، ،جثوت على ركبتي علني أنقذ بعضا منها ،مر بائع قلادات وأزهار بجانب المحل ، عرض علينا بضاعته قائلا:((زهرة أو صليب لمن بقي حياً؟)).

حدقت به بصمت ، وسرحت في حلم اللبارحة ، كان حلما مختلفا ،وقفت فيه أرمينيا على قمة عالية، تطاير شعرها مع النسيم،كانت تمسك بإحدى يديها بابن أختي ، وبالأخرى بيد الشاب رئيس الجوقة ، وتنظر بحنان إلى ابنة الحارس .كانت ملامحها تتبدل وتبدو أوضح ،تلاشى شعرها الطويل وقسماتها الأنثوية ، ليظهر وجه ذكوري مألوف ، ذو جبين طفولي ، اقترب مني حتى التصق بي ففتحت عيني

منذ تلك اللحظة فقط ، بدأت في الخطوة الأولى لمعرفة نفسي ….

((انتهى ))

القصة الثامنة

(ترتيلة أشجار السرو )

إنها السادسة مساءً ،الصلاة ستبدأ بعد قليل ،دون أن يرن جرس الكنيسة ،ودون أن تعكس أشجار السرو خلف الدير صوته ،فقد تضمن أحد بنود الاتفاقية الموقعة بين الأب حنا والدخلاء على أن تصمت الأجراس للأبد ،عربوناً للصداقة بين الطرفين .

أما أشجار السرو فلم تعد هنا ،غادرت ذات ليلة نام فيها سكان القرية بعمق ،وعند استيقاظهم شعروا بغرابة الهواء الذي يتنشقونه .

(ياعذراء ،فليقطع الرب أيديهم ،ماذنب الأشجار ؟ ).

قالت فلك وهي تشد حبل الستارة في غرفة الضيوف ،ليتسلل وميض الغروب عبر زجاج النافذة ،الأمر الذي فاجأها بقوة ،فقد كانت أشجار السرو سابقاً تحول دون تسلل اشعة الشمس إلى منزلها بالقدر الذي يسبب الإزعاج ،وإنما كان تسللها لطيفاً .

(هل رأيتي ؟ ماهذا التغيير العظيم الذي جلبوه لنا؟! سنضطر لارتداء النظارات الشمسية في المنزل ).

قالت مخاطبة نبال التي كانت تنظف إحدى الزوايا من أعشاش العناكب بواسطة مقشة .

(والأهم من ذلك ،سيتغير لون الزجاج بعد فترة ،الضوء القوي يؤثر، ثم لم أنت محتدة ؟ سخر الله الأشجار للبشر )

قالت نبال وقد بدا عليها الغضب وهي تمرر المقشة بعنف على إحدى زوايا الغرفة .

أسقطت فلك فوق رأسها ملاءة سوداء كانت قد صنعتها من أغطية إحدى الأرائك القديمة وهي تهمهم 😦 لن أدفع ليرة واحدة على قماش لصنع شيء كهذا ،وحيدتان لا رجل لنا ،واقتربنا من أن نشيخ ،علينا ادخار المال لنعيش ).

قهقهت نبال ساخرة من تحت الأريكة بعد أن قرفصت وأدخلت رأسها لتجرف بالمقشة فتات قطتها العسلية نينا وهي تتمتم 😦هيا هيا أيتها الكاثوليكية الملتزمة ،تأخرتي لا أفهم لم لا تترهبنين وينتهي الأمر ؟! ).

( هذا أحد أمرين أندم عليهما ،الأمر الآخر أنني ضيعت سنواتي من أجل تربية جاحدة مثلك ،اهتمي بابنتك القطة جيداً حتى لاتصبح مثلك ،علي أن أحدث الأب حنا قبل أن تبدأ الصلاة ) قالت فلك وهي تنظف حذائها النظيف أساساً .

قهقهت نبال مجدداً مخرجة رأسها من تحت الأريكة ثم صرخت بنبرة ساخرة 😦 فلنر ماذا ستفعلان بشأن الأشجار ؟ كما خربتم الأرض عندما أسكتوا الأجراس للأبد ،والآن لنرى ماذا سيصدر منكم بعد أن حلقوا للقرية شعر رأسها ،وجعلوها صلعاء ؟ ).

( هذه تسمى دبلوماسية ،الغرض منها الحفاظ على حرية معتقداتنا ).

قالت فلك وهي تدير مقبض باب المنزل مستعدة للخروج ،علق كمها بالمقبض فحررته بعنف وهي تلعن الزمن .ثم غادرت المنزل بعد أن أطبقت الباب بغضب .

مرت عبر الفسحة الواقعة أمام المنزل ،ثم توقفت فجأة وعادت لتدور حول الفسحة لتستقصي أحوال النباتات والأزهار التي تسيجها وشعرت بشيء من الحزن يكتسح صدرها عندما شاهدت أزهار الدفلى منكمشة على نفسها ،وقد أحرقت الأملاح حوافها ،وأخذت تلوم نفسها وتلعنها على إهمالها لها وانشغالها مع الأب حنا عنها ،

ولم تكن المرة الأولى التي تلوم نفسها فيها على شيء يخص مزروعاتها الغالية ،فقد فشلت سابقاً في جعلها تزهر بوفرة ،وفي جعلها تكبر عن حجم شتلاتها الأصلية .

تابعت طريقها في المنحدر الذي يصل بين منزلها وساحة القرية،وشعرت بالتقزز من خطوط الوحل التي رسمتها عجلات الدراجات النارية التي تخص الدخلاء ،فوق الحجارة البيضاء التي قام الفرنسيون في زمن ما بتثبيتها فوق أرض الساحة ،لإضفاء طابع أوروبي على القرية وجعل تلك الساحة التي تحتم على المؤمنين من عائلات الضباط الفرنسيين أن يمروا عبرها وهم في طريقهم باتجاه الدير .

(ألم يخبر أحد ما هؤلاء الغجر بوجوب غسل دراجاتهم النارية ) تمتمت فلك وهي تحاول تجنب الأوحال . شاهدت امرأة ترتدي ملاءة تقترب صوبها ،لم تستطع أن تخمن من هي لكن حجم مؤخرتها العريضة جعلها تشك في كونها أم جوزيف زوجة موظف البلدية السابق لتنظيف شوارع القرية ،كان هذا طبعاً أيام كانت الدولة قائمة ،وأشجار السرو ترمي بظلالها فوق البيوت .

أشارت فلك بيدها نحو خطوط الوحل ثم اهتزت بكاملها معبرة عن غضبها للمرأة القادمة صوبها ،والتي هزت رأسها هي الأخرى معبرة عن تأييدها لردة الفعل تلك .

وصرخت المرأة بعد أن اطمأنت أنه لا وجود لأي دخيل في الساحة 😦أصبحت بلدتنا أسوأ من مكب القمامة ،فليكسر الله أقدامهم ).

تبين لفلك أن تخمينها كان صحيحاً ،كانت أم جوزيف تلك المرأة ،اقتربت منها وهي ترجرج بلحم حوضها ،ثم تابعتا مسيرهما باتجاه الدير .

(انظري إلى كرمة أم كريستيان ،تكاد تسقط من حمولتها ،باسم الصليب ) قالت أم جوزيف بنبرة مندهشة .

_ هذا إن سمحوا لها بقطافها ولم يأتوا لنا بخدعة جديدة تبيحها لهم .

_ وكيف لهم ألا يسمحون ؟ كل ماتصرفه في العام معتمد على زجاجات النبيذ التي تنتجها لها تلك الكرمة .

_ وهل لديك أمل انهم سيسمحون لها أن تصنع النبيذ ؟!!

_ مسكينة ،العام الماضي أيام الدولة اضطرت لدفع نصف ثمن الزجاجات كرشوى لذاك الأخطبوط الحزبي لتوظيف ابنها ،وذهب هذا كله سدى ،غادر القرية قبل أن يستلم الوظيفة ،يتغير شكل ونوع الكلاب لكنك مضطرة لرمي العظام دوماً .

توقفت فلك فجأة وووجهت نفسها تجاه أم جوزيف وقربت فمها منها هامسة :

(وماذا في أيدينا لنفعله ؟ أخبريني ؟! الأزهار تملك القرار أكثر منا ،ها هي أزهاري ترفض العيش في مثل هذا الذل ،علينا ألا نخسر بيوتنا ،ماضينا ).

_ أنت محقة ،ماالذي يدفعني أنا وزوجي للعيش بعيداً عن أولادنا ،سوى الخوف من أن نخسر هذا القليل الذي نملكه ،أفكر بأولادي كل ليلة ،يعملون من الفجر للمساء أعمالاً مرهقة ليدفعوا إيجار الغرفة هناك لدى الجيدين ،أشد مايحزنني جوزيف ،خسر نصف وزنه ،ونسي فكرة الزواج تماماً ،لم نطلب من أحد شيئاً حتى من الدولة ،كان سعيداً في عمله في معمل الأجبان هنا لدى قريبنا ،لا أعلم لم فر وترك المعمل لهم ؟

_ توعدوا بقتله ،كان اسمه مدرجاً في القائمة السوداء ،اعتبروه من المتواطئين الفاسدين .

_ هاقد حصلت قريتنا على مقر إعلامي بدلاً منه ،ارقصي ! ليس من الضروري تناول الجبن ).

قالت أم جوزيف وهي تحاول أن تدفن ذلك الشعور الذي راودها وهي تتحدث عن مصير أبنائها الذين اتخذت لهم أسماء لها ذات المعنى ،جوزيف ،يوسف ،و هوسيب ،فكان لهم المصير ذاته أيضاً .

صمتت كل منهما بعد ذلك وتابعتا الطريق صامتتين ،كان هذا بمثابة استراحة لحظية ليس من الكلام فحسب ،فالمشاعر متعبة كالكلام .

عبرت سحابة ربيعية فوق رأسيهما ،شعرتا بأنها قريبة جداً ،وليست بعيدة في السماء ،بدت المسافة بين السماء والأرض وكأنها تغيرت مع غياب أشجار السرو لتمسي مهملةً تقريباً .

تسللت رائحة لوز غير ناضج من إحدى شرفات البيوت المتلاصقة على يمين طريق الكنيسة الذي تسلكانه ،استدارتا باتجاه مصدر الرائحة ،فإذ بأبي ألفريد يفرغ محتويات سلة من القش مملوءة باللوز الأخضر غير الناضج بعد.

( هيه ،تفضلا وكلا من بركة العام ) صاح أبو ألفريد من وراء القضبان الحديدية التي تسيج شرفة منزله الأرضي المحاذي لطريق الكنيسة .

(فلتملأ البركات عمرك ،خير ما فعلت ،لو انتظرت نضوجها لخسرتها ).قالت أم جوزيف ثم حدقت بفلك مندهشة من معرفته لهما وهما متكورتان خلف هذا القماش الحالك .

( مررتما من الطريق ذاته مئات المرات ،آن لي أن أحفظ مشية كل منكما ) قال أبو ألفريد كابحاً جماح الاستغراب .ولمع إطار نظاراته الذهبية تحت أشعة الشمس التي لم تجد رادعاً لها بعد اختفاء حاجز السرو ،وأظهر الضوء وللمرة الأولى بوضوح تلك التجمعات الوردية من الدم المحتقن في رقبته ،وتحت عينيه ،والتي بدت كالتجمعات الحمراء للب بطيخة أبيض بالكامل تتخلله بضعة مناطق من النضوج .

(كيف حالك ؟ وكيف حال أم ألفريد ؟هل مازالت تتألم ؟) قالت فلك .

( متعبة جداً ،فوق ما تتصورانه ،رغم ذلك وجودها كتمثال أفضل بالنسبة لي )قال ذلك وتلون كامل وجهه باللون الأحمر .

(معك حق ،أم ألفريد كالملاك ،أين ألفريد ؟ ألن يصلي اليوم ؟) قالت فلك .

(ذهب لرؤيتهم ،سيرجوهم ليسمحوا لنا بأخذ الجرار ) قال ذلك بنبرة مختلفة كلياً عما سبق ،نبرة إنسانٍ غاضب .

ثم داوم 😦 اقتربا اقتربا ،كلا لوزاً لا أحد منهم هنا ،لا تخافا )

(بالنسبة لي لاأخاف سوى الله ،فليذهبوا إلى جهنم ) صرخت فلك ،وتموج القماش الأسود الذي يغطي وجهها مثل أمواج هائجة .وحال الغضب دون أن تتنبه لكومة الحشائش أمامها التي نبتت بين حجارة الفرنسيين البيضاء التي تكسو الطريق ،فعلق طرف ملاءتها بها ،وعندما حررتها منها كانت قد تلطخت باللون الأخضر ،فأطلقت فلك في سرها سلسلة لعنات على الزمن والدخلاء وعيشة النساء أساساً .

لاح عندها من بعيد ألفريد ،كتلة من الثياب الواسعة يضيع داخلها جسد هزيل ،ليبرز من داخل السترة البرتقالية من الأعلى عنق طويل ونحيل يثبت وجود الجسد ،ليستند فوق العنق رأس متطاول من جلد وعظم ،لدرجة أن الناظر إليه يخاله جمجمة بعينين سليمتين .وقد ربط القسم العلوي من الرأس بوشاح من شد بإحكام إلى الخلف ليتدلى فوق الظهر ويتحرك تحت تأثير المشي .

كانت تلك الثياب التي يقبع خلفها جسد ما ،تتحرك بخطوات متثاقلة ويائسة ،ومن طرف إحدى كمي السترة برز إبهام ليد خفية ،ومنجل ضخم بدا وكأن الكم يحمله ،ولو نظرنا إلى الأسفل سنجد حذاءً بلاستيكياً أسود اللون ينتهي عند الركبة ،وقد تلطخ بالأوحال وصبغة الحشائش وبقع من السائل الحليبي الذي تفرزه ثمرة تين بعد قطافها كانتقام أخير من القاطف ،لكن الرائحة التي كانت تقترب باقترابه لم تكن تخص تلك الأشياء ،بل كانت رائحة رصاص ،وعرق خيبة .

عندما كان يمشي مقترباً منهم ،كان يكبر حجمه ،بينما بقي حجم التمثال الذي يقع خلفه وفق خط مستقيم ذاته ولم يتغير ،وإذا كان عنق ألفريد انتهى برأس متطاول ،فقد توقف العنق لدى التمثال عن النمو و بقي حراً في الهواء دون رأس .في الحقيقة ،كان للتمثال رأس لكنه قطع ،وفقد التمثال بذلك قدسيته .

على يمين ألفريد ويساره ،ثمة أبواب خشبية مغلقة لدكاكين قديمة ،وفوقها شرفات تراثية ،بدت وكأنها جمهور يتأمل أرضاً مكسوة باللآلئ البيضاء ،وخلف كل هذا المشهد تقف أميرة حجرية دون رأس تدير ظهرها للؤلؤ ،غير مكترثة .

((هييه ،هل أعادوك خائباً ؟)) صرخ أبو ألفريد .

لم يحرك ألفريد ساكناً وحافظ على وضعيته المنحنية وخطوه المتثاقل ،إلا أن وصل إليهم عندها حرك شفتيه على نحو يكاد أن يلمح وتمتم : (( سيعيدون الجرار مقابل أن أعمل مترجماً في المكتب الإعلامي التابع لثورتهم ،أحد ما أخبرهم بأنني مدرس لغة انكليزية )).

ثم ولج المنزل مسرعاً ،ودخل مباشرةً إلى الصالون حيث تستلقي والدته المقعدة التي كانت تتأوه من آلام الخشكريشا ،وجعل يتأملها بحزن ،ثم قصد غرفته وأغلق بابها وراء ظهره ،وجلس دون أي حراك ،بعد أن فشل في إرغام الدموع على أن تفيض من عينيه ،لكن قوة تحمله فاجأته .

وراح يفتح جميع النوافذ الموجودة في الغرفة ،ففتح أولاً النافذة المطلة على طريق الكنيسة وتسلل للمرة الأولى وميض الغروب إلى الغرفة بعد رحيل أشجار السرو ،وتكاثر الحزن في قلبه ،ثم انتقل إلى النافذة الأخرى المطلة على ساحة القرية فسقطت عينه على تمثال العذراء فانهارت هنا قوة تحمله ورأفت الدموع لحاله فدفعت بنفسها خارج عينيه .

في الخارج ،كان والده وأم جوزيف وفلك مازالو يقفون مدهوشين ،وقد ساد الصمت وعدم الفهم على الموقف كله ،لتجد فلك من نفسها بعد هنيهة تجر أم جوزيف من يدها لتمضيا معاً إلى الكنيسة كي لا يفوت موعد الصلاة ،فاستدارتا ببطء شديد لمتابعة طريقهما صامتتين ،غائبتين عن هذا العالم ،لكن كلاً منهما جزمت بأن الأخرى تراودها ذات الأفكار وذات التساؤلات :

كيف يتوجب عليهما النظر إلى ألفريد بعد اليوم ؟ و ما المشاعر التي يفترض أن يحملاها تجاهه .

لم تكن الإجابة على تلك التساؤلات صعبة ،بل كانت مستحيلة .

بعد انتهاء الصلاة ،راح الأب (حنا) يذكر الجميع بوجوب الالتزام ببنود الاتفاقية مع المتمردين الإسلاميين ،وشدد على لباس النسوة الذي فرض من قبلهم ،وأسهب في تفسير ضرورة ذلك ،فأخبرهم بأنه يتوجب عليهم الصبر والاعتماد على الرب لكي يحموا أنفسهم من التشرد ،وليحافظوا على أرزاقهم لحين ينصفهم الدهر .

ولم يكن قد انتهى من كلامه بعد ،حتى بدأ العرق يتقطر من ذقنه المستديرة المشبعة بالدهون ،فسارعت فلك إليه ومسحت العرق بمنديل .ثم همست له في أذنه عن ألفريد وعمله الجديد مع المكتب الإعلامي التابع للمتمردين ،ثم غادرت الكنيسة متأبطة ذراع أم جوزيف .

عند عبورهما من باب الكنيسة ،شعرتا بهواء بارد جاء من بعيد وكأنه قادم من نهاية العالم ،وكان هذا نتيجة اختفاء أشجار السرو .

وعندما نظرتا إلى الحديقة المقابلة للدير ،والتي أمست مقفرة مرعبة ،شاهدتا ظلمة هائلة غطت المكان بالرغم من الأنوار البرتقالية الموزعة حول الدير ،سرى الرعب في أوصالهما لذا أسرعتا في خطوهما إلى أن غدا الدير كله خلفهما ،ولم تجرؤ أي منهما أن تنظر إلى الوراء .

مسدت فلك ملاءتها جيداً فوق وجهها ،وتمتمت بصوتٍ منخفض : (( أخبرت الأب حنا عن ألفريد )).

لم تحرك أم جوزيف ساكناً ،فداومت فلك : ((لن يقدم هذا ولن يؤخر ،ولا أستطيع لومه حتى ،أمه طريحة الفراش هي من يكسر ظهره )).

(( هم بحاجة لذاك الجرار ،مواسم الخوخ والتين قادمة ،وهو لم يحظى براتبه طوال ستة أشهر ،منعه حصار المنطقة من الوصول إلى المناطق التابعة للدولة ،للحصول على راتبه ،تصوري ! منذ مدة ليست بالقليلة أبداً وهو يدرس أولاد هؤلاء الغجر ببلاش ! )) قالت أم جوزيف مؤيدة لموقف فلك .

وعندما أمستا بجانب شرفة عائلة أبي ألفريد ،هزت كل منهما رأسها نحو اليمين واليسار ،وكان هذا بمثابة تعاطف مع حالة هذا المنزل وسكانه المغلوب على أمرهم .

وعندما وصلتا إلى ساحة البلدة الواسعة التي كانت الأضواء البرتقالية قد صبغت أرضيتها البيضاء بلون ذهبي جعلت منها تبدو وكأنها أرض مفروشة بتبر الذهب ،شاهدتا مجموعة من المتمردين الإسلاميين المدججين بالأسلحة المتنوعة يتجمعون أمام منزل أحد السكان يهددونه باقتحام المنزل وتحطيم كل مافيه لو لم يخرج في الحال هو وعائلته ،ليفرغ المنزل لعائلة أحد المتمردين ،متحججين بامتلاك ذاك الرجل لبيت آخر في البلدة ،والذي كان قد أجره ليعيش منه ،مشددين على أن للمجاهد الأولوية في الحروب.

(( انظري ،انظري ،هذا أبو آكوب يطردوه من منزله .. فليكن الرب معه )) قالت أم جوزيف .

(( لقد أصبحت بيوت الساحة كلها ممتلئة بهم ،أتذكرين كم كانت هذه الساحة تعج بالألوان ، بالأمس استولوا على منزل سالم الذي قضى حياته دون زواج حبيساً في دكانه من أجل أن يحظى به ، ثم غافله الموت فجأة ليقدم المنزل لهم على طبق من فضة …. ياااحسرتي أصبحت هذه الساحة كسوق الدواب .. ))قالت فلك بصوت خافت ومتقلقل ولم تنتبه لوقوفها أمام نافذة غرفة ألفريد ،الذي كان قد فتحها وراح يشاهد ما يحدث .

شعر ألفريد برغبة في الخروج للتدخل فيما يحصل ،لكن صوت والدته المنهك الذي

كان يتوسل إحضار الماء جعله ينسى كل ماحوله ويسرع لتلبيته .

ولم يكن الوحيد الذي أدار ظهره لما يحدث أمامه ،فقد توجهت أم جوزيف وفلك كل إلى جهة تختلف عن جهة الاخرى ،قاصدة منزلها ،بعد أن وجدتا أنه أفضل مايمكن القيام به .

وبينما كان ألفريد يسقي والدته ،كان أبو آكوب ينقل أثاث منزله محني الظهر إلى شاحنته ،وأم جوزيف تمشي بتمايل وهي تفكر بأولادها الثلاث ،أما فلك التي كانت قد وصلت إلى منزلها راحت تقتلع ما يبس من أزهارها الذين أهملتهم طويلاً وكان عليها اليوم تحمل عواقب هذا الإهمال .

فكرة واحدة على ”بلاد الجنون العظيم – رواية وقصص أخرى – الحسين سليم حسن

  1. Shalimar Gerlan

    قصه لم اقراها ولكن واضح انها خياليه الصراحه كنت ابحث عن قصه فيلم هندي قديم وطلعت صفحتكم ب وجههي اظن قصه الفيلم اجمل عن بنت ابوها اشترى الها بيانو وانتحرت من اعلى قمه جبل و روحها طلعت ل شخص بيته مقابل كنيسه ب مقبره و حبها ولحقها وانتحر زيها لانو كان عنددو بيانو البنت

    إعجاب

أضف تعليق