ما الذي لم يقنعني في الأديان ؟،الراوي بن رشيدا

ما الذي لم يقنعني في الأديان ؟

الراوي بن رشيدا

محاضرة

سوف أنطلق في نقدي للأديان السائدة في المجتمع الذي يحيط بي من تجربتها على أرض الواقع ،وليس من النصوص الدينية أو الرؤية الطوباوية التي يظن البعض أنها ستتحقق ربما في المستقبل ،لأنه على سبيل المثال لو كنت تعيش في زريبة وكان لديك تصور عن الغرفة التي تحلم بالعيش فيها كنت قد كتبته واحتفظت به ،لتقرأه على مسامع نفسك وتكرر قراءته فإنك مهما حاولت تخيل تلك الزريبة على أنها قصر فهي في الواقع ستبقى زريبة حتى ولو نجحت في التعايش معها على أنها قصر وشعرت بسعادة من يعيش في قصر إلا أن تلك السعادة زائفة لو كان مصدرها حقيقة أن تلك الزريبة هي قصر وهي ليست حقيقة هنا بل مجرد وهم .

وقبل ان أدخل في نقد الأديان من خلال سبر غور مجتمعاتها وتجربتها وممارسات أفرادها ،علي أن أنطلق بداية من حيث تكمن المعضلة الأساسية في رأيي ،من فكرة الله .ففي الغالب ينشغل البعض منا في إثبات وجود الخالق أو عدمه ،لكن نادراً ما ننشغل في تحليل فكرة الله ،أو تحليل التصور عن الله ،الذي يختلف بين دين وآخر ،حيث لكل دين وضمن الدين نفسه أيضاً يوجد تصور سائد عن الله ويتمثل هذا التصور في جوانب الحياة كافة .

فالفكرة المغلوطة عن الله تقود بالضرورة إلى فكرة مغلوطة عن الحاكم وعن الذكر و حتى عن الأسرة ،وهي التي تزيح الكفة نحو البربرية بدلاً من التحضر و التمدن ونحو الشوفينية الذكورية بدلاً من المساواة بين مايسمى الجنسين ،ونحو الجمود بدلاً من المرونة ،ونحو التصفية بدلاً من الحوار (سأسهب في شرح هذا لاحقاً).

السؤال الأول الذي يفرض نفسه هو إذا ما كان الإيمان بالله هو أمر إيجابي دوماً ؟ الجواب بالطبع هو النفي .لأن ذلك يتوقف على التصور عن الله الذي نؤمن به ،فمثلاً لا يمكنني أن أعتبر إيماني بإله يفرض علي قتل أخي الإنسان إيماناً إيجابياً ،لأن تصوري هنا عن الله هو تصور شرير ،إذا اتفقت البشرية أن القتل والتحريض عليه يعتبر فعلاً شريراً .

وينطبق الكلام ذاته على التصور عن الله الجبار والمنتقم وهو التصور السائد في المجتمعات المسلمة مثلاً ،إلا أن هناك تصورات أخرى إلا أنها مهملة وتأثيرها أضعف بكثير في المجتمعات المسلمة .

وفي رأيي أن التصور الشرير عن الله التي تتصوره داعش هو ليس إلا تصوراً متطرفاً عن التصور السائد في المجتمعات المسلمة التي تعتبر طبيعية .

إذاً الإيمان بالله قد يكون سلبياً في منطق البشرية ،ومثال آخر عندما يقوم أحد بتفجير نفسه بحجة انه يرضي الله ،فما هذا الإله الذي يحرض على الانتحار الذي يعتبر أمراً مكروها لدى غالبية البشر ،هذا إذا افترضنا أنه لم يقتل في انتحاره هذا الكثير من الأبرياء .

إذاً البت في سلبية وإيجابية الإيمان في إله ،يتبع بالضرورة للتصور عن ذاك الإله ،والذي هو في الإسلام الجبار والمنتقم والذي يهلك العصاة وهو التصور السائد في المجتمعات المسلمة والمسيحية أيضاً لدرجة أنه يعتبر من المسلمات العادية جداً لتجدهم مثلاً يردون موت أحدهم بطريقة بشعة إلى أنه عقاب قاس من الله وحتى ضحايا الحروب مثلاً !

لذا الإيمان بالله في المجتمعات الإسلامية والمسيحية يرجح ان يكون سلبياً من كونه إيجابياً ،لأن التصور السائد عن الله هو تصور سلبي .

يقودنا ذلك السؤال نحو سؤال آخر : أليس هذا التصور السلبي الدوغمائي عن الله سيقود بالضرورة إلى فرض التعاليم الدينية بدوغمائية مماثلة ؟

هناك رأي يقول أن الإيمان بحد ذاته هو فعل دوغمائي وإلا فهو ليس بإيمان حقيقي ؟! لكن هذا يعني أن نرمي بالمنطق جانباً ونسير في الظلام وعندها احتمال أن نقع أو ندهس شيئاً كبير جداً .

ومن هنا عجزت المجتمعات المسلمة والمسيحية عن تقديم تفسير منطقي لظواهر وجدت في مجتمعاتها فما كان في مقدورها سوى التعامل معها بوحشية وإقصائها أو نبذها أو وصفها بالمرضية معارضة بذلك العلم .

ومن هنا يأتي سؤال آخر :هل الإسلام والمسيحية بحد ذاتها تناسب كل زمان ومكان ؟وهل هي حقاً تساير العلم في تطوره ؟

الجواب حتماً هو النفي ،لأن ظواهر (ولن أقول المثلية لأنه مثال مكرر ومتداول ) من مثل مغايري الهوية الجنسية واللاجنسيون (عديمو الميول الجنسية ) والتي أثبت العلم انها ليست بالأمراض النفسية او الجسدية ،لم نلقى لها تفسيراً في الأديان .وهذا يدفعنا للتساؤل :إذا كانت هذه الأديان من عند الله الذي خلق هذا الكون ويعلم بكل مافيه فهل يعقل أنه غيرعالم بوجود هذه الظواهر التي لم يذكرها ولم يتطرق إليها بتاتاً في كتبه ؟..

عندها علينا هنا الاختيار بين العلم والدين ،فالنتيجة أنهما غير متسايران حتماً.

ومن الأمور التي تصح كمثال عن عدم مسايرة العلم والدين هو فكرة التقمص التي يؤمن بها بعض الطوائف الإسلامية والتي ليست معارضة للعلم فقط (قد يقول البعض أنه ثمة نظريات علمية حول التقمص )،لكن بغض النظر عن صحة هذه الفكرة أو عدم صحتها فضررها في رأيي أكبر بكثير من نفعها وتتعارض حتى مع الأخلاق الإنسانية ومع العدالة .لأنها فكرة تقول بأن المعذبين والمعاقين جسدياً ونفسياً هم على هذه الحال لأنهم يعاقبون عن آثامهم في الحياة السابقة وتبرر حتى نبذهم ولعنتهم احياناً ،لكن ألا يعني هذا تقسيم البشر مجدداً إلى قوي وضعيف وهذا ألا يتعارض مع الدين نفسه وألا يزيد الهوة بين البشر في المجتمع ويؤدي إلى زيادة ثراء الأقوياء و زيادة فقر الضعفاء .وفي رأيي أن تلك الفكرة قد استعملت فقط من أجل السلطة لاغير حيث بررت للأقوياء من الساعين نحو السلطة التغافل عن الضعفاء والفقراء مقابل الظفر بالقوة والسلطة والثراء .

هذه النتيجة أيضاً تقود إليها فكرة الحياة بعد الموت كونها تزيد الهوة بين أفراد المجتمع عند اقتناع الفقير بفقره والغني بغناه واستمرار كل منهما في شكل حياتهما أملاً بعدالة ستتحقق بعد الموت بغض النظر عن منطقية او عدم منطقية تلك الفكرة .وهذا يطرح تساؤلاً :ألن تقود تلك النتيجة نحو انتشار الفقر والجهل والمرض ،الذي سيؤدي بالضرورة إلى ظهور العنف وارتفاع معدلات الجريمة ،وبالتالي التسبب في أضرار جمة على المجتمع وتماسكه ؟

وفي رأيي أن الفكرة المغلوطة عن الله السائدة في المجتمعات الدينية هي الأخطر على المجتمع وتماسكه وسأشرح ذلك .

كنت قد ذكرت سابقاً أن الفكرة المغلوطة عن الله أو التصور السائد في المجتمعات المسلمة تقود بالضرورة إلى فكرة مغلوطة عن الذكر وعن الحاكم لذا لا نستغرب خروج الديكتاتوريات من بلدان تخلت عن جزء من القواعد الدينية واحتفظت بفكرة الله وهنا سيقول البعض أن هذه الديكتاتوريات عسكرية من أمثال ديكتاتورية مصطفى كمال أتاتورك في تركيا الشخصية التي تتخذ طابعاً دينياً إلى اليوم وتعتبرمن المقدسات التي لايجب أن تمس إطلاقاً والديكتاتوريات العربية أيضاً .إلا أنها ليست إلا شكلاً متطوراً عن الديكتاتوريات الدينية وأشد صرامة منها ،وهذا مايفسر أيضاً عدم تخلي هذه الديكتاتوريات عن وجود عنصر ديني فعال قريب من سلطتها .

لذا نجد أن المجتمع الإسلامي في بعض تجاربه الثورية لتغيير شكل الحكم فيه قاد إلى نشوء ديكتاتوريات أخرى لأن عملية التغيير اصطدمت بثابت قوي وراسخ في صلب المجتمع الإسلامي وهو فكرته المغلوطة عن الله الجبار والقاسي التي انتقلت فقط إلى تصوره عن الحاكم ولعل مادعم أيضاً هذه الفكرة عن الحاكم هو الصورة المترسخة في صميم المجتمع الإسلامي عن الرسول محمد الذي كان في الأساس غازياً وفاتحاً ،أو صورة غيره من الشخصيات المقدسة لدى بعض الطوائف الإسلامية أمثال علي بن أبي طالب .

وهذه الفكرة نجدها في المجتمعات المسيحية أيضاً ،والتي هي نتيجة لتماهي فكرة الله مع شخصية المسيح التي قادت إلى مجتمع ذكوري أولاً وإلى ديكتاتوريات وحشية مثل ديكتاتوريات أميركا اللاتينية التي وجدت مبررات لها للقتل في شعارات عسكرية أقرب أن تكون شعارات دينية منشؤها فكرة المجتمع المسيحي المغلوطة السائدة عن الله .

هذا يقود بنا نحو تساؤل :إذا كانت الفكرة المغلوطة عن الله قد قادت إلى فكرة مغلوطة عن الحاكم وعن الذكر ، ألن يوسع ذلك الشرخ الذي أنشأته الأديان بين الذكر والأنثى ؟ الجواب هو نعم وهو في الواقع لم يوسع ذلك الشرخ فحسب إنما شهدنا حركات ثورية للمرأة في المجتمعات الدينية كردة فعل على هذا الشرخ وكانت ردات فعل سلبية غالباً على المجتمع لسبب أن المرأة تطرفت في هذه الحركات لدرجة اعتبرت فيها الرجل عدوها وهذه ردة فعل قد تكون نتيجة شبه طبيعية عن الذكورية الدينية .

وأدى ذلك التطرف إلى تفكك الروابط الأسرية وبالتالي أثر بشكل سلبي على المجتمع .

تنعكس أيضاً الفكرة المغلوطة السائدة في المجتمعات المسلمة عن الله في صورته عن الأب في الأسرة وهي صورة مغلوطة في دورها ،وعزز تلك الصورة المغلوطة فكرة الذرية في الإسلام الذي يعتبر أن البنون زينة للدنيا أي للمتعة وليسوا مسؤولية كبرى وهذا أدى إلى علاقة غير حقيقية وزائفة بين الأب المسلم وولده لأنها علاقة مبنية على عدم المساواة في نظرة كل منهما للآخر كإنسان وخصوصاً أن الدين يفرض على الأبناء طاعة عمياء للوالدين بشكل عام ،ولم يفرض أي مسؤوليات جدية على الوالدين تجاه أبنائهم .ثم أليس التركيز على متاع مادية بحتة في الإسلام كالمال والجاه والبنون سيؤدي إلى اللهاث خلف هذه الأهداف بعماوة تامة وسيزيد الهوة بين الفقراء والأغنياء ،أي يزيد انقسام المجتمع وتفككه وهذا مانجده في المجتمعات المسلمة المعاصرة ،ثراء فاحش أو فقر مدقع ولا مكان للوسط ،وهو مايفسر ازدياد نسبة الجريمة والسرقة فيه .وهذا يطرح تساؤلاً جديداً :أليس حصر الأهداف والمتاع التي يسعى إليها الإنسان في أمور مادية بحتة في الإسلام يحط من قيمة الانسان ويجعله مجرد مادة لا أكثر ،ألن ينعكس ذلك أيضاً على العلاقات الإنسانية التي ستتحول إلى علاقات مرتبطة بأمور مادية بحتة ؟ألا يتعارض هذا أيضاً مع الأخلاق الإنسانية ؟ وألن يجرد هذا الإنسان من إبداعه وعفويته ؟ لأنه سينشغل دوماً بالوصول إلى أهداف مادية ؟وهذا ما يفسر ضحالة الإبداع في المجتمع الإسلامي ،وهذه النتيجة أيضاً تقود إليها فكرة الحياة بعد الموت التي تجعل الإنسان يسخف أي شيء غير ذو نفع عملي بما أن هذه الحياة في نظر من يؤمنون بتلك الفكرة مجرد محطة غير مهمة علينا خوضها لنصل إلى الحياة الأخرى المهمة .

في المجتمعات المسيحية ينطبق الكلام ذاته تقريباً لكن منشؤه مختلف ،حيث ذكوريته الدينية تنطلق من أن الدين المسيحي في أساسه مبني على حياة المسيح أولاً ،وثانياً من النظرة الطوباوية عن العذراء التي انعكست على الصورة السائدة عن الأنثى والتي تكاد تكون أيضاً طوباوية من حيث إصرارها على الفضيلة ،لذا نادراً ما يسامح المجتمع المسيحي المرأة التي تكسر هذه الصورة السائدة عن الأنثى لكنه أكثر مرونة مع الذكر.أما الطبقية في المجتمع المسيحي منشؤها تقديسه المبتذل للفقر والتواضع والذي يفسر بقاء الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء لقرون ربما في المجتمعات المسيحية .

وإصراره الشديد على تقديس الفقر أدى إلى قبول وخضوع سلبي عند الفقراء لواقعهم ،وبالتالي الحط من قيمة الإنسان و تسخيف سعيه نحو تحسين وضعه وتسخيف إبداعه وهذا مانجده في المجتمعات الكاثوليكية خاصة .

هذا الحط من قيمة الإنسان نجده أيضاً في الشيوعية والاشتراكية التي ليست إلا ديناً آخر اختصر أهداف الإنسان في أمور مادية بحتة وهذا بدوره أدى إلى الحط من قيمة الإنسان وإعاقة إبداعه .

نستنتج من كل هذا أن الفكرة المغلوطة السائدة عن الله في المجتمعات الدينية إلى جانب بعض المفاهيم الخاصة بكل دين قادت إلى مفاهيم مغلوطة أخرى ،مفاهيم جعلت من بقاء المجتمع على حاله أهم حتى من الإنسان ذاته ،فغلبت كفة التصفية على كفة الحوار ،وهذا مايفسر غزارة عدد الإعدامات في الدول المحكومة دينياً. ويفسر اعتماد الديكتاتوريات العسكرية للتصفية ، وبما أن التصفية تتطلب أجهزة استخباراتية للاستقصاء عن من يستحق التصفية وهذا بدوره سيقود إلى رقابة صارمة للحد من تلك التصفية (لا يعقل أن يتم تصفية نصف بلاد بأكمله !)

وهذا مايفسر أيضاً تفضيل خيار الإقصاء على خيار المسامحة على مستوى الأسرة أيضاً.

أضف تعليق