شقاء اسماعيل- الحسين سليم حسن- قصص

شقاء اسماعيل (قصص ) الحسين سليم حسن القصة الأولى (شقاء اسماعيل ) الجزء الأول 1930 _1941 1

ما زلت أذكر كلماتك الأخيرة ،حينما وقفت ممسكاً ذراعي بيديك الهزيلتين ،كنت ترتجف ،غالباً ليس من الخوف ،لكن كان من الصعب أن أخمن شعورك يومئذٍ .
عيناك كانتا تدمعان وعروق جبينك تنبض من الحماس أو ربما من نشوة الانتقام ،قلت لي محاولاً الابتسام : (اذهبي ،خذي طفلنا واذهبي ،سوف تقلك سيارة مرسيدس لم يتسن لأي ممن عاملوك بقسوة أن يستقلها ،سيصحبك الكولونيل (باتريك )إلى بلدةٍ لا ينقصها شيء ،سوف تعيشين في الجنة ،أو لنقل في أوروبا ..)
صححت جملتك وتذكرت أنك قد رميت كل ماتربيت عليه في صغرك .
(أنا لست مثلهم يا لطيفة ،أولئك الغارقين في ظلمات الجهل ،اسماعيل ولدهم قد توفي ،أنا الآن اسماييل ،القوي والمثقف ،المهذب الذي يتكلم بلباقة كالفرنسيين ،الجندي في قوات الشرق الخاصة المشرفة .
أوصيتني (لطيفة ،كوني متحضرةَ دوماً ،فخورةً والأهم من هذا كوني سعيدة ،سيكون لديك الكهرباء دوماً ،وسيدرس جوان في مدرسة الإرسالية الفرنسية ،سيجعل منه الفرنسيون رجلاً راقياً !).
كنت تخبرني بكل هذا مدعياً نشوة الانتصار ،إلا أن عينيك لم توحيا لي بتاتاً بالسعادة ،كنت سعيدةً من أجلك ،بعد أن وصلت غايتك ،وذلك لأنني أعرف حجم معاناتك إلا أنني أشفقت عليك لعدم بلوغك سعادتك المنشودة .
وكما أمرتني ،غادرت بلدتنا (الوردية )ومضينا بعيداً عن القرداحة ،أنا وجوان في سيارة الكولونيل باتريك قاصدين تلك القرية المسيحية على الحدود التي رسمها الفرنسيون مع تركيا .
قلت بأنك ستلحق بنا بعد أن تنهي مهمتك في ردع الاحتجاجات العمالية التي قام بها الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان ،ناسياً بذلك ماضيك المليء بالصعوبات يا اسماعيل .
كنت تقوم بكل ما يمليه الفرنسيون عليك دون أي تمحيص ،إلى الدرجة التي أصبحت أشك فيها وأسأل نفسي :هل حققت ذاتك فعلاً يا اسماعيل ؟ هل يعجبك ما أنت عليه ؟
أعلم كم ظلمك والدك الشيخ علي رحمه الله ،فقد أهمل والدتك والتفت إلى زوجته الأولى لمجرد أن رزق أراضي التبغ كله كان ملكها ،واضطررت أنت للعمل في بيع الخضار والفواكه في المدينة ،متحملاً كل إذلال أكابريتها لك ونعتهم لك بالفلاح .
(لقد خلصني الفرنسيون من العار والذل يا لطيفة ،كما خلص المسيح البشرية )
كنت ترددها مراراً علي في كل ليلة قبل أن تغفو ،كما أعلنتها على والدك الشيخ عندما ضربك وطردك من مجلسه وغضب عليك ثم حرمك من كل ورثته .لقد قاتل والدك إلى جانب الشيخ صالح العلي فكيف له أن يتقبل ابنه وهو يعمل في صفوف الفرنسيين ويتحدث بلغتهم ،ويتردد على إرسالياتهم ليستمع إلى المبشرين بالكاثوليكية هناك .
(المرتد ،عدو الإسلام ،حتى أننا لا نقبل بتسمية الفرنسيين الكفار المستعمرين لنا بالعلويين ،نحن مسلمون ) كان والدك الشيخ علي يصرخ في وجهك وهو يرميك بفردتي نعله .
عندما رست السفن الفرنسية على شاطئ الساحل السوري ،كنت أنت يافعاً منهكاً يملؤه الغم والبثور ،تعمل من الفجر إلى النجر في حقول التبغ والليمون ،بينما يأخذ أولاد زوجة أبيك كل شيء ،وتعود أنت في المساء إلى حضن والدتك (زهرة الجدباء )كما كانوا يلقبونها في القرية ،كي تخفف عنك آلام قدميك .
وإن كان لكلٍ من اسمه نصيب كما يقولون فإنك كنت كمثل طفل (هاجر)،منبوذاً وكسيراً ومطروداً من نعمة والدك ،إلا أن وعد الله لك حقٌ بأن يمدك بالثروة والذرية الصالحة .
أعلم أنك لم تعد تكترث بكل هذا الكلام ،وأنه لا يكفي سوى أن تعلن على الملأ مسيحيتك كي ندرك انغماسك الشديد في المعتقدات الكاثوليكية .
(سجلي ابننا في مدرسة الإرسالية الكاثوليكية ،كي يداوم على التحدث بالفرنسية ،فهي لغة مستقبله ) كانت آخر وصاياك .
أهديتني كتاباً لأناتول فرانس بعنوان (الزنبقة الحمراء )كنت قد ترجمته أنت بخط يدك وقلت لي بأنه سيكون خير صديقٍ لي في رحلتي ،ولكوني لا أتقن الفرنسية فقد قضيت طوال الطريق غارقةً بين صفحاته ولم أتكلم قط مع الكولونيل باتريك الذي لزمتني بأن أتبع مشورته في كل أمر دون أية معارضة .
عندما ولجنا تلك القرية البعيدة التي كان الفرنسيون قد اهتموا بها أشد الاهتمام وشرعوا في رصف الحجارة البيضاء على الطرقات ،وبناء القرية على الطراز الفرنسي بعد اعتناق أهل البلدة للكاثوليكية على أيدي الآباء الفرانسيسكان القادمين من روما والذين شغلوا رجال البلدة في بناء دير كاثوليكي مقابل أجور باهظة الثمن .
لحظة ولوجنا تلك القرية ،راح بعض السكان يتفرجون علينا من شرفاتهم ،منجذبين إلى سيارة الكولونيل باتريك الحديثة الصنع ،فهم كانوا غالباً قد اعتادوا على رؤية السيارات من قبل في تلك البلدة التي صارت معقلاً آمناً للفرنسيين إلا أن سيارة الكولونيل كانت حديثة الطراز للغاية .
أوصلني الكولونيل باتريك إلى فندقٍ خاص بالفرنسيين في المنطقة التي يقام فيها الدير ،وسلمني رزمة من النقود التي أرسلتها إلي يا اسماعيل عبر أحد فروع (بنك سوريا ولبنان )وكنت قد أوكلت الكولونيل باتريك بأن يدير صرفي للمال كل فترةٍ كما تقتضي حكمته .
لم تثق بي يوماً يا اسماعيل ،ولم تجهد في تعليمي الفرنسية كي لا أدخل عالمك الجديد ،كنت تحبني كعربية وكعلوية ،الجاهلة عن عالمك الآخر ،عن اسماييل وما يقوم به وما يحلم بالوصول إليه .
(اسماييل )الذي كنت تجهل تماماً ما كنت أعلم عنه .
أتظن بأنني قد غفلت عن توقيعك لذلك المخطوط الذي يصوت لصالح قيام الدولة العلوية المستقلة ،أو عن وشاياتك للفرنسيين عن مخابئ ثوار القرداحة .
كنت دائماً تحاول أن تظهر أمامي بوجهك القديم (اسماعيل )وأنت تقدم لي زجاجة عطر من نوع شانيل 5 من إنتاج كوكوشانيل ،وتمسك بيديك خدي وتشدهما رغماً عني .
وها قد غادرت هذه المرة ،وجعلتني ككل مرةٍ قلقةً عليك ،خائفةً على (اسماعيل )و (اسماييل )كليهما ،ماضيةً لوحدي نحو (مستقبلنا ) على حد تعبيرك .
)المستقبل للعلمانية ،للتأورب ،للغات التي تحتفي بالحياة ،انظري يا لطيفة ،كيف انتصر كمال باشا أتاتورك في تركيا ،وحول تركيا إلى جنةٍ أوروبية حقيقية .
اذهبي إلى تلك القرية على الحدود التركية ،وانضجي أنت وجوان مثل أوروبيين وديعين وسألحق بكما ونبني مجدنا ،لقد أمرنا المفوض السامي أن نقمع تلك الاحتجاجات العمالية ،فالشيوعيون أعلنوا موقفهم ضد الوجود الفرنسي وهم يشكلون عائقاً في وجه تقدم بلدنا ونهوضها الحقيقي من ظلام عصورها العثمانية ،لقد وزعت فرنسا الأموال والأراضي على من يستحقها ،و على من تجد فيهم الجدارة ومن يليقون بالحضارة التي جلبتها فرنسا إلى هذه الأرض ،وشجعت الصناعات اللازمة لذلك .
كنت تبرر لي وأنا أعلم تمام المعرفة أن حماسك لقمع تلك الاحتجاجات مرده إلى تواجد شقيقك (طلعت )في صفوفهم والذي كنت حاقداً عليه منذ الصغر لتدليل والدك له .
ثم تردف مبتغياً تغيير الموضوع لما تلمح في عيني انكشافك لي :
(الكولونيل باتريك سيكون خير رفيقٍ لكما في رحلتكما ،ثقي به ونفذي أوامره )!
ها قد وصلنا إلى قرية القنية على الحدود التركية السورية كما أردت وها أنا أكتب إليك من غرفتي في الفندق الخاص بالفرنسيين الذي أنزلنا فيه الكولونيل (باتريك ).
جوان يلهو بقربي وبين يديه زجاجة عطر الشانيل 5 ،التي أصبحت لا تهمني مطلقاً ،كما لم تعد تهمني أنت ربما ،فقد نمت لدي رغبةٌ جديدة بعدم رؤيتك مجدداً رغم قلقي بشأنك .
لقد قمت بكل ما أمليته علي بكل رضا ،لكن ليس لإرضائك إنما من أجل جوان ،فقد كنت محقاً بأن حياته هنا ستكون أفضل بكثير .
رافقنا الكولونيل باتريك اللبارحة إلى مدرسة الإرسالية الكاثوليكية ومررنا بجانب عمال القرية المنهمكين في بناء الدير .
توقف الكولونيل باتريك فجأة ليقصد رئيس العمال ويسأله عن موثوقية جميع من يعمل في بناء هذا الدير ،وإن كان ثمة يدٌ غريبةُ يشك فيها ،أي عمالُ من السنة المناهضين للوجود الفرنسي والذين يعتبرون فرنسا دولةً كافرةً ومستعمرةً على حد تعبيره .
فطمأنه رئيس العمال موضحاً له أن العمال جميعهم من سكان القرية المسيحيين الذين اعتنقوا الكاثوليكية وبعضُ منهم مازال أرثوذوكسياً لكن يؤتمن له وليس كمثل الروم الأرثوذوكس الذين يقطنون المدينة ويعارضون الوجود الفرنسي ويقفون إلى جانب السنة لحماية تجارتهم وحيواتهم المحافظة .
وأن بعض العمال أصلهم من انطاكية ،نزحوا من اللواء قبل دخول الفرنسيين بعد اضطهادات الجيش العثماني للأرمن هناك ،ثم نادى على أحد عماله وقدمه لي وللكولونيل ،وكان يدعى (هاروت ) شعره طويل كشعر فولتير الكاتب الفرنسي الذي كنت تقرأ لي دوماً شيئاً من كتبه .
قابلنا بعدها الراهبة الإيطالية (باتريسيا )وأنهينا معاملة تسجيل (جوان )في الإرسالية الفرنسية .
تكلم الكولونيل باتريك مع الراهبة بالفرنسية ،ولم أفهم شيئاً من حديثهما ،شعرت لبرهةٍ كما لو أن جوان ليس ابني وإنما أصبح يخصهم وحدهم وأنا مجرد مربية خرقاء جاهلة له .
ثم طلب مني الكولونيل أن أوقع على الأوراق بصفتي والدة (جوان )وولية أمره الوحيدة ،وابتسمت لي الراهبة موضحةً أنها قبلت بتسجيل جوان في الإرسالية استثنائياً فالإرسالية عادة لا تقبل في صفوفها سوى أولاد المسيحيين .
(ولية أمره الوحيدة )بقيت تلك الجملة تنخر رأسي طوال طريق عودتنا إلى الفندق .
كيف تزجني في كل هذا يا اسماعيل ؟وتحملني مسؤوليات كبيرة علي ،وترسلني إلى مكان حيث كل ما يحيط بي جديد كلياً علي ،إنني حتى لم أفهم ما تحدثا به عن ابننا ،كما لو أنني غريبةٌ أو منبوذة .
منذ استيقظت اليوم شرعت بالكتابة إليك في دفتر مذكراتي ،قد أرسلها لك عبر البريد ،فقد أدخل الفرنسيون تلك الخدمة إلى هذه البلدة ،أو قد أحتفظ بكل هذه الأسرار لنفسي .
سأصحب جوان إلى الإرسالية برفقة الكولونيل بعد وقتٍ قصير ،ثم بعدها سنتناول وجبة الغداء في مطعم الفندق برفقة صديقة للكولونيل تدعى (سيمون )والتي ستعطيني دروساً في تصميم الأزياء بما أنك كنت قد أخبرته مسبقاً بأنني أخيط الملابس منذ صغري ، وربما قد تعلمني الفرنسية ،وقد أرسلت إلي اللبارحة مجموعة من الفساتين لأرتديها عند خروجي ،وملابساً لجوان بدا فيها مثل فرنسي متحضر على حد تعبيرك .
رغم كل عتبي عليك ،إلا أنني أنتظر قدومك بفارغ الصبر ،فأنا غريبة عن كل ما حولي ووحيدة ولدي شعورٌ كشعور جوان وهو يرتاد الإرسالية لليوم الاول في أول خطوةٍ له على طريق التحضر ! 2

كانت لطيفة منشغلةً في إضفاء اللمسات الأخيرة على مجموعة تصاميمها التي قضت شهوراً عدة غارقةً في تصميمها عندما تلقت خبر قدوم زوجها اسماعيل إلى قرية القنية ونقله مصاباً إلى مستوصف الدير .
تركت كل مابين يديها من تصاميم ورسومات ومجلات (les modes ) الفرنسية التي تعرض تصاميم قبعات كوكوشانيل التي أهدتها إياها (سيمون )صديقة الكولونيل باتريك التي قضت عاماً كاملاً وهي تدربها وتعلمها مبادئ تصميم الأزياء قبل أن تغادر لإدارة البوتيك الخاص بها في شارع جان دارك في بيروت عاصمة دولة لبنان الكبير والذي أطلق عليه هذا الإسم تكريماً للقديسة جان دارك .
حملت جوان بين ذراعيها وغادرت غرفة الفندق المكتظة بالخيوط وأقمشة الكشمير والساتان ،برفقة (هاروت ) العامل الأرمني الذي كلف بإيصال الخبر إليها والذي منذ قدومها إلى البلدة أصبح مسؤولاً عن تلبية احتياجاتها ومرافقتها في نشاطاتها الكثيرة سواءً إلى الجمعية النسائية التي ضمتها إليها سيمون والتي لا تضم عربيةً غيرها ،أو إلى صالة (بونابرت )حيث تجتمع زوجات الضباط الفرنسيين ليشربن الشمبانيا والتيكيلا ،ويتحدثن عن الموضة ويطالعن الجرائد السورية واللبنانية الموالية للفرنسيين والصحف الفرنسية مع بضعة النسوة السوريات أو اللبنانيات القادمات من دولة لبنان الكبير ،خريجات الجامعة الأميريكية في بيروت ،والإنصات إلى إحداهن وهي تلقي شيئاً من أشعار بودلير أو تحكي عن أمجاد القائد العسكري الأعظم عبر التاريخ (نابليون بونابرت ).
وكان (هاروت )يرافقها أيضاً عندما تستدعيها الراهبة باتريسيا في حالة طارئة ،عندما يعلن جوان عصيانه ويجهش بالبكاء رافضاً كل ماحوله في الإرسالية ،أو إلى الدير لمهاتفة زوجها عبر الهاتف الشمعدان الذي يملكه الدير .
كان هذا اقتراح الكولونيل (باتريك )بأن يصبح هاروت خادم لطيفة المخلص كونه لا ينقصه سوى الأعضاء الأنثوية كي نعتبره أنثى على حد تعبير الكولونيل باتريك .
عندما وصلا إلى المستوصف شاهدا جنديان فرنسيان يحرسان غرفة الاستشفاء واللذان أخبراهما بالفرنسية التي أمست لطيفة تفهمها بأنهما لا يستطيعان المكوث بقرب اسماعيل لأكثر من خمس دقائق .
ولجا الغرفة حيث كانت الراهبة الطبيبة تهتم بجروح اسماعيل ،دنت لطيفة من سرير اسماعيل وجلست بقربه وراحت تمسد بيدها على جبينه فأشاح بنظره عنها .
كان قد تغير كلياً وأصبح نحيلاً للغاية ،وفقد وجهه استدارته وإشراقته ،وبرزت عظام وجنتيه ،مثل جثة .
كان ثمة استسلام في عينيه ،بحثت لطيفة فيهما عن تلك الروح الثائرة ،اللاهثة خلف الانتقام والطموح والقوة ،إلا أن ذلك كله كان قد اختفى .
همست في أذنه :ماذا الآن يا اسماعيل ،لم لا يسمح لنا بأن نبقى بقربك سوى لوقتٍ قصير ؟ ماالذي فعلته الآن ؟ لا تقل لي بأنك ندمت على كل شيء وتراجعت ؟
لم ينبس اسماعيل ببنت شفة ،وظل محافظاً على وضعيته ،مثل ميت عيناه ترمشان .
ثم استجمع قواه فجأة ونظر إلى لطيفة قائلاً :
بالطبع لا ،لم أتراجع ،وسأحارب أولئك الجهلة حتى آخر رمق ،حتى تملأ الأنوار بلادنا ونقضي على التخلف والغباء والتعصب .
أومأت لطيفة برأسها والتزمت الصمت بعدها وسافرت بها ذاكرتها إلى تلك الأيام التي كانت تنصت فيها إليه وهو يخبرها بأشياء تشبه ما يقوله الآن والتي جعلتها تقع في حبه وتلهث إلى مقابلته بين الحقول أو حيث يختبأ هرباً من الجيش العثماني الذي كان يلاحق الشبان لتجنيدهم في صفوفه للقتال في الحرب العالمية الأولى ،والتي حرمت لطيفة من شقيقيها وأمها وجعلتها وحيدةً تجابه الفقر وتعمل في الحقول والخياطة لسد رمقها وحتى أنها ذات يومٍ قررت أن تنزل مدينة اللاذقية للعمل في بيوت الباشوات كخادمة إلا أن اسماعيل رفض ذلك وأخبرها حينها برغبته في الانضمام إلى صفوف القوات الخاصة في الشرق ليتزوجا بعدها رغماً عن أنف والده الذي عارض زواجهما ظناً منه بأنه سيشغله عن العمل في الحقول وهذا مالا يصب في صالحه فتحجج بأنه يرفض تزويجه قبل تزويج شقيقيه الأكبرين .
كانت لطيفة تستعيد تلك الذكريات وهي تسأل نفسها فيما لوكان المضي خلف اسماعيل والاستسلام التام لما يقوله دوماً امراً صائباً ،عندها قاطعها مشهد تقبيل اسماعيل لجوان وضمه ،بعد أن لاحظت أن اسماعيل قد استعاد حماسه من جديد .
نادى أحد الجنديين عليها كي تنهي زيارتها ،فسلمها حينئذٍ اسماعيل دفتراً صغيراً وطلب منها أن تقرأه نظراً لضيق الوقت الذي لايسمح لهما بالتحدث كثيراً .
وضعت لطيفة ذلك الدفتر في حقيبتها التي أهدتها إياها الآنسة سيمون وخرجت لتشاهد (هاروت )وهو في وضعٍ مثير للريب مع أحد الجنديين الفرنسيين فقد بدا وكأنهما يغازلان بعضهما .
كانت تسمع أقاويلاً عن (هاروت )يدلي بها عمال معصرة الزيتون حيث وجد لها الكولونيل باتريك عملاً ،لتكون بذلك المرأة الوحيدة التي تعمل في تلك المعصرة فقد احتاجوها كصلة وصلٍ بين العمال والملاك الفرنسيين الذين افتتحوا تلك المعصرة في البلدة بعد استيراد المعدات والآلات اللازمة لذلك كما افتتحوا في مناطق أخرى معاملاً لصناعة السجائر .
لكن صناعة الزيت لم تحظ بالأهمية نفسها التي حظت بها صناعة السجائر .
كان على لطيفة أن تعمل وخصوصاً بعد إتقانها للفرنسية ،كي تسد مصاريف مكوثها في فندق (le reve ) الخاص بالفرنسيين ودفع أقساط الإرسالية الكاثوليكية نظراً لغياب زوجها الكثير وتعذر مدها بالمال في معظم الأحيان عندما يقطع الثوار الوطنيون الطرقات ويصبح من المحال الوصول إلى فروع البنك الوحيد في سوريا آنذاك .
فكرت لطيفة وهي تتأمل وجه (هاروت)المنتشي وهو يحادث الجندي الفرنسي ،في أن كونه مثلياً لن يؤثر عليها طالما هو الشخص الوحيد في البلدة الذي أصبح يعرف عنها كل شيء ويفهم ماتريده .
ويقوم بعمله على أكمل وجه معها ،وأن ما يجب أن تقلق بشأنه هو زوجها اسماعيل الذي قد يدمر نفسه في أي لحظة لو تراجع عن موقفه ويدمرها وجوان معه أيضاً ،فهي كانت قد اعتادت على تلك الحياة هنا في البلدة حيث تشغل وقتها دوماً بما هو مهم ،وجوان بدأ ينشأ على التربية الفرنسية والمعتقدات الكاثوليكية فقد كان يرتاد الكنيسة مع زملائه في الصف ،ويصلي (أبانا الذي في السموات )معهم ،وقد صنع لها في عيد الأم عذراءً من الورق المقوى .
أصبحت فكرة اعتناق عقيدة أخرى غير مربكة بالنسبة للطيفة كما كانت في السابق ،تماماً كفكرة اندماجها في مجتمع جديد وثقافة ولغةٍ جديدة ،فقد شغلتها حياتها العملية الجديدة وحولتها إلى امرأة أخرى أشد قوةً وأكثر لامبالاة بالأشياء غير ذات النفع العملي ،وأخذت من الفرنسيين حيوتهم وذلك النهم للأمور المادية ،واغتنام كل دقيقة من الوقت في القيام بما هو مفيد .
لذا تهاونت في مسألة نشأة جوان على معتقدات دينٍ آخر ،رغم الدين الذي تربت عليه والذي كانت في فترة من حياتها لا تقبل المساومة فيه إلى حد التطرف الأصولي .
ولم تكن لتخمن أبداً وهي تواظب في صغرها على قيام الصلوات الخمس وحفظ أجزاءٍ ضخمة من القرآن الكريم ،الذي كان الكتاب الوحيد في حياتها ،لم تكن لتخمن أنها ذات يوم ستتجه اهتماماتها نحو كتب هيغو وحكايات بطولات بونابرت وارتياد الجمعيات النسائية من أجل لقاء نسوة أسسن كياناتٍ مستقلة بحد ذاتها ،نسوة كاملات لم تسمع عنهن من قبل في قريتها البسيطة .
مثل سيمون صديقة الكولونيل التي منحتها فرصة أن تعرض أحد تصاميمها في البوتيك الخاص بها في بيروت .
ورغم ذلك فقد كانت لطيفة كثيراً ما تشعر بالحنين إلى تلك البساطة القديمة التي عاشاها هي واسماعيل في قريتهما الساحلية ،حيث كانا يفرحان بالأشياء العادية التي لا تحصل كثيراً وإنما كانت السعادة تتطلب جهداً ووقتاً طويلاً كي يحظيا بدقيقة مكللة بها ،إلا أنها كانت حقيقية وكافية ،تجعلهما ينفضان عنهما كل أحقادهما واستفزاز الحياة لوجودهما المتقلقل الخائف ،الحذر من كل مايحيط بهما .
والذي ربما شعرا بأنه أكثر متانةً وسلح بالأمل بين أحضان الفرنسيين ولهذا السبب كانت متسامحةً مع هاروت الذي وجد في عمله لديها الأمل الوحيد بعد ما ذاقه من عذاب وخسر عائلته في مسيرة الموت التي قام بها العثمانيون ضد الأرمن ،ومات والده على الطريق بينما سيق بشقيقتاه للبيع في سوق النخاسة وانتهى بهما الأمر في دمشق ،أما والدته الروسية الأصل فقد اغتصبها الجنود العثمانيون وشوهوا أعضائها الأنثوية ثم ألقوا بها في حفرةٍ عميقة تحولت فيما بعد إلى مقبرةٍ جماعية .
لم يكن آنذاك بقربها ،فقد كان يساعد والده في دكان الحدادة في أضنة ،عندما دخل عليهما قزمُ أرمني يلهث من الخوف وأخبرهما بأن والدته بين يدي الجنود العثمانيين الذين هجموا على القرية وراحوا يتفننون في أساليب القتل والإهانة واغتصبوا النساء والأطفال وحرقوا الرجال ،وأطلقوا النار على الدواجن وحيوانات الجر .
وكانت لطيفة أحياناً تسرح في خيالها فيما لو جند اسماعيل في صفوف العثمانيين آنذاك وجر للقيام بتلك الفظائع التي أثناء حدوثها كان اسماعيل منشغلاً بقبلاته السرية معها ،في الجحر الذي يختبأ فيه في الجبال .
أو في مواساتها ومنحها شيئاً من القوة بعد ما أعيد شقيقاها من الحرب العالمية الاولى جثتين محروقتين وسقطت والدتها فوق الجثتين ولم تنهض بعدها .
فكرت لطيفة في طريق عودتها برفقة هاروت بما كان اسماعيل يقاسيه من والده المحافظ الكريه والمتخلف والذي لايفكر إلا بنفسه وماله وبنيه دون وجود أي هدف معنوي لحياته والذي كان ينعته بالخنزير لهزاله وضعفه .
كان والده من أولئك المتدينين اليائسين الزاهدين في الدنيا إلا أنهم يحبون جمع المال ويفخرون ببنيهم مع تدمير ممنهج لأنفسهم ولأولادهم .
أدمعت عينا لطيفة عندما تذكرت تلك الأيام ،ومازاد من ألمها هو أنها لم تسأله عن جروحه أبداً لما كانت بقربه في المستوصف فتوقفت لبرهةٍ وأمرت هاروت بأن ينتظرها ،بينما تستريح قليلاً على مقعدٍ خشبي في ساحة الدير .
جلست على المقعد الخشبي وتناولت دفتر اعترافات اسماعيل وراحت تقلب في صفحاته ثم وجدت نفسها غارقةً بين سطوره :
((كان عددنا خمسة جنود ثلاثة منهم من الفرنسيين وأنا و شاب درزي ،كلفنا بقمع إحدى المظاهرات الاحتجاجية للشيوعيين التي جرت في دمشق بعد أن تم منحنا كامل الصلاحية بأن نضرب ونعتقل ونكسر الاضلع .
لكن ماحدث هناك كان أشد مما توقعته ،لقد قام بعض الجنود الفرنسيين بالتعامل مع المتظاهرين كما لو أنهم حشرات ولم يسلم أحدٌ من أقدامهم وقفت مدهوشاً أمام ما يحصل ،ولم يلحظ أي منهم كسلي في آداء مهمتي .
كانوا غارقين في لذتهم تلك ،تباً للحضارة التي جلبتها فرنسا إلى بلادنا يا لطيفة إن كانت مبرراً لمعاملة إنسان بهذه الوحشية .
جروا بعضاً من المتظاهرين وربطوهم بالجنازير ثم اصطحبوهم إلى منزل مهجور ،رافقتهم إلى هناك ورأيت كيف سخروا منهم وأجبروهم على حمل أثقالٍ وحجارة لا يقوون على حملها حتى السقوط ،وتعليق الصلبان في رقابهم وهم يرددون بالفرنسية (الرب هو الذي ينتصر دوماً ).
كما لو أنه خطابُ عثماني آخر .
من هؤلاء الذين قدمت معهم يا لطيفة ؟ لقد جلب هؤلاء الفرنسيون معهم إلهاً متوحشاً إلى أرضنا .
كان أشدهم عنفاً جندياً يدعى شارل ،دنا من شاب أرمني كان من بين المتظاهرين الشيوعيين ،هزيل ،أصفر اللون بعيون جاحظة سوداء وحزينة ،وراح يسخر منه ويخيفه ويذله ،ثم فك أزرار بنطاله وشرع ليتبول عليه إلا أننا جميعاً أوقفناه وصرخ أحد الجنود في وجهه :
)لا تكن داعراً ،احترم بذلتك العسكرية ،وبلادنا العظيمة فرنسا التي حققت انتصاراً مشرفاً في الحرب العالمية الأولى )
لا أعلم لم أخبرك بكل هذا يالطيفة ،ربما لأنك الوحيدة التي أتجرأ على إخبارها بندمي ،لأنني أعلم أنها ستتفهمني وأنها ستستقبلني دوماً بحضنها الذي بوسع السماء .
هؤلاء الجنود الفرنسيون لا يعلمون شيئاً عن ثقافة بلادهم ،لا يقرؤون هيغو ،حتى أنهم لا يعلمون شيئاً عن دينهم ،وسمعت أنهم قد جندوا أناساً في لبنان أيضاً لقمع مظاهرات الشيوعيين بحجة أنهم أعداءٌ للمسيحية ولدولة لبنان الكبير التي تحمي المسيحيين في الشرق .
كان (شارل )يشبه والدي الشيخ علي ،متعصبا” كريها”لديانته ،فخورا” بجبروته ،تفيض من وجهه البغضاء والحقد وتصدر عنه دوماً آراء جاهلة ومتزمتة .
تملكتني رغبةُ في قتله ،إلا أنني آثرت البقاء صامتاً ،شفافاً إلى أن اتخذ الجميع قراراً بإطلاق سراح المعتقلين الشيوعيين وإنهاء كل تلك المهزلة .
لم يكن ذلك اقتراحي بل اقتراح أحد الجنود الفرنسيين .
شعرت بنشوة عارمة وأدمعت عيناي ،ثم عدت فخوراً مجدداً بنفسي ورحت أرمق شارل دون أن يلاحظني بنظرة ازدراء .
قضينا الليلة بعدها في بيوت مهجورة ،نام شارل في المنزل ذاته الذي نمت فيه ،جلب معه بائعة هوى وشرع في مضاجعتها أمامي ،لذا انسحبت من المنزل وخرجت أتمشى خارجاً في البرد القارس .
فكرت بك وبابننا جوان وفيما لو كنتما سعيدين ،وأنني لم أكن أنانياً وفعلت كل ذلك من أجلكما ،وفقط من أجلكما سأكمل ما بدأته حتى النهاية .
كلفنا في اليوم التالي بعملية مداهمة أحد مقرات تواجد أتباع ابراهيم هنانو وسعدت لذلك لأنني سأصب أخيراً جام غضبي على إقطاعيي هذه البلاد .
ألم يضطهد حلفاؤه الأتراك مسيحيي إحدى البلدات ؟وسأصب غضبي في الآن نفسه على جهل والدي وتخلفه وتعصبه الديني المفرط واستهزائه بي وبأحلامي وسعيه نحو المال والقوة وسخريته من ضعفي وهشاشتي أمام مرض والدتي وعواطفها ؟
(يجب أن تكون قوياً من حجر ،ولاتذرف الدموع كالنساء ،فالله يحب المسلم القوي !)
كان قوله هذا تحديداً ما قادني إلى أحضان الفرنسيين وحرك قدميَ باتجاه الإرسالية الكاثوليكية .
أعلم أنك تفضلين لو أنني ظللت بقربك وعشنا سويةً برفقة جوان ناسياً كل ماضيَ ،متخلياً عن كل طموحاتي في بناء حياةٍ أفضل لكما كهدفٍ أولي ثم رد اعتبار لذاتي المهمشة ثانيةً .
ما أريده منك هو أن تثقي بي لأنني أعلم منك بما هو أفضل لكما .
وجودك في تلك القرية سيفتح عينيك على الحياة الحقيقة والمستقبل الباهر ،وما أريده أيضاً أن تنتظري قدومي منتصراً على أولئك الذين لو وقعت بين أيديهم سيقطعونني وينكلون بجثتي كما يفعلون مع الجنود الفرنسيين وكما فعلوا عبر التاريخ مع كل مستضعفٍ وعاصٍ منذ عهد المماليك ،أولئك الوحوش الضارية سنهزمهم ونلحقهم بأصدقائهم في سجن أرواد .
والله سيعينني على ذلك الجاهل في دينه (شارل )الذي يلطخ سمعة بلاده المتحضرة بعنجهيته وبربريته )). 3

مذكرات لطيفة
لا بد لي من إطلاعك على ما جرى لنا من جديد أنا وجوان ،فقد قرأت اعترافاتك التي كنت ترسلها لي طوال تلك السنوات ،والتي لا تذكر لي عنها شيئاً لما تأتي إلينا لقضاء إجازة ما وتتصرف وكأنك شخصٌ آخر ،وتتظاهر بأنك قويٌ ومصمم على ما أنت مقدم على فعله ،تقبلني دون أن تنظر في عيني ، وتكلمني بالفرنسية بعد أن تخرج غليونك من جيبك لتختبر صحة لفظي ،ثم تستحم بعدها وتلزم السرير لعدة أيامٍ صامتاً ،وأنا أكتفي بوجودك قربي دون حتى أن أتجرأ على ولوج عالمك .
ثم بعد أيام أستيقظ لأجدك مقدماً على الحياة بنهم ،تقرأ الجرائد ،وتخرج برفقة الكولونيل باتريك إلى صيد الحجلان ،، أو إلى موائد العشاء التي ينظمها في مطعم الفندق لمناقشة أمور ٍ من قبيل فتح الطرقات الرئيسية بين المدن أو بناء شبكات الصرف الصحي ،أو التخوف من الحزب الجديد الذي جاء به ذلك الشاب الطموح القادم من فرنسا (أنطون سعادة )والحديث عن المراقبة الصارمة لأتباعه .
ثم تنتهي عطلتك هكذا ،دون أن نجلس ونتحدث عما نحن فيه ،لذا اعتدت دوماً أن أكتبها لك على شكل مذكرات ،كما أكتب لك الآن ،لأخبرك بأن حياتي التي كنت تطمئن على استمرارها على الوتيرة نفسها في عطلاتك ،لم تكن على مايرام بالقدر الذي تعتقده أنت .
لقد منحتني سيمون فرصة أن أصبح مشهورةً إلا أنها كانت تنسب بعضاً من نجاحاتي إليها في البوتيك الخاص بها ،وما يجب علي إخبارك به ايضاً هو عشرات الألوف من اللحظات التي شعرت فيها بأنني وضيعةٌ ومراقبةٌ طوال الوقت ومثيرةٌ للسخرية في صالون بونابرت أمام المجتمع الفرنسي المخملي الذي زججتني فيه ،فضلاً عن تلك اللحظة التي أشعر فيها بشكلٍ فجائي بالدهشة لوجودي بينهن وأنني ربما لا أنتمي إلى هذا كله .
حينها أنسحب من بينهن بصمت وأقضي ليلتي في الفندق أرسم تصاميماً محافظة لنساءٍ مسلمات وأشرع في خياطتها سراً لأتبرع بها إلى النسوة البدويات القادمات إلى البلدة من أجل العمل في مواسم الزيتون واللواتي أغلبهن خسرن أزواجهن وهم يحاربون في صفوف الثوار الوطنيين إلى جانب ابراهيم هنانو .
كنت أتسلل سراً إليهن لنجتمع في جلسة نسائية مسائية يتحدثن فيها عن همومهن ويبكين وكنت أشاركهن البكاء إلا أنني كنت أجهل سبب هذا البكاء ،فيما لو كان تعاطفاً مع قصصهن أو لجهلي بما أشعر به بينهن وبما أصبحت أنا عليه في تلك البلدة ،وكنت غالباً أبكي لفشلي في العثور على هويتي الحقيقية التي أصبح من الصعب جداً فهمها حتى عليَ.
كنت أعود من سهراتهن وأسأل نفسي :لماذا بكيت ؟وهل يجب أن أتعاطف مع موقفهن وأنا أعيش هنا في النعيم بين الفرنسيين ؟ومن أنا ؟هل أنا فرنسية أم عربية ؟مسلمة علوية أم كاثوليكية ؟أم وزوجة شرقية مخلصة أم نسخة من امرأة فرنسية بلا روح ؟ ،مثل دمية تقليد للنسخة البشرية الأصلية ،تتحرك كما يملى عليها دون حتى أن تختار وجهتها بنفسها ،مقابل أن تبقى دميةً مدللةً ولامعة .
ثم أسأل نفسي سؤالاً آخر ،لم أمضي في ما أقوم به ؟من أجل ماذا؟لم كل هذا التعب والتخبط والتشرذم ؟هل من أجل حبي لك يا اسماعيل ؟أم لأنني أساساً لم أملك هويةً واضحة يوماً في حياتي كلها وأنا في رحلة البحث عنها .
ما الذي يدفع المرء لاحتمال كل تلك الضغوط وتقديم كل تلك التنازلات سوى سعيه المقيت والبائس والواهم غالباً نحو الكمال له ولمن يحبهم ؟
هل هي عاطفة الأمومة ؟أم خوفي من أن أبقى وحيدةً بدونك يا اسماعيل ؟مع أن وحدتي لم تفارقني يوماً حتى بوجودك في حياتي ،سواء كنت بقربي أو في مهماتك البعيدة الطويلة الأمد عندما أصبحت كل الأمور أصعب وأقسى وأشد تزمتاً .
وأصبحت أنت تقتل بكل برودة أعصاب وفرغت من كل مبرر أو فكرةٍ تدفعك للقيام بكل ما تقوم به ،حتى أنك نسيت لم انضممت أصلاً إلى جيش القوات الخاصة في الشرق وغدوت مثل آلة منهكةٍ وصدئة تعيش في نعيم مزيف .
أكتب إليك لأخبرك بأنني أختبر شعور الكراهية للمرة الأولى في حياتي ،لقد بدات أكرهك وأكره تلك الأخرى (لطيفة مصممة الأزياء )،فقد اصبحت لدي شخصيتان تماماً مثلك وبدأت أنظر إلى جوان وأشعر وكأنه غريبٌ عني وأن من أنجبته هو طفلٌ آخر .
أفكر في هذا كل ليلةٍ ثم أخلد إلى النوم آملةً بأن أجد فيه مايريحني من كل هذا الشقاء وأحلم حينها باسماعيل ولطيفة وهما يلهوان هناك في الجبال العتيقة . 4

جوان \ 1940
لم أعد أذكر ذلك اليوم الذي اختفت فيه والدتي عن أنظارنا ،استيقظنا في صباح يومٍ ما ولم نجدها ،فرت عنا ،وكان ذلك منذ بضعة سنوات إلا أنني على يقينٍ تام بأنه هو من قتلها .
ذلك الرجل الأخرق اللعين ،الطاغية القبيح ،السفاح ،أكرهه وأكره هذه البلدة المقيتة التي جلبنا إليها والتي لا يقويني على احتمالها سوى الكتب التي أقرأها باللغة الفرنسية .
لابد وأنه قتلها وأخفى جثتها في أحد الأقبية حيث يعتقل أتباع الحزب السوري القومي الاجتماعي ،أو الثوار الوطنيين ،بعد أن أخبرته ذات ليلةٍ بأنها تكرهه وتلعنه لأنه تحول إلى وحشٍ ماكر وقذر ،يقتل ببرودة ويأتي بكل وقاحةٍ إلينا ليذكرنا بالنعيم الذي نعيش فيه .
عن أي نعيم يتحدث؟ أفضل العيش في نعيمي الخاص ،ذلك النعيم المضاد له ،الذي سيقودني يوماً لأكون أفضل منه وفوقه ،عند ذلك أنا من سيرعبه ،سأرعب ذلك السفاح الذي يروح ويجيء هنا وهناك مفتخراً بإنجازاته ،وفي اعتقاده أنه أصبح فرنسياً متحضراً وأن ذلك يمنحه الحق في سحق الجميع بقدميه .
في الليلة التي اختفت فيها والدتي ،هاجم اسماعيل خيم البدو بعد أن علم بأنها كانت تقصدهم دون علمه تسهر وتسمر وتمنحهن الثياب التي تصممها بنفسها ،وأحرق الخيم التي تخصهم بعد أن فتش عنها بينهم ولم يجدها .
كانت تلك تمثيلية من تمثيلياته ،ليبعد الشبهات عنه،لأنه هو من قتلها ،قتلها لأنها لم تعد تنفع بشيء ،حتى أنه لم يعد يحبها .
كانت قد تخلت عن مهنتها في تصميم الأزياء منذ مدةٍ قبل اختفائها ،والتزمت الصمت ولم تتحدث لا بالعربية ولا بالفرنسية ،وهزل جسدها وغدت كسيرةً صفراء اللون ،لا تستحم ،وانتشر القمل في رأسها وكانت تقضي كل أيامها نائمة ،وتقول بأنها تنام لتذهب إلى الماضي الجميل حيث تلتقي باسماعيل الحقيقي ،حبيبها الطيب .
كنت انا أعيش شيئاً مما تعيشه ،لكنني لم أخلد إلى النوم ،بل اعتبرت بأن كل ما حولي غير موجود ،كنت أرتاد المدرسة الكاثوليكية وأقوم بكل ما تمليه علي الراهبات والمدرسات على أكمل وجه وأتفوق في كل هذه الأمور .
وهذا ما كنت أشعر بأنه نقطة قوتي وأنه يحول دون اضطهادي من قبلهم ،كانت سرعة بديهتي وذلك الإصرار الذي في داخلي هو ما يخرس جميع الطلاب الذي من المحتمل أن يوجهوا إلي أية إهانة أو شتيمة تتعلق باختلافي عنهم .
ثم وعندما أتفوق عليهم جميعاً أعود لشعور الأمان بينهم ،وأحبهم من جديد ،مبرراً كل تصرفات الأب والراهبات القاسية صاباً جام غضبي على والدي ،ذلك الرجل الذي تحول إلى حذاء جلدي ضخم مستعدٍ لأن يستعمله في الدهس في أية لحظة ،حينما يقف في وجه طموحه أي شيء ،وما بين حبه للسيطرة والتسلط وتوحشه الذي لا نهاية له وبين سخافة القوانين والردوعات الغبية والتافهة أحياناً في الإرسالية ،كنت أفضل الثانية على الأولى ،فهنا يوجد حبٌ على الأقل ،توجد فسحةٌ للمستقبل ،فرصةٌ لأن نتغير ونتبدل وليس وقوفاً ثابتاً للزمن على شكل حذاءٍ عسكري يأمر وينهي ! 5

رسالة من لطيفة إلى جوان \1941
ذات ليلة فررت نحو المجهول منه ،لم أعد أطيقه ،وأعلم أنك ستسامحني يوماً على فعلتي هذه يا ولدي .
رافقني هاروت بناءً على رغبته ،وعبرنا بمساعدة امرأة ٍبدويةٍ حواجز الثوار الوطنيين أتباع ابراهيم هنانو إلى مدينة جسر الشغور المجاورة للبلدة ومكثنا هناك في منزل قريبةٍ لتلك المرأة البدوية لعدة أيام ،قبل أن نتجهز لرحلتنا إلى بيروت .
حبيبي جوان ،سوف تكبر يوماً ما وستتفهمني ،أعلم أنني لو أخذتك معي لفعل اسماعيل المستحيل ليعثر علينا ،أما أنا فلن يكلف نفسه كثيراً من الشقاء ليبحث عني ،إنما سوف يمل سريعاً ويتركني بسلام إلى أن ينصفنا الدهر مرةً أخرى وأجتمع بك مجدداً .
لو اصطحبتك معي كان سيبحث عنا وسأنال منه عقاباً لا رحمة فيه ،وعندها ستتأذى أنت وسوف تكره حياتك وأنا أريد منك أن تبقى سعيداً وتغدو شاباً ناضجاً ومثقفاً ومتحضراً لأعتمد عليك .
جوان ،كانت الرحلة إلى بيروت صعبةً ومنهكة ،ساعدتني سيمون على عبور الحدود السورية اللبنانية ،أما هاروت فكان من السهل أن يعبر كونه أرمني ،حيث عدوه من المسيحيين المضطهدين في الشرق ،يلوذ بدولة لبنان الكبير الملجأ الماروني الكاثوليكي لكل المسيحيين المعذبين .
لحظة وصولنا إلى بيروت ،وبعد عدة أيام تبدلت الحكومة ونتيجة لتبدل الحكم في فرنسا ووصول موالين لألمانيا النازية إلى سدة الحكم ،ثم قامت تلك الحكومة الجديدة (حكومة فيشي )بملاحقة سيمون صديقتي لكونها صديقة مقربة لكليمنتين زوجة تشرشل رئيس وزراء بريطانيا .
فررنا جميعاً برفقة سيمون ،أنا وهاروت ،واختبأنا في ديرٍ كاثوليكي في قرية جبلية بعيدة وكان علينا كما في مدينة جسر الشغور أن نعيش وفقاً لأسلوب الحياة المعاش هناك .
في جسر الشغور ولما كنا نقطن بيوت الثوار الوطنيين وننتقل بينهما ،كان علينا أن نضع الحجاب تارةً ونصلي ونصوم في بيوت من يقاتلون فرنسا من أجل الجنة ،وفي بيوت أخرى كنا نعامل وكأننا في قصور فارهة حيث يقطن زعماء الثورة الوطنية الذين يقاتلون من أجل الوطن والأرض والسيادة .
كانت المرأة البدوية التي تتنقل بنا بين كل هذه البيوت الأكثر درايةً ومعرفةً بكل ما يحصل بين كل هؤلاء ،كان الجميع يحبونها ويستقبلونها بغض النظر عن معرفتهم بأنها صديقةٌ للجميع ،على اختلاف مبادئهم .
كانت ببدائيتها وعدم انتماءها تكاد تكون المرأة الحرة الوحيدة في هذا الزمان ،تعلم بكل شيء وعن كل مكان ،كما لو أن البلاد بأكملها صارت ملكها تتنقل بها وكأنها السيدة والمشردة ،كل الشيء واللاشيء .
وكنا نحن أنا وهاروت طالما أننا نتبعها ونمضي وراء ظلها ،أخوتها في الحرية والمعرفة العظيمة .
أعجب هاروت بشخصيتها وقوتها ،وقال بأن رغبته في أن يكون أنثى ازدادت لما رأى نموذجاً للمرأة العابرة لكل زمانٍ ومكانٍ فيها ،أما سيمون فقد وجد فيها المرأة الصديقة التي كان يبحث عنها منذ زمنٍ بعيد ،تلك المرأة الراقية التي تنصت باهتمامٍ إلى آراءه في تصاميمها بكل جدية ،فمعها شعر بأنه ذو كيانٍ وأنه يستحق كل الاحترام ،معها شعر بإنسانيته باختصار .
انشغلنا في الدير الكاثوليكي بتحضير مجموعة أزياء الصيف على أمل أن نعرضها في باريس ،فقد تلقت سيمون وعداً من زوجة تشرشل بإخراجنا من لبنان قريباً عبر طريقٍ سري .
حبيبي جوان ،تعرفت هنا أيضاً على شاب شيعي يدعى (علي )جاء من الجبل ليعمل في خدمة الدير ،وبدأت أقع في غرامه ،وفعلت معه ما كنت أفعله مع والدك اسماعيل ،تمشينا بين الصخور الوعرة ،ورسمنا معاً مشهد الغروب ،فقد كان لعلي موهبة فذةٌ في الرسم حتى أنه تلقى وعداً من سيمون بفضلها بأن يرافقنا إلى باريس في رحلتنا المرتقبة ليستثمر موهبته هناك .
شعرت مع علي وكأنني أراهق من جديد ،لقد منحني حبه أملاً بالسعادة مجدداً ،سعادةُ لا تكتمل إلا بقدومك للعيش معي يا ولدي . الجزء الثاني 1975 _ 2011 1

كان الليلك ينثر عطره والفراشات تحوم حول ورق شجر الليمون الحار بفعل أشعة الشمس التي تسطو على أجزاء المطعم ببريقها الساخن المتوهج لتحرقه دفئاً مانحةً للأطفال فرصة إنهاء لعبة تزحلقهم على سطوحٍ معدنيةٍ تعكس دفء طفولتهم ويشحنهم بالمرح الممزوج بالطمأنينة الخلابة كما ألوان الفراشات .
المطعم المكشوف للحياة والشمس ولذلك التوتر الكامن للأبنية الحديثة الطراز التي تتسمر كشخوصٍ عارية في مسرح الفضيلة ،كان ملكاً للشاب الطموح (سنان اسماييل )الذي لم يحالفه الحظ ليلقى ذكاءً بذكاء والده جوان يخوله بأن يغدو أشهر جراح في منطقة الشمال السوري ،وحتى أنه لم يعش حياةً قاسية تدفع به نحو الفخر بحذاء جده العسكري ،وإنما كانت الوداعة التي ورثها عن والدته كما ورث عنها الهزال حركت فيه الرغبة في رسم حياته وفقاً لخياله الصاخب الذي تجرعه من منزل الطفولة الزاخم بشخوصٍ مضطربةٍ وحالمة ،رهينةً لماضيها وقصصها الملونة المختلفة ،ولأشياءها الخاصة التي يفيض بها ذلك القصر ،حيث نشأ (سنان )
ما بين أسلحة جده ودروعه التكريمية ،وغرفته الحالكة بألوان جدرانها الصارمة ،وضجيج الموسيقا الكلاسيكية وهي تعبر بين الهياكل العظمية المتباينة الأحجام المشمرة عن عظامها بوقاحة أمام شغف والده جوان الطبيب الذي أرقها معه في غرفته وهي تقف حائرةً في منتصف المسافة بين العلم والأدب .
كانت تلك حقبة القوة ،حقبة السبعينيات ، حين كانت الحقيقة واضحةً والرخاء لا يخفي هوية أصحابه ،وما عليك سوى بأن تتمتع وتطلق لاطمئنانك العنان ،هكذا بخضوع قلبٍ ،وغفوٍ لذيذ ،وتغافل عما ليس لك شأن فيه .
غادر في ظهيرة ذلك اليوم (سنان اسماييل )قصره قاصداً فردوسه الموعود ،بعد أن ضاق ذرعاً بإخفاقاته المتكررة في محاولات التوفيق بين والده وجده والحد من عراكهم الدؤوب والذي لا جدوى منه حول أشياء عالقة من الماضي ،تبدأ بمصير الجدة المجهول وتنتهي بفلسفة كل منهما في الحياة .
كان المطعم المنكفئ على نفسه والذي يبدو مثل لؤلؤة نادرة تنكشف للعيان آخر مقاطن السوريين قبل أن يبدأ سوار أشجار السرو في جرك معه ليقذف بك في الأراضي التركية ،هذا ربما ما جعل المطعم مميزاً ومنحه غنجه ودلاله وربما تارةً شقائه .
كانت فكرة افتتاحهم لذلك المطعم في ذاك الزمن ،سباقةً ومبكرة ،وحتى يمكننا أن نعتبرها ثوريةً ،كالخيط الأول من الفجر ،انسابت بكل نعومةٍ مثل إبرةٍ لنسج شمس ،خطاها الابن الوحيد لجوان اسماييل الذي لطالما بدا متذمراً من كل مايحيط به ،رافضاً لكل أشكال الحياة المحتملة التي من الممكن أن يقترحاها عليه والده وجده .
ومابين صلابة الجد الذي غدا أشبه بسلاح ناري ،وصرامة الوالد الذي لطالما لم يفهمه سنان بتاتاً،والذي كان أشبه بآلة يحدثها الزمن باستمرار ،سحق الأمل بأن يغدو لسنان مجداً بقوة ونجاعة مجدي أبيه وجده ،فصار لزاماً عليه أن يعيش على فتات تلك الأمجاد الحقيقية ،لشراء مجدٍ أقل تقديراً ،لكن لا بأس به .
وقد نظر سكان البلدة لذلك المجد الغريب الأطوار والمحطم لجميع التابوهات المعترف عليها من قبلهم ،نظروا إليه بعين الاضطراب والتقلقل كما نظروا إلى عائلة اسماييل برمتها طوال تلك السنوات ،بعين الريبة وعدم الفهم .
وفي زمنٍ كهذا عاش فيه المسيحيون الكاثوليكيون على أمجاد الوجود الفرنسي ،هانئين ربما مع معرفتهم القليلة عن الأسس التي تقوم عليها البلاد ،كان من المريب أن تقدم تلك العائلة على خطوةٍ سباقةٍ ،والولوج في عوالم جديدةٍ مليئة بالمطبات ،لم تجرؤ أي من العائلات المسيحية التي دللتها فرنسا من أن تلجها .
كان الجد اسماييل بماضيه العسكري المخلص للفرنسيين قبل أن تقعده مهنته وتجعله حبيساً لكرسيٍ متحرك ،موضعاً للثقة بالنسبة لسكان البلدة بسلوكه الفرنسي المتحضر الذي يظهره في مناسباتهم ،وعلمانيته الحيادية المريحة .
بينما كان الوالد (جوان اسماييل ) بغيابه التام لانشغاله بمسائله العلمية وسعيه نحو التفوق والعالمية يكاد يكون شفافاً إلى الحد الذي يصبح عنده غير مدعاة للشك أو الاهتمام بالنسبة لهم ،ولم يتوقع أحدٌ منهم أن الخطوة الأشد إرباكاً ستأتي من ذلك الحفيد الناعس (سنان اسماييل ).
الحفيد الذي لم ينصاع يوماً سوى لرغباته الشخصية ،كتخلفه في ظهيرة ذلك اليوم من عام 1975 عن حضور اجتماع وقت الغداء مع عائلته واستبداله بحضور اجتماع مع صديقته البيروتية التي كانت ترشده في أمور إدارة المطعم وتدعمه في انتقاء كل ماهو عصري ولامع بفضل ذوقها الرفيع المشهود له .
(سنان )شابٌ أربعيني بمزاج طفل ،تسيطر عليه غرائزه وانفعالاته وتلك اللامبالاة التي تخص طفلاً مدللاً عابثاً ليس العالم بالنسبة له سوى ملعبٍ كبيرٍ للدمى المصفوفة رهناً لإشارته تنتظر دورها حتى يحين وقت اللهو بها وفقاً لقرارات مزاجه ،والتي قد يطول الوقت الذي تبقى فيه في مأمن عنه ،نظراً لخطوه البطيء في السير مع تيار الحياة ،والذي يضمن له المتعة العظمى في التلذذ بكل مايصبو إليه خياله ،وتتوق إليه عيناه الخضراوتان الموروثتان عن والدةٍ سليلة عائلةٍ أرمنية قدمت من بيروت ذات يومٍ لقضاء العطلة في بلدة سنان وعائلته ،في الفترة التي كان فيها اسماييل يفتش عن زوجة مناسبة لابنه جوان تتمكن من إزاحة الوهم الذي في رأسه وتشغله عن أحلامه التكنوطبية المستحيلة .
إلا أن سنان لم يرث عن والدته سوى لون عينيها وهزالتها كما أسلفنا سابقاً ،إلا أنه كان فوضوياً على عكس طباعها الهادئة ورؤيتها المنظمة لكل ما في الحياة .
وكانت فوضويته ونهمه الطفولي من النمط المحبب الذي يضمن تعاملاً مريحاً في نظر صديقته البيروتية (جمينا )التي تفضل صداقةً مثل صداقته ،تناسب شخصيتها المقبلة على الحياة التي ترفض أية قيود أو مسؤوليات ،وتمنحها الأمل في العثور على ذلك الحب الذي يكبر تباعاً بين عاشقين ،تماماً كحب والديها اللذين خسرتهما في عملية تصفيةٍ سياسية مع انطلاق أول شرارةٍ في الحرب الأهلية اللبنانية من ذلك العام ،وعادت إلى منزل جديها لأمها الواقع في بلدة سنان باحثةً عن العزاء راغبةً في عيش حياةٍ تخلو من الشعارات والقيود .
فاصطدمت بصداقة سنان الذي كان يخطو لأول مرة في حياته خطوةً جدية ،تتعلق بكبح جماح بوهميته أخيراً ،ويعثر فيها على استقراره .
كان أول لقاء لهما عندما ركبت معه جراره الذي يقوده أحياناً لتجزية الوقت وظنته حينها عاملاً من العمال المستأجرين من أجل مواسم الفاكهة والزيتون ،بيد أنها لم تكن تعلم بأن ذلك الطفل الذي يحاول أن يسيطر على كل شيء ويجرب كل شيء ،كان يخضع نفسه لا أكثر لواحدةٍ من التجارب التي يمليها عليه خياله وتفرضها أنانيته واعتداده بنفسه .
إلا أنها وحين عرفت خصاله فيما بعد ،تغاضت عنها لأجل علاقةٍ تمنحها عذراً لفهمها للحياة مجدداً .
فما فقدته جيمينا في الحياة ليس بالأمر القليل ،أو حتى يمكننا اعتبار ما عاشته منها عصيٌ على وسمه بصفة العيش .
كانت حياتها بوصفها ابنة سياسي لبناني شيوعي غير مرغوبٍ فيه ولا بجهوده التغييرية وأحلامه اليوتوبية ،الأمر الذي أضفى على حياته وحياة عائلته نوعاً من التقلقل وعدم الاتكاء على ظهرٍ صلب ،وكانوا كلما ظنوا بأنهم أسسوا على أرضٍ لن تخذلهم تصدع البناء الذي بنوه وتهاوى ،لذا أحبت جمينا الأجواء السياسية عندما أتت إلى بلدة سنان وشعرت بالأمان في ظل القوة وقوانين الواحدية الصارمة .
أعجبها نمط اللباس الموحد لطلاب المدارس ،ومفهوم السعادة المشترك والغير قابلٍ وضعه على المحك ،بالرغم من أن وجود الدير اللاتيني كان يضفي على المشهد نوعاً من الاختلاف .
كان ثمة نوعان من البشر هاهنا ،نوع اعتاد على اللحاق بركب الواحدية ،وغرق في خدرها ونوع كان مازال يحلم بعودة الزمن إلى الوراء ،لينعم في جنته الفرنسية ووسط كل هذا كان مطعم سنان حالةً خاصة ونادرة ،حلم ٌ خلق على أنقاض الماضي ،واشتدت عزيمته في حضن الواحدية الصارمة ،وتغذى على الغرابة و التحدي والغموض .
جيمينا الآن سعيدة لسبب آخر ،سعيدةٌ لأنها تحررت من حبها القديم هناك في بيروت ،حينما أحبت في صغرها أحد أولاد الحي الذي كان يتردد إلى منزلهم لتلقي دروسٍ في اللغة العربية ،حيث اشتعلت شرارة الحب بينهما ، أو ربما ذلك الرابط المعقد العصي على التسمية .وهي وإن كانت تظن بأنها تحررت بالكامل من حب ذلك الشاب ،إلا أن إعجابها بشخصية سنان لم يكن سوى استكمالاً لشغفها بحبيبها القديم الذي لم يتسن لها التشبع من قصتها معه ،وحال دون ذلك الغرور والكبرياء ومحاولة إثبات أفضلية أفكار كل منهما المتباعدة والمتنافرة دوماً ،والتي لم تكفي كل تلك السنوات لحل وثاقها .
كانت جمينا التي نشأت في كنف والد يقدس العلم والفكر ،ونذر حياته ومال أجداده في سبيل مبادئه الساعية نحو التغيير ،شبت على أن تكون واثقة الخطى في كل خطوةٍ من خطوات حياتها مما سهل تفوقها في المدرسة ،وجعلها على اطلاع على كل مايتعلق بالسياسة والثقافة ،الغربية منها والشرقية ،مما أكسبها امتلاءً داخلياً انعكس على شخصيتها ومنحها الثقة بالنفس التي بدت استعلاءً للبعض وأولهم حبيبها الأول (ماتيو )،صديقها وابن حيها المنحدر من عائلة متدينة من تلك العائلات التي تفهم الدين على طريقتها ،المكونة من أبٍ وأم منشغلين دوماً في الكدح وجلب المال لتحقيق السعادة ،وكان ماتيو مثلهما يقضي معظم وقته في العمل ،غافلاً عن واجباته المدرسية،إيماناً منه بأن الدراسة لن تطعم الخبز للمرء ،ويقضي ما تبقى من وقته مع شبان الحي يعيشون كل ماهو عبثي على أكمل وجه ،يدخنون ،يأكلون بنهم ،ثم يفرغون كل طاقاتهم بالمشاجرات والزعيق .
لذا ماتيو وجيمينا كانا مختلفين منذ البداية إلا أن ذلك لم يحول دون الوقوع في حب بعضهما البعض ،وهكذا بدأت قصتهما :
حدث ذلك في يومٍ تأخر فيه الوالد عن موعد الدرس ،وكانت جيمينا بمفردها في المنزل حين جاء ماتيو واعترف لها بإعجابه ،كان مندفعاً بكل جوارحه ،جعلها تستسلم له في بضعة دقائق ،كان شاباً جميلاً ،ذا جسدٍ دافئ وعضلات بارزة ،ولم تقوى على مقاومته .
نامت معه في ذلك اليوم في سريرها ،حاول مرات عديدة أن يكرر عملية المضاجعة لكنها كانت منهكة وشعرت وكأنه يكاد يقترب من أن يغتصبها ،كما لو أنه أحب لعبة السيطرة على جسدها ،وذهب في تلك اللعبة حتى النهاية .
لقد فهمته لاحقاً فقد كان يرغب بأن يملك السلطة عليها ،بأن يخضعها لرغباته بكل ما فيها من كبرياء وتفوق ،وامتياز في عيون الجميع ،لقد كان مريضاً ،لكنها رغم كل ذلك أحبته ،وتيقنت فيما بعد من حبه ،طوال تلك السنوات التي تلت ذلك ،رغم ابتعادهما ،بسبب انتقالها وأهلها إلى حي آخر ودراستها في الجامعة الأميريكية في بيروت ،بينما هو اجتهد على نفسه بفضل ما قدمته له من مساعدة وحظي بمقعد في الجامعة اللبنانية ،لكنه لم يتم دراسته وشغله عن ذلك علاقاته الكثيرة مع فتياتٍ من كل شرائح المجتمع ،وطرد من الجامعة إبانها ،بينما بقيت جيمينا تنتظره ولم تقو على الولوج في أية علاقة أخرى ،ومنعها عن ذلك الشغف إليه الشغف إلى علاقة غرامية لم تكتمل على الصورة التي ترغب فيها هي ،وليس كما حدث بينهما في الماضي .
كانت تقابله أحياناً ويمنعها كبرياؤها من إخباره بأنها مازالت تعشقه بفضل ما عرفته عن علاقاته الشائكة والمريبة مع نساء أخريات ،كان يؤلمها إخلاصها لذكرى شابٍ لم يصن ذكرى علاقتهما ،وتوجه فوراً للغوص في ملذاته ،ظناً منه بأنها ستبقى متعلقةً بالحب الذي لم يكتمل .
كان يحبها ،إلا أنه كان يرغب في إثبات تفوقه عليها بعد فشله في الجامعة ،وتوجهه الجديد كمدرب لكمال الأجسام ،حيث ضم نساء قويات البنية إلى قائمة النسوة اللائي يصبحن له .
كانا يتقابلان كل عدة أشهر ،وتجمعهما المصادفات ،يتمشيان معاً دون الإفصاح عن مشاعرهما ،وتبدأ أحاديثهما بسلاسة وسرعان ما تنشب الخلافات ،حين يبدأ في انتقاد أسلوب لباسها غير العصري ،واهتماماتها الثقافية والسياسية التي يصفها بالمقيتة ،كانت هي تنظر إليه بحزن ثم تنسحب مبتعدةً عنه ،لتعود إلى حياتها المعقدة مع والديها الشيوعيين ،المضطربين دوماً .
وتفشل في استبدال حبه بحب شابٍ آخر رغم تقرب الكثير من الشبان منها ،ومحاولة استمالتها .
وحينما اغتيل والديها ولم يعزيها بهما ،ذهبت بنفسها إليه ،لتذوب بين ذراعيه ،فوجدته مع امرأتين في السرير .
ولحق بها ذات مرةٍ إلى منزلها ،دامع العينين ،منهك القوى ،عائدا” من إحدى المعارك التي جرت في بيروت أثناء تأديته لخدمته الإلزامية ،شعرت برغبة عميقة في ضمه بين ذراعيها ،حدث ذلك عند باب منزل والديها ،لكنها لم تستطع هزيمة كبريائها ونسيان خياناته المتكررة لحبهما الذي بدأ يأخذ شكلاً مقدساً بالنسبة لهما .لذا قررت الفرار كي تحافظ على قداسة ذلك الحب وحينها قابلت سنان )).
لم يكن كل من جيمينا وسنان ليدركا حين اجتمعا في ظهيرة ذلك اليوم في مطعمه ،بانه سينمو بينهما حبٌ ما ،وسيكلل في المستقبل بالزواج ،لتصبح جيمينا سيدة قصر آل اسماييل ،ليبدأ عهدٌ جديد من تاريخ العائلة المضطرب ،عهدٌ يخلو من وحشية الجد وفخره بأمجاده الفرنسية التي عفا عنها الزمن ،لتخيم السياسة مكانه على حيوات جميع من في ذلك القصر ،ولتظهر عداوات جديدة واصطدامات ،وكما المعتاد مع كل الأزمنة سيكون هناك ضحايا وخسارات ومنعطفات يتغير معها كل شيء كما خسرت العائلة جدتها الأكبر (لطيفة )في الماضي ولم يعلم عنها أحد شيئاً .
كان ذلك اللقاء الصيفي مع كؤوس الكونياك وأطباق السمك المشوي يحمل في جعبته بداية جديدة . _2_

مذكرات جيمينا \ 1980
كنت يافعةً مندفعةً بشراسةٍ نحو الحياة ،حينما بدأت علاقتي بماتيو ،مزهوةً بنفسي النهمة لكل شيء ،المتكئة على ماضي أبٍ زاخر بالفخر والتطلعات الواسعة الأفق ،منهمكة بأشغال وقضايا وأحلام كبيرة على مقاسي ،أقضي معظم وقتي في الحملات التطوعية لدعم الفقراء ،أو اللهاث خلف أضخم الموسوعات الثقافية من كل البلدان ،من ريدرز دايجست حتى منشورات دار مير المنشورة في الاتحاد السوفييتي العظيم .
كانت حياتي تزخم بكدحٍ من نوعٍ خاص ،كدح ٍ لا بد منه وفق رؤية والدي للحياة المؤكدة دوماً على عدم تضييع الوقت فيما لايفيد ،أو لايخدم المصلحة البشرية وضرورة التعامل مع الحياة وكأننا نذرنا أرواحنا فداءً لقضية ما عظمى وهدف سامٍ وشمولي .
وكان ماتيو بالنسبة لي هو إحدى قضاياي ،لذا نذرت نفسي بالكامل لتشتته واضطراباته النفسية وأشفقت بمعرفتي على ذلك الكائن المثقل بعدم الفهم والجهل المتعب الذي يمنعه من مواجهة صخب مايحيط به من حدية في عالمه مع أسرته وأبناء حيه .
إلا أنه سرعان ما انقلبت تلك القضية ضدي وأصبحت قضيتي أنا ،لما وقعت في شراك حبٍ لم أقو على التنصل منه لسنوات ،وأرهق روحي بما فيه الكفاية ،وأدركت حينها بأن ما تعلمته من والدي عن أن الحياة لا معنى لها إلا لو وضعنا نصب أعيننا أهدافاً ساميةً كبرى لتحقيقها ،كان مشكوكاً في أمره ،عندما ضعفت وسقطت أمام أبسط ما يحلم به المرء ألا وهو أن يحافظ على من يحب بقربه .
لذا بدأت أفتح عيني وأنظر إلى الأمور بطريقتي الخاصة ،وأرمي شيئاً فشيئاً بمعظم ما تعلمته من والدي الذي خاب ظنه هو بنفسه لما شاهد بعينيه الناس تقتل بعضها دفاعاً عن أفكارها أو لإثبات أنهم على حق ،وانهارت منظومة القيم والمبادئ والأحلام الطوباوية أمام بقاء الإنسان بما يميزه كإنسان .
ولما طال البل ذقوننا ،واضطررنا في أقل من عام أن نغير منزلنا لمرات عديدة ،سجن والدي نفسه في مكتبه وانشغل في إنهاء كتابه الذي لم يكن ليعلم بأنه كتابه الأخير ،رافضاً الانخراط في مهزلة الأحزاب السياسية التي أقحمت نفسها في حرب عصاباتٍ لا تمت للضمير البشري بصلة .وإبان صدور الكتاب الذي دعا فيه والدي لنزع السلاح واللجوء إلى الحلول السياسية وطلب من السياسيين التحكم بالتعقل والسمو عن النزعات الطائفية وشرور النفس البشرية وتعطشها للسلطة ،اغتيل والدي من قبل ملثمين مجهولين .
عندها فقدت الثقة بكل قضية وأصبت بخيبةٍ كبرى ،إلى جانب خيبتي بماتيو ،فانزويت بنفسي وأعدت ترتيب أولوياتي ،فوجدت أنه من الأفضل أن أبدأ من جديد وأرمي بكل مرارة الأيام السابقة ،واخترت أن أنطلق من بلدة أجدادي هناك في سوريا على الحدود التركية .
كنت عازمةً على التحرر من تلك المسؤولية التي حملتها على عاتقي تجاه ماتيو ،لأنني أدركت على نحو مؤسف أن فرداً بشرياً مهما بلغت فطنته ووعيه وثقافته ليس بمقدوره أن يغير بإشارةٍ منه أفكاراً جامدةً ومترسخةً إلا إذا أنضج الزمن هذا التغيير وجعله يولد بنفسه .
هذا ربما ما استيقظ عليه والدي يوماً ،لما وجد نفسه يدحرج صخرة سيزيف باتجاه القمة لتعود وتتدحرج بنفسها ليكرر العملية مرةً أخرى دون جدوى ،لكن والدي غفل عن أن تلك العملية لا جدوى منها وكان يحلم بأن تحدث معجزة تحافظ على بقاء الصخرة في القمة ،وهذا هو الفارق بيني و الكاتب الفرنسي ألبيركامو وبينه فقد آمنت كما آمن كامو بأن تلك العملية لا جدوى منها إلا أنها في حد ذاتها تكسب الحياة المعنى ،نعم حياتنا عبارة عن عبث لا أكثر ،إلا أننا يجب أن ندرك الجمال في كل هذا ونتمتع به ،دون أن نسأل حتى عن مجدٍ أو غاية يقود إليها ذلك العبث .
كان والدي ثورياً كلاسيكياً ،راديكالياً إلى حدٍ ما حتى في كتاباته ولم يكن ليهتم بشأن قراءة كامو أو غيره من الفلاسفة الذين جلبوا منهجاً جديداً يخصهم ،كانت فلسفة ماركس وأفكار لينين هي وحدها ما تجدي في نظر والدي ،كانت لديه نزعةٌ بأن يقول أفكاره وكأنه يأمر باتباعها ،وحتى ولو كانت تلك الأفكار عظيمة إلا أنه في رأيي كان على والدي أن يكون أكثر تقرباً من الناس الذين يوجه رسالته إليهم ،فقد كان لينجو بنفسه ربما ومن جهلهم الذي لم يكن ليتوقعه ،ولم يكن ليتوقع بأن كتاباته غير مفهومة على عكس ما كان شديد الثقة به .
حينما قابلت سنان لدى وصولي بلدة أجدادي وجدت فيه ذلك العبث متجسداً العبث الذي تحدث عنه كامو ،كان لديه حلم دون غاية وكل ما كان يهمه هو الاستمتاع بكل لحظةٍ ،مثل طفلٍ كبيرٍ بلهو بألعاب خصصت للكبار ،وكنت سعيدة بقرب ذلك الطفل ،طفلٌ مقبلُ على الحياة كما هي ،وليس على عاتقي مسؤولية تغييره كما حالي مع ماتيو .
كنا نجلس أنا وسنان معاً في مطعمه ،وتمر ساعاتٌ دون أن نشعر بمرورها ،أكلمه في السياسة ،عن تسلم جيمي كارتر لزمام السلطة في أميركا ،وأن ذلك فيه مايبشر خيراً بفضل سياسته الديمقراطية المنفتحة على الآخر ،أو عن تغلغل الكتل المتعصبة في البلاد والتخوف من استعمالها الإرهاب ،الوسيلة الوحيدة التي في أيديها طالما أن حجتها ضعيفة ومبنية على نزوعٍ طائفيٍ أعمى .
وكان هو يحدثني عن هواياته ،عن انواع الكلاب التي يربيها ،وبراعته في تمييز أنواع المكرونة والبيتزا الإيطالية والجرارات والدراجات النارية .وصارت لقاءاتنا هذه محط ريبةٍ وانزعاجٍ من قبل أهل البلدة والبلدات المجاورة ،حيث اتهمنا بخدش الحياء وتهافتت الأقاويل والأكاذيب علينا ،سواءً من الأوساط المحافظة المسيحية هنا في بلدة سنان ،أو من البلدات المجاورة حيث تقطن فئة أصولية مسلمة لا مجال للنقاش معها .
وكانت قد ظهرت في الآونة الأخيرة أمارات الحنين إلى الماضي الإسلامي الغابر في تلك الأوساط خصوصاً بعد نجاح ذلك الحلم في إيران إبان الثورة الإسلامية ،وكانت تلك الأمارات تنذر بقدوم زمنٍ موبوءٍ بالأحداث الدموية التي قد تطيح بكل ما حاولنا التأكيد عليه دوماً ،بأنه يجب أن نحافظ على حياة أي إنسانٍ أياً كان عمره كمثل حفاظنا على حياة طفل وألا تسحبنا تلك الرغبة الدفينة في الفناء معها و التي تدفعنا إلى إفناء بعضنا البعض لأسباب سخيفة حتماً ،أو ذلك التجبر على الحياة نفسها عندما يملك المرء الذروة ويرغب في تدمير ذاته أو تدمير غيره ،وخصوصاً أولئك الذين لا يقتاتون سوى على أفكارٍ صغيرة ،سرعان ما تنضب ولا يبقى أمامهم سوى قانون صراع البقاء ،الغريزة الأولى لحيوانٍ يدعى الإنسان .

مذكرات إيميلي \ 2011
حدث ذلك منذ ثلاثين عاماً حسب ما جاء من مذكرات والدتي ،حينما طالت يد المتطرفين كل طموح ومتميز في عمله ،وتعرض مطعم والدي للتفجير ،وأصبح والدي مقعداً إثر ذلك فنشأت أنا بعدها بين أبٍ جليس المنزل محبٍ للحياة ،وأمٍ منشغلةٍ على الدوام بقضاياها النسوية وفي ترسيخ أفكارها التحررية في مجتمعٍ كانت دخيلة في الاصل عليه ،وخصوصاً بعد وفاة جدي بأفكاره الكولونيالية العفنة كما تصفها والدتي ،وساعدها على ذلك انضمامها إلى صفوف الاشتراكيين ،والأفكار الاشتراكية التي كانت تسود آنذاك ،فأصبح لها وزنها وكلمتها في البلدة وفي المنزل ،ويمكن القول بأنني عشت في ظل سلطة أنثوية مقتها دوماً ،فقد كنت على عكس والدتي أحب الهدوء وقراءة الكتب الكلاسيكية ،وانجذبت إلى كل ماهو صوفي وروحاني وقرأت مبكراً مذكرات جدتي الكبرى (لطيفة )التي ضاعت في الماضي وجعلت من مسألة تتبع مصيرها وكشفه هدفاً هاماً من أهداف حياتي إلى جانب الكتابة التي لذت بها لحل سوء التفاهم بيني وبين هذا العالم الخارجي الذي تحمست إليه والدتي على نحو مربك بالنسبة لي وحتى مثير للغثيان أحياناً .
لذا أصبحت أقرب إلى راهبة في تصوفي وانعزالي ،وانكبابي على الكتب وكأن الواقع المحيط بي غير مهم ،وأن الحقيقة لامحال سأجدها في الكتب .وكرهت تلك الصورة عن الفتاة التي رغبت أمي في جعلي إياها ،وعلى العكس أحببت صورة تلك الفتاة الخاضعة تماماً لسلطة رجلٍ والتي تحتاج إلى حضنه ودفئه على نحوٍ متطرفٍ أحياناً !
وما إن أنهيت المرحلة الثانوية حتى فررت من ذلك المنزل ،منزل آل اسماعيل وقبلت بالمنحة التي حصلت عليها في إحدى جامعات بيروت ،ولكنني لم أتأقلم هناك بتاتاً وعدت فوراً بعد أن اصطدم ذلك العالم بالعوالم التي قرأت عنها في الكتب .
واكتشفت بأن الكتب قد تسببت لي بضرر جسيم وسلختني عن الواقع كلياً ،وأن والدتي كانت محقةً بعض الشيء في واقعيتها المحضة ،وفي نظريتها عن الصراع الاجتماعي .
وأدركت ذلك لما وقعت في حب شاب من البلدة ويعمل مدرساً للتربية الرياضية ،كان شاباً مقبلاً على الحياة ،ولم يكن ليلتفت إلى فتاةٍ ممزقة من الداخل مثلي ،انعزالية ،تفحص الواقع من منظار ما قرأته في حياتها ،وكنت حتماً بالنسبة له متقاعدةً من الحياة ،لا تناسب شخصيته المقبلة على الحياة والحيوية .
قابلته في منزلنا لما كانت والدتي ترغب في أخذ دروسٍ في الحفاظ على الرشاقة بما أنه لم يكن ينقصها سوى الرشاقة كي تصبح المرأة التي ينبغي أن تكون عليها والتي تليق بالسلطة التي بين قبضتها في الحزب وفي المنزل وفي إدارة المطعم التي أعادت ترميمه .
وشيئاً فشيئاً دارت أحاديث بسيطة بيني وبينه ،وبدا لطيفاً عصرياً مليئاً بالحماس ومثقفاً ،تغلب على ثقافته السمة الأوروبية ،وكان علمانياً في طريقة تفكيره .
وذات مرةٍ وبكل بساطة قررت أن أخبره بأنني معجبة به وبالرغبة من زواجي منه ،فتقبل ذلك بكل تعاطف ومع ابتسامةٍ رائعة وأخبرني بأنه موافق على عرضي بالزواج هكذا بكل انفتاح .
تزوجنا وانتقلت للعيش معه في منزله المتواضع إلا أننا لم نقم فيه كثيراً وحال دون ذلك ما حصل من أحداثٍ دموية التي غزت البلاد دون سابق إنذار وأطاحت بكل ما كانت تبنيه والدتي وبما توهمت بأنها قامت به من تنوير للشعب الذي كان يسير في طريقٍ أخرى كلياً .
وكان محتماً علينا نحن أسلال عائلةٍ عرفت بولائها القديم للفرنسيين كما ينظر إلينا الأصوليون المرتبطون بالماضي ،كان علينا أن نوضب حقائبنا ونشرع في الهروب قبل أن تسحقنا قبضة الجهل الغاضبة .

مذكرات جيمينا\ 2021
لم أعلم ما الذي حصل ؟ مر على ذلك عشر سنوات ،على صدمتنا كمثقفين بما آلت إليه أحوال البلاد ،وبما كنا مخدوعين به طوال تلك السنوات التي كنا فيها نسير في دربٍ والشعب يسير في دربٍ آخر ،حتى صعقتنا غزارة الدماء .
غادرنا حينها البلدة أنا وزوجي وابنتي إيميلي وزوجها إلى بيروت لفترة قصيرة ،ثم عدنا إلى سوريا .
كان علي أن أعود لكي أرى سوريا بمنظار مختلفٍ كلياً ،بعد أن تصالحت مع نفسي ومع ماضيَ وأفرغت نفسي من كل ما يعكر صفو ذلك السلام الداخلي الذي وصلت إليه .
تحررت من حب ماثيو القديم ،ومن محاولاتي الثورية في إثبات حديديتي ،لأسلك طريقاً أخرى أثبت فيها قوتي الداخلية .
أصبح لدي حفيد وهذا جل ما أهتم به إلى جانب الكتابة ، التي أصبحت نهمة عليها مذ عدت إلى بلادي .
أصبحت علاقتي بزوجي سنان وثيقةً للغاية ،بعد كل السنوات التي جمعتنا كزوجين ،ولم يحصل ذلك من قبل سوى إبان ما حصل في البلاد وبعد عودتنا إلى سوريا بالتحديد .
فقد أصبحنا زوجين بكل ما للكلمة من معنى ،وكنت أرافقه لزيارة قبور جده اسماعيل ووالديه في تلك البلدة على الحدود التركية ،فقد كنا قد استقرينا إبان عودتنا في مدينة اللاذقية .
حتى أنه أصبح أكثر ارتباطاً بالحياة ،بعد أن تخليت عن كل أساليبي القديمة في السعي خلف السلطة وتغيير المجتمع وبناء منظومة أفكار جديدةٍ كلياً .
ولم يكن أحدٌ ليصدق أن مجد آل اسماييل العظيم سيؤول في النهاية إلى عائلةٍ صغيرة بسيطة تعيش بسلام في منزلٍ متواضع وأن آخر حفيدٍ في العائلة ستكون والدته امرأةً حالمةً ورومانسية ،راضيةً ومستسلمة كلياً لقدرها ،تنظر على الدوام من شرفة المنزل ،مترقبةً ربما عودة جدتها الكبرى (لطيفة ) ذات يوم . القصة الثانية ( ستظل النجوم تهمس في قلبي إلى الأبد) (سيرة الخيام ) الجزء الأول حديث النجوم

كنت في بلخ في حصن (أمير بو سعد جرة )لما أرسلت في طلب تلميذي الأسبق أحمد النظامي السمرقندي لأجد فيه الأنس والسلوان ،ولأتم ما بدأت معه في علوم الفلسفة والفلك والرياضيات قبل أن تنتهي أيام العمر وأسقط في العدم .
لم يتردد السمرقندي في تلبية دعوتي ،وجاء إلى الحصن وقضى معي ليالٍ كثار ملؤها المتعة في البحث والجدل إلى أن جاءني في ليلةٍ طارحاً عليَ سؤالاً : كيف قضيت عمرك وحيداً يا معلمي ؟وبم أشغلت نفسك ؟ من فضلك قصَ عليَ ما جرى معك في هذه الدنيا كي أستقي من حكمتك يا حجة الحق .فكان له ما اراد .

نيسابور يا موطئ قدم السلاجقة ،فيك كان مولدي وفيك سيكون مرقدي حيث سيواريني ترابك إلى غير رجعة .
خرجت منك إلى الحياة وقضيت سنواتي الأولى متقلباً بين عبق ريباسك ،وحيرة والدي وحنينه الزرادشتي وإعجابه بملوك العجم ،إلا أنني لم أصب بحيرته فقد ولدت مسلماً ،وتتلمذت على يدي الشيخ موفق النيسابوري الأمر الذي قادني إلى قصور سلاطين السلاجقة ،حيث وجدت الإكرام الذي أستحقه ،بعد معاناة مع نقص المال في منزل أبٍ حائرٍ موهوم .
قضيت شبابي أتحصل العلم من هنا وهناك بعد ان أدركت أن الله خلقني في هذه الحياة وكتب عليَ أن أشق طريقي بنفسي ووضع السلاجقة في طريقي لإعانتي على المضي قدماً في دنيا الغم والأحزان .
شببت وصلب عودي في كنف ملوك السلاجقة ،وبلغ أوج دلالي عندهم مع السلطان ملكشاه الذي قربني إليه ومدني بكل ما يلزم لأتلذذ بما تعلمته في شبابي ،بعد أن كنت مدرساً في نيسابور أتلو على تلاميذي ما تعلمته من كتب فلاسفة اليونان كأفلاطون وسقراط وأبيقور .وكنت في أوقات الضجر ،أجلس إلى حبري ودواتي وأغرق في مصادرات إقليدس ومسلماته وأحاول أن أثبتها .
ما تعلمته لدى موفق النيسابوري لم يكفيني ولم يروي عطشي ،لذا لذت بكتب اليونان وأرهقت نفسي حتى غياب الوعي في كتب الشيخ أبو علي بن سينا ،وتارةً كنت أسليها بأساطير ملوك العجم ،وأعيادهم واحتفالاتهم .
عشت بعد وفاة والدي في نيسابور وحيداً ،أخرج من مدرستي وأعرج على الأسواق لأستمد منها القوة ،فبينما كان السلاجقة يسحقون أعداءهم كما سحقوا في الماضي البويهيين والغزويين ،
كنت أنا أشعر بالأمان ،وتنتابني رغبةٌ في عيش كل تفاصيل الحياة بكل ما فيها ،ولو أنني كنت أكاد أجزم بأن هذه الحياة غير ذات نفع ،إلا أنني مشيت مشحوذاً بقوة السلاجقة ،الذين كان الخليفة في بغداد يمنحهم كامل الصلاحيات .
إلى أن قابلت أهم رجلين في حياتي ،اللذين جعلاها تنقلب إلى الأبد ،الحسن بن الصباح ونظام الملك الذي صار وزيراً للملك ملكشاه وعن طريقه ولجت باب المعرفة وفتحت لي هذه الحياة درباً لا أضجر فيه ،ويعينني على قلة حيلتي وشقائي .
وكان في صداقتهما هذه ما يغير الأنفس ويبدل الأهواء ويجلب معه حيرةً أخرى أو ربما أحلاماً أو أوهاماً أو توسيعاً للمعرفة والوعي حتى درجة الشتات !

رغم بداوة بني سلجوق إلا أنهم صبوا اهتمامهم على العلم رغبةً منهم في عدم حصر قوة الدولة في الجيش ،ولما كان صديقي الذي تتلمذ على يد الشيخ موفق النيسابوري (نظام الملك ) قد قادته حنكته وذكائه لاعتلاء منصب وزير ملكشاه فقد راسلني ودعاني في رسالته لحضور اجتماع مع الملك وقال فيها أن الملك يرغب برؤيتي لشأن زيادة مخصصاتي الشهرية التي كان والده السلطان ألب ارسلان قد خصصها لي لجهودي في الرصد الفلكي ودروس الفلسفة في نيسابور .
ولم أتردد في مقابلة الملكشاه ، الذي أسند إلي مهاماً جديدة وجعلني رفيقه في رحلات الصيد للتنبؤ في المناخ ،ووعدني بأن يمدني بآلات الرصد المناسبة وأمر بإنشاء مرصد ضخم مقره أصفهان .
قبلت بتلك الحياة التي أرادها الله لي ،ولم أكترث فيما لو كان السلاجقة أو غيرهم يعتلون سدة الحكم وفيما لو كانت جهودهم تلك غرضها ترسيخ قوتهم وحكمهم ،واعتلائهم لسدة حكم العالم الإسلامي .
أحببت أصفهان وكنت أعرج على المسجد الجامع فيها لأصلي ولأتأمل الزخارف الجصية فيه ،والسقوف القرميدية للقبة الشمالية ،والتي كانت تبنى وقتها ،بعد أن أمر ملكشاه السلجوقي بترميم المسجد ولم يفارقني التأمل سواءً في نيسابور أو في أصفهان ،حيث كنت في نيسابور أفر من منزل والدي العائش على أنقاض أمجاد الملوك الساسانيين والرباعيات الفارسية وأهرب إلى حيث يجري نهر نيسابور ،أو أصعد إلى الكهوف الجبلية وأقضي الساعات في خلوةٍ مع النفس أفكر كثيراً في الخالق وفي معنى هذه الحياة ثم أعود إلى أوراقي اليونانية في الرياضيات والفلسفة.
أما في أصفهان فقد أصبح المرصد الفلكي هو شغلي الشاغل ،والسماء هي مصدر تأملي الوحيد والأشد نجاعةً ،ويمكن القول أن أصفهان قد منحتني هديةً مميزةً ،خليطاً من التامل الفلسفي ،والإنجاز العلمي في مكانٍ واحد وتحت ظل حكم يطيب الملاذ به .

دعاني ذات ليلة ملكشاه مع نخبة من العلماء المسلمين لتصحيح التقويم الفارسي ،وقمنا بإخراج الزيج الجلالي وحددنا يوم عيد النيروز ذلك العيد العظيم الذي يعود لأسلافنا ملوك الفرس ،وجعلنا شهر فروردين بدايةً لعام المسلمين جمعاء ،مما جعل ملكشاه أشد إعجاباً بي وشدد على الإسراع في بناء مرصدٍ أكبر حجماً من مرصدي الذي كنت أعمل فيه .
ومرت الأيام هكذا في انتظار بناء المرصد ،وقضيتها أنا غارقاً بين اسطرلاباتي وجداول بطليموس ومصباح النجوم أقيس ارتفاعات النجوم وأحدد المناخ وأرسم مناظر السماء تبعاً لخطوط العرض في كل منطقة .
وكنت لما أتفرغ لنفسي أبحث في تاريخ عيد النيروز لدى قدماء الفرس وأثقف نفسي فيه ،علني أستفيد منه يوماً ما .
بينما كان ملكشاه منشغلاً في حروبه مع الفاطميين والبيزنطيين وغيرهم لترسيخ الحكم السلجوقي ولتوسيع رقعة الدولة .
أما صديقي الوزير نظام الملك فكان يزورني في مرصدي ويتفقد إنجازاتي ويحكي لي عما قام به من خطوات جديرة بالاهتمام لدعم العلم والعلماء في كل اقاصي دولة المسلمين من تأسيسه للمدارس النظامية في كل مدينة تتمتع بأهمية ما ،بدءاً من بغداد وتعيين افضل العلماء والشيوخ للتدريس فيها .
وكان يروي لي قصص معاناته مع الحسن الصباح صديقنا الثالث الذي اختفى فجأة بعد أن رفض كل عروض نظام الملك عليه بتسليمه أمور ولاية الري أو غيرها من اقتراحاته عليه بتحسين مكانته لدى السلجوقيين .
ورغم أنني كنت منشغلاً على الدوام في مرصدي ،كانت تمر علي ساعات أسأل نفسي فيها :هل أنا سعيد فيما أقوم به ؟وأطرح ذات السؤال بما يتعلق بصديقي نظام الملك ،فحتى نتمتع بما يقدمه لنا السلاجقة نستسلم لهم استسلاماً تاماً وبثقة عمياء ،وأننا كلما ارتوينا من نهر العلم كان ظمأنا يزداد فيما يخص تساؤلاتنا الكثيرة عن الكون والحياة والغرض من كل هذا الشقاء !

كانت الفلسفة في عصري أمراً غير مرغوب فيه ،لما كان الغزالي كبير الفقهاء قد أشهر عداوته للفلاسفة من خلال كتابه تهافت الفلسفة ،الغزالي الذي عينه صديقي الوزير نظام الملك أستاذاً للفقه في المدرسة النظامية في بغداد وكان ذلك ضرورياً لمجابهة الافكار التي تشكل خطراً على الدولة بما أنه كان أشعرياً يستعمل الحجة والمنطق والعقل في إثبات صحة النص ،وكان مثالياً لمواجهة أفكار إخوان الصفا الذين دعوا إلى إدخال الفلسفة لتصحيح الضلال الذي نعيشه ،بما أن الأشعرية قامت في الأساس للرد على أفكار المعتزلة الذين غلبوا العقل على النص ،وكان الغزالي هو الملاذ الأخير لمجابهة أفكار الباطنية التي أسسها صديقي الحسن الصباح والتي دعا فيها إلى وجود إمام لكل زمان وعلى الجميع اتباعه بثقة عمياء وكانت الباطنية قد انشقت عن الاسماعيلية التي كانت قد ظهرت لما اختلف أبناء جعفر الصادق على الإمامة ،ونسبت الإمامة إلى ابنه اسماعيل .
وكان السلاجقة قد تحركوا لدحر الحسن الصباح بعد أن جند فدائيين لتنفيذ عمليات اغتيالات في كل أرجاء بلاد المسلمين .
إلا أنني كنت أجد ان الفلسفة ضرورة حياتية بالرغم من أنني اضطررت لأن أعكف عنها كي لا تلاحقني تهمة التتبع للحسن بن الصباح ،طالما أنه غدا كل ماهو فلسفي مرتبط به وبجماعته في رأي الفقهاء وفي رأي الملكشاه بذاته ،إلا أنني كنت في أوقات فراغي وخلوتي أؤنس وحدتي بكتب أفلاطون وأبيقور إلى جانب قراءة أفكار الباطنية ،أو أقرأ رسائل إخوان الصفا ،أو أزور ملك بخارى الذي فتح لي قصره وأجلسني بجانبه حتى في مخدعه وعلى فراشه ،وكنت أنا أقص عليه قصص ملوك الفرس وأشرب معه شراب الشعير الذي احتفى به الملوك الساسانيون لما يفيد البدن والروح ،بينما كانت أسئلتي الفلسفية تتراكم في دواخلي الحائرة .

بالرغم من أن بني سلجوق استطاعوا هزيمة أعدائهم في الدول المجاورة ووسعوا رقعة بلادهم على حساب البيزنطيين مثلاً في معركة ملاذكرد وقضوا على البويهيين وخلصوا الخليفة من مدهم إلا أنهم استهزئوا بما قد يمكن ان يحرزه الحسن بن الصباح من تقدم في نشر دعوته حتى طالت قبضة اتباعه صديقي الوزير نظام الملك الذي تلقى طعنة سيفٍ غادرة في حديقة منزله على يد أحد الفدائيين الذين جندهم الحسن بن الصباح .
ومنذ ذلك الحين تغير كل شيء علي وخيم الحزن على حياتي وصرت أسترجع ذكرياتي مع صديقي نظام الملك في نيسابور حينما كنا نتمشى في سوقي المربعة الكبيرة والمربعة الصغيرة ونشاهد صناعة الخزف والفخار التي ذاع صيت نيسابور بها و أنسج انا رباعية فارسية أرتجلها وأتلوها عليه ،بينما يحدثني هو عن الأسس السياسية في الحكم كما يراها من منظوره .
انشغلت بعد فقداني نظام الملك بإنجاز كتبي العلمية بعد أن نجحت في حل معادلات من الدرجة الثالثة بواسطة القطع المخروطي واستطعت إثبات مصادرات إقليدس في التوازي فجمعتها في كتاب (شرح ما اشكل من مصادرات إقليدس )،وخصوصاً بعد تراجع الاهتمام بمرصد أصفهان من قبل الملكشاه الذي كان منغمساً في الصراعات التي تدور في منزله بين نسائه واولاده ومنشغل التفكير دوماً بما تقوم به الباطنية وفي كيفية مواجهتها.
لذا أصبحت كتب الشيخ أبو علي بن سينا ملاذي في تلك الليالي الطويلة التي لم يشبعها التأمل وكتابة الرباعيات الفارسية التي اسأل فيها عن الغرض من وجودي وأحاول أن أعرف من خلالها ذاتي وهذا ليس بالفلسفة في رأيي فعلى الأقل علينا أن نسأل عن الغرض من كل هذا الغرق مابين الأرقام والعلوم وإلى أية غايةٍ يقود ؟ وبحثت عن إجاباتٍ لكل هذه الاسئلة في كتاب الشفاء واكتشفت بأنني في طور النفس النباتية من الأطوار التي شرحها الشيخ في كتابه لكون احتياجاتي كلها ألبيها بفضل راتبي الذي اتقاضاه من الملكشاه وانشغالي الدائم في أمور العلم دون حتى أن ألتفت لنفسي لمعرفة الآخر والحاجات الغريزية البشرية ،أو المتطورة منها كحاجة أن تكون أباً مثلاً والتي لم تخطر لي من قبل .
ونظراً لطول أوقات فراغي فقد اطلعت أيضاً على ما جاءت به الباطنية من أفكار الفلاسفة اليونانيين ،ودفعني كل هذا إلى كتابة آرائي الخاصة عن جميع تساؤلات الوجود فعكفت عن العلم قليلاً ،وملأت وقتي في إنجاز رسالةٍ عن الوجود أعيد فيها التوازن إلى ذاتي المضطربة .

لكم حسدت سقراط على شجاعته في ممارسة الفلسفة أمام العلن دون أن يضطر لأن يكتب أفكاره ويجمعها في كتاب مثلي أنا ،لما كتبت رسالة في الوجود وأثارت تلك الرسالة جدلاً كبيراً وأقاويلاً كثيرة عني .
فبعد مقتل صديقي نظام الملك على أيدي الباطنية وإهمال بني سلجوق لي وخصوصاً بعد وفاة الملكشاه على نحوٍ مفاجئ وغير متوقع وسعي زوجته تركان خاتون للسيطرة على الحكم لصالح ابنها محمد البالغ من العمر آنذاك خمسة أعوام وتشابك المؤامرات في القصر السلجوقي .رحت أكثر من التأمل وأنا جالس في مرصدي أراقب النجوم ولكن بأسلوبٍ مختلف عما كنت من قبل .
أو أنزل السوق أراقب الحرفيين وهم يعبرون عن نظرتهم الفلسفية عن العالم من خلال القطع التي يشكلونها وأتساءل فيما لو كان التراب والرمل الذي يستعملونه يحمل في جعبته بقايا بشرٍ منذ غابر الأزمان ،من أيام كسرى وبهرام ،وكم أن الإنسان مهما بلغت قوته وجبروته فإن مثواه الاخير هو التراب ،وأنه لاجدوى ربما من كل ما نتعلمه ،وأن كل ماننجزه قد يغدو غير ذي قيمةٍ بين ليلةٍ وضحاها ،كما قد نفقد جزءاً منا بفقداننا لأناسٍ لم نكن نتصور الحياة بدونهم كما حصل لي مع نظام الملك صديقي الذي برحيله تعرفت على جانب من الحياة لم أكن لأدركه من قبل ،الجانب الموبوء بالشقاء والوحدة وإعادة النظر في كل الأمور .
وبينما كان صديقنا الثالث (حسن الصباح )يكمل ما قد بدأه حتى النهاية بعد أن استطاع السيطرة على قلعة ألموت وجعلها مقراً له ولأتباعه ،كنت أنا قد فقدت ثقة الفقهاء والعلماء بي وكانت توجه إلي التهم بالزندقة إلى الحد الذي طردتني فيه الملكة تركان خاتون من مرصد أصفهان وقطعت عني الراتب الشهري .
فقررت أن أؤدي فريضة الحج كي أسكت الشائعات التي تدار عني ،وزرت في طريقي إلى هناك بغداد والتقيت بكبير الفقهاء الغزالي هناك وأعجبت بعقلانيته التي تكتنف شخصيته وأفكاره التي تضعه في مرتبة الفيلسوف حتى ولو كان ينكر ذلك ويمقت الفلسفة والفلاسفة ويدعو إلى حصر العقل في فهم النص فقط ،ولم أكن لأخمن ذات يومٍ أنه سوف يعود في النهاية إلى التصوف وينعزل في مسقط رأسه نيسابور ويؤسس داراً للصوفيين يقضي فيها آخر أيام حياته .

بعد عودتي من آداء فريضة الحج ،كان السلطان بيركياروق قد اعتلى كرسي العرش بعد هزيمته لزوجة أبيه تركان خاتون ،فاتخذت مأوىً لي بالنقود التي جمعتها طوال تلك السنوات من عملي في المرصد وشرعت في تأليف كتاب وأتحدث فيه عن عيد النيروز وغرقت في قصص ملوك الفرس وعاداتهم وأسماء الأشهر وأنواع السيوف التي استخدموها ،وقسمت كتابي إلى عدة أقسام كل قسم منها يتحدث عن أحد اهتمامات الملوك الفرس والتي كانت تبرز في عيد النيروز لما كانت تقدم السيوف والبوازي والشرابات وأكثرها شراب الشعير لهم وخصصت أحد الفصول لمديح الوجه الحسن .
ثم أرسلت ذلك الكتاب الذي أسميته (نيروزنامه )الذي كتبته بالفارسية إلى الملك بيركياروق ألتمس فيه من خلاله الرأفة بحالي إلا أن ذلك كله لم ينفع فقد كان السلطان مشغولاً بحروبه لاستعادة قوة الدولة التي راحت تضعف أكثر فأكثر في عهده بعد الحملات الصليبية في بلاد المسلمين واحتلال القدس وتأسيس مملكة بيت المقدس فيها والتي طالت ملكها خناجر الباطنية أيضاّ .
ورحت أفتش عن حل ما أصرح به للملك وبحثت في كتب أفلاطون ومدينته المثالية ،وكتب أرسطو وأبيقور إلا أنني اكتفيت فقط بإنقاذ نفسي .
ولما كانت الدولة تضعف كنت أنا أزداد هشاشةً وضعفاً وأصبحت عاجزاً عن التحصيل العلمي كما كنت سابقاً ،واتجهت كلياً إلى الادب والفلسفة وأكثرت من نسج الرباعيات الفارسية وصارت الذكريات هي ما تشغل بالي فقط ،ورحت ازور الأماكن القديمة وأفكر في المواقف التي جرت معي ،فأصبت باليأس لما اكتشفت أن كل ما كنت أعيشه من مجدٍ كان مجرد وهم وبأن هذه الحياة لا تساوي أية قيمة ،وربما ليس لها أي معنى ،لذا قررت أن اغتنم ماتبقى لي من عمري في المتعة كما أوصانا ابيقور والامتناع عن التفكير بأي معنىً لهذه الحياة الفانية .

(أنا أحمد النظامي السمرقندي تلميذ عمر الخيام ):
لم يتم معلمي عمر الخيام رواية قصته لي ،ولم يرغب في الإفصاح عن سنواته الأخيرة بعد ان اعتزل العلم وتفرغ للتأمل ولعيش الحياة على حد تعبيره ،واكتفى بإخباري عن رغبته في أن يدفن في مسقط رأسه نيسابور وأن يكون قبره محاطاً بالأزهار والاشجار المثمرة والروائح العطرة .
لما زرت نيسابور يعدها بعدة سنوات سألت عنه فأعلموني بموته ودفنه في قبر خاص في المدينة ،ولما زرت قبره وجدته كما تمناه ،محاطاً بأشجار الريباس وكأنه مهد آخر له .
ولما اطلعت على رباعياته التي خلفها وراءه في أحد منازل تلاميذه التي كان يتنقل بينها في أواخر ايامه بعد أن بدد ثروته التي جناها من المرصد الفلكي .
عرفت سبب خجله من إخباري عن سنواته الأخيرة التي كان يتردد فيها على الحانات ويحتسي الخمر الذي بجله في رباعياته حتى أنه جعله سبباً كافياً للبقاء على قيد الحياة .
وعرفت من خلال رباعياته أنه قضى آخر أيامه يسائل الله ويحاججه ويطلب منه المغفرة وينصح الناس بعدم أخذ هذه الحياة على محمل الجد لأن مصير الجميع إلى التراب ويتغزل بالوجوه الحسنة وبالخمرة الصهباء ويخاطب المتشاوفين والمغرورين ويذكرهم بنهايات ملوك الفرس العظام الذين لم تنفعهم قوتهم وجبروتهم .
واكتشفت من خلالها أن معلمي كان قد ضجر من خيبته ومن كثرة معارفه وعلومه التي خيبت ظنه ولم تضمن له السعادة التي يتمناها المرء لذا لجأ إلى الخمرة التي تذهب العقل لكي ينسى ما ضاع منه في حياته التي لم يعشها لنفسه وإنما لخدمة الغير في علومه وحكمته ،فأمست تلك الرباعيات بمثابة زبدة تجربته الحياتية ،ولهذا السبب كانت ساحرةً وصادقة وتزلزل الكيان وكأنها مدينة فاضلةٌ صنعت من الكلمات فقط .
لما غادرت نيسابور حاملاً معي نسخةً من رباعياته بخط يده ،شعرت وكانه يرافقني بشخصه ،ولمل نظرت إلى السماء أتأمل النجوم لاستذكره ،تراءت لي كلمات الرباعيات وكأنها تشع في عرض السماء . الجزء الثاني حديث النفوس

كنا ثلاثةً لما التحقنا بمدرسة الشيخ موفق النيسابوري ،وكنت أنا أشدهم هزالاً وصمتاً .
فتىً في مقتبل العمر لم يتسنى له أن يتفوه بكلمة مما يدور في خاطره أمام هالة والد فصيح ومتحدث وحافظ لأمجاد الفرس ،والذي أمام رعبه لا يمكن لك لو كنت ولده إلا أن تلوذ بالفرار منه حتى تجد ما يمكنك من الوقوف أمامه بثبات ودون أي شعور بالنقص ،أي ما يجعلك نداً حقيقياً أمامه .
والدي الخيام البارع في صناعة الخيم ،وفي إحاطة نفسه بهالة من الحجج المنطقية أمام محدثيه وآلاف القصص عن البطولات والبذخ في عهود ملوك الفرس ،كان زرادشتياً يتقهقر رغم أنه كان قد أعلن إسلامه ،وكان بالنسبة لي أي بالنسبة لولده رجلاً صعب الطباع ،لا يمكن كنه مقاصده بسهولة ،وغير ودود على الإطلاق .
كنت هشاً امامه وكذلك كانت أمي ولكي أستمد قوة ما تمكنني من مجابهته ،رحت أسعى وراء علوم الدين والعلوم الأخرى التي يجهلها تماماً ،فلما دخل والدي في الإسلام لم يكن بالعمر الذي يجعله فضولياً للإحاطة بكل التعاليم الإسلامية لذا بقيت معارفه الزرادشتية الفارسية المفخمة هي ما يقتات عليه في يومه ،وللسبب ذاته استطعت التميز عنه .
وكان أول ما جعلني أتخطى سلطته ،هو أنني اصبحت أكثر معرفة بأمور ديننا منه ،مما يعني أن لي الافضلية عند الملوك السلاجقة منه ،فضمنت بذلك المستقبل.
تنحى بعدها والدي جانباً عندما توفي ،ولم يعد أمر التغلب على سلطته بالأمر ذي الأهمية ،واختفت برحيله حكايات الشاهنامه التي شكلت رعباً بالنسبة لي لما كانت السبب الرئيسي لنظرته إلي وكأنه ينظر إلى صرصار مسحوق ،كونني نشأت مستقيماً ضعيفاً بعيداً تماماً عن أكون بطلاً من أبطال الشاهنامه .
وهكذا استطعت أن أخدش استعلائه الزرادشتي بنيل رضا السلاجقة بأن أصبح مصدراً لقوتهم بتوسيع معارفي ،هذه القوة التي كانوا بحاجة إليها كبرهان آخر أو كتأكيد على الطمأنينة التي تضمنها السمعة الجيدة لدولة تدعم العلم والعلماء .
لذا لما قابلنا السلطان ألب أرسلان أنا ونظام الملك صديقي ،وقفنا صامتين أمامه وهو يمدح ويبجل باجتهادنا ،على الرغم من أسلوبه في الكلام وعدم تناسق المعارف التي أسس عليها كلامه اللتين كانتا تدلان على أنه رجل لايعرف سوى البطش كمصدر لقوته ،وأنه بدوي بالفطرة عاش حياةً قاسية لا تعرف مبدأً أساسياً في الحياة سوى القانون الأساسي الصرف لها :لا شيء يتم إلا بالقوة .
ورغم ابتذال كلماته وتعبيراته إلا أننا رضينا بما يقوله عنا وكنا اقرب أن نصفق له أو نقبل يديه لأنه يتفضل علينا بمديحه الذي علينا استقباله بحفاوة من ينال مديحاً من شخص تفوق عليه .رغم أننا كنا مدركين أننا نفوقه علماً وحجةً وديناً إلا أنه ثمة شيء في دواخل النفس الإنسانية ،شيئاً وحشياً من عصور القدامة ،يدفعها للرضوخ امام القوة الجسدية وأمام الغوغائية أو الإقحام الغير المبني على منطق وغير المدعوم سوى بفكرة واحدة قوامها (أنا الأقوى هنا ،فكلامي هو الأهم ،ويجب الإنصات إليه بالقوة ).
حينها شعرت بالحزن يكتنفني ،وتحسرت على الأيام التي كانت فيها سلطة والدي هي العائق الذي أحاول تفتيته ،أمام سلطة لا يمكن سوى الرضوخ إليها ،والقبول التام بأنك تعيش في كنفها ،في أمانها المطلق ،وأنها هي تمنح لعلمك ومعرفتك المعنى !
وهذا هو أحد اعترافاتي التي لا أخبر أحداً به ،أنني اشتريت الراحة والحياة الملونة المحاطة بكل مايشغل الوقت بالرضوخ التام لمن هو أقل دراية مني ،والذي ربما أعتبره في قرارة نفسي جاهلاً لكنه الأقوى وهذا ربما ما ظننته قانون الحياة الصرف للبشرية !
وربما من هناك بدأ الخطأ ،فإنني لما فكرت بهذه الطريقة غفلت عن أمر هام هو أن قوة من وضعت نفسي بين ايديهم وتحت سلطتهم مصيرها إلى الزوال مهما طالت ،وعندها ستتحول القوة والسلطة إلى يد أخرى وعندها لن أتمكن من نيل استحسان الجميع ،عندما أصل إلى عمر لا أملك فيه المقدرة على التغير أو التأقلم مع ماهو جديد .
ولم أكن لأخمن يوماً بأن كل ذلك قد يضيع يوماً من بين يدي ،وستنهار كل تلك الرزانة التي ملكتها ،ويتحول الجد والحياة المنظمة التي اعتدت عليها إلى عبث يقودني لأبحث عن تزجية الوقت في الحانات بين كؤوس الخمر .
يمكن القول أيضاً أن فقداني لصديقي نظام الملك فيما بعد قد ترك في جرحاً لا يلتئم بسهولة ،وانسلاخ الحسن الصباح عني على نحو مباغت .
فقد كنت أنا بينهما الأشد صمتاً والأقل طموحاً ،فحيث كان نظام الملك يطمح بالوصول إلى منصب سياسي يقربه من الملك ،ويعمل بشغف كبير على ذلك ،ويطلع على أمور الجيش وأسلحته وعن أمور الحكم وترسيخ المفاهيم التي تضمن الحكم السلجوقي ،وكان يهتم بقوته الجسدية وهندامه ،كنت أنا غير مكترث بكل تلك الامور وكان شاغلي الوحيد هو مراقبة السماء والغوص في كتب اليونان رغبة مني في توسيع معرفتي من جهة أو لأنني كنت أجد ان ثقافتنا غير كافية بمفردها وأن ما يريد السلاجقة أن يرسخوه ضيق الأفق وكنت أعلم بأن دولتهم هذه ستنهار يوماً ما ،ولكن لم أكن أجرؤ على البوح بذلك .
كنت بقراءتي للفلسفة اليونانية أتحدى والدي وحكمه التي نخرت رأسي والتي استخلصها من قصص جبابرة وملوك طغاة ،وأتحدى نفسي التي لم تكن لترتوي بالعلوم والمفاهيم المتاحة والمسموح بها ،كنت ارغب أن أرد اعتباري لذاتي الضعيفة المستسلمة أمامهم ،بأن أثبت على الأقل بيني وبين نفسي أنني أدرك ما لا يدركون ولن يدركونه يوماً .
ولذا ربما اهتممت بقراءة رسائل إخوان الصفا ،لكونهم من الجماعات التي لم تنل رضا الطابع الثقافي العام ,سواء لدى الملك أو لدى الفقهاء ،وحتى أنني رحت أفتش في كتب الباطنية وأحلل خطابهم ،وكان ذلك بمثابة تمردي السري ،وكنت أحياناً في سري أحسد الحسن الصباح بالرغم من جزمي بكونه يعاني من نقص عقلي .
ولما نلت الاستحسان الأكبر من الملك السلجوقي ملكشاه لما أمر بإنشاء مرصد ضخم أعمل فيه ،وجعلني رفيقه إلى رحلات الصيد ،سقطت في خدر تام ،وطمأنينة لم يكن علي أن اطلق العنان لها أو أثق بها ،عندها نسيت أمر ضعفي وهشاشتي ونسيت أمر التحدي الخفي بيني وبين سلطة آل سلجوق ،وتقبلتها بعماوة ،وغرقت بين أدوات الرصد أعمل بشغف ،وأشعر بين الاسطرلابات الثمينة وفي الوجود الهائل للمرصد بتميزي وبأنني ملكت الدنيا بما فيها .
ولم يكن هذا بالأمر السلبي تماماً ،إذ منحني ذلك فرصةً ذهبية لأفهم العلوم بتأن ولأتأمل الكون والحياة بشاعريتي المحجوبة في داخلي والتي كنت أرفض إظهارها ،وأنسج الرباعيات الفارسية بلغتنا الأصلية الفارسية وكم اكتشفت عندها أن قصص والدي عن ملوك الفرس تسير في دمي رغم نفوري منهم .
أصبحت اتعلق بالأدب والحكايات أكثر ،لما طرق الرخاء بابي ،لما صار الملكشاه بذاته يصمت أمامي ويعتبر كلامي نهائياً ولا نقاش فيه ودعاني لتصحيح التقويم الفارسي ،مع نخبة من العلماء فجمعت تلاميذي وأسسنا ورشةً ضخمة ،وكانت تلك أجمل أيام حياتي وراودني فيها شعور المجد .
ووقفت لأول مرة إلى جانب صديقي نظام الملك فخوراً بنفسي ،وشعرت بقوتي الرهيبة بجانبه ،إلى جانب أهم سياسي في بلاد المسلمين وأشدهم خبرةً وذكاءً وشجاعة في صنع القرارات وتطبيقها على أتم وجه دون أي تردد .
لم أحصل نتيجة ذلك على التقدير فقط وإنما على الحب والثقة ،فقد كان السلاجقة بداوة يحبون من قلبهم ،بالرغم من أن نيل حبهم وثقتهم ليس بالأمر السهل وكان لهم مزاجية السلاطين وشغفهم للتقدم وضمان سير كل الامور في الدولة على أتم وجه ،ولو أنهم كانوا غافلين عما قد تثيره الأفكار وعن مدى سرعة انتشارها ،حتى ولو رمموا كل المساجد ووحدوا المدارس والمناهج في كل أرجاء الدولة .
كانوا يهتمون بالجماليات دون الالتفات للجانب السوداوي ،إلى مكامن العتمة حيث وجد الحسن بن الصباح أتباعه وأغراهم بالحشيش الذي يذهب عقولهم ويريحهم من فقرهم وقلة حيلتهم .
اعتمد آل سلجوق على الفقهاء والعلماء لكن التمردات على حدود الدولة كانت شرسة ،والقوة العسكرية في تلك المناطق كانت تنهار شيئاً فشيئاً خصوصاً بعد انشغال السلطان بمشاكل عائلته وزوجاته .
لم أكن ألتفت لما يقوله الفقهاء كثيراً ،وإنما سعيت للاختلاف عنهم وعن الجميع ،وكنت أفضل السياسة المدنية لكن لم أكن لأدلي بهذا الرأي كثيراً في مجالسي مع العلماء أو الملك في البداية لما كنت غارقاً في نعيمي منشغلاً في مصادرات إقليدس ومسلمته عن التوازي إلا في بضعة أحاديث مع صديقي نظام الملك لما كان يزورني في المرصد بعد أن شعر بأهميتي وتخلى عن شيء من غروره واعتداده بنفسه .
وكان هو من مؤيدي تلك السياسة لكنه لم يفضل يوماً التحدث عنها ،كان مثلي أنا متغاضياً عن حقه في الإدلاء بآراء لا تتلائم مع ما يحاول السلاجقة فرضه أو حتى الفقهاء والتوجه الثقافي في البلاد ،وكان للأسف أعمى مثلي عما سيقود إليه صمتنا عندما تنهار الدولة ويسود معارضيها بخناجرهم قبل أفكارهم .
وأول ما طالته خناجر الباطنية هو صديقي نظام الملك وخسر حياته في غمضة عين ولم تنفعه كل تلك القوة وكل ذلك الذكاء ،وخسرت أنا معه قطعة من روحي وجعلني هذا هشاً من جديد أمقت كل ما بين يدي من علم وأفر هارباً منه إلى السماء أناشدها بعينين دامعتين .

تبدل كل شيء في حياتي مع غياب صديقي ،وصرت أفتش عن خصاله التي أصبحت أفتقدها والتي ملأت فراغاً في داخلي لا يمكن ملؤه بسهولة ،لذا تقمصت تلك الخصال وعكفت قليلاً عن وحدتي وعملي الدؤوب ورحت أقابل زملائي من العلماء ونتحدث في الفلسفة ومعنى الحياة ورأينا في العدم واللذة والسياسة المدنية ،والتي أصبحت أكثر جرأة في طرحها ،ووجدت في ذلك إخلاصاً لذكرى نظام الملك وتنقلت بين نيسابور وأصفهان وبلخ وبخارى أنشر أفكاري التي تدعو إلى محاججة الكل بمن فيهم الفقهاء لنتمكن من السيطرة على المد الباطني .
فيما بعد وعند وفاة الملكشاه على نحو مفاجئ ومثير للريبة ،أهملت كلياً المرصد وبدأ بساط الرخاء يسحب من تحت قدمي لما تخلت عني زوجته تركان خاتون لتعصبها المفرط وكانت لا تستسيغني أنا وأفكاري وتتهمني دوماً أنني على تواصل مع الحسن الصباح .
كانت أشد جهلاً من جميع آل بني سلجوق ،امرأة بدوية صارمة حادة الطباع يظهر على قسماتها الدهاء والمكر الشديدين ،وعندما استطاعت أن تسيطر على الحكم لصالح ابنها محمد راحت تصدر قرارات عشوائية لا تمت للحكمة بصلة ومن بينها إقصائي تماماً عن العمل وحرماني من راتبي الشهري .
فعلت ذلك بدافع من الفقهاء وبضعة العلماء الممتعضين من سلوكي والأفكار التي أنشرها والذين راحوا يصمونني بصفة الزنديق الخارج عن الدين .
ومن هنا بدأت معاناتي وصرت أقضي أوقاتاً طويلة في الوحدة والتأمل والنوم ،وعدت إلى الصلاة الليلية من جديد و احياناً كنت أصليها في المسجد الجامع وأبكي على صديقي وعلى الزمان الذي غدر بي ،وصفعني بقوة لإيقاظي من وهمي وخدري ليذكرني بخطأي الفادح بأنني استسلمت كلياً لحضن السلاجقة ونسيت أن لا شيء يدوم وأن النعيم لم يخلق للدنيا وأن هذه الحياة لا تساوي أية قيمة . الجزء الثالث حديث القلب

(أنا جيهان خليلة عمر) :
لقد أرسله الله لي بعد سنوات من العذاب ،إنه عمر خليلي .
كان هو في الستين من عمره وكنت أنا في العشرينيات أو هذا ربما ما شعرت به فقد كنت أجهل عمري الحقيقي لكوني ولدت ونشأت نشأة مختلفة عن النشأة الطبيعية لإنسان ما .
كبرت و تفتحت عيني على الحياة ووجدت نفسي لا أجيد سوى أمر واحد هو الغناء ومسامرة الرجال في الحانة التي ترعرعت فيها .
قابلته ذات ليلة بالصدفة ،كان متردداً في أمر الولوج إلى الحانة ،وكان يبدو عليه الحزن الشديد و مشاعر من يبحث عن بداية جديدة ،أو من يفتش عن منطقة يفهم فيه نفسه ،الضائعة الكسيرة المنهكة ربما أو ربما المخدوعة .
وأنا استطعت التماس كل هذا في وجهه ،رغم أنني لست بالشاعرة ،وحتى لا أجيد القراءة والكتابة ،وبالنسبة للسلاجقة الذين يحكمون البلد لست سوى فرد من أفراد الأمم المنحطة في تفكيرها ،المنبوذة ،وربما غير المرئية ،إلا أننا في مكان عملنا لا يجرؤ أحد على الحط من قيمتنا ،فقد كان الجميع من كل أصناف المجتمع الشريف والمتعالي يجيئون إلينا نحن ،ونكون حينها نحن من ينشر ماله قيمة بسحرنا وفننا ،وكأننا نملك العلياء بأكملها بجمالنا .
صدمت لما سألت عنه وأخبروني بأنه عالم فلك معروف ومشهور ومكرم لدى السلطان ،ولدى أهل العلم والفقه والدين .
إلا أن ذلك ماشدني إليه ،وكنت على ثقة تامةً أنه داخل هذا العالم التائه يكمن شاعر كبير يفيض قلبه بمشاعر جياشة ورائعة ،وأنه لن يحتاج لإبراز كل هذا الجمال الذي في داخله سوى لكأس الخمر ،ولصحبتي بحناني ولساني الذي ينطق بكلمات عطرة ،و لإنصاتي الكلي لصوت قلبه وهو يسرد علي أوهام المجد التي كان غارقاً فيها .
لم يكن العشق ربما ما جمعنا ،إلا أنه أشد روعة ،كان سلوكه كلياً يحمل في كل تفاصيله حكماً بالرغم من أنه كان نزقاً على الدوام متمنياً على الدوام عودة الزمن إلى الوراء كي يعيش ما يعيشه في شبابه فقد أخبرني ذات يوم بأنه نادم على انشغاله الدائم بالعلم على الدوام .
وأنه كان من الأفضل إنقاذي مثلاً من الحانة ،بدلاً من تصحيح التقويم الفارسي ،بأن يطالب بحقوق لي ،أنا الغجرية اللقيطة التي لا تحمل سوى اسماً يدل على هويتها ،المنفية من الحياة كلياً داخل قوقعة الألوان والرجال أعرف العالم من خلالهم فقط ،لكنني اعرف الكثير ،عن الأسلحة والجيش والحروب الصليبية ، لما أسامر جندياً سواء تركياً أو أرمنياً أو فارسياً .
وعن الخزف والنقش لما أسامر خزافاً نيسابورياً ،وعن الاغتيالات لما أسامر أحداً من أتباع الباطنية الذين كانوا يحاولون دوماً أن يستدرجوني إليهم للقيام بعمليات فدائية سرية إلا أنني كنت أخذلهم دوماً وأشي بهم جميعاً .
لما كنت أسرد لعمر كل هذا كان هو يكتفي بالإنصات لي دون أن يبدي أي رأي فيه ،واعتدت على ذلك فقد كنت أعلم أنه يعيش مع ذاته فقط ،مع عوالمه الداخلية حتى ولو كنت بقربه .
وكنت أنا غير مفهومة بالنسبة له وحتى لا رغبة لديه في محاولة فهمي ،أو التعاطف معي .
كان هكذا مكتفياً بعذاباته وصدماته ،وكنت أنا بمثابة شيء جميل يذكره بأن الوقت مستمر وأن الأشياء الجميلة قد تعود يوماً ،وعليه ألا ييأس مستعيناً بي وبكأس الخمر في لعبة انتظاره الغريبة ،انتظار حياة أخرى ربما أو كان ذلك مجرد استسلام ورضوخ لشكل من اشكال السعادة في رأيه ألا وهو اللذة وإمتاع النفس بأنانية مطلقة كما لو أن ذلك هو المعنى الذي بحث عنه دوماً للحياة ووجده أخيراً هنا بعد أن فشلت كتب العلماء وقصور الملوك في إرشاده إليه .
وكان هذا واضحاً جلياً في طريقة شربه للخمر أو في رغبته في اصطحابي معه في نزهات إلى الطبيعة حيث نجلس وحيدين وأعزف له على العود بينما يحتسي الخمر بشراهة وكان يفضل ان نقوم بذلك صباحاً وسط الأزهار والفراشات .
لم يكن حتماً بالمجنون ،و كنت أعلم أنه يشعر بحزني ،إلا أنه فضل أن يعيش خيباته بنفسه ومع نفسه وحافظ على ذلك الحاجز بيني وبينه .

يمكن القول بأنني لو تعرفت بعمر العالم لم أكن لأنجذب له منطلقاً ،وأنني كنت في غاية السعادة أنه وصل إلي في عمره المتقدم هذا ،بشاعريته الخالصة وصمته وحتى ولو كان ذلك يستفز رغبتي في الحصول على قلبه وعيش الحياة معه ،تلك الحياة التي حرمت منها على نحو ظالم .
فقد وجدت فيه الأب والصديق والحبيب وتعلمت معه أن أعيش عبدةً لمشاعري فقط ،بعد الله ،بعد ان كنت عبدة للفراغ والعبث .
رغم أنه كان عبثياً في شخصيته تلك التي أحببتها ،وكنت أنا بالنسبة له صدفةً محضة ،وربما كانت امرأة أخرى لتحل مكاني لو شاء القدر ،لكنه كان يرضى بالحياة كما هي ،لذا لم يقدم أي اعتراض للحياة على منحها إياي له .
وهذا ربما من الأشياء التي جعلتني أحبه أكثر ،إضافةً إلى تواضعه، وعصبيته الرجولية الجاذبة والتي كنت أكاد أجزم أنها جديدة عليه اكتسبها بعد أن خسر الوهم الذي كان يعيش فيه .
قضيت معه هكذا سنوات ،أرافقه إلى الحقول و أرتحل معه بين مدنه المفضلة أستمع إلى حكايات الملوك الفرس ،وأعرف أكثر عن والده الزرادشتي وعن الزرادشتية ،عن الماء والنار وعن ترك الجثث للطيور الجارحة و أحياناً على النجوم والاسطرلابات والمناخ ،لكن علة نحو غير دقيق .
كانت هلوساته التي يسببها الخمر تحمل في جعبتها الكثير من الأفكار المنقوصة والطلاسم ،كما لو أنها تعويذات سحرة ودجالين ،وأحياناً كان يدلي بأفكار أقرب إلى أفكار الباطنية ،أو يتحدث إلى الله ويطلب منه المغفرة على احتسائه الخمر ولأنه يسامر فاجرةً مثلي !

عمر خليلي هو في الأصل شاعر وفيلسوف ،لقد ولد شاعراً لكن انخراطه في علوم الفلك والرياضيات لم يكن سوى محاولة نفسية وشعرية وفلسفية لفهم ذاته ،ولفهم الحياة بعد معاناته مع الاختلاف عن والده الزرادشتي المتحول إلى الإسلام .
لقد لجأ إلى العلم عله يجد فيه الإجابات عن معنى الحياة ،وعن شيء يشغله عن وحدته ويملأ وقته ويشحذ هشاشته بالقوة ،لكنه لم يجد الإجابات ،ولم يسعفه انشغاله بالعلم سوى في تمضية الوقت هكذا دون أي معنى فلسفي لما يقوم به ،دون أن ننكر أنه قدم للعلم الكثير .
إلا أن خليلي العزيز لم يكن سوى شاعراً يخفي عن الناس حكمته ،وأسئلته المؤجلة منذ صغره ،وهذا ما التمسته فيه ،في عينيه الحزينتين وفي نوبات غضبه ونوبات الحنان الجياشة التي كانت تصيبه وتجعله مثل طفل صغير يرى العالم للمرة الأولى لذا كان الخمر يمنحه فرصة اكتشاف الأشياء بروية مجدداً ،وكان في هذه المرة يكتشفها بشاعرية وليس كما المرة الأولى بعقله وخبرته المعرفية .
وكأن الخمرة كانت تساعده على التلذذ بالشعور بالأشياء على نحو جديد ،رغم انه لما كان يصحو كان يؤنب نفسه على الخزي الذي يسببه لإسلامه ،حين يعربد ويسكر ،ويطلب من الله المغفرة .
كان يحب فكرة انه ولد مسلماً ويشدد أنه يتميز بها ،ويحب تذكر ماضيه المجيد أحياناً إلا أنه يجزم بأنه كان وهماً .
كنا نتحدث عن ذلك في بدايات جلساتنا والتي لا تستغرق طويلاً قبل أن يسقط فريسة للخمرة ،والتي كان يفضلها على تلك الذكريات التي لا نفع فيها على حد تعبيره .
كان الهروب من الواقع ،الهروب من أسئلته وخيبته كان الدافع الأساسي لاحتساء الخمر ،وكان يرغب في التمتع بجمال هذا الكون والذي حرم من التمتع به لما كان ينظر إلى الكون بعين العالم ،أو ربما كان يكبح جماح الشاعر الذي في داخله رغبةً منه في ضمان عيشه الرغيد في أحضان السلاجقة الذين كانوا يجدون فيه عالماً بارعاً ومن نخبة العلماء .
وكان من الواضح أن الشاعر الذي في داخله قد ثار فجأة وكلياً على طريقة الحياة التي عاشها واكتشف أنها لم توصله إلى السعادة الحقيقية .
ذلك الشاعر الذي أحببته أنا بكل تفاصيله ،وعشت معه سعادته الغريبة تلك ،سعادة ليست مشتركة وإنما عاشها كل منا على حدى ،مع نفسه فقط !

بعد سنوات من فراقنا إبان هجرتنا القسرية نحن المغنيات إلى خارج إقليم خراسان بعد افتضاح أمر الحانة ،أرسلت في طلب أخبار عنه ،وعلمت بأنه قد توفي ودفن في نيسابور بين الورود وفي الطبيعة التي كان يقدسها ويحلم بأن ينصهر فيها .
لم أشعر بالحزن حينها ابداً فقد كنت على يقين تام بأن ذلك المكان هو المكان الملائم له ،بعد كل هذه الخيبة التي لم يستطع التغلب عليها ،وكانت الراحة الأبدية وسط عطر الريباس وتغريد الطيور أفضل بكثير من التعايش على الخمر والأوهام .
لا أدري إن كنت أنطق بكلمات قاسية وفظة إلا أنني أحببته من قلبي وعرفته جيداً ،وهو في النهاية لم يمت وإنما بقي حياً برباعياته التي أحفظها أنا عن ظهر قلب وسأبقى أرددها أينما ذهبت وأنشدها في سائر بقاع الأرض .
وهو وإن ظن بأنه قد مات دون أن يحقق أية غاية ،فلعله كان مخطئاً ،لقد عبر عمر في كل مرحلة من حياته عن عصيانه ورفضه ولكن بطريقة ناعمة ،عبر عنها كما يعبر العظماء ،دون أن يثور ودون أن يخادع ،عبر عنها تارة بالعلم وتارة بالتماس الجمال بشاعريته .
لقد ترك لنا إرثاً رائعاً يشفع له استسلامه وخدره وضعفه ،وعيشه مع ذاته ولذاته ،ومايشفع عنه أيضاً أنه غير حيوات الكثيرين برباعياته وجعل كل من يسمعها يحب ذاته ويعيش للحياة فقط دون أن يلتفت لاعتبارات أخرى تفرض عليه قسراً . الجزء الرابع حديث الزمن

(أنا الكاتب ):

كيف نفلسف العصيان ؟وهل من داع لذلك ؟طالما أن العصيان لن يفضي سوى إلى تدمير الذات ،كما لقنونا في كتب التاريخ .
وهل من منافع تذكر تقود إليها فلسفة العصيان ؟ ماالذي مثلاً يمكننا أن نتعلمه من تجارب العصاة عبر التاريخ ؟
في الحقيقة ،لو نظرنا إلى الشخصيات العاصية عبر التاريخ لوجدنا أن للعصيان منافعه كما له مضاره ،فعلى الارجح لم يكن للحياة البشرية على الأرض أي معنى عبر التاريخ لولا العصيان ،لقد منحها العصاة المعنى ،واختلفت المعاني باختلاف تجاربهم .
ورغم أنني على قناعة تامة بأن العصيان يأكل صاحبه ويتعبه وربما يدمره إلا أن ذلك لم يقف عائقاً في طريق رغبتي في تأليف كتاب أمجد فيه العصيان وأمدحه .
أنا الكاتب الذي كان العصيان في كل مرة يفتح لي بوابةً مغلقة تقودني إلى الحياة رغم أنني ولن أنكر ذلك كنت أدفع أثماناً باهظة مقابل ذلك .
وبما أن الحكم على إيجابية وسلبية تجربةٍ ما يتبع للظروف والمكان الذي نعيشها فيه ،فربما من المستحسن أن أكتب تجربتي مع العصيان وعن تجارب من أثبتت الوقائع أن العصيان كلل حيواتهم بالمعنى ،وكان العصيان في حالتهم ضرورةً ملحة .

(ألف عاص وعاص )على غرار (ألف ليلة وليلة ).
أنبش بين الكتب التي تزخر بها مكتبتي ،مفتشاً عن لعنة العصيان المضيئة وأتأرجح ما بيني وبينهم .
هكذا نشأت في ذلك الحي الطويل الفارغ من أي باعث على العيش في مدينةٍ كئيبة تحول الناس فيها إلى عبيدٍ لعقارب ساعاتهم .
وعلى الرغم من كل هذا الضجر والكآبة ،فقد آثرت العيش في ذات المنزل منذ الصغر ،منزل العائلة الذي يتبقى كما هي العادة للفرد الذي يمتهن مهنةً تقتات على الماضي كمهنتي .
أعيش في هذا المنزل بعد أن غادر الجميع ،وآخرهم كانت شقيقتي الكبرى التي آثرت العيش وحيدةً حتى النهاية ،يشغلها عملها الدؤوب في الترجمة ،والذي كانت بمثابة العاصية الأولى والأكثر تأثيراً علي .
عصت شقيقتي مجتمعها ولم تتزوج ،وكانت تؤمن بان قوة المرء في وحدته ،تقرأ شوبنهاور الذي يرى بأن الإنسان سيواجه نفسه في النهاية مهما عاش مع الآخرين ،وأن السعادة قرار ذاتي .
وتستمع إلى داليدا معجبة أشد الإعجاب بشخصيتها وبفرديتها وقراراتها المتخذة بنفسها والذي كان آخرها قرار موتها .
وهكذا نشأت على اغنيات داليدا وهي تصدح في منزلنا والتي لم أكن لأفهم منها شيئاً لولا وجود شقيقتي .
كانت تترجم أعمال ألبير كامو وسيوران ،وتهديني أول النسخ المطبوعة لأقرأها ،بعد أن أصبحنا وحيدين في منزل والدينا ،وتجعلني في كل مرة أتساءل عن سر شغفها بكل ماهو عدمي ،أو يرى في الحياة غير ذات نفع .
كانت شقيقتي شوبنهاورية ،شكاكة في كل أمر ،حتى في الحياة نفسها ،ولا تقبل أي مطلق وكانت ترى بأن الشك هو ما يقينا من ملامسة حدود التوحش ،وكانت لا تجادل كثيراً وتبقي أفكارها لنفسها التي ربما كونتها عبر الزمن من خلال قراءاتها .
في المحلات التجارية لاتساوم ،وتتجنب الأخذ والرد ،تكره الحفلات الصاخبة وتفضل البقاء في شرفتها محاطةً بمزروعاتها وليلكها .
في المقابل كنت أنا أعيش حياتي الخاصة بمعزل عنها ،وإن كان ثمة شيء يجمعنا فهو على الاغلب ما تستلزمه علاقة الاخوة ،إلى جانب نقاشاتنا الغنية حول مائدة الطعام ،عن الفلسفة الألمانية واليونانية والتي كنت أنا أفضل الأولى ،لأنه كان لدي رأي خاص بأن الفلسفة يجب أن تكون مؤثرةً في المجتمع الذي تظهر فيه ،ويجب أن تحمل راية التغيير ،لا أن تنبثق من شبع ورفاهية زائدة .
كنت شغوفاً بسقراط الذي أدخل الفلسفة إلى مواقفه اليومية وحولها إلى نموذج حياة ،حتى أنه لم يكتب أي شيء منها ،بل عاشها .
فيما كانت شقيقتي تخالفني الرأي ،وترى بعدم جدوى أي تغيير كان ،لذلك اتجهت اهتماماتها نحو النفس بينما اتجهت أنا نحو الخارج والآخر .
ثم سرعان ما أصبح الآخر شغلي الشاغل ،أتقمص شخصه وأكتب على لسانه رواياتي ،ثم تنجح تلك الروايات لتبعدني عن الآخر وتزيد من عزلتي مجدداً ،خجلاً من نظرات العتاب في أعين من اقتحمت حيواتهم دون إذن .
أنا الذي كنت أقضي وقتي إن لم يكن في الكتابة ففي محاورة أصدقائي الكثر في المقاهي ،كان لدي وقت مستقطع سري للغاية ،وقت لا تشغله الكتابة ولا يشغله الآخر أعيش فيه مع أعتى عصاة التاريخ مفتشاً في حيواتهم عن لعنة العصيان المنيرة !

لما قررت أن أكتب روايةً عن حياة أختي التي تمثل أيقونة العصيان بالنسبة لي ،رحت أفتش بين أغراضها عما يعينني على كتابة تلك الرواية ،ووجدت كما توقعت مئات الكتب لشوبنهاور و ألبير كامو وغيرهم من فلاسفة العبث والعدم .
إلا ان ما أثار استغرابي وجود أكثر من نسخة لرباعيات الخيام بين كتبها وفي درج مكتبها ،وحتى أنني عثرت متأخراً على وصيتها التي توصي فيها بأن تحفر على قبرها إحدى رباعياته المشهورة التي يتكلم فيها عن الحيرة بين الشك واليقين وبأن الطريق ليس أياً منهما .
أثار فيَ ذلك العجب ،فأنا لم أذكر بأنها كانت يوماً مهتمةً بأي شاعر إن لم يكن شاعراً أوروبياً أو يكتب باللغة التي تترجم منها بحكم عملها .
ولما فتشت في دفتر مذكراتها أدركت كم هي معجبة بالخيام ،وأنها كانت في داخلها النية لتأليف كتاب عنه ،تشرح فيه فلسفته كما وصفتها ،فقد كانت تجده فيلسوفاً ،وكتبت ايضاً في مذكراتها أنهما يلتقيان في كثير من الأمور ،الخيام الذي عصى على طريقته وعاش لمعنىً يخصه وحده ،ومر كمرور النسيم في الزمن تاركاً أثراً لا ينسى من خلال رباعياته .
وهي التي بنت عالماً يخصها ،عالماً من الوحدة التي لا تفضي إلى الحزن وإنما إلى الطمأنينة والجمال ،عالم تغمره الموسيقى والكلمات العذبة ،والفلسفة والاكتفاء بالقليل ،والهدوء الذي يقود للتفكر والنزاهة عن الماديات .
كان عالمها هذا أقرب إلى عوالم الصوفيين لكنه يحمل طابعاً خاصاً ،تماماً مثل عمر الخيام الذي كان يخاطب الخمر ويجد فيه معشوقاً أبدياً ،بينما كانت شقيقتي تخاطب الموسيقى والكلمات كعشقها الخالص السرمدي .
لذا استبدلت فكرة كتابة رواية عنها بفكرة إكمال مشروعها بأن أؤلف كتاباً يتحدث عن الخيام ،كواحد من عصاة التاريخ المختلفين،والذي تحمل رباعياته في طياتها يوتوبيا مميزة ونادرة لم ولن تتكرر أبداً عبر التاريخ .

عندما شرعت في تأليف رواية عن عمر الخيام ،بحثت عن الكتب التي تتناول سيرته وفلسفته ورباعياته والعصر الذي عايشه ،ووجدت أنه شخصية مثيرة للجدل وحيرت الكثيرين من المؤرخين والباحثين وخصوصاً في خصوص تصنيفه كشاعر صوفي أو لا أدري والبعض عده من الباطنيين !
وبعض المؤرخين شككوا في حقيقة أن يكون العالم هو ذاته الشاعر ،لما وجدوه من تباين في الطباع والأفكار بين الشخصيتين بالمقارنة بين أسلوبه العلمي وأسلوبه الشعري الذي يحمل بين طياته الكثير من الأسئلة الفلسفية الجريئة وصور المجون .
إلا أنني استطعت إيجاد تفسير ملائم لكل هذا ،بما قدمته في روايتي وهو أنه عاش مرحلتين مختلفتين كلياً كانت فيهما الظروف متباينة للغاية ،ولم ينعم الخيام في المرحلة الثانية بالرخاء الذي عاش فيه في المرحلة الأولى لما كان مقدماً على العلم بدعم من الحكم السلجوقي الراسخ والقوي والشرس ،بل عاش كسيراً بلا مأوى ربما ،خائباً ونادماً على صمته التام ورضوخه للنعيم المغدق عليه دون حتى أن يبحث عن استقلاليته .
وتزامن ذلك مع نفوره من العلم الذي لم يقدم له أية اقتراحات للسعادة أو إجابات عن أسئلة الوجود التي كان منشغلاً بها على الدوام وخصوصاً في رسالته عن الوجود وفي رباعياته .
فلجأ إلى حياة أخرى ،حياة دون مخططات ،حرة إلى درجة التطرف ،وحتى دون تحكم عقلي أحياناً لما يذهب عقله بالخمور وفي حانات الراقصات والمغنيات ،حياة عوض فيها ما أضاعه من سنوات في العمل الجدي المنضبط والصارم ،وفي الصمت عن آراءه وأفكاره مقابل الغرق في النعيم .
وفي حياته الثانية هذه لم يكن سوى مستسلماً أيضاً إلى نوع آخر من النعيم ،النعيم المسكر الذي يجعله يغيب كلياً عن ذاكرته ويبتعد عنها أكثر كي لا تؤلمه من جديد .
لذا فأنا رجحت بأن يكون عمر الخيام عدمياً أو وجودياً إن صح التصنيف تماماً كشوبنهاور وكألبير كامو وشقيقتي ،يؤمن بأن الحياة لا معنى لها إلا إذا اخترعنا لها المعنى وفي حالته تغير المعنى مرتين بما يتلاءم مع ظروفه وفي كلتا الحالتين وجد معنىً يخصه وحده وخلده في كلتا الحالتين هذا المعنى سواءً بعلومه أو بأشعاره ورباعياته التي راجت في الغرب قبل الشرق ومازالت حتى اليوم ترددها الأجيال .
ذات يوم وحينما كنت أفتش في دروج شقيقتي وجدت علباً لدواءٍ منوم ،فأدركت بأنني كنت أجهل أشياءً كثيرة عنها ،فلم تكتفي شقيقتي ربما بالموسيقى والأدب كعناصر أساسية لعالمها الخاص ،بل أدخلت غليه الخيال من خلا الهروب من الواقع عبر الأدوية المنومة التي تنتج أعراضاً أقرب إلى الهلوسات وتخيل عوالم أخرى لتبرهن لي مجدداً أن ما جمعها مع عمر الخيام كان أيضاً اللجوء إلى ما يذهب العقل كوسيلة أخيرة للتشبث بالفردية والوحدة .
حينها بدأت أكتشف أن من عشت معها كانت فتاةً أخرى ،وصرت أشكك في كل ما عشناه سوية وفي جميع الذكريات التي لا يمكن الوثوق بصحتها .
فبالرغم من أن شقيقتي كانت تبدو سعيدةً على الدوام ،فإنه تبين لي أنه على الأغلب لم يكن الامر هكذا ،وأن تلك المترجمة الهادئة الضحوكة دائماً غير المكترثة بما يقوله المجتمع عنها ،كانت تخفي في داخلها شاعرة ضعيفة تقاوم بصعوبة تقدم الزمن وكانت أيضاً عاشقة عنيدة .
وقد عرفت عن قصة حبها عبر مذكراتها ،التي تتحدث فيها عن إخلاصها الأبدي لحب شاب لم تحظى منه سوى الخيانات المتكررة والجحود وأنه بعد كل ما عاشته من آلام معه تزوج بأخرى من أجل مركز مرموق في المجتمع ولأن عائلتها أشد ثراءً من شقيقتي .
عندها فهمت كل شيء ،فهمت تلك الشقيقة التي احتفظت بشاعريتها لنفسها وعاشتها مع نفسها ،ولم تظهر لنا سوى الجانب الصلب المثابر على العمل المتمرد على ثوابت مجتمعية تصر على زواج الفتاة ،إلا أن كل ذلك كان ناتجاً عن قصة حزينة خفية موجعة إلى درجة عدم القدرة على التغلب عليها بسهولة .
وجدت ايضاً بين اغراضها أسطوانات لأم كلثوم وهي تغني رباعيات الخيام التي ترجمها الشاعر المصري أحمد رامي ولحنها رياض السنباطي ،وكتبت شقيقتي في مذكراتها أنها كانت ترغب في إهدائها لحبيبها إلا أنها علمت في ذات الوقت بزواجه وتخليه عنها .
لذا وضعت تلك الأسطوانات على الحاكي القديم في منزلنا ورحت أستمع إليها ،فاكتسحتني رغبة في البكاء ،البكاء على عجزي عن فهم حزنها قبل أن ترحل ،فربما كنت استطعت أن أفعل شيئاً ،إلا أنه من المؤكد لم أكن لأستطيع أن أقوم بشيء مؤثر كما فعلت رباعيات الخيام معها ،وأسلتها عن الحزن طوال تلك السنوات .

في الأيام التي تلت معرفتي بقصص أختي الخفية ،انتابتني كآبة عظيمة ،وتغير برنامج حياتي الذي بدأت أعيد النظر فيه كلياً ،فقد وسعت هذه المعرفة وعيي على نحو لا يصدق ،وجعلتني أنظر إلى الأمور بنظرة مختلفةٍ كلياً .
وبينما كنت أجمع المعلومات اللازمة لكتابة تلك الرواية عن عمر الخيام لإهدائها لروح أختي ،اصطدمت بأسئلة وجودية وفلسفية كثيرة لم تخطر لي من قبل مما دفعني للبحث أكثر في كتب شوبنهاور وكامو وسيوران فيلسوف العدم فوجدت تلك النقاط المشتركة بينهم وبين عمر الخيام وبين شقيقتي فكل منهم قدم شكلاً مفيداً لعيش الحياة ،لكن الفرق أننا لا نعلم بم مر كل من شوبنهاور وسيوران وكامو وعمر الخيام في حيواتهم من تجارب ،دفعتهم لتبني تلك الفلسفة على النحو الدقيق الذي عرفته عن تجارب أختي
لقد كانت أختي فيلسوفة ،لكنها لم تكتب شيئاً من فلسفتها وإنما عاشتها بكل تفاصيلها ،واكتفت بذلك الوجه الظاهري كمترجمة لأعمال الفلاسفة العظام .
جعل هذا كله اهتمامي يتبدل ،فتخليت عن فكرة تمجيد العصيان في كتابي عن عمر الخيام ،لأنني بدأت أرى أنه يجب أن نرى الأمور من منظار مختلف ،بأن نكتب عن هذه الشخصية كما هي دون الحكم عليها أي دون إطلاق صفة العاصي أو المتمرد أو المختلف عنها ،وإنما يجب أن نراها تبعاً للظروف التي عاشتها وتبعاً لظروفها التاريخية والنفسية .
وقادني أيضاً ذلك إلى معرفة عميقة لذاتي ،وما مررت به من مراحل قادت بي أيضاً نحو الوحدة كما شقيقتي والتي لم أشعر بوحشتها إلا بعد اكتشافي بأن وحدة شقيقتي لم تكن تلك الوحدة المثالية المبنية على اقتناع تام ،أو أنها نوع من الفردية المقدسة .
فقد قلب ذلك الاكتشاف حياتي رأساً على عقب وتخليت عن تلك النظرة المثالية للعالم وعن هوسي بالآخر وبدأت أشكك حتى في حياة العظماء الذين كنت شغوفاً بكتبهم .
لقد علمتني تلك التجربة المساءلة ،ومنحتني الفرصة في الغوص في دهاليز نفسي أكثر لمعرفة ما أريده بالضبط ولأول مرة دون الابتذال في تقديس غيري والتأثر الشديد بهم إلى درجة التغافل عن الذات وعما تريده كما حدث معي أنا طوال حياتي السابقة حتى مع شخصيات رواياتي التي طغت علي وجعلتني كدمية بين أصابعها تحركني كما ترغب هي ،وتتحكم بمشاعري وانفعالاتي وحتى قراراتي .

لما أنهيت تأليف الكتاب الذي أتحدث فيه عن عمر الخيام ،كانت قد تغيرت في حياتي أموركثيرة ،بدءاً بعلاقاتي مع الآخرين ،والتخلي عن كثير من الصداقات القديمة مع كتاب لم يكن بيني وبينهم أي شيء مشترك ،وكانت علاقاتنا مبنية على الإعجاب من قبلي أو الانقياد الأعمى دون أي نقد أو اعتراض على أي تفصيل يذكر .
أصبحت مقلاً في الخروج إلى المقاهي ،إلا مع أصدقائي في الدراسة ورحت استعيد معهم تلك الأيام الجميلة ،وحتى أننا قررنا أن نبحث عمن فقدناهم من اصدقاء الجامعة لنستعيد تلك الاجتماعات القديمة ونسامح بعضنا عن كل ما سبب في تفريقنا من سوء تفاهم ،واختلاف في الآراء .
صرت أزور قبر أختي بكثرة وأضع لها زهور الليلك التي تفضلها على قبرها ،وعهدت إلى خطاط مرموق لينقش رباعيتها المفضلة على القبر .
أصبحت أيضاً أكثر ارتباطاً بالطبيعة والصمت والهدوء، وابتعدت عن الحفلات الصاخبة بما فيها حفلات توقيع الكتب وآثرت لقاء أصدقاء الجامعة في الحدائق أو في النوادي الرياضية حيث نكون أقل زيفاً وأكثر حقيقية .
وتغير مزاجي الموسيقي ومزاجي في الكتابة ،فصرت أجلس وراء مكتب شقيقتي وأكتب وأنا أنصت إلى أغنيات داليدا مطربتها المفضلة ،وأقلب في كتب وتراجم شقيقتي ،وأتنشق عطرها الأمر الذي شجعني على زيارة متجر العطور وطلب النسخة الرجالية منه .
خفت أن أقع فريسة الفقدان وأن أقلدها في كل شيء ،فخصصت فصلاً في روايتي أفضفض فيه عن حزني ومشاعري تجاهها .
لما طبع الكتاب و وزع على المكتبات ‘أهديت أصدقائي القدامى نسخة منه ،والتقينا ذات ليلةٍ في مقهى قديم يذكرنا بالأيام الخوالي وتناقشنا فيه ،وخصصنا الجزء الأخير من اللقاء لإلقاء الشعر ،وقمت أنا بإلقاء بعض من رباعيات الخيام فنالت إعجاب الكل وشبهها أحد الحضور بالكلمات التي تهمس في القلب لا في الأذن .
بعد ذلك بأسبوع ارتفعت مبيعات الكتاب على نحو لا يصدق ،وعاد اسم الخيام إلى الظهور على قوائم البحث في جوجل ،وازدادت قيمة حسابي البنكي إثر ذلك وأصبحت في مصاف الكتاب المشهورين الأمر الذي لم اكن لأحظى به قبل إقدامي على قراءة مذكرات شقيقتي والتي كان لها الفضل الأكبر في جعل ذلك الهاوي محترفاً معروفاً للجميع وفي قلوب الجميع .

بعد فترة قصيرة تلقيت اتصالاً من رئيس دار نشر لم أسمع بها من قبل ،ودعاني لمقابلة معه في مركز دار النشر ،مردفاً بأن الحديث سيكون بخصوص شقيقتي المتوفاة .
لما لبيت دعوته فوجئت بما أخبرني به ،قال لي بأن شقيقتي كانت قد طلبت منه قبل موتها بعدة أشهر أن ينشر مذكراتها التي عهدت إليه بها ،ولكن أن يقوم بذلك بعد عدة أشهر من وفاتها .
وكان هو قد ارتأى بأن يخبرني بالأمر قبل أن يقدم على تلك الخطوة بعد سماعه عن شهرة كتابي الجديد والشهرة الشخصية التي سببها لي ذلك الكتاب ،وذلك لما يحمله كتاب شقيقتي بين دفتيه من مذكرات صريحة وحساسة للغاية والتي قد تسبب ضرراً لتلك الشهرة .
سألته عن تلك الأشياء الحساسة التي ذكرتها على حد تعبيره ،فأخبرني بأنه يفضل بأن أقرأها بنفسي وأقرر بعدها .
أمسكت بكتاب المذكرات وقد اعترتني الصدمة ،فماذا عن تلك المذكرات التي وجدتها في المنزل ؟
ولما وصلت المنزل باشرت فوراً بقراءتها ،كانت تلك المذكرات هي نفسها التي قرأتها إلا أن ما زادت عليه هي الكتابة عن رغبتها الدائمة في الهروب كلياً من هذه الحياة وأنها تفكر على الدوام في الانتحار باستخدام جرعة زائدة من المنومات تماماً كمطربتها المفضلة (داليدا)،وقد بدت في مذكراتها الأصلية هذه أكثر هشاشة وهذا ما صدمني أكثر بأن أعلم أنني لم أكن أعلم شيئاً عن شقيقتي التي كانت تعيش حياةً بائسة للغاية وتكتم كل ذلك في قلبها وأنها كانت تنتظر الموت دوماً وأن كل ما قامت به في حياتها مجرد تمضية للوقت املاً بقدوم الموت في اسرع وقت !
وهذا ما دفعني إلى الطلب من الطبابة الشرعية بإخراج جثتها والتأكد من سبب موتها فيما لو كان انتحاراً ،وليس سكتة قلبية ليلية كما ظننا ليلة وفاتها .

كان كتاب أختي قد خرج للتو من المطبعة لما تلقيت تقرير الطبابة الشرعية والذي يفيد بعدم وجود أية محاولة للانتحار وهذا ما جعلني فخوراً مجدداً بشقيقتي .
وبعدها بفترة تفقدت مبيعات كتابها فوجدت بأنه لا يحظى بمبيعات كثيرة ،وذلك من الطبيعي فالناس لا تفضل قراءة هذا النوع من الكتب الحزينة إلا أنها في رأيي كانت تماماً كرباعيات الخيام ،مذكرات عظيمة كان لها أكبر الأثر علي أنا ،فربما لم تجعل هذه المذكرات من شقيقتي كاتبة معروفة بل ظلت كما عاشت غائبةً عن الأنظار تبث عطرها بخفية وسرية ،إلا أنها صنعت مني صورة الكاتب الذي كنت أحلم بها على الدوام .
فكرت بكل هذا لما زرت قبرها لمشاهدة ما أنجزه النقاش ،وقرأت رباعية الخيام المفضلة عندها على القبر بصوت عال ،فانتابني شعور بأنها هي من تقرأها بصوتها ،أو أنها تهمسها في قلبي همساً ،كما ستظل تهمس لي على الدوام بكلمات مذكراتها التي غيرت حياتي إلى الأبد . القصة الثالثة اعتذارات الديكتاتور الديكتاتور لا يعتذر

أنجبتني صبحة في يوم عادي جدا” ،كانت ترعى الغنم فيه كعادتها ، فتلقفتني الأرض الموحلة ،لا أب ينتظر قدوم مولده ،ولا عصافير تزقزق ،كل مافي المشهد غبار ورائحة روث ،وهذا مايفسر لاحقا” امتعاضي من الفن التشكيلي وعدم متعتي في حضور عرض مسرحي ، وأنه إن كانت متعتي تقتصر في حضور عرض ما ،فهو يقينا” عرض عسكري .
بعدها وعندما كبرت قليلا” صفعتها لإنجابها لي وسط كل هذه القذارة ،فلم تتردد مطلقا” في قرارها ،في صر أغراضي بشماخ والدي الشبحي ،وإرسالي إلى ديار أخوالي .
تبولت على نفسي في طريقي إلى ديار الأخوال خوفا” من الضباب والمجهول ،وجف البول على سروالي ،فانتابتني رغبة في التبول على صبحة بعد قتلها ،وحينها انفصلت عن العالم ولم أعد أستطيع رؤية شيء لا بسبب الضباب الذي في السماء بل بسبب الضباب الذي في داخلي .
رافقني البول والكراهية ومحاولة الموت الساذجة طوال طريقي نحو ديار أخوالي ،والتي أدركت لاحقا” بأنها لم تكن تلك الجنة المزعومة حين تعلمت القراءة وقرأت المصحف الشريف وعندها أدركت أن الجنة مازالت بعيدة وهذا ما جعلني سعيدا” ،فقد فهمت بأن صبحة لم تنجبني هباء ،لقد ولدت لأصنع جنتي ،ولذا تنفست في الماضي بعمق حين وصلت ديار أخوالي ونزعت عني سروالي النتن كخطوة أولى في صنع جنتي المجهولة !

(القومية العربية) ،(يجب اسقاط الحكم الملكي ) ،جمل ترددت على مسامعي في ديار الخال خير الله ،فأضفتها إلى قاموسي الصغير الذي في رأسي ،قاموس الجنة المجهولة .
وفي ديار الخال لم أعد أرى الضباب ،وإنما كان كل شيء واضحا” للغاية كما الأصوات حادة والضجيج المستمر للأحداث يمنعك من محاولات الموت الساذجة .
كنت أتحسس بنطالي و أبتسم لحظة إدراكي جفافه التام ،فأنظر باستعلاء لأولاد خالي النظيفين على الدوام ،وأشعر بالفخر أنني أكبرهم ،وأنهم مقيدون في المنزل على الدوام أما أنا فقد ولدت حرا” ،وبقيت حرا” حتى هنا في منزل خالي أخرج حينما يحلو لي لأفتش عن الوصفة السحرية لجنتي .
خلف جدران منزل الخال ثمة عبارات وأفعال أشد متعة” ،على نحو يجعلك حتى تحب صبحة ،وتنسى أمر التبول اللاٱرادي ،والمحاولات اليائسة لفهم عبارات خالي التي يرددها في جلساته مع رجال جاؤوا ربما من جنة ما .
تعرفت مثلا” بشلة من الشبان لا يضجر الإنسان بقربهم أبدا” ،فقد كان لديهم الكثير من الأشياء والمواهب التي تجعلك تتغافل عن رغبتك في امتلاك جنتك الشخصية ،ومعهم تشعر أن الجنة بقرب أناس أجمل ،أو ربما هم بحد ذاتهم الجنة ،لأن معهم تشعر بأنك لاتحتاج حتى إلى الجنة ،ويمكنك من تجاوز حتى تبولك اللاإرادي ،طالما أن رائحة البول تغدو دليلا” على الانتماء ،رمزا” للقوة ،أو ضمانا” لعرش الاستحواذ على الحياة .
كل شيء معهم مباح ،عبثي ،مكشر عن أسنانه ،حقيقي للغاية لدرجة العراء ،التعري وتوحد الأجساد ،الروائح النتنة ،ولاحقا” النهب والتلويح بالسكاكين حتى الاستحواذ الكلي ،النشوة العظمى ،الحافة المصقولة في أقصى العبث ،اغتصاب راقصة في ملهى ليلي .

(صدام حسين المجيد ) أدركت اسمي للمرة الأولى لما كتب في وثيقة الإفراج عني دون زملائي ،بعد اغتصابنا الراقصة أو ربما اغتصابهم هم ،فقد اعتدنا على أن ننسب أفعالنا للجماعة كلها .
قال خالي بأنهم أفرجوا عني لصغر سني ،وأنه من المحال أن أكون قد اشتركت في الجرم ،لم أفهم حينها مايقصد لكن لما وضب لي أغراضي مرسلا” إياي في عربة إلى صبحة مرة أخرى، توعدت له في سري أنني ذات يوم سأغتصب له ابنته ساجدة .
كانت صبحة قد جلبت للمنزل رجلا” قبيحا” مثلها ،له رائحة النتن ذاتها ،والذي لم يستغرق مطولا” في إبعادي عن جنتي وزجي في جهنمه .
كنت أحتفظ بسكين منذ أيام الشلة ،وذات يوم طعنته بها فقد ضقت ذرعا” به ومن انتظاري له بأن يدرك بأنني (صدام حسين المجيد) كما جاء في وثيقة الإفراج ،وأنه لا يمكنه سجني ،فأنا لست كأولاد خالي مثير للشفقة وإنما أنا أخرج حينما يحلو لي وإلى أي مكان أريده .
لكنني تبولت على نفسي بعد انقطاع لمدة طويلة ،وحين أرسلتني صبحة هذه المرة إلى ديار الأخوال أطلقت في داخلي قهقهة طويلة الأمد ،فسوف تتسنى الفرصة مجددا” لي في فهم عبارات خالي ،واغتصاب ساجدة والاحتفاظ بوثيقة الإفراج التي تمثل بوابة دخول إلى جنتي المجهولة .
لكن هذه المرة لن أخرج للقاء الشلة ،فقد أصبحت بغنى عنها ،وحين طعنت زوج أمي طعنته بمفردي ،صدام حسين المجيد قادر على تغيير مساره بمفرده ،كأن يتخلص مجددا” من صبحة وأن يرتفع مجددا” إلى مكان لا ضباب فيه ،لكن مع الاحتفاظ بسكينتي في جيب سروالي الملوث بالبول .

سألت نفسي ذات يوم : أيعقل أن خالي حارب البريطانيين بواسطة سكين ؟ ثم حين تعلمت القراءة و قرأت عن الحروب أدركت أن أمرها أشد تعقيدا” من سكين محتفظ بها في جيب السروال .
لذا وضعت نصب عيني حلم الكلية العسكرية حيث يوجد أسلحة أشد فتكا” وتأثيرا” بما يليق بصدام حسين المجيد و بجنته الموعودة .
لكن حين لم أحظ بالعلامات اللازمة لدخول الكلية ، قررت أن تكون القومية العربية هي جنتي ومن أجلها سأشهر أقوى الأسلحة ،على نحو أفضل حتى من هتلر الذي يتغنى به خالي .
نعم ،فالملك لا يعجبني وهو يشبه أولاد خالي في نظافة سرواله المثيرة للشفقة والرغبة في التبول عليه ،والسخرية من مؤخرته وعضوه الصغير ،فهو لايليق بأن يعيش مع صدام في بلاد واحدة .
لذا انضممت إلى حزب البعث العربي حيث مكمن الرجال الحقيقيين ،الرجال العرب الفرسان الشجعان حيث الجنة تضحك بوجودهم ،وخرجت في المظاهرات لإسقاط الحكم الملكي ،وأصبحت داعية سياسيا” شهيرا” في صفوف الحزب .
لكن صدام لا يليق به اتباع أسلوب صبحة في الصراخ والعويل ،صدام الذي بحوزته وثيقة إفراج من حادثة اغتصاب لا يليق له سوى السيف كما الفرسان لكنني حين كنت أتحرق شوقا” لاستخدام السلاح في قتل أحدهم اعتقلت .
وهناك في المعتقل رأيت الضباب مجددا” ،وشعرت بأن صبحة وزوجها انتصروا علي ،وأنني سأغرق في بولي دون أن أجلس على عرش جنتي ،وأنني لو خرجت من المعتقل سأقتل صبحة وأغتصب ساجدة ،وأتغوط على الملك ،وأحمل الكلاشينكوف وأطلق النار في الهواء الطلق احتفالا” بأنني عربي ،شجاع ،رجل قادر على تجنب التبول في سرواله .

سقط الحكم الملكي واغتيل الملك وعائلته ،وسحل أحدهم وقطع ،لكنني لم أحظ بهذا الشرف ،كان أحد الضباط الأحرار من نال هذا الشرف ،ولم أكن أنا لأن الحياة العسكرية بقيت حلما” بعيدا” .
لكن صدام حسين المجيد سيصنع شرفه بيديه ،شرف يشبه عهد شلتنا في الصغر ،لكي أضمن جنة مماثلة ،حيث تشعر بأن العالم ملك يديك دون أي خوف أو دخلاء على الطمأنينة الداخلية التي يبعثها اللهو وتأييد الجماعة ،هؤلاء الدخلاء أمثال صبحة وزوجها .
سقوط الحكم الملكي بانقلاب عسكري ،جعلني أخرج من المعتقل شخصا” آخرا” ،شخصا” فهم أن قتل صبحة وزوجها أو اغتصاب ساجدة لن يفيد بشيء ،وأنه عليه أن يبحث عن ضحية قتلها يجعله بطلا” ،بما يرسخ اسم صدام حسين المجيد في وثيقة أكثر أهمية من وثيقة الإفراج تلك ،وبمفرده كي ينال ود أكبر جماعة بأسرع الطرق ،جماعة أقرب ٱلى الجنة من شلتنا القديمة .
وقد عثرت على تلك الضحية فيما بعد ،وكانت تلك فرصتي .
كنت قد حظيت بشهرة واسعة في صفوف حزب البعث فقد كنت أتماهى مع الحزب قلبا” وقالبا”،وكنت محبوبا” لدى الجميع ،نعم هذه هي الكلمة التي عرفتها لاحقا”(المحبوب) هو الذي تشعر الجماعة معه بالنشوة ،تلك النشوة ذاتها التي كنت أشعر بها مع شلتنا القديمة ، نشوة الفرد بقوة الجماعة،لكن هذه المرة كان الوضع معاكسا” ،وفي هذه المرة كانت زهزهة الانتماء أشد لذة .
كان (عبد الكريم قاسم ) أحد الضباط الذين شاركوا في الانقلاب ضد النظام الملكي ،قد أصبح رئيسا” للوزراء ،وكان شيوعيا” لا يؤمن بالقومية العربية ،أي لايؤمن بأن مبادئي القومية هي المفاتيح الصحيحة لبوابة جنتي المجهولة .
سيطر عبد الكريم قاسم على كل مافي البلاد وكأنه يبني جنته الخاصة ،تلك الجنة الغريبة عني تماما” جنة لا يهمها الولاء ولا الشجاعة ولا فرفشات الجماعة ،جنة حيث لادبكة عربية ،ولا رجال خارقين عرب يهابهم العالم ،ولا يهللون لهم أفراد عشيراتهم وقبائلهم وجماعتهم الذين يقفزون لهيبتهم ويذرفون الدموع عليهم لرؤيتهم من بعيد .
كانت جنة خرقاء بدا فيها هو نفسه تعيسا” ،ومنظر وجهه يجلب السوء ،يثرثر على الدوام كلاما” غير مفهوم ودخيلا” على ثقافتنا .
كانت جماعتنا قد ضاقت ذرعا” به ،فكيف لرجل أضعف منا جميعا” في البنية الجسدية ،نحن العرب الفحول الصناديد ،أن نمشي وراء ذلك المسخ ذي الخصيتين الضامرتين .
لذا شكلنا جماعة من الحزبيين واتجهنا لقتل ذلك المسخ الذي لايليق بالجنة التي يطمح إليها صدام حسين المجيد .
لكننا حينها أخفقنا وتلقيت رصاصة في قدمي ،لكن نجحت في الفرار .
نعم ،حملت هذه المرة مسدسا” لا سكينا” ،وهذا ما يليق بي كرجل عربي تحبه جماعة أقرب إلى الجنة من شلتنا القديمة الملوحة بالسكاكين .
لكن هذا الإخفاق غير مسار جنتي تماما” ،فقد حكمت غيابيا” بالإعدام ،كان شيء ما يشدني إلى الوحل مجددا” ،لذا ركضت وركضت دون أي توقف وتبللت بالعرق لا البول إلى ماوراء حدود وحدود .

دخلت مصر بعد سوريا ،وأصبحت المسؤول هناك عن الترويج لأفكار حزبنا ، ووولجت كلية الحقوق بفضل خالي خير الله فأصبح اسم صدام حسين مكتوبا” على بطاقة جامعية تلغي وثيقة الإفراج وتدفعه لتمزيقها .وتمزيق فكرة اغتصاب ساجدة التي أصبحت لاتليق بالطالب الجامعي (صدام حسين المجيد ) الداعية النشط في أشرف حزب في التاريخ ،علاوة على حديث ساجدة الغير مفهوم بالنسبة لي والذي يثير فيك الفضول لما تشعر بأنه مثير للاهتمام تماما” كحديث شلة السكاكين القديمة ،لكن على نحو يمنحك فرصا” أخرى في تغيير مسار جنتك إلى جانب امرأة جميلة كما يقول العربان ،عندما تقف بجانبك وتكون لائقة بصدام حسين المجيد الذي كرمه لاحقا” الحزب على جهوده ومنحه العضوية أثناء تواجده في مصر ،وذلك من قبل مؤسس حزبنا العظيم ميشيل عفلق ،أبي الروحي وهذا ما دفعني بعد حين لما أصبحت ملكا” لجمهورية العراق بأن أجيء بجثمانه وأدفنه في قبر لائق في بغداد ،قبر يليق بوالدي الذي منحني عضوية في الحياة .
بعد فترة ،قام عبد السلام عارف وهو ضابط آخر من حركة الضباط الأحرار الذين ساهموا في إسقاط الحكم الملكي بانقلاب ضد عبد الكريم قاسم الشيوعي المخزي للعراق ،واغتيل الأخير على الهواء مباشرة .
فعدت برفقة زوجتي بعد صدور مرسوم العفو عني ،وبعد أن وصلت العراق بفترة قصيرة غضب الرئيس الجديد من البعثيين واتهمهم بمحاولات في إسقاطه ،فقد كان الآخر كالذي سبقه متبجح للغاية بأفكار من الحكم الملكي والتأورب والكلام الفارغ الذي لايجلب طمأنينة الجماعة .
اعتقلنا جميعا” وزجننا في سجونه ،كانت ساجدة قد أنجبت لي وقتها ابنا” سميته عدي ،وقبل أن أحدد موقفي من ذلك الطفل وضعت في سجون عبد السلام عارف .
وهناك في المعتقل ولأول مرة كرهت سكينتي التي كنت قد احتفظت بها في جيبي في الصغر ،وشلتنا القديمة والمسدس الذي أطلقت النار به على الرئيس السابق ،وبكيت من العار أنني ذات يوم كنت أفكر باغتصاب ساجدة ،فقد عرفت معنى العذاب الجسدي في معتقلات عارف ،وأدركت أن الجماعة لاتنفع أحيانا” ،فقد كنت موجودا” بين جماعة من المعتقلين نتعرض للتعذيب جميعا” على نحو تحب فيه صبحة وزوجها .
وحينها فقط أدركت كم كنت ساذجا” وأن صدام حسين المجيد ليس له طريق آخر سوى أن يقود كل العرب في العراق ذات يوم ،كي يحصل على طمأنينة الجماعة المفقودة ،على جنته الضائعة .

قامت ثورة البعث إثر وفاة عارف لسقوط طائرته الهيليكوبتر ،وتسلم أخيه المهذب جدا” الحكم ،وبذلك قمنا ببساطة بالإطاحة بنظام حكمه بانقلاب عسكري .
وأصبح صدام حسين المجيد على نحو أسرع مما توقعته ،رجل سياسة ذي منصب يضمن له الخطى الأولى في الاستيلاء على عرش الحياة في العراق ،عرش طمأنينة الجماعة .
عينت نائبا” لرئيس الجمهورية العراقية البعثية (أحمد حسن البكر ) ولأنني كنت قد عينت سابقا في لجنة الاستخبارات الحزبية فقد تشكلت لدي معرفة واسعة عن كل صغيرة وكبيرة في البلاد ،من الاقتصاد والنفط حتى التعليم ،وفرضت التعليم مرفقا” بالعقاب لمن يخالف ،فعلى جماعتي أن تكون كصدام حسين المجيد متعلمة ومثقفة قوميا” .
على الجميع أن يعرف تاريخ العرب العظيم ،ويدرك فرصنا القومية في النهوض والوحدة فيما بيننا ،تحت عباءة صدام حسين المجيد الجامعة لكل أفراد الأمة .
وشيئا” فشيئا” أرغمت الرئيس على التنحي جانبا” ليتسنى للقدر المحتوم بأن يتحقق ،قدر هذا الشعب والأمة ،قدر العراق بأن يحتضن صدام حسين المجيد ويدلله بالطريقة التي تحلو له .
وفي ذلك اليوم الذي استلمت فيه أعلى سلطة ،علمت أن الجنة كانت أبسط مما أعتقد ،إنها محض قرار ينص على تعيينك رئيسا” لجمهورية ،لك أذرع في كل شبر منها ،وليس عليك بعد الآن تخيل شكل الجنة ،وإنما التفكير بكيفية زركشتها وتزيينها ،بما يليق بهالتك فوق العرش .
وأول خطوة لتزيينها هي التخلص من الشخوص المقربة التي تقض مضجع صدام حسين المجيد والتي لم يعد لها نفع ،وإنما أصبحت تشكل خطرا”،وأولهم المقربون في الحزب الذين يثرثرون كثيرا” ،فليس على صدام حسين المجيد أن ينصت ،بل أن ينصت له ،فهو الآن أكبر من في الأمة ،كما الله الذي يساند صدام أكبر من الجميع ،لذا توجب علي إضافة عبارة الله أكبر إلى العلم الرسمي لجنة صدام المطلقة . احصائيات ووقائع

خلال فترة حكم صدام حسين للعراق قتل أكثر من أربعة ملايين مواطن عراقي ،توزعت أعدادهم مابين الحرب العراقية الإيرانية التي شنها صدام ضد الخميني تجنبا” للمد الشيعي الإسلاموي باتجاه العراق ،ومابين مجزرة الدجيل التي قتل فيها أكثر من ١٤٨ مواطنا” عراقيا” من سكان البلاد انتقاما” لمحاولة اغتياله من قبل أعضاء من حزب الدعوة الإسلامية التابع لإيران حينها ،إضافة لحملة الأنفال التي قادها الجيش العراقي ضد الأكراد الذين ثاروا ضد نظامه القومي ،واستخدم فيها الجيش العراقي أسلحة كيميائية محظورة دوليا” في قصفه لمدينة حلبجة شمال العراق بحجة التعامل مع إيران .
فضلا” عن حرب صدام العبثية في الكويت ،والتي الغرض منها الاستحواذ على نفطها لسد عجز بلاده التي أرهقتها الحرب مع إيران ،إلى جانب موت الكثيرين نتيجة العقوبات الاقتصادية على العراق التي فرضت ردا” على حربها مع الكويت .
وأثناء نطق الحكم على صدام في جلسة محاكمته الأخيرة لارتكابه جرائم ضد الإنسانية ،ردد صدام :
يسقط العملاء ،يسقط أعداء الأمة ،الله أكبر …
وعندما سيق به إلى حبل المشنقة ،مشى بكل ثقة ،ورفض وضع العصابة القماشية السوداء على عينيه ،قائلا” بأنه لا يهاب الموت وأنه كان يتوقع أن يعدم يوما” ما .
وأثناء تنفيذ الحكم نطق صدام الشهادتين ،وكان ذلك في صبيحة أول أيام عيد الأضحى الذي يحتفل به المسلمون جميعا” في كل بقاع العالم .

أضف تعليق